العاقية يا ربي والعتق في الدارين

اللَّهُمَّ عافني في جَسَدِي، وَعافني في سمعي وعافني في بَصَرِي، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنِّي، لا إِلهَ إِلَّا أنْتَ الحَلِيمُ الكَرِيمُ، سُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ العَظِيمِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ

اللهم! فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين !.

.

Translate

الثلاثاء، 25 أبريل 2023

ج3وج4.كتاب المعتمد في أصول الفقه محمد بن علي بن الطيب البصري

 

ج3وج4.كتاب المعتمد في أصول الفقه

 محمد بن علي بن الطيب البصري

المبين معلوما وبيانه مظنونا كما جاز تخصيص القرآن بخبر الواحد لأنه لا يمتنع تعلق المصلحة بذلك وأما الآخر وهو هل إذا كان المبين واجبا كان بيانه كذلك وقد قال قوم بذلك فإن أرادوا بذلك أنه إذا كان المبين واجبا فبيانه بيان لصفة شيء واجب فصحيح وإن أرادوا أنه يدل على الوجوب كما يدل المبين فغير صحيح لأن البيان إنما يتضمن صفة المبين وليس يتضمن لفظا يفيد الوجوب وإن أرادوا به أنه إذا كان المبين واجبا كان بيانه واجبا على النبي صلى الله عليه و سلم فإذا لم يكن الفعل المبين واجبا لم يكن بيانه واجبا على النبي صلى الله عليه و سلم فباطل لأن بيان المجمل واجب سواء تضمن فعلا واجبا أو غير واجب
باب في جواز تأخير التبليغ اعلم أنه يجوز أن يؤخر النبي صلى الله عليه و سلم أداء العبادة إلى الوقت الذي يحتاج المكلف أن يعرفها فيه ولا يجب تقديم أدائها عليه وأوجب ذلك قوم وليس يخلو أن يوجبوا ذلك بالعقل أو بالسمع ولو وجب بالعقل لكان له وجه وجوب يرجع إلى التكليف إما لأنه تمكين أو لأنه لطف فإن كان تمكينا لم يخل إما أن يكون تمكينا من الفعل أو من فهم المراد بالخطاب ومعلوم أنه لم يتقدم خطاب مجمل يكون هذا بيانه وليس يقف إمكان فعل العبادة على تقديم أدائها على الوقت الذي إذا بلغت بالعبادة فيه أمكن المكلف أن يستدل بالخطاب على وجوبها فيفعلها في وقتها وأما كون تقديمهم التبليغ لفظا فليس في العقل طريق إليه كما أنه ليس في العقل طريق إلى كون تقديم تعريف الله إيانا العبادة التي يريد أن يعبدنا بها بعد سنة لطفا ولهذا لم يعرف الله على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم جميع ما يريد أن يتعبد به الأمة في حالة واحدة
فان قالوا إنا نعلم وجوب ذلك بالسمع فليس في السمع ما يجوز أن

يدل على ذلك إلا قول الله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته وأن الأمر على الفور وقد أجاب قاضي القضاة عن ذلك بأن هذا الأمر إنما يفيد وجوب تبليغه على الحد الذي أمر أن يبلغ عليه من تقديم أو تأخير ولقائل أن يقول الوجه الذي أمر أن يبلغ عليه هو التعجيل بدلالة هذا الأمر وأجاب أيضا بأن المراد بذلك هوالقرآن لأنه هو الذي يطلق عليه الوصف بأنه منزل من الله تعالى
باب في تأخير البيان عن وقت الحاجة اعلم أنه لا يجوز تأخير بيان الخطاب عن الوقت الذي إن أخر البيان عنه لم يتمكن المكلف من المعرفة بما تضمنه الخطاب ولا يتمكن من فعل ما تضمنه في الوقت الذي كلف فعله فيه لأن في تأخير البيان عن هذا الوقت تكليف ما لا يطاق إذ لا سبيل له والحال هذه إلى فعل ما كلف في الحال التي كلف أن يفعل فيها
باب في تأخير البيان عن وقت الخطاب ذهب بعض الحنفية وبعض الشافعية إلى جواز تأخير بيان المجمل والعموم عن وقت الخطاب ومن الفقهاء من اختار بيان المجمل دون بيان العموم وإليه ذهب الشيخ أبو الحسن رحمه الله ومنهم من اختار تأخير بيان الأمر دون الخبر ومنع شيخانا أبو علي وأبو هاشم وقاضي القضاة من تأخير بيان المجمل والعموم عن وقت الخطاب أمرا كان أو خبرا وأجازوا تأخير بيان النسخ

واعلم أن تأخير البيان ينقسم أقساما تختلف الأدلة عليها والشبه الواردة فيها بحسب اختلاف أقسامه فوجب أن نقسم ونتكلم على كل قسم على انفراده فنقول إن الخطاب الذي يحتاج إلى بيان ضربان أحدهما أنه ظاهر قد استعمل في خلافه والثاني لا ظاهر له كالأسماء المشتركة والأول ينقسم أقساما منها تأخير بيان التخصيص ومنها تأخير بيان النسخ ومنها تأخير بيان الأسماء المنقولة إلى الشرع ومنها اسم النكرة إذا أريد به شيء معين وكل هذه الأقسام لا يجوز تأخير بيانها بل لا بد من أن يبين الخطاب الوارد فيها إما بيانا مفصلا أو مجملا وأما ما لا ظاهر له فيجوز تأخير بيانه عن وقت الخطاب والكلام يقع في ثلاثة مواضع أحدها تأخير بيان ما له ظاهر وقد استعمل في خلافه والآخر في جواز كون بيان ذلك مجملا والآخر في جواز تأخير بيان ما لا ظاهر له
والدلالة على المنع من تأخير بيان ما له ظاهر إذا استعمل في غيره أن العموم خطاب لنا في الحال بالإجماع ولا يخلو المخاطب به إما أن يقصد إفهاما في الحال أو لا يقصد ذلك به فان لم يقصد إفهامنا انتقض كونه مخاطبا لنا لأن المعقول من قولنا أنه مخاطب لنا أنه قد وجه الخطاب نحونا ولا معنى لذلك إلا أنه قصد إفهامنا ولأنه لو لم يقصد إفهامنا في الحال مع أن ظاهره يقتضي كونه خطابا لنا في الحال لكان قد أغرانا بأن نعتقد أنه قد قصد إفهامنا في الحال فيكون قد قصد أن نجهل لأن من خاطب قوما بلغتهم فقد أغراهم بأن يعتقدوا فيه أنه قد عنى به ما عنوه به ولأنه لو لم يقصد إفهامنا لكان عبثا لأن الفائدة في الخطاب إفهام المخاطب ولأنه لو جاز أن لا يقصد إفهامنا بالخطاب جاز مخاطبة العرب بالزنجية وهو لا يحسنها إذ كان غير واجب إفهام المخاطب بل ذلك أولى بالجواز لأن الزنجية ليس لها عند العربي ظاهر يدعوه إلى اعتقاد معناه ولو جازت مخاطبة العربي بالزنجية ويبين له بعد مدة جازت مخاطبة النائم ويبين له بعد مدة وأن يقصد الإنسان بالتصويت والتصفيق شيئا يبينه بعد مدة فان قيل خطاب الزنج لا يفهم منه العربي شيئا

فلم يجز أن يخاطبوا به وليس كذلك خطاب العرب بالمجمل لأن العربي يفهم به شيئا ما لأن قول الله سبحانه أقيموا الصلاة قد فهم به الأمر بشيء وإن لم يعرف ما هو قيل إن جاز أن يكون اسم الصلاة واقعا على الدعاء ويريد الله سبحانه غيره ولا يبين لنا جاز أن يكون ظاهره قوله أقيموا لأمر ولا يستعمله في الأمر ولا يبين لنا ذلك وفي ذلك مساو إياه لخطاب الزنج لأنا لا نفهم به شيئا أصلا وإن كان قد أراد إفهامنا في الحال فلا يخلو إما أن يريد أن نفهم أن مراده ظاهره أو غير ظاهره فإن أراد الأول فقد أراد منا الجهل وإن أراد الثاني فقد أراد ما لا سبيل لنا إليه وهذه الدلالة تتناول العام المستعمل في الخصوص والمطلق المفيد للتكرار المنسوخ والأسماء المنقولة إلى الشريعة والنكرة إذا أريد بها شيء معين لأن ذلك مستعمل في خلاف ظاهره ولا يلزمنا إذا أشعرهم بالنسخ أو بالتخصيص أو بتعيين النكرة لأن الخطاب مع هذا الإشعار يصير مفيدا للشيء على طريق الجملة فلا يعزى ذلك بفعل الجهل ولا يكون تكليفا لما لا سبيل إليه بل إنما يفيد أنه قصد المتكلم إفهامه للجملة إن قيل أليس مع أن العموم خطاب لنا في الحال لا يجوز الإقدام على اعتقاد استغراقه عند سماعه بل لا بد من أن نقيس الأدلة السمعية والعقلية فننظر هل فيها ما يخصه أم لا فان لم يوجد فلم نجده قضينا باستغراق العموم وليس فقد الدليل هو لفظ فيقال لنا جوزوا أن يكون المراد غير ظاهره وإن وجدنا دليلا على التخصيص وكان عقليا فهذا يمتنع فيه ايضا وإن كان سمعيا فاما أن لا نجد في الأصول ما يعدل بنا عن ظاهره أو ننتهي إلى دليل سمعي لا يكون في الأصول ما يعدل بنا عن ظاهره فلم يلزمنا ما ألزمناهم من التوقف وقتا بعد وقت إلى غير غاية فهذا هو القول في المسألة الأولى
فأما إذا أراد بالخطاب غير ظاهره وأشعر بذلك بأن يقول المتكلم بالعموم اعلموا أنه مخصوص ولا يبين ما الخارج منه أو يقول جوزوا

خصوصه حتى أبينه والدلالة على جواز ذلك أن العموم مع هذا الإشعار يصير كلفظ موضوع للجملة والتردد بين الاستغراق وغيره واللفظ الموضوع للجملة يحسن أن يورد ويقصد به الجملة فقط على ما سنبينه في الاسم المشترك ولا يلزمنا على ذلك أن نتوقف في العبادة في وقت الفعل فيجوز أن يكون المراد بها غير ظاهرها نحو أن يقول صلوا غدا فيريد به بعد غد ويتأخر بيانه مفصلا لأنا إنما نجيز تأخير بيان العموم مع الأشعار ونظير ذلك أن يتأخر بيان الوقت مع الإشعار وكذلك نقول وما لا إشعار معه نقطع على ظاهره ويدل على ذلك أن الله عز و جل لما قال أقيموا الصلاة لم يعلم الناس في ذلك الوقت من هو معني بالخطاب لتجويز كل واحد من المكلفين أنه يموت قبل وقت الصلاة وعلمهم أن الله لا يأمر بشرط فهذا خطاب يعم كل مكلف وليس علم المخاطبون أنه قد عنى به جميعهم ولأنه لم يعن به جميعهم بل يجوزون كلا الأمرين هذه صورة مسألتنا فان قالوا إنما لم يقطعوا على عمومه لما أودع الله سبحانه في عقولهم من قبح تكليف ما لا يطاق وأن في علمهم بحياة كلهم إغراء بالمعاصي فلذلك توقفوا قيل وكذلك إذا أشعروا في التخصيص فقد علموا أنه إن كان العموم مخصوصا فلا يجوز أن يراد بالعموم من تناوله التخصيص ففي الموضعين يجوز للمكلف التخصيص ويجوز خلافه وكما لم يبين لهم أنهم يحيون أو يحيى بعضهم دون بعض لما في ذلك من الإغراء فكذلك يجوز أن يشعروا بالتخصيص ولا يبين لهم تفصيله لجواز أن تكون مصلحتهم أن يتفقوا على الجملة فقط في تلك الحال وهكذا القول في الخطاب المفيد للتكرار إذا أشعرنا بنسخة والخطاب المنقول إلى معنى شرعي إذا أشعرنا بذلك من حاله إن قيل إن جاز ما ذكرتم فهلا جازت مخاطبة العربي بالزنجية ويقال له اعلم أننا أردنا بهذا الكلام شيئا ما قيل إن الزنجي إذا كان حكيما فمعلوم أنه قد أراد بخطابه شيئا ما فلا معنى

لقوله قد أردت بخطابي شيئا ما وإن لم يكن حكيما فان السامح يظن أنه قد اراد بخطابه شيئا ما فان قالوا جوزوا أن يخاطبه بالزنجية ولا يقول إنه قد أردت بخطابي شيئا قيل سنتكلم على ذلك فيما بعد وعلى أن كلا الإلزامين متوجه إلى المخالف لأنه يقول إن خطاب الله العام لا يقطع على عمومه خبر يرد ولا على خصوصه لتجويزنا موت من توجه إليه الخطاب فأما الخطاب المتكرر إذا عنى به واحدا معينا وأشعرنا به فانه يجوز أن يقول لغيره اضرب رجلا ويقول أردت رجلا بعينه وسأبينه لكم والدليل على جوازه أن كلا الكلامين يجريان مجرى كلام مشترك بين ضرب زيد وعمرو وغيرهما في أنه يفيد الجملة دون التفصيل وسنبين ذلك في الاسم المشترك إن قيل فإن كان غرضه أن يعرفنا أنه أراد ضرب رجل بعينه فهلا قال ذلك ولم يقل قبله اضربوا رجلا قيل وإذا كان غرضه أن يعرفنا في الحال أن الرجل الذي يريد ضربه هو زيد فهلا قال ذلك ولم يقدم عليه قوله اضربوا رجلا فان قلتم لعل في ذلك مصلحة قلنا نحن مثله
فأما الخطاب الذي لا ظاهر له وهو الاسم المشترك كالقرء المشترك بين الطهر وبين الحيض فان له ظاهرا من وجه دون وجه أما الوجه الذي يكون ظاهرا فيه فهو أنه يفيد أن المتكلم به لم يرد شيئا غير الطهر وغير الحيض وأنه أراد إما هذا وإما هذا فمن هذا الوجه لا يحتاج إلى بيان ومتى أراد المتكلم بالقرء شيئا سوى الطهر وسوى الحيض فقد أراد به غير ظاهره فلا بد من بيان إما مجمل وإما مفصل على ما تقدم وأما الوجه الذي يكون فيه غير ظاهر وهو أنه لا يفيد أي الأمرين أراده المتكلم الطهر أم الحيض ولا يجب أن يقترن به بيان في الحال والدليل على جواز ذلك أن اللفظ ما وضع لواحد منهما بعينه دون الآخر وإنه وضع لكل واحد منهما بانفراده فهو يفيد الإجمال فلو لزم المتكلم أن يبين التفصيل قبل وقت الفعل لكان إما أن يلزمه ذلك لأنه لا يجوز أن يبين الحكيم مراده لغيره على جهة سبيل الإجمال أو يجوز ذلك من الحكيم إلا أن الاسم المشترك لا يفيد الإجمال ولذلك وجب أن يبين

مراده وهذا الثاني باطل لأنا قد بينا أن الاسم المشترك يفيد الإجمال والقسم الأول باطل أيضا لأن الحكيم قد يجوز أن يفيد غير مراده على الجملة كما يجوز أن يفيده إياه على التفصيل ألا ترى أم زيدا قد يعلم أن في الدار عمرو بعينه فيكون له غرض في أن يعلم خالد أن في الدار عمرو وقد يكون له غرض في أن يعرفه أن في الدار رجل ولا يستقبح ذلك منه أحد ويحسن ذلك حسن أن يكون في اللغة الأسماء المشتركة ليتوصل بها المتكلم إلى غرضه في إفادة الجملة دون التفصيل كما يحسن أن يكون فيها أسماء غير مشتركة ليتوصل بها المتكلم إلى غرضه في إفادة التفصيل إن قيل الغرض بالتعبد هو الفعل والعلم والاعتقاد تابعان فيجب مراعاته دونهما وأنتم راعيتموها في هذا الموضع الجواب أن الغرض قبل الوقت هو العلم ولهذا أوجبتم التمكن منه مفصلا وأوجبناه نحن إما مفصلا وإما مجملا
واحتج من أبى تأخير بيان المجمل بأن الله تعالى لما قال والمطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء إما أن يكون أراد منها الاعتداد بالطهر إن شاءت أو بالحيض إن شاءت أو أراد منها الاعتداد بواحد منهما بعينه وأي الأمرين أراده فقد أراد منها ما لا سبيل للمجتهد إلى فهمه لأن اللفظ لا ينبيء عن التخيير عندكم ولا ينبيء عن واحد منهما بعينه الجواب أنه أراد منها واحدة بعينه ولم يرد من المجتهدين أن يفهموه في الحال لأنه لم يدلهم عليه في الحال بلفظ يخصه فيريد منهم فهمه وإنما دلهم على الجملة فهو يريد منهم فيهم الجملة كما لو قال اعتدي بواحدة من أحد شيئين بعينه إما الطهر وإما الحيض وسأبينه لك وكما لو قال القائل لغيره اضرب رجلا واعلم أنه رجل معين وسأبينه لك في أنه لم يرد منه أن يعرفه بعينه في الحال إما أراد أن يفهم وكما لو علم أن زيدا في الدار وأراد إعلام عمرو أن في الدار رجل ولم يرد إعلامه أن زيد فقال في الدار رجل فانه قد عنى به زيدا ولم يرد

أن يعرفه أنه زيد
شبهة
لو حسنت المخاطبة بالاسم المشترك من غير بيان في الحال لحسنت مخاطبة العربي بالزنجية مع القدرة على مخاطبته بالعربية ولا يبين له في الحال والعلة الجامعة بينهما أن السماع لا يعرف مراد المتكلم بهما على حقيقة فان قلتم إنه لم يحسن مخاطبته بالزنجية لأن العرب لا تعرف بكلام الزنج شيئا وتعرف بالكلام المجمل شيئا ما وهو أن المتكلم أراد أحد معنيي الاسم المشترك قيل لكم ليس يخلوا إما أن تعتبروا في حسن الخطاب المعرفة بكمال المراد أو تعتبروا المعرفة ببعض المراد فان اعتبرتم الأول لزمكم أن لا يجوز تأخير بيان المجمل لأنه لا يمكن مع فقده معرفة كمال المراد وإن اعتبرتم الثاني لزمكم حسن مخاطبة العربي بالزنجية لأن العربي إذا عرف حكمه الزنجي المخاطب له علم أنه قد اراد بخطابه شيئا ما إما الأمر وإما النهي وإما غيرهما والجواب أن المعتبر في حسن الخطاب أن يتمكن السامع من أن يعرف به ما أفاده الخطاب وهو يتمكن من معرفة ما وضع له الاسم المشترك لأنه إنما وضع لكل واحد من معنييه على انفراده فالسامع له قد علم أن مراد المتكلم به إما هذا وإما هذا وهذا هو التردد الذي تقتضيه اللفظة كما لو قال القائل للمرأة أريد منك أن تعتدي بشيء معين من شيئين إما الطهر وإما الحيض أنها قد فهمت ما يفيد هذا الخطاب من التردد بين الطهر والحيض ولو قال الرجل لغيره في الدار رجل فهم منه السامع ما يقتضيه الخطاب من أن شخصا فيه معنى الرجولية في الدار وإن علم أنه شخص معين وأما العربي فانه لا يتمكن من أن يعرف ما وضع له خطاب الزنج فلم يحسن أن يخاطب به منفردا عن بيان لأن ذلك الخطاب إما أن يكون أمرا أو نهيا أو خبرا أو استخبارا أو غير ذلك والسامع له من العرب لا يتمكن من معرفة ذلك فان قيل فلو كان في كلام الزنج ما هو مشترك بين الأمر والنهي وجميع أقسام

الكلام لكان يحسن من الزنجي أن يخاطب به العربي معتقد العربي أنه قد أراد المتكلم واحدا من ذلك قيل لا يحسن ذلك لأنه كما يجوز أن يكون في كلام الزنج ما هو مشترك من ذلك فانه يجوز خلافه فلا يكون معتقدا في ذلك الكلام ما يفيده من التردد من هذه الأقسام فلو اعتقد ذلك لاعتقده بغير الكلام وإنما اعتقده لاعتقاده حكمة المتكلم أو ظنه حكمته وإن الحكيم لا بد من أن يريد بخطابه شيئا ما
واحتج من أجاز تأخير البيان من غير أن فصل التفصيل الذي ذكرناه بأشياء عقلية واشياء سمعية والسمعية منها آيات تدل على جواز ذلك ومنها آيات وأخبار تدل على أن البيان قد تأخر من الله سبحانه ومن رسوله صلى الله عليه و سلم والصدر الأول
فأما الأشياء العقلية فأمور
منها أن البيان إنما يجب ليتمكن المكلف من أداء ما كلف والتمكين من ذلك غير محتاج إليه عند الخطاب فانما يحتاج إليه قبل الفعل بلا فصل فلم يجب تقديمه عند الخطاب كما لم يجب تقديم القدرة عند الخطاب الجواب أن مخالفهم يقول يحتاج إلى البيان لما ذكروه وليخرج الخطاب من كونه عبثا أو معزيا بالجهل وكان من حق المشتغل بذكر الدليل أن يذكر ذلك ويفسده يبين ذلك أنه لو لم يفتقر إليه إلا للتمكن من الأداء لجاز أن يخاطبنا الله بما لا نفهم به شيئا أصلا كخطاب الزنج والمستدل يأبى ذلك ويقول لا بد من أن يعرف السامع بالخطاب شيئا ما فإن قالوا ليس في تأخير البيان إيجاب كون الخطاب عبثا لأنه وإن لم يفهم جهة المراد في الخطاب فإنه يفيد وجوب العزم والاعتقاد قيل فيجب أن يجوز خطاب العربي بالزنجية لأنه يفيد العزم والاعتقاد إذا كان المتكلم سيدا لسامع أو علم السامع أو ظن حكمته وعلى أنه إنما يجب العزم والاعتقاد لو علم أن ما خاطبه به أمر ومن يجيز تأخير بيان العموم وكل ما له ظاهر لا يأمن أن تكون صيغة الآمر لم تستعمل في الأمر

وأنه يبين له ذلك فيما بعد
ومنها قولهم ليس في تأخير بيان المجمل إغراء بالجهل ففارق تأخير بيان العموم ولمخالفهم أن يقول إنه وإن فارقه من هذه الجهة فإنه لا يمتنع أن يختص بكونه عبثا إذا تأخر بيانه على حسب ما يذكرونه
ومنها قولهم لو قبح تأخير البيان لقبح تأخير الزمان القصير وإن عطف جملة من الكلام على جملة أخرى ويبين الأولى عقيب الثانية ولقبح البيان بالكلام الطويل ولمخالفهم أن يقول إنما يحسن تأخير مدة لا يخرج الكلام معها من أن يكون مترقبا يرجو فيه السامع زيادة شرط وتقييد بصفة وهذا غير حاصل في الزمان القصير ولهذا جاز أن يتكلم الإنسان بما لا يفهم ثم يبينه بعد زمان قصير ولا يجوز قياسا على ذلك أن يبينه بعد زمان طويل والكلام وإذا عطف بعضه على بعض جرى مجرى الجملة الواحدة فبيان الجملة الأولى عند آخر الكلام يجري مجرى بيانها عقبيها وأما الفعل الطويل والكلام الطويل فانما يجوز وقوع البيان بهما مع إمكان البيان بالكلام القصير إذا كان في ذلك زيادة مصلحة ومعلوم أنه يحسن بيان ما لا يفهم به شيء أصلا بمثل ذلك ولا يجوز قياسا عليه تأخير بيانه الزمان الطويل
ومنها قولهم لو قبح تأخير البيان لكان وجه قبحه فقد تبين المكلف وذلك يقتضي قبح الخطاب إذا لم يتبينه المكلف وإن بين له وسواء أتى في ذلك من قبيل نفسه أو من قبيل غيره ألا ترى أن الإنسان يسقط تكليفه إذا مات سواء أماته الله أو قتل نفسه ولمخالفهم أن يقول إنما قبح تأخير البيان لأن فيه فقد التمكين من التبين لا فقد التبين وهذا غير قائم إذا بين له فلم يتبين لتقصير منه في النظر وأما الميت فإنما سقط عنه التكليف لفقد تمكنه من الفعل سواء قتل نفسه أو أبطل الله سبحانه حياته وعلى أن ذلك منتقض بدنو حال الفعل لأنه لا يجوز أن لا يبين له وإن كان لو بين له فلم يتبين لم يوجب ذلك قبح التكليف ولا قبح البيان
ومنها قولهم لو قبح تأخير بيان المجمل لكان وجه قبحه أنه لا يمكن

السامع له أن يعرف به كمال المراد ولو قبح لذلك لقبح تأخير بيان النسخ وبيان كون المكلف غير مراد بالخطاب إذا كان المعلوم أنه يعجز أو يموت وهذه الدلالة صحيحة وقد أجاب قاضي القضاة عنها بأن تأخير النسخ وبيان كون المكلف غير مراد بالخطاب لا يخل بالمعرفة بصفة ما كلفناه فلا يخل بالتمكن من الفعل في وقته وليس كذلك تأخير بيان صفة العبادة لأن الجهل بصفتها لا يمكن معه أداؤها في وقتها ولقائل أن يقول وكذلك تأخير بيان صفة العبادة عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة لا يخل بأداء العبادة في وقتها
ومنها قولهم لو قبح تأخير بيان العموم لقبح تأخير بيان النسخ وتأخير بيان المكلف للعبادة أو تأخير بيان التخصيص يخل العلم باستغراق العموم الأشخاص كما أن تأخير بيان النسخ يخل بالعلم باستغراق الخطاب والأوقات والجواب أنه لا يجوز بيان ذلك كله إلا مع الإشعار بالنسخ وتجويز كون المكلف ممن يموت والإشعار بالتخصيص وقد تقدم بيان ذلك وقد فصل قاضي القضاة بين تأخير بيان النسخ وبين بيان التخصيص بأن الخطاب المطلق معلوم أن حكمه مرتفع لعلمنا بانقطاع التكليف وليس كذلك التخصيص ولقائل أن يقول إن الله عز و جل لو قال صلوا كل يوم جمعة لكن ظاهره يقتضي الدوام ولوجب أن يخرج منه ما بعد الموت لدلالة ويبقى الباقي على ظاهره فان جاز أن يكون حكم الخطاب مرتفعا مع الحياة والتمكن ولا يدل الله سبحانه على ذلك وإن كان ظاهر الخطاب يتناوله جاز مثله في العموم إن قيل إنما جاز تأخير بيان النسخ لأنه بيان ما لم يرد بالخطاب قيل ولم إذا كان كذلك جاز تأخيره وعلى أن تأخير التخصيص هو تأخير بيان ما لم يرف بالعموم فلا فرق بينهما فإن قيل إن التخصيص وإن كان بيان ما لم يرده المتكلم بالعبادة فان تأخيره يقدح في العلم بمن أراده المتكلم بالخطاب لأنا إذا جوزنا أن يكون قد أريد بالعموم بعض لم يبين لنا لم نأمن في كل شخص أن يكون ما أريد بالخطاب وفي ذلك شكنا في الأشخاص الذين أرادهم المتكلم قيل هذا قائم في النسخ لأن الخطاب إذا أفاد ظاهره إيجاب الصلاة في كل يوم جمعة وجوز تأخير بيان النسخ قطعا على أن الصلاة في الجمعة الأولى مراده

لأن النسخ لا يجوز أن يتناولها ويجوز فيما بعدها أن يكون غير مراده في ذلك شكنا فيما أريد منا من الصلاة في الجمع المستانفة وعلى أنا نجوز أن يأمر الله سبحانه المكلفين بالأفعال مع أن كل واحد منهم يجوز أن يموت قبل وقت الفعل فلا يكون مراده بالخطاب وفي ذلك شكنا فيمن أريد بالخطاب وهذا هو تخصيص لم يتقدمه بيان
وأما ما استدلوا به من جهة الكتاب جواز تأخير البيان فأشياء
منها قوله عز و جل إن علينا جمعه وقرآنه فاذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ومعنى قرأناه أنزلناه عليك لأنه قال فاذا قرأناه فاتبع قرآنه ولا يمكن أن يعقب الإتباع إلا لإنزال القرآن وقال بعد ذلك ثم إن علينا بيانه وثم للتراخي دل على أن البيان إنما يجب متراخيا عن الإنزال والجواب أن قوله سبحانه ثم إن علينا بيانه يرجع إلى جميع المذكور وهو القرآن وجميعه لا يحتاج إلى بيان ويجب صرف البيان ها هنا إلى غير ما اختلفنا فيه فليس هم بأن يحملوا البيان ها هنا على بيان المجمل والعموم لأن الظاهر من إطلاق اسم البيان بأولى من أن نتمسك بالظاهر من رجوع الكناية إلى جميع القرآن ويكون البيان ها هنا إظهاره بالتنزيل أو نحمله على البيان المفصل لأنا نجيز تأخيره على ما بيناه ويجوز أن يكون قوله ثم أن علينا بيانه يتراخى عن فائدة قوله إن علينا جمعه وقرآنه فكأنه يجمعه في اللوح المحفوظ ثم ينزله ويبينه وذلك متراخ عن الجميع
ومنها قوله عز و جل ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه والجواب أن ظاهر ذلك يمنع من تعجيل نفس القرآن لا بيانه ومعنى ذلك لا تعجل بأداء القرآن عقيب سماعه حتى لا يختلط عليه سماعه بأدائه
فأما ما استدلوا به على أن البيان قد تأخر لأشياء

منها أن الله سبحانه لما أنزل قوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون قال ابن الزبعري فقد عبدت الملائكةوعبد المسيح أفهؤلاء حصب جهنم فتأخر بيان ذلك حتى أنزل قوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية الجواب أن البيان قد كان حاضرا ولكن القوم لم يتبينوا لعنادهم لأن الله سبحانه قال إنكم وما تعبدون وما لما لا يعقل فلم يدخل فيه المسيح والملائكة
ومنها أن الله سبحانه لما أمر بني إسرائيل بذبح بقرة أراد بقرة موصوفة غير منكورة ولم يبينها لهم حتى سألوا سؤالا بعد سؤال والدلالة على أنه لم يرد بقرة مذكورة أن قولهم ادع لنا ربك يبين لنا ما هي و ما لونها وقول الله تعالى إنه يقول إنها بقرة لا فارض و إنها بقرة صفراء و إنها بقرة لا ذلول ينصرف إلى ما أمروا من قبل وهذا يمنع من كون هذه الأقاويل تكاليف ممدودة قالوا وليس لكم أن تقولوا إن قوله إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة يفيد سقوط الفرض بذبح أي بقرة شاؤوا وذلك يقتضي أن يكون إيجاب كونها صفراء إيجابا مجردا وكان ذلك مصلحة بشرط تقدم الأمر بالمذكور وعصيانهم فيها لأن الظاهر وإن كان ما ذكرتم فالظاهر من هذه الكنايات رجوعها إلى ما أمروا من قبل بذبحه والتمسك بظواهر هذه الكنايات مع كثرتها وترك ظاهر واحد وتأويله أولى من التمسك بظاهر واحد وترك عدة ظواهر والجواب أن سؤالهم عنها يدل على أن موسى كان قد أشعرهم بأن البقرة غير منكورة ولولا ذلك ما خفى عليهم أنها مطلقة ولمخالفهم أيضا أن يقول لا يمتنع أن يكون البيان قد كان تقدم فلم يتبينوا وأيضا فيمكن أن يقال إن خروج هذا الكلام مخرج الذم

لهم وقول ابن عباس رضي الله عنه بنو إسرائيل شددوا فشدد الله عليهم يدل على أن البقرة التي أمروا ابتداء بذبحها كانت مذكورة وأنهم كلفوا بعد ذلك تكليفا مجردا ذبح بقرة صفراء
ومنها أن الله سبحانه قال واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى وبين النبي صلى الله عليه و سلم أن السلب للقاتل و أن بني أمية لم يدخلوا في ذوي القربى فالجواب أنه لا يمتنع أن يكون البيان المجمل أو المفصل قد كان تقدم
ومنها أن الملائكة قالت لإبراهيم عليه السلام إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين ولم يبينوا أنهم لم يريدوا لوطا والمؤمنين حتى سألهم فقالوا نحن اعلم بمن فيها لننجينه وأهله والجواب أنهم قد بينوا ذلك بقولهم إن أهلها كانوا ظالمين لأن ذلك لا يدخل فيه من لم يظلم ولو لم يكن ذلك بيانا لم يمنع أن يكونوا أرادوا في الحال بيان ذلك فبادرهم بالسؤال
ومنها ما روي أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه و سلم اقرأ قال وما أقرأ يقولها ثلاث مرات ثم قال اقرأ باسم ربك الذي خلق قالوا فأخر بيان ما أمره به والجواب أن هذه الرواية من أخبار الآحاد فلم يصح التعلق بها ها هنا وأيضا فإن الأمر إن كان على الفور فقد اقتضى الفعل في الثاني وفي ذلك تأخير البيان عن وقت الفعل وإن لم يكن الأمر على الفور فإنه يفيد جواز الفعل في الثاني وتأخير البيان عنه تأخير له عن وقت الحاجة فلا بد لنا ولهم من ترك الظاهر

ومنها قولهم إن النبي صلى الله عليه و سلم لما سئل عن الصلاة لم يبينها في الحال وانتظر مجيء الوقت حتى يبينها بالفعل ولم يبين آية الحج إلا حين حج وقال خذوا عني مناسككم والجواب أنه لا يمتنع أن يكون قد أشعر بأن المراد بالصلاة ليس هو الدعاء بل هو شيء آخر قد انتقل اسم الصلاة إليه ولولا هذا الإشعار لما سأل السائل عن الصلاة بل كان يحمل الصلاة على الدعاء ولا يمتنع أن يكون قد بينها من قبل بالقول وأخر بيانها بالفعل إلى وقتها ليتأكد البيان وأما الحج فقد بينه قولا قبل أن يحج ولهذا حج أبو بكر رضي الله عنه بالناس
ومنها أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن المزابنة فلما شكت الأنصار إليه أرخص لهم في العرايا ضرب من المزاينة وهذا تأخير بيان والجواب أنه يجوز أن يكون بين لهم ذلك بيانا مجملا أو مفصلا فلم يتبينوه على أن قوله أرخص لهم في العرايا استثناء وشرع في إباحة العرايا وفي ذلك كون هذه الإباحة نسخا متقدما فمنى أجاز تأخير بيان النسخ لم يلزمه هذا الكلام ومن لم يجز ذلك إلا بالإشعار يقول قد كان أشعرهم بأنه سيعرض للحظر نسخ
ومنها أن عمر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الكلالة فقال يكفيك آية الصيف فكان عمر يقول اللهم مهما شئت فان عمر لم يتبين والجواب أنه لا يمتنع أن يكون البيان لم يتأخر ولكنه لم يتبين ولا بد للمستدل من أن يقول ذلك لأن الحاجة قد كانت حضرت
ومنها أن النبي صلى الله عليه و سلم أنفذ معاذا إلى اليمن ليعلمهم الزكاة وغيرها فسألوه عن الوقص فقال ما سمعت فيه شيئا من رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أرجع إليه فأسأله فعلم أن بيان ذلك لم يكن تقدم والجواب أنه يجوز أن يكون البيان قد كان تقدم ولم يتبينه معاذ على أن بيان ذلك هو بالبقاء على حكم

العقل في أن لا زكاة في الوقص ولا في غيره إلا ما استثناه الشرع وقول معاذ حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج على سبيل الإظهار لأن الإنسان قد يستظهر في السؤال عما يعمله سيما وقد كان يجوز معاذ أن يكون قد تجدد في ذلك شرع لم يعلمه على أنه لو لم يكن الجواب في ذلك ما ذكرناه لدل على أن البيان قد تأخر عن وقت الحاجة لأن معاذا بعث إلى اليمن ليأخذ منهم الزكاة وليعلمهم ما يجب عليهم وكان يجب عليهم أن يعلموا منه فالحاجة قد كانت حضرت
ومنها قولهم قد وردت أخبار مستفيضة في بيان آيات من القرآن وإنما تستفيض بعد مدة وفي ذلك تأخير بيانها عنا إلى أن يستفيض الخبر والجواب أن بيان القرآن منه ما لا يجوز نقله إلا مستفيضا وهو ما تعبدنا فيه بالعلم دون الظن وليس يمتنع أن يستفيض ذلك في حالة استفاضة نقل القرآن وإن كان نقل القرآن امتد استفاضة ومنه ما يجوز نقل بيانه بالآحاد وهو ما للظن فيه مدخل وليس يجب أن يستفيض ذلك فيقال إنما يستفيض في مدة فيتأخر فيها البيان
ومنها أن الصحابة رضوان الله عليهم نقلت أخبارا عند نزول الحاجة إليها وهي مخصصة للعموم كالخبر في أخذ الجزية من المجوس وغير ذلك فلو لم يجز تأخير البيان لما نقلت ذلك والجواب أن من منع من تأخيرالبيان من يجوز أن لا يستمع المكلف بالخبر الخاص ويقول يلزمه البحث والطلب إذا حوفه الخاطر يجوز أن يكون في الأدلة ما يخصص العموم فلا سؤال عليه
باب فيمن يجب أن يبين له المراد بالخطاب وفيمن لا يجب أن يبين له أعلم أن ظاهر الأمر إذا تناول أفعالا من جماعة فإنه يجوز أن يريد المتكلم جميعهم ويجوز أن يريد بعضهم ويجوز أن يريد جميع تلك الأفعال ويجوز أن يريد بعضها دون بعض فاذا صدر من الله سبحانه ما ظاهره الأمر بأفعال ولم

يدل الأمر على مراده من تلك الأفعال كان ذلك صربان أحدهما أن يكون الاسم المتناول الأفعال مجملا كقوله تعالى أقيموا الصلوة والآخر يكون الاسم ينبىء عن صفتها لكنه عام أريد بعضه كقوله تعالى فاقتلوا المشركين وهو لا يريد بعضهم ويجب في كلا الضربين أن يبين الله تعالى مراده لمن أراد أن يفهم الخطاب دون من لم يرد أن يفهمه أما من أراد أن يفهمه فانه لو لم يبين له المراد مع أنه لا سبيل له إلى ما كلف من الفهم إلا بالبيان كان قد كلف ما لا سبيل له إليه وأما من لم يرد أن يفهم الخطاب فانما لم يجب أن يبين له المراد لأنه لا وجه لوجوب بيان المراد إلا كونه تمكينا مما أريد من فهم المراد وهذا غير قائم لمن يرد الله سبحانه أن يفهم مراده بالخطاب وما ليس له وجه وجوب فليس بواجب ولهذا لما لم يكن للأقدار وجه وجوب إلا كونه تمكينا من الفعل لم يلزم أن يقدر الله سبحانه على الفعل من لم يكلفه فعله ولهذا لم يجب في حكمة الله أن يبين لنا مراده بالكتب السالفة
فأذا ثبت ذلك فالذين أراد الله سبحانه منهم فهم خطابه ضربان أحدهما أراد منهم فعل ما تضمنه الخطاب إن كان ما تضمنه الكتاب فعلا والآخر لم يرد منهم فعل ما تضمنه والأولون هم العلماء وقد أراد الله سبحانه أن يفهموا مراده بآية الصلاة وأن يفعلوها والآخرون هم العلماء في أحكام الحيض قد أريد منهم الخطاب ولم يرد منهم فعل ما تضمنه الخطاب
والذين لم يرد الله سبحانه أن يفهموا مراده ولم يوجب ذلك عليهم ذلك ضربان أحدهما لم يرد منهم أن يفعلوا ما تضمنه الخطاب والآخر أراد منهم الفعل فالأولون هم أمتنا مع الكتب السالفة لأن الله سبحانه ما أراد أن يفهموا مراده بها ولا أن يفعلوا مقتضاها والآخرون هم النساء في أحكام

الحيض لأن الله سبحانه أراد منهن التزام أحكام الحيض بشرط أن يفتيهن المفتي وجعل لهن سبيلا إلى ذلك بما علمنه من دين النبي صلى الله عليه و سلم من وجوب الرجوع إلى العلماء أو لم يرد منهن على سبيل الإيجاب فهم المراد بالخطاب لأنه لم يوجب عليهن سماع أخبار الحيض فضلا عن الفحص عن بيان مجملها وتخصيص عامها
باب جواز إسماع المكلف العام دون الخاص منع أبو الهذيل وأبو علي رحمهما الله من ان يسمع الحكيم خطابه العام المكلف من دون أن يسمعه ما يدل من جهة السمع على تخصيصه وما لا يشغله عن سماع العام حتى يسمع الخاص معه وأجازا أن يسمعه العام المخصوص بأدلة العقل وإن لم يعلم السامع أن في أداة العقل ما يدل على تخصيصه وأجاز أبو إسحق النظام وأبو هاشم رحمهما الله أن يسمعه العام من دون أن يعرف الخاص سواء كان ما يدل على تخصيصه دليلا عقليا أو سمعيا وهو ظاهر مذهب الفقهاء والدليل على ذلك أن العموم المخصوص يمكن المكلف اعتقاد تخصيصه إذا سمع بالدليل المخصص كما يمكنه ذلك إذا لم يسمع به فجاز غسماعه العام وإن تكلف اعتقاد تخصيصه في الحالين لأنه فيهما متمكن مما كلف إن قبل ولم زعمتم أنه يمكنه اعتقاد التخصيص إذا لم يسمع المخصص قيل لأن الله سبحانه يخطر بباله جواز كون المخصص في الشرع فيشعره بذلك فيجوزه فاذا جوزه وجب عليه طلبه كما يلزمه المعرفة عندما يخاف بالخاطر وإذا قلب المخصص ظفر به فاذا نظر فيه اعتقد التخصيص وبمثل هذه الطريقة يعلم التخصيص إذا كان المخصص دليلا عقليا إن قيل دلالة العقل حاضرة عند السامع للعموم فأمكنه العلم بالتخصيص وليس كذلك المخصص السمعي إذا لم يسمعه قيل لا فرق بينهما لأن كثيرا من المذاهب لا يشعر الإنسان بأن عليها دليلا عقليا بل ربما استبعد أن يكون عليها دليلا عقليا كما لا يعلم أن

على كثير من المذاهب دلالة شرعية فكما جاز أن يكلف طلب أحدهما بالخاطر جاز مثه في الآخر
واحتج الأولون بأشياء
منها أنه لو أسمع الحكيم غيره العام دون الخاص لكان قد أغراه بالجهل وهو اعتقاد استغراقه وإباحة ذلك وهذا قبيح والجواب أنه يلزم عليه أن يكون قد أغراه بالجهل إذا كان المخصص عقليا وعلى أن لا يكون مغريا له بالجهل إذا أشعره بالمخصص وأخطر ذلك بباله وخوفه من ترك طلبه
ومنها أنه لو اسمعه من دون الخاص لجرى مجرى خطاب العربي بالزنجية والجواب أن ذلك دعوى والفرق بينهما أن العربي لا يفهم الزنجية ولا يتمكن من فهمها إذا لم يكن من يفسرها له وليس كذلك من خوطب بالعام ويجوز كون المخصص في الشرع وما قالوه يلزمهم مثله إذا كان المخصص عقليا
ومنها أنه لو جاز أن يسمعه العام دون الخاص لجاز أن يسمعه المنسوخ دون الناسخ والمجمل دون البيان والجواب أنه يجوز ذلك إذا أشعره بالناسخ والبيان وكان أبو على ربما سوى بين إسماع العموم من دون المخصص وبين إسماع المنسوخ من دون الناسخ وربما لم يجز ذلك في العموم وأجازه في الناسخ والأولى التسوية بينهما في المنع والجواز
ومنها انه لو اسمعه العام دون الخاص للزم المكلف الوقف حتى يفحص عن المخصص وفي ذلك دخول في قول أصحاب الوقف والجواب أنه يلزم مثله في المخصص العقلي وأيضا فليس في ذلك دخول في قول أصحاب الوقف لأن أصحاب الوقف يقفون في العموم مع علمهم بتجرده عن القرائن ونحن لا نقف فيه والحال هذه
ومنها قولهم إن الإنسان يلزمه العمل بما يعلمه من الأدلة الشرعية ولا يلزمه طلبها ألا ترى أنه يلزمه أن يعمل على ما في عقله ولا يلزمه أن يتوقف

ويجوب البلاد ليعلم هل بعث نبي ينقله عما في عقله أم لا فكذلك ينبغي إذا سمع أن يعتقد استغراقه ولا يلزمه طلب ما يخصصه صيغة العموم فلو جاز أن يسمع العام دون الخاص لكان مباحا له أن يعتقد استغراقه وفي ذلك إباحة الجهل والجواب أنه يلزمهم مثله في العموم إذا كان المخصص عقليا وأيضا فان هذا يدل على جواز أن يسمع الله تعالى المكلف العام ولا يسمعه الخاص ويجوز له أن يعمل على ذلك من غير أن طلب الخاص كما يجوز أن لا يعرفه الله سبحانه أنه قد بعث نبيا فلا يلزمه طلبه بل يعمل على ما في عقله فشبهتهم قد دلت على ما نتفق نحن وهم على فساده وهو جواز ألا يسمع الخاص ولا يلزمه الطلب له وأيضا فان الذي ذكروه هو أنه لا يجب على الإنسان أن يطوف البلاد ويسأل هل بعث نبي أم لا بل يفعل بحسب ما في عقله ونظير هذا إذا سمع المكلف العام أن لا يلزمه أن يطوف البلاد بطلب المخصص وكذلك نقول فإنا نوجب عليه العمل على العام فإن كان مخصوصا فإنما يلزمه تخصيصه بشرط أن يبلغه المخصص فأما إذا سمع بنبي في بلد فإنه يلزمه أن يسأل عنه كما يلزمه أن يسأل عما يخصص العموم في بلده فإن قيل فإن كان العموم ناقلا عما في العقل وكان العمل به قد حضر وضاق الوقت عن طلب المخصص ما الذي يلزمه قيل الأشبه أن يلزمه العمل على العموم لأنه لو لم يجز ذلك لم يسمعه الله سبحانه قبل تمكينه من المعرفة بالمخصص فيجب عليه العمل على العموم ثم يطلب المخصص فيما بعد ويحتمل أن يقال يعمل على ما في عقله لأن من شرط العمل على العموم أن يعلم فقد المخصص وهذا غير حاصل ويجوز أن يكون له مصلحة في سماع العموم في ذلك الوقت


الكلام في الأفعال
باب في ذكر فصول الأفعال اعلم أن الغرض بالكلام في أفعال النبي صلى الله عليه و سلم أن ننظر هل تدل على حكم من الأحكام وإن دلت فعلى أي حكم تدل وذلك يقتضي أن نقسم الأفعال في الجملة بحسب أحكامها من الحسن والقبح وما يتفرع عليها ثم ننظر هل يشترك القادرون في إيقاع تلك الأقسام أم لا ثم ننظر هل يدل الفعل أو السمع على وجوب أفال مثل أفعال النبي صلى الله عليه و سلم علينا وهل إن دل السمع على ذلك فعلى أي وجه يدل ولما افتقرنا في ذلك إلى معرفة الناس والاتباع وغير ذلك وجب ذكر ذلك قبل النظر في الطريق إلى أن أفعال النبي صلى الله عليه و سلم على الوجوب وبعد ذلك كله نقسم الوجوه التي تقع عليها أفعاله صلى الله عليه و سلم ونذكر الطريق إليها ثم نذكر ما يدل عليه افعاله صلى الله عليه و سلم المتعلقة بغيره ثم نتكلم في أفعاله صلى الله عليه و سلم إذا تعارضت أو عارضت خطاب الله سبحانه أو خطابه ما حكمهما وهل يقع بينهما تخصيص ونسخ أم لا وعند ذلك يأتي على غرضنا في دلالة أفعاله صلى الله عليه و سلم على ما يدل عليه وعلى توابع هذا الغرض
باب في قسمة افعال المكلف إلى أحكامها اعلم أنا نقسم الأفعال ها هنا ضروبا من القسمة أحدها تقسيمها بحسب

أحكامها في الحسن والقبح والآخر بحسب تعلق أحكامها على فاعليها وغير فاعليها والآخر بحسب كونها شرعية وعقلية وكونها أسبابا في أحكام أفعال أخر
أما الأول فهو أن الإنسان إما أن يصدر عنه فعله وليس هو على حالة تكليف وإما أن يكون على حالة تكليف فالأول نحو فعل الساهي والنائم والمجنون والطفل وهذه الأفعال لا يتوجه نحو فاعليها ذم ولا مدح وإن كان قد تعلق بها وجوب ضمان وأرش جنايه في مالهم ويجب إخراجه على وليهم والثاني ضربان أحدهما أن يكون مما ليس للقادر عليه المتمكن من العلم به أن يفعله وإذا فعله كان فعله له مؤثرا في استحقاق الذم فيكون قبيحا والضرب الآخر أن يكون لمن هذه حاله فعله وإذا فعله لم يكن له تاثير في استحقاق الذم وهو الحسن والقبيح ضربان أحدهما صغير والآخر كبير والصغير هو الذي لا يزيد عقابه وذمه على ثواب فاعله ومدحه والكبير هو ما لا يكون لفاعله ثواب أكثر من عقابه ولا مساو له والكبير ضربان أحدهما يستحق عليه عقاب عظيم وهو الكفر والآخر يستحق عليه دون ذلك القدر من العقاب وهو الفسق وذكر الشيخ أبو عبد الله أن أهل العراق يقسمون القبيح إلى المحرم والمكروه وإلى ما الأولى أن لا يفعل وإلى ما لا بأس بفعله فالأول كأكل الميتة وشرب الدم وكل ما لم يكن طريق قبحه مجتهدا فيه والمكروه نحو كثير من سؤر السباع وكل ما كان طريق قبحه مجتهدا فيه وأما ما الأولى ألا يفعل فهو استعمال سؤر الهر عند أبي حنيفة وأما الذي لا بأس به فهو ما فيه أدنى شبهة كاستعمال أسآر كثير مما يؤكل لحمه فأما ما لا شبهة فيه كالماء فانه لا يقال لا بأس به وأما الشافعي فانه يصف الشيء بأنه مكروه إذا كان طريق قبحه مقطوعا به وأما الحسن فضربان أحدهما إما أن لا يكون له صفة زائدة على حسنه تؤثر في استحقاق المدح والثواب فيكون في معنى المباح وإما أن يكون له صفة زائدة على حسنه لها مدخل في استحقاق المدح وهذا القسم إما أن لا يكون للإخلال به مدخل في استحقاق الذم وإما

أن يكون له مدخل في استحقاق الذم والأول في معنى الندب الذي ليس بواجب وهو ضربان أحدهما أن يكون نفعا موصلا إلى الغير على طريق الإحسان إليه فيوصف بأنه فضل والآخر لا يكون نفعا موصلا إلى الغير على طريق الإحسان بل يكون مقصورا على فاعله فيوصف بأنه مندوب إليه ومرغب فيه ولا يوصف بأنه إحسان إلى الغير وأما الذي للإخلال به مدخل في استحقاق الذم فضربان أحدهما الإخلال به بعينه مؤثر في استحقاق الذم وهو الواجب على التخيير كالكفارات والقسم الأول ضربان أحدهما لا يراعى في استحقاق ذم المخل به ظنه لإخلال الغير به والآخر يراعي ذلك فالأول هو الواجب على الأعيان والثاني الواجبات على الكفاية كالجهاد وغيره ويقسم غير أصحابنا الواجب إلى الموسع والمضيق فالموسع هو الواجب الجائز تأخيره عن الوقت إلى وقت كالصلاة في أول وقتها والمضيق هو الذي لا يجوز تأخيره عن الوقت الذي هو مضيق فيه كالصلاة في آخر وقتها
وكل قسم من هذه الأقسام يختص بحدود وأوصاف نحن نذكرها
أما القبيح فهو ما ليس للمتمكن منه ومن العلم بقبحه أن يفعله ومعنى قولنا ليس له أن يفعله معقول لا يحتاج إلى التفسير ويتبع ذلك أن يستحق الذم بفعله ويحد أيضا بأنه الذي على صفة لها تأثير في استحقاق الذم وإنما لم نحد القبيح بأنه الذي يستحق من فعله الذم لأن القبيح لو وقع ممن قد استحق فيما تقدم من المدح أكثر مما يستحق على ذلك القبيح من الذم لكان ما يستحقه من المدح مانعا من استحقاق الذم على ذلك القبيح والبهيمة أيضا قد يفعل القبيح عند أصحابنا ولا يستحق الذم والقبيح قد يوصف بأوصاف كثيرة
منها قولنا معصية وإطلاق ذلك في العرف يفيد أنه فعل يكرهه الله سبحانه ويفيد في اصل اللغة فعل يكرهه كاره ومن أصحابنا من شرط فيه كون الكاره أعلى رتبة من العاصي

ومنها وصفه بأنه محظور والحظر يفيد المنع ويفيد في العرف أن الله قد منع منه بالنهي والوعيد والزجر
ومنها وصفه بأنه محرم وذلك يفيد في العرف قبحه وأن الله منع منه بالوعيد والنهي
ومنها وصفه بأنه ذنب ومعناه أن قبيح يتوقع المؤاخذة عليه والعقوبة ولذلك لا توصف أفعال البهيمة والطفل بذلك وربما وصف فعل المراهق بذلك لما لحقه الأدب على فعله
ومنها وصفه بأنه مكروه ويفيد في العرف أن الله سبحانه هو الكاره له
ومنها وصفه بأنه مزجور عنه ومتوعد عليه ويفيد في العرف أن الله سبحانه هو المتوعد عليه والزاجر عنه
وأما الحسن فهو ما للقادر عليه المتمكن من العلم بحاله أن يفعله وأيضا ما لم يكن على صفة يؤثر في استحقاق فاعله الذم أو ما ليس له مدخل في استحقاق فاعله الذم وإذا لم يكن للحسن صفة زائدة على حسنه وصف بأنه مباح ويفيد أن مبيحا اباحه ومعنى الإباحة هو إزالة الحظر والمنع بالزجر والوعد وغيرهما ممن يتوقع منه المنع وإطلاق قولنا مباح يفيد أن الله تعالى أباحه بأن أعلمنا أو دلنا على حسنه ولم يمنع منه ويوصف بأنه حلال وطلق ويفيد ما يفيد وصفنا بأنه مباح ولذلك لم يوصف أفعال الله الحسنة بأنها مباحة وإن كانت حسنة نحو تعذيب من استحق العقاب ومن حق المباح أن لا يستحق على فعله ثواب لأنه لو استحق عليه ثواب كان فعله أولى من تركه ولكان على صفة يترجح بها فعله على تركه ولرغب الله تعالى في فعله وما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم أخبرنا بالرجل يثاب على وطيء أهله أرأيت لو وضعته في حرام فانما يدل على أنه استحق الثواب لعدوله

عن الحرام وقصره نفسه على الحلال وأما استحقاق الإنسان الثواب على إحسانه إلى ولده فلأن ذلك قد يختص بضرب من الكلفة باخراج بعض ماله ولو أنه أحسن إليه ليسر نفسه فقط لم يستحق الثواب إن قيل أليس قد نهى النبي عليه السلام عن صوم الوصال وذلك يقتضي استحقاق الثواب على الأكل مع أنه مباح الجواب أن الأكل والشرب في وقت الإفطار واجبان على من رغب نفسه في الوصال وشق عليه أن لا يفعله فان قيل كيف يكون واجبا وهو يدفع بالأكل مضرة الجوع قيل لأن دفع المضار إذا قابله صوارف دخل في التكليف والوجوب فأما النكاح فإنما صح أن يدخل تحت التكليف مع أنه وصلة إلى الله سبحانه لأنه يختص بالانصراف عن المحظور فكأن الإنسان ندب إلى التزويج ليكون هذا غرضه وليس هذا الغرض لذة بل تقترن بذلك مضرة من حيث يصرف نفسه عن الاسترسال في الحرام والنكاح أيضا وصلة إلى مضرة هي ثلم المال بالإنفاق والزيادة في الكد والانتقال عن خلو القلب إلى شغل القلب وكل هذه مشاق فجاز دخولها تحت التعبد وأما إذا اختص الحسن بصفة زائدة على حسنه استحق لمكانها المدح فلا يستحق بالإخلال به الذم فإنه إذا فعله المكلف وصف بأنه مندوب إليه بمعنى أنه قد بعث عليه وهذا المعنى حاصل في الواجب أيضا إلا أن قولنا مندوب إليه في العرف أنه قد بعث عليه من غير إيجاب وقولنا مرغب فيه أنه قد بعث المكلف على فعله بالثواب ويفيد في العرف ما هذه سبيله مما ليس بواجب ويوصف أنه مستحب ومعناه في العرف أن الله سبحانه قد أحبه وليس بواجب وقولنا نفل يفيد أنه طاعة غير واجبة وأن للإنسان فعله من غير لزوم وحتم وكذلك وصفنا له بأنه تطوع يفيد أن المكلف انقاد إليه مع قربة من غير لزوم وحتم ويوصف بأنه سنة ويفيد في العرف أنه طاعة غير واجبة ولذلك نجعل ذلك في مقابلة الواجب لو قال أهذا الفعل سنة أو واجب وذكر قاضي القضاة أن قولنا سنة لا يختص بالمندوب إليه دون الواجب وإنما يتناول كل ما علم وجوبه أو كونه ندبا بأمر النبي صلى الله عليه و سلم

وبإدامة فعله لأن السنة مأخوذة من الإدامة ولذلك يقال إن الختان من السنة ولا يراد أنه غير واجب وحكي عن بعض الفقهاء أن قولنا سنة يختص بالنفل دون الواجب وهذا أشبهه من جهة العرف ويوصف بأنه إحسان إذا كان نفعا موصلا إلى الغير قصدا إلى نفعه ويوصف بأنه مأمور به لأن أمر الله تعالى قد تناوله فهذه هي الأوصاف التي تختص الندب ومن حق الندب أن يستحق الثواب والمدح بفعله ولا يستحق الذم بالإخلال به ولا العقاب لأنهما لو استحقا على الإخلال بالمندوب إليه لكان واجبا وإنما ذم الفقهاء من عدل عن جميع النوافل لاستدلالهم بذلك على استهانته بالخبر وزهده فيه والنفوس تستنقص من هذه سبيله وأما الواجب فهو ما ليس لمن قيل له واجب عليه الإخلال به على كل حال ودخل في ذلك الواجب المعين والمخير فيه لأنه ليس لنا الإخلال بالواجب حتى نخل به وبجميع ما يقوم مقامه ويحد أيضا بأنه الذي للإخلال به مدخل في استحقاق الذم أو أنه فعل على صفة تؤثر في استحقاق الذم على الإخلال به أو أنه الذي يستحق الذم بالإخلال به ما لم يمنع من ذمه مانع وإنما لم نحده بأنه الذي يستحق من لم يفعله الذم لأن الفعل قد يكون واجبا فيخل به الإنسان فلا يستحق ذما إذا فعل بدله أو إذا كان مستحقا من المدح أكثر مما يستحق على الإخلال بذلك الواجب من الذم أنه لما كان للإخلال بهذا الواجب مدخلا في استحقاق الذم وكان مؤثرا في استحقاقه دخل في الحدود التي ذكرناها ألا ترى أنه لو لم يكن للمخل بالواجب ثواب زائد أو أنه أخل به وبكل ما يقوم مقامه استحق الذم إن قيل أليس لو كان عقاب الإخلال بالإطعام في كفارة اليمين أزيد من عقاب العتق والكسوة لأنه أقل مشقة منهما لكان لا يستحق من أخل بجميعها مع التمكن عقاب ترك الإطعام وإنما يستحق عقاب أقلها عقابا ولو فعل واحدا منهما

لم يستحق عقابا أصلا فقد صار ذم ترك الإطعام لا يستحق أصلا مع أن الإطعام واجب قيل له وإن لم يستحق الذم على الإخلال بالطهام فإن للإخلال به مدخل في استحقاق الذم وهو على صفة مؤثرة فيه لأن هذا القول يقتضي أنه يجوز على بعض الوجوه أن يؤثر الإخلال به في استحقاق الذم وهذه صفة ما ذكرت لأنه لو زاد ذم الإخلال بالعتق أو بالكسوة على ذم الإخلال بالإطعام لا يستحق ذم الإخلال بالإطعام وأيضا فقد بينا فيما تقدم أن ذم أقل الكفارات ذما إذا استحقه المخل بجميعها فإنه يستحقه على إخلاله بجميعها لأنه مخل بجميعها وكلها متساوية في الوجوب وليس يجوز أن يلام على إخلاله ببعضها مع أنه لو أخل به وفعل غيره لم يستحق ذم
فأما الواجب المعين فهو الذي للإخلال به بعينه مدخل في استحقاق الذم كره الوديعة وما أشبهها وأما الواجب المخير فيه فهو الذي للإخلال به وبما يقوم مقامه مدخل في استحقاق الذم أو الذي ليس لمن قيل انه واجب عليه أن يخل به وبما يقوم مقامه أو الذي الإخلال به وبما يقوم مقامه مؤثر في استحقاق الذم كالكفارات الثلاث وأما الواجب على الأعيان فهو الذي لا يقف استحقاق الذم على الإخلال به على ظن لإخلال الغير به وأما الواجب على الكفاية فهو ما وقف استحقاق الذم على الإخلال به على ظن إخلال الغير به وذلك أن من يتمكن من الجهاد إن أخل به وهو يظن أن غيره يقوم به لم يستحق الذم وإن ظن أن غيره لا يقوم به استحق الذم فأما الواجب الموسع والمضيق فقد تقدم ذكرهما ويوصف الواجب بأنه فرض ومعناه أنه قد فرض وجوبه وقدر بأن أعلم وجوبه أو دل عليه ولذلك لا توصف الواجبات من أفعال الله تعالى بأنها فرض وحكى الشيخ أبو عبد الله عن أهل العراق أن الفرض هو الواجب الذي طريق وجوبه مقطوع به وأن الواجب الذي ليس بفرض هو ما كان طريق وجوبه يدخله الأمارات والظنون ولما تقدم من معنى الواجب والنفل لم يجز أن يكون الشيء الواحد واجبا على زيد نفلا منه لأنه يمتنع أن يستحق

الذم على الإخلال به ولا يستحق والوقت واحد وإنما وصف الفقهاء الحجة بأنها نفل ويجب المضي فيها لأنهم عنوا أن ابتدائها نفل والمضي فيها واجب وذلك غير ممتنع
وقد ينفي الفقهاء الوجوب عن بعض أفعال العباد ويعنون بذلك كونه شرطا في العبادة ولذلك قال بعض أصحاب أبي حنيفة إن الطمأنينة في الرطوع والسجود غير واجبة في الصلاة يعنون أنها غير شرط وإلا فهي واجبة عندهم ولذلك يذمون تاركها وقالوا من ترك قراءة فاتحة الكتاب مسيء دون من ترك قراءة سورة غيرها وقد يقول بعض الشافعية إن الحلق في الحج مباح ويعنون أنه ليس بشرط في التحليل ولا يعنون أنه غير مندوب إليه
فأما القسمة الثانية فهي أن الأفعال منها ما لا حكم له كالمباحات ومنها ما له حكم وهو ضربان أحدهما يتعلق ذلك الحكم على فاعله كجناية المكلف على مال غيره والآخر يتعلق ذلك الحكم على غير فاعله وهو ضربان أحدهما يتعلق على غير الفاعل في ماله نحو لزوم الدية على العاقلة والآخر يتعلق على غير الفاعل في مال الفاعل نحو أن يلزم ولي اليتيم إخراج أرش جناية اليتيم من مال اليتيم
وأما القسمة الثالثة فهي أن الأفعال ضربان عقلية وسمعية فالعقلية هي المعروفة أحكامها بالعقل وأما الشرعية فهي التي للشرع فيها مدخل وهو ضربان أحدهما يكون الشرع وحده قد أثبت صورة ذلك الفعل وأثبت التعبد به كالصلاة والآخر أن يكون قد غير شرطا من شرائطه إما بزيادة أو نقصان كالبيع الذي هو معلوم حكمه بالعقل غير أن الشرع لما أثبت فيه شروطا نسبت جمله إلى أنه عمل شرعي والأسباب الشرعية ضربان أحدهما يكون ثبوته وكونه سببا بالشرع نحو فساد الصلاة فانه ثبت بالشرع ويكون سببا في وجوب القضاء بالشرع والآخر يكون ثبوته معلوما بالعقل وكونه سببا لذلك الحكم معلوم بالشرع نحو حؤول الحول


باب في ذكر القادرين الذين يجوز منهم الأفعال الحسنة والقبيحة اعلم أن كل قادر بما يعلمه العاقل أنه قادر مميز فانه يقدر على إيجاد الأفعال على كل وجه من قبح وحسن ووجوب وغير ذلك وكل قادر فإنا نجوز منه فعل الحسن إلا من أخبر الله ورسوله بأنه لا يفعله فأما القبيح فان الله تعالى لا يفعله لحكمته ولا تفعله ملائكته لأنها معصومة منه وقد أخبر الله تعالى ذلك بقوله لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وجماعة الأمة أيضا لا يجوز عليها الخطأ وأما الأنبياء صلوات الله عليهم فانه لا يجوز عليهم ما يؤثر في الأداء ولا ما يؤثر في التعليم ولا في القبول وهو التنفير ويدخل في الأول أن لا يجوز عليهم الكذب فيما يؤدونه ولا الكتمان ولا السهو في حال الأداء لأن تلك الحال حال تلقى الفروض فوقوع السهو فيها يغري باعتقاد كون العبادة على ما أوردها ويجوز أن يسهو فيما تقدم بيانه ولا بد من إزالة ذلك السهو في الحال ولهذا لما سهى النبي صلى الله عليه و سلم في صلاته لم يعتقد أصحابه رضي الله عنهم أن الصلاة تغيرت بل شكوا في ذلك حتى سأله ذو اليدين ويدخل في الثاني أن يعرف من أمر الدين ما إذا سئل عنه كان عنده جوابه ويجوز أن لا يعرف ما غمض من الشبه ولكن يجب أن يكون ممن إذا سئل عن شبهة أمكنه حلها ويدخل في الثالث أن لا يجوز عليه الكابئر ولا الصغائر المسخفة قبل النبوة وبعدها والكذب في عير ما يؤديه فهو إما كبيرة وإما صغيرة وكلاهما ينفران ويدخل في ذلك أن لا يجوز عليه الفظاظة والغلظة وكثير من المباحات القادحة في التعظيم الصارفة عن القبول ويدخل فيه قول الشعر والكتابة إذ كان معجزة الفصاحة والإخبار عن الغيوب


باب في معنى التأسي والاتباع والموافقة والمخالفة اعلم أنه لما تعبد بالتأسي بالنبي صلى الله عليه و سلم وباتباعه وكانت الموافقة والمخالفة تذكران في الاحتجاج في هذه المسائل التي نحن بسبيلها وجب ذكر معاني هذه الألفاظ لنعقلها
أما التأسي بالنبي صلى الله عليه و سلم فقد يكون في فعله وفي تركه أما التأسي به في الفعل فهو أن نفعل صورة ما فعل على الوجه الذي فعل لأجل أنه فعل والتأسي به في الترك وهو أن نترك مثل ما ترك على الوجه الذي ترك لأجل أنه ترك وإنما شرطنا أن تكون صورة الفعل واحدة لأنه صلى الله عليه و سلم لو صام وصلينا لم نكن متأسين به وأما الوجه الذي وقع عليه الفعل فهو الأغراض والنيات فكل ما عرفناه أن غرض في الفعل اعتبرناه ويدخل في ذلك نية الوجوب والنفل ألا ترى أنه لو صام واجبا فتطوعنا بالصوم لم نكن متأسين به وكذلك لو تطوع بالصوم فافترضنا به وإذا لم يكن له في الفعل غرض مخصوص لم يجب اعتباره لأنه لوأزال النجاسة لا لأجل الصلاة لم يجب إذا تأسينا بها في إزالتها أن ننوي به ذلك وقد يدخل المكان في مثل الزمان في الأغراض وقد لا يدخلان فيه فمتى علمنا كونهما غرضين اعتبرناهما وإلا لم نعتبر أمثال ذلك الوقوف بعرفة وصوم شهر رمضان وصلاة الجمعة والزمان والمكان غرضان في هذا الأفعال فاعتبرناهما في التأسي ومثال الثاني أن يتفق من النبي صلى الله عليه و سلم أن يتصدق بيمناه في زمان مخصوص ومكان مخصوص فإنا نكون متأسين به إذا تصدقنا في غير ذلك المكان والزمان وباليد اليسرى وإنما شرطنا أن نفعل الفعل لأنه صلى الله عليه و سلم لو صلى فصلى مثل صلاته رجلان من أمته لأجل أنه صلى لوصف كل واحد منهما بأنه متأس به صلى الله عليه و سلم ولا يوصف كل واحد منهما بأنه متأس بالآخر وإنما قلنا إن التأسي يكون في الترك لأن النبي صلى الله عليه و سلم لو

ترك الصلاة عند طلوع الشمس فتركناها في هذا الوقت لأجل تركه كنا متأسين به وليس من شرط التأسي أن يستفيد المتأسي صورة الفعل ووجهه ممن يتأسى به لأنا موصوفون بأنا نتأسى بالنبي صلى الله عليه و سلم في الصبر على الشدائد والشكر على النعم إذا فعلنا ذلك لأجل فعله وإن لم نستفد صورة ذلك منه ولا وجهه وليس يمتنع أن نفعل ذلك لأجل أنه صلى الله عليه و سلم فعله ولعلمنا بوجوبه أو حسنه من جهة العقل وذكر أبو علي بن خلاد رحمه الله أن الفعل الذي وقع التأسي فيه يجوز كونه حسنا من الثاني قبيحا من الأول لأن نصرانيا لو مشى إلى البيعة ليفعل فيها ما يفعله النصراني فتبعه مسلم ليرد وديعة كانت عنده في البيعة كان متأسيا به والمشي حسن من المسلم قبيح من النصراني وهذا لا يصح لأنه لا يكون متأسيا به مع اختلاف الغرضين
وذكر الشيخ أبو عبد الله رحمه الله أنه ينبغي أن يعتبر المكان الذي وقع الفعل فيه إلا أن يدل دلالة على أنه لا اعتبار به وذكر قاضي القضاة أن اعتبار الزمان والمكان يمنع من التاسي لفوات الزمان ولأنه لا يمكن اجتماع شخصين في مكان واحد في زمان واحد وهذا إنما يمنع من اعتبار زمان معين ولا يمنع من اعتبار مثل الزمان كما ذكرناه في وقت صلاة الجمعة ولا يمنع من اعتبار ذلك المكان في زمان آخر ولا يمنع من اعتباره إذا كان المكان متسعا كعرفة والواجب اعتبار الزمان والمكان بحسب الإمكان إذا علم دخولهما في الأغراض
وذكر قاضي القضاة أنه لا اعتبار بطول الفعل وقصره لأن ذلك لا يمكن ضبطه ولقائل أن يقول يجب اعتبار ذلك بحسب الإمكان إذا علم دخول ذلك في الأغراض
فأما اتباع النبي صلى الله عليه و سلم فقد يكون في القول وقد يكون في الفعل وقد يكون في الترك فالاتباع في القول هو المصير إلى مقتضاه من وجوب أو ندب أو حظر لأجله والاتباع في الفعل أو في الترك هو إيقاع مثله في صورته على وجهه لأجل أنه أوقعه ويمكن أن يقال اتباع النبي صلى الله عليه و سلم هو المصير إلى ما

تعبدنا به على الوجه الذي تعبدنا به لأنه تعبدنا به ويدخل في ذلك القول والفعل والترك وإنما شرطنا في الاتباع ما شرطنا في التأسي لأنه صلى الله عليه و سلم لو صام فصلينا أو صام واجبا فتنفلنا بالصوم أو صمنا لا لأنه صام لو نكن متبعين له في هذه الأحوال كلها
فأما الموافقة فقد تكون في المذهب وقد تكون في الفعل فالموافقة في المذهب هي المشاركة فيما قيل إن الموافقة حصلت فيه فاذا قيل قد وافق فلان فلانا في أن الله يرى جاز أن يكون أحدهما قائلا إن الله يرى بهذه الحاسة والآخر قائلا إنه يرى بحاسة سادسة وإذا قيل وافقه في أن الله يرى بهذه الحاسة أفاد اشتراكهما في القول بالرؤية على هذا الحد وليس من شرط الموافقة في المذهب أن يعتقده أحدهما لاعتقاد الآخر له لأنه قد يقال وافق زيد عمرا في القول بالعدل وإن كان إنما قال بذلك لأجل الدلالة فقط لا لأنه قال به عمرو فأما الموافقة في الفعل فهي المشاركة في صورته ووجهه لأن من صلى لا يكون موافقا لمن صام ومن تنفل بالصلاة لا يكون موافقا لمن افترض بها فأما إذا قيدت الموافقة فقيل قد وافق زيد عمرا في صورة الفعل فانه لا يفيد إيقاعهما على الوجه وليس من شرط الموافقة في الفعل أن يفعل الثاني لأن الأول فعله لأن الموافقة هي المصادفة والمشاركة وقد يكون ذلك إذا فعل الفاعل الفعل لأن الأول فعله وإذا لم يفعله لذلك فانه قد يقال وافقه في الفعل وإن كان إنما فعله للدليل لا لأنه فعله
فأما المخالفة فقد تكون في القول وقد تكون في الفعل فالمخالفة في القول هي العدول عما اقتضاه القوم من إقدام أو إحجام فأما مخالفة الفعل فهي العدول عن امتثال مثله إذا وجب امتثال مثله وإذا لم يجب ذلك لا يقال لمن لم يفعله مثله قد خالفه ولهذا لم يكن إخلال بالصلاة مخالفة إن قيل فيجب أن يكون ترك ذلك الفعل مخالفة للدليل الدال على وجوب المشاركة له

في الفعل ولا يكون مخالفة في الفعل قيل لا يجب ذلك لأن الدليل إذا دل على وجوب مشاركة النبي صلى الله عليه و سلم في فعله فأي فعل فعله كان دليلا على وجوب مثله علينا فصح أن يوصف من لم يفعله بأنه مخالف له
فأما الائتمام فهو الاتباع فاذا أطلق فقيل قد ائتم فلان بفلان في الصلاة أفاد اتباعه فيها على الوجه الذي أوقعها عليه من وجوب أو نفل أو غير ذلك فان اختلف النيتان فنوى أحدهما النفل والآخر الفرض على قول من أجاز ذلك كان الائتمام واقعا في صورة الصلاة لا في الوجوب باب في أنه لا يعلم بالعقل وجوب مثل ما فعله النبي صلى الله عليه و سلم علينا
اعلم أنه لو علم بالعقل ذلك لعلم بالعقل وجه وجوبه لأنه لا يجوز أن يجب ما لا يختص بوجه وجوب ولا يجوز أن يعلم بالعقل وجوب شيء دون شيء إلا وقد علم بالعقل افتراقهما فيما اقتضي وجوب أحدهما وليس يعقل وجه وجوب اتباعه في أفعاله إلا أن يقال إن ما يجب على النبي صلى الله عليه و سلم لا بد من كونه واجبا علينا ويقال إذا لم يتبعه في أفعاله نفر ذلك عنه والأول باطل لأنه إنما تعبد بالفعل لأنه مصلحة له ولسنا نعلم وجه كونه مصلحة فنعلم شياعه في جميع الناس ويفارق ذلك اشتراك المكلفين في وجوب المعرفة بالله لأن وجه وجة وبها يشترك فيه المكلفون لأن كل مكلف يكون مع المعرفة باستحقاق العقاب على الفعل أبعد من مواقعته وأيضا فانه ليس يجب اشتراك المكلفين في المصالح كلها ألا ترى أن النبي صلى الله عليه و سلم قد أبيح له ما لم يبح لنا وأوجب عليه ما لم يوجب علينا والقسم الثاني باطل لأنه إما أن يقال إن التنفير هو مفارقتنا له عليه السلام في جميع أفعاله أو في بعضهما دون بعض والأول يحصل إذا فارقناه فيه من المناكح ووجوب صلاة الليل وغير ذلك والثاني لا يصح أيضا لأنه عليه السلام لو قال لنا اعلموا أني متعبد بما في

العقل إذا ما أؤديه إليكم وما عدا ذلك هو مصلحة لكم دوني لم يكن في ذلك تنفير فكذلك ما ذكرناه وعلى أنه لو ثبت ذلك لم يحصل منه كوننا متعبدين بمثل ما فعله من جهة العقل لأن الذي يقبح هو مفارقته له في جميع أفعاله لا في بعضها دون بعض فلا بد من دليل غير العقل يميز لنا بين ما تعبدنا بعض أفعاله مما لم نتعبد به إن قيل لو لم يلزم الرجوع إلى أفعاله من جهة العقل لم يلزم الرجوع إلى أقواله قيل قد بينا أنا لو كنا متعبدين بالرجوع إلى أفعاله لكان الوجه في ذلك لا يخلو من الوجهين اللذين قد أفسدناهما وليس كذلك أقواله لأن الأقوال موضوعة في اللغة لمعان فالأمر موضوع للوجوب أو للإرادة والنهي يفيد تحريم المنهى عنه والخبر موضوع لما هو خبر عنه والحكمة تقتضي أن من خاطب قوما بلغتهم يعني بالخطاب ما عنوه وهذه الطريقة غير حاصلة في الأفعال فان قالوا لو لم نتبعه في أفعاله كنا قد خالفناه ولا يجوز مخالفته صلى الله عليه و سلم قيل إن مخالفته هي أن لا نفعل ما يجب علينا فعله أو نفعل ما يحرم علينا فعله فعليهم أن يدلوا على أن أفعاله على الوجوب حتى نكون مخالفين له إذا لم نفعلها ألا ترى أنا لا نوصف بمخالفة النبي صلى الله عليه و سلم مما خص به من العبادات والمناكح لما لم يجب علينا اتباعه فيها
باب في أن السمع على الإطلاق لا يقتضي وجوب مثل ما فعل النبي صلى الله عليه و سلم علينا
لا خلاف بين الأمة غي الاستدلال بأفعال النبي صلى الله عليه و سلم على الأحكام واختلفوا فقال قوم هي أدلة بمجردها وقال قوم هي أدلة إذا عرف الوجه الذي وقعت عليه واختلف الأولون فقال بعضهم هي أدلة بمجردها على الوجوب وقال آخرون بل على الندب وقال آخرون بل على الإباحة فأما من قال إنها أدلة باعتبار الوجه فانه إن علم الطريقة التي اتبعها النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك

الفعل عقلية كانت أو سمعية فهو يرجع إليها في الاستدلال وإن لم يعرف الطريقة فضربان أحدهما أن يكون فعله بيانا لمجمل والآخر لا يكون بيانا لمجمل فان كان بيانا لمجمل فذلك المجمل هو دال على الوجوب أو الندب أو الإباحة وإن لم يكن بيانا لمجمل فانه لا يدل على شيء حتى يعرف الوجه الذي أوقعه عليه فان أوقعه على الوجوب دل على وجوب مثله علينا وإن أوقعه على الندب دل على أن مثله ندب منا فان أوقعه مستبيحا له كان منا مباحا
والذاهبون إلى أن أفعاله دالة بمجردها على الوجوب يحتجون لذلك بالعقل والسمع أما حجاجهم العقلي فأشياء
منها قولهم إن كونه نبيا يقتضي ذلك وإلا نفر عنه والجواب أنا قد بينا من قبل أنه لا تنفير في نفي مشاركتنا له في الفعل ولو ثبت في ذلك تنفير لكان إنما يحصل التنفير إذا لم يجب علينا مثل ما وجب عليه وإذا لم نعلم أن ما فعله واجب عليه فلا تنفير في كونه غير واجب علينا
ومنها قولهم إن الفعل آكد في الدلالة من القول ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يحقق أمره بفعله كما يفعله في الحج والصلاة فاذا أفاد الأمر الوجوب كان الفعل أولى بذلك والجواب أن الفعل آكد في الإبانة عن صفة الفعل من القول للمشاهدة من المزية على الوصف والفعل كالمشاهدة وليس الفعل وصفا للوجوب حتى يكون أدل عليه من الأمر
ومنها قولهم إن الوجوب أعلى مراتب الفعل فوجب حمل فعله عليه والجواب يقال لهم لم إذا كان الوجوب أعلى مراتب الفعل وجب حمله عليه فان قالوا لأنه الاحتياط قيل بل الاحتياط أن يحمل الفعل على الوجوب إذا دلت الدلالة عليه لا غير وإذا لم تدل الدلالة على وجوبه فنحن من ضرر تركه آمنون والخطر حاصل في اعتقاد وجوبه لأنا لا نأمن أن يكون غير واجب فنكون معتقدين اعتقادا لا نأمن كونه جهلا

فأما الاحتجاج السمعي فأشياء
منها احتجاجهم بقول الله عز و جل فليحذر الذين يخالفون عن أمره والتحذير يقتضي وجوب ترك المخالفة لأمره والأمر اسم الفعل والقول فكان عاما فيهما والجواب أنا قد بينا أن قولنا امر لا يقع على الفعل إلا مجازا ولو وقع عليه حقيقة لما تناوله ها هنا لتقدم ذكر الدعاء ولذكر المخالفة ألا ترى أن الإنسان إذا قال لعبده لا تجعل دعائي كدعاء غيري واحذر مخالفة أمري فهم منه أنه أراد بالأمر القول وأيضا مخالفة الأمر هو العدول عن مقتضاه فيجب أن تثبت أن الفعل يسمى أمرا وأن تدلوا على أن الفعل يقتضي الوجوب حتى يحرم تجنبه ويلزم فعله وأيضا فالمخالفة ضد الموافقة وموافقة الفعل إيقاع مثله على الوجه الذي أوقع عليه ويجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم أوقع الفعل على وجه الوجوب حتى يلزم موافقته فيه وقد قيل إن قوله سبحانه فليحذر الذين يخالفون عن أمره قد أريد به الأمر الذي هو القول فلا يجوز أن يراد به الفعل لأن اللفظة الواحدة لا يراد بها معنيان مختلفان وقد قيل إن الهاء في قوله عن أمره عائدة إلى الله تعالى وذلك لأنه أقرب المذكورين فيمتنع أن يدخل تحت الفعل لأنه لا يفعل مثل ما نفعله من العبادات ولقائل أن يقول إن القصد هو الحث على اتباع النبي صلى الله عليه و سلم بقوله لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا فقوله فليحذر الذين يخالفون عن أمره هو من تمام الفرض فيجب صرفه إلى أمر النبي صلى الله عليه و سلم
ومنا قول الله عز و جل لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر قالوا وقوله لمن كان يرجو الله واليوم

الآخر تهديد يدل على وجوب التأسيس به في فعله الجواب أن ذلك ليس بتهديد لأن الإنسان قد يرجو المنافع كما يرجو دفع المضار ولو كان ذلك تهديدا لدل على وجوب التأسي وقد بينا أن التأسي في الفعل هو إيقاعه على الوجه الذي أوقعه عليه فالآية إذن تدل على ما نقوله وقد قيل إن قوله لكم ليس من الفاظ الوجوب ولو دل على الوجوب لقال عليكم والجواب أنه لا يصح الاستدلال بذلك على نفي الوجوب لأن معنى قولنا لنا أن نفعل كذلك هو أنه لا حظر علينا في فعله والواجب ليس بمحظور فعله
ومنها قول الله سبحانه أطيعوا الله وأطيعوا الرسول قالوا فدخل فيه طاعته في قوله وفعله والجواب أن طاعة الرسول هو فعل ما أراده وأمر به فيجب أن تدلوا على أنه قد أراد بفعله أن نفعل مثله في الصورة وإن لم نعلم الوجه الذي دخل تحت الظاهر
ومنها قول الله عز و جل ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقوله ما آتاكم يدخل فيه الفعل والجواب يقال لهم ما معنى قوله ما آتاكم فان قالوا معناه ما أعطاكم أي ما تعدى إليكم بالأمر والإلزام قيل لهم فالفعل ليس بأمر فان قلتم هو إلزام لنا أن نفعل مثله قيل دلوا على ذلك وهو موضع الخلاف على أن قوله عز و جل وما نهاكم عنه فانتهوا يدل على أنه عنى بقوله ما آتاكم ما أمركم على أن الإتيان إنما يتأتى في القول لأنا نحفظه وامتثاله يصير كأننا أخذناه وكأنما عز و جل أعطاناه

ومنها ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما خلع نعله في الصلاة خلع من كان خلفه نعله وهذا لا يدل لأنه لا يعلم أنهم فعلوا ذلك واجبا ولا يمتنع أن يكونوا لما رأوه قد خلع نعله مع امره بأخذ الزينة بالصلاة علموا أن خلعها متعبد به غير مباح لأنه لو كان مباحا ما ترك به المسنون في الصلاة على أنه صلى الله عليه و سلم قد قال لهم لم خلعتم نعالكم فقالوا لآنك خلعت نعلك فقال إن جبريل أخبرني أن فيها أذى فدل بذلك على أنه ينبغي أن يعرفوا الوجه الذي أوقع عليه فعله ثم يتبعوه وهذا هو قولنا
واحتج القائلون بأن أفعاله ليست على الوجوب بأشياء
منها أنه لو وجب علينا مثل ما فعله لكان على وجوبه دليل وقد بينا أنه لا دليل على ذلك عقلي أو سمعي فلم تكن واجبة علينا
ومنها أن ما دل على اتباعنا لأفعاله هو قول الله عز و جل لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وقوله فاتبعوه وقد بينا أن التأسي هو إيقاع ما أوقعه على الوجه الذي أوقعه عليه وكذلك اتباعه فيه فما دل على اتباعه دل على اعتبار الوجه ولقائل أن يقول إن دليل التأسي والاتباع قد اقتضى إيقاع ما أوقعه على الوجه الذي أوقعه فمن اين أن ما لا يعلم الوجه فيه لا يجب علينا فعله فان قلتم إنه لا دليل على الاتباع والتأسي إلا هاتين الآيتين قيل فإذن الدال على أنه لا يجب فعله علينا من غير اعتبار الوجه هو فقد الدليل وهذا هو رجوع إلى الدليل الأول
ومنها أنه لا يخلو إما أن يجب مثل فعله علينا باعتبار الوجه الذي أوقعه عليه أو من غير اعتبار الوجه فان وجب باعتبار الوجه فهو قولنا وإن وجب

من غير اعتبار الوجه لزم أن يجب علينا وإن علمنا أنه أوقع الفعل على وجه الندب والإجماع وما وجب على التأسي به يمنعان من ذلك ولقائل أن يقول ما تنكرون أن يكون مصلحتنا أن نفعل لا محالة مثل ما فعله إذا لم نعلم الوجه الذي أوقوع الفعل عليه وإذا عرفنا أنه أوقعه لا على وجه الوجوب كان فعلنا له واجبا مفسدة ألا ترى أن التصريح بالتعبد لو ورد بذلك لشاع وليس لأحد أن يقول إذا كنا قد عرفنا أنه تنفل بالفعل كان فعلنا لمثله على وجه الوجوب مفسدة فيجب إذا أوقعناه على وجه الوجوب ونحن لا نعلم الوجه الذي أوقعه عليه أن نكون مقدمين على ما نأمن من كونه مفسدة لتجويزنا كون النبي صلى الله عليه و سلم متنفلا به لأن للمخالف أن يقول إيقاعنا الفعل على الوجوب إذا لم نعلم الوجه الذي أوقع النبي صلى الله عليه و سلم الفعل هو المصلحة وإن أوقعه على وجه الندب وإذا علمنا ذلك من حاله فإيقاعنا له على وجه الوجوب مفسدة
ومنها أنه لودل فعله على وجوب مثله علينا لدل ذلك مطلقا من غير اعتبار وقت لأنه لا يمكن أن يدل على وجوب مثله في ذلك الوقت بعينه لتعذر فعل مثله علينا في ذلك الوقت ولا يمكن أن يدل على وجوب مثله في مثل ذلك الوقت لأنه ليس بأن يدل على ذلك أولى من أن يدل على وجوب مثله في أقرب الأوقات إليه فصح أن لو دل على وجوب مثله لدل عليه مطلقا فوجب إذا فعل النبي صلى الله عليه و سلم فعلا ثم تركه وفعل ضده أن يدل فعله وفعل ضده على وجوب الفعل وضده علينا في حالة واحدة وذلك يستحيل ولا يلزم على ذلك أن يجب علينا الفعل وضده إذا أمرنا النبي صلى الله عليه و سلم به وأمسك عن الأمر به لأن إمساكه عن الأمر به ليس بمشارك للأمر به في صيغته الموضوعة للوجوب وضد الفعل قد شارك الفعل في كونه فعلا وقد شاركه في دلالته على الوجوب ولقائل أن يقول إن فعله إما أن يدل على وجوب مثله في مثل وقته فيلزم أن لا يجب علينا أن نفعل مثل ما فعل في وقته ونفعل ضده في مثل وقت فعل ضده وليس يستحيل وجوب الفعل وضده علينا

في وقتين فأما أن يدل على وجوب مثله لا في وقت معين فيلزم إذا فعل النبي صلى الله عليه و سلم الشيء وضده أن يلزمنا الفعل وضده في وقتين غير معينين حتى نفعل كل واحد منهما في وقت أي وقت شئنا وذلك غير مستحيل ولقائل أن يقول ايضا إنه لزم المستدل بهذه الدلالة ما ألزم خصومه إذا فعل النبي صلى الله عليه و سلم فعلا وقال إنه واجب ثم فعل ضده وقال إنه واجب لأنه يلزم على موضوع الدلالة أن يكون الفعل وضده واجبين عى الإطلاق
ومنها أنه لو دل فعله على وجوب مثله علينا لدل على وجوب مثله عليه صلى الله عليه و سلم ولخصم أن يقول هذه دعوى عارية عن دلالة وله أن يقول الدلالة قد دلت عندي على مشاركتنا للنبي صلى الله عليه و سلم في صورة الفعل ولم تدل على وجوب تكرار الفعل علينا ولا على وجوب تكرار الفعل من النبي صلى الله عليه و سلم وتكرار الفعل منه نظيره تكرار الوجوب علينا ونحن لا نوجب ذلك ويلزم المستدل أن يدل فعل النبي صلى الله عليه و سلم على وجوب مثله على النبي صلى الله عليه و سلم إذا فعله إنه واجب
ومنها أنه لو دل فعله على وجوب مثله علينا لدل على أنه كان واجبا عليه فأولى أن لا يدل على أنه يجب علينا مثله ولقائل أن يقول إنما يجب أن تكون دلالته على وجوب مثله علينا موقوفة على دلالته على أنه كان واجبا عليه لو ثبت أنه لا يجوز أن يجب علينا مثل فعله إلا إذا كان قد أوقعه على وجه الوجوب وهذا موضع الخلاف فلا يجوز أن يبتني عليه الدلالة فإن قلتم إنما كان وجوبه علينا موقوفا على وجوبه عليه لأن قوله لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة يدل على ذلك كان رجوعا إلى دلالة أخرى باب في التأسي بالنبي صلى الله عليه و سلم في أفعاله
اعلم أنا إذا علمنا أن النبي صلى الله عليه و سلم فعل فعلا على وجه الوجوب فقد تعبدنا

أن نفعله على وجه الوجوب وإن علمنا أنه تنفل به كنا متعبدين بالتنفل به فان علمنا أن فعله على وجه الإباحة كنا متعبدين باعتقاد إباحته لنا وجاز لنا أن نفعله وقال أبو علي بن خلاد إنا متعبدون بالتأسي به في أفعاله العبادات دون غيرها كالمناكح وما أشبهها
والدليل على ما ذكرناه أولا قول الله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة والتأسي بالغير في أفعاله هو أن نفعل على الوجه الذي فعلها ذلك الغير ولم يفرق الله عز و جل بين أفعال النبي صلى الله عليه و سلم المباحة وغيرها إن قيل الآية تفيد التأسي به مرة واحدة كما أن قول القائل لغيره لك في الدار ثوب حسن يفيد ثوبا واحدا الجواب أن ذلك إن ثبت تم غرضنا من التعبد بالتأسيس به صلى الله عليه و سلم في الجملة وأيضا فالآية تفيد إطلاق كون النبي صلى الله عليه و سلم أسوة لنا ولا يطلق وصف الإنسان بأنه أسوة لزيد إذا كان إنما ينبغي لزيد أن يتبعه في فعل واحد وإنما يطلق ذلك إذا كان ذلك الإنسان قدوة لزيد يهتدي في به أموره كلها إلا ما خصه الدليل
دليل قوله سبحانه فاتبعوه يتناول أفعال النبي صلى الله عليه و سلم لأن الاتباع يقع في الفعل ويتناول القول فكان على إطلاقه فإن قيل الاتباع يكون في القول وفي الفعل وليس في قوله فاتبعوه لفظ عموم فيتناول القول والفعل فما الأمان أن يكون المراد اتباعه في القول فقط الجواب أن إطلاق قوله فاتبعوه وإن لم يفد العموم فانه يفيد أن لنا اتباعه في أفعاله لأن ذلك اتباع له والخطاب مطلق
دليل أجمعت الأمة على الرجوع إلى أفعال النبي صلى الله عليه و سلم ألا ترى أن السلف رضي الله عنه رجعوا إلى أزواجه في قبلة الصائم وفي أن من اصبح

جنبا لم يفسد صومه وفي تزويج النبي صلى الله عليه و سلم ميمونه وهو حلال أو حرام وغير ذلك فاذا ثبت ذلك فأفعاله صلى الله عليه و سلم لا بد من أن يتمثل فيها طريقة فإما أن تكون معروفة لنا أو غير معروفة فان لم تكن معروفة لنا فانا نكون متبعين له في أفعاله ومتاسين به فيها لا شبهة في ذلك وإن امتثل فيها طريقة معروفة لنا إما عقلية وإما سمعية فإن ذلك لا يمنع من كون فعله دلالة لنا أيضا على أنا متعبدون بمثله ولا يمتنع من كوننا فاعلين لمثله لأجل أنه صلى الله عليه و سلم فعله ولأجل الدلالة العقلية أو السمعية على حد لو انفرد كل واحد منهما لفعلنا الفعل لأجله وذلك لا يمنع من وقوع التأسي به فيه باب في قسمة أفعال النبي صلى الله عليه و سلم وذكر الطريق إليها
اعلم أن ما يسند إليه مما يتعلق به التكليف وليس بقول ضربان أحدهما فعل والآخر ترك والفعل ضربان أحدهما يختصه كاصلاة والصيام والآخر يتعلق بغيره كعقوبة الغير والترك ضربان أحدهما ترك يختصه كتركه الجلسة في الركعة الثانية والآخر القضاء عليه والنكير عليه ولا يخلوا كل ذلك من أن يكون مباحا أو ندبا أو واجبا وكل واحد من ذلك إما أن يكون قد امتثل فيه طريقة معروفة لنا أو غير معروفة لنا فإن كانت معروفة لنا فإما أن تكون عقلية أو سمعية وما امتثل فيه طريقة غير معروفة لنا فإما أن تكون مبتدأة لا تتعلق بشيء من الأدلة أو تتعلق بشيء منها وهذا الأخير إما أن يتعلق بها على طريق الموافقة وهو بيان صفة المجمل أو يتعلق بها لا على طريق الموافقة وهو ضربان أحدهما بيان التخصيص والآخر بيان النسخ وبيان التخصيص إما أن يكون بيانا لتخصيص قول أو لتخصيص فعل وبيان النسخ أيضا إما أن يكون بيانا لنسخ قول أو نسخ فعل وأما الفصل بين الفعل والترك فظاهر وقد ذكرنا في تضاعيف الكلام الفصل بين الفعل والترك اللذين يختصانه وبينهما إذا تعلقا بغيره

فأما الطريق إلى أن ما فعله مباح فأشياء
منها أن يقول إنه مباح ومنها أن نضطر من قصده إلى أنه مباح ومنها أن يدل دلة حسنة على حسنه ولا يدل دلالة على أن له صفة زائدة على حسنه ومنها أن يكون امتثالا لدلالة تدل على الإباحة ومنها أن يكون بيانا لخطاب يدل على الإباحة
فأما الطريق إلى أن فعله مندوب إليه فأشياء
منها أن يقول إنه مندوب إليه ومنها أن يدل دلالة من قول وغيره على أن له صفة زائدة على حسنه ولا تدل دلالة على وجوبه
ومنها أن يكون بيانا لخطاب يقتضي كون ذلك الفعل مندوبا إليه في الجملة
ومنها أن يكون امتثالا لدلالة تدل على كون الفعل مندوبا إليه
فأما الطريق إلى أن ما فعله مباح فأشياء منها أن يقول إنه مباح ومنها أن نضطر من قصده إلى أنه مباح ومنها أن يدل دلالة على حسنه ولا يدل دلالة على أن له صفة زائدة على حسنه ومنها أن يكون امتثالا لدلالة تدل على الإباحة ومنها أن يكون بيانا لخطاب يدل على الإباحة
فأما الطريق إلى أن فعله مندوب إليه فأشياء منها أن يقول إنه مندوب إليه ومنها أن يدل دلالة من قول وغيره على أن له صفة زائدة على حسنه ولا تدل دلالة على وجوبه ومنها أن يكون بيانا لخطاب يقتضي كون ذلك الفعل مندوبا إليه في االجملة ومنها أن يكون امتثالا لدلالة تدل على كون الفعل مندوبا إليه
وأما الطريق إلى معرفة كون فعله واجبا فأشياء منها أن يقول هذا الفعل واجب ومنها أن يكون امتثالا لدلالة تدل على وجوب ذلك الفعل ومنها أن يكون بيانا لأمر يدل على الوجوب ومنها أن يضطر إلى قصده أنه أوقعه

واجبا ومنها أن يكون الفعل قبيحا لو لم يكن واجبا نحو أن يركع ركوعين في ركعة واحدة لأنه قد تقرر في الشريعة قبح ذلك إلا أن يكون واجبا
فأما ما به يعلم أن فعله أو تركه امتثال لدلالة نعرفها فهو أن يكون مطابقا لبعض الأدلة العقلية أو الشرعية التي نعرفها
وأما ما به يعلم أن فعله بيان فشيئان أحدهما أن يقول هذا بيان لهذا والآخر أن يرد عن الله سبحانه وعن رسوله صلى الله عليه و سلم خطاب مجمل ويفعل صلى الله عليه و سلم فعلا يحتمل أن يكون بيانا له ولا يوجد بيان غيره وتكون الحاجة إلى البيان حاضرة فعلم أنه بيان له لأنه لو لم يكن بيانا لكان البيان قد تأخر عن وقت الحاجة وقد يكون تركه بيانا نحو أن يترك الجلسة في الركعة الثانية فينسخ به ولا يرجع فنعلم أنها غير ركن في الصلاة
فأما ما به يعلم أن فعله أو تركه بيان لنسخ القول فهو أن يصدر منه صلى الله عليه و سلم قول يقتضي تكرار الفعل منه ومن غيره ويدخل هو صلى الله عليه و سلم عليه في الخطاب ويفعل موجبه ثم يفعل ضده أو يتركه فنعلم أن حكمه منسوخ عنه صلى الله عليه و سلم
فأما ما به يعلم أن فعله أو تركه مخصص لقوله فهو أن يصدر منه قول يدل ظاهره على وجوب فعل عليه وعلى غيره ثم يفعل ضده في الحال أو يتركه فنعلم أنه مخصوص من ذلك الدليل ونعلم أن فعله أو تركه مخصص لفعله بأن يفعل فعلا يقتضي الدليل إدامته عليه وعلى غيره لولا دليل مخصص ثم يفعل ضده في الحال أو يتركه فنعلم انه مخصوص والأشبه أن يكون هذا الفعل مخصصا لما دل على وجوب فعله في المستقبل عليه وعلى غيره والله أعلم باب فيما يدل عليه أفعال النبي صلى الله عليه و سلم وتروكه المتعلقة بغيره
أما أفعاله المتعلقة بغيره فهي الحدود والتعزيز والقضاء على الغير فاقامة

الحد والتعزيز على وجه النكال تدل على أن ذلك الغير قد اقدم على كبيرة وإقامتها عليه على سبيل الامتحان لا تدل على أنه الآن مقيم على كبيرة وقضاؤه على غيره وإن كان من قبيل ألأقوال فانه يقتضي لزوم ما قضى به لأن القضاء هو الإلزام
وذكر قاضي القضاء أن الناس اختلفوا في حكمه صلى الله عليه و سلم بأن زيدا فاضل أو أنه أفضل من غيره هل هو على الظاهر أو على سبيل القطع فمنهم من قال بالأول ومنهم من قال بالثاني وكذلك اختلفوا في نسبته صلى الله عليه و سلم زيدا إلى عمرو هل هو على سبيل القطع أو على الظاهر وذكر أنهم لم يختلفوا في أنه إذا حكم على غيره بالدين لا يقطع به على الباطن في ذلك بل يكون حكما بالظاهر قال فاما إذا قال النبي صلى الله عليه و سلم لغيره هذا الحق عليك فانه يكون على الخلاف المتقدم وقال إنه إذا ملك غيره شيئا فانه يملكه في الحقيقة لأن التمليك يقتضي إباحة تصرف مخصوص وقال إذا أباح الإنسان النبي صلى الله عليه و سلم أكل طعامه فاستباح النبي صلى الله عليه و سلم أكله فانه لا يدل على أنه ملكه لا محالة لأنه يكتفى في استباحة الأكل بظاهر اليد والتصرف
فأما تركه النكير على الفعل فضربان أحدهما أن يكون صلى الله عليه و سلم قد دل من قبل على قبحه وأقر فاعله عليه كاختلاف أهل الكتاب إلى كنائسهم ومتى كان كذلك فانه لا يدل ترك النكير عليهم على حسنه ورضاه به والآخر أن لا يكون قد علم من دينه الإقرار على ذلك الفعل وذلك يلزم إنكاره سواء تقدمت الدلالة على قبحه أو لم تتقدم لأنه لم تتقدم الدلالة على ذلك فترك إنكاره يقتضي حسنه إذ لو كان منكرا لبين قبحه وإن تقدمت الدلالة على ذلك فترك إنكاره أيضا يقتضي حسنه لأنه لا يمكن أن يقال إنه قبيح وإنما لم ينكره لأنه غلب على ظنه أن إنكاره غير مؤثر لأن إنكار النبي صلى الله عليه و سلم لا بد من أن يؤثر لأنه ليس كانكار غيره هكذا ذكر قاضي القضاة وهذا صحيح إذا كان فاعل القبيح يعتقد نبوته فأما من ينطوي على تكذيبه

وإطراح أمره صلى الله عليه و سلم فلا يمكن أن يقال إن إنكاره عليه لا بد من أن يؤثر على كل حال باب في أفعاله صلى الله عليه و سلم إذا تعارضت
اعلم أن الأفعال المتعارضة يستحيل وجودها لأن التعارض والتمانع إنما يتم مع التنافي والأفعال إنما تتنافى إذا كانت متضادة وكان محلها واحدا ووقتها واحدا ويستحيل أن يوجد الفعل وضده في وقت واحد في محل واحد فاذا يستحيل وجود أفعال متعارضة فأما الفعلان الضدان في وقتين فليسا متعارضين بأنفسهما لأنه لا يتنافى وجودهما ولا يمتنع الاقتداء بهما فنكون متعبدين بالفعل في وقت وبضده في وقت آخر وقد يكونا متعارضين بغيرهما نحو أن يفعل النبي صلى الله عليه و سلم فعلا ونعلم بالدليل أن غيره متعبد به ثم نراه عقيب ذلك قد أقر بعض الناس على فعل ضده فنعلم أنه خارج منه وكذلك إذا علمنا أن ذلك الفعل يلزم أمثاله النبي صلى الله عليه و سلم في مثل تلك الأوقات ما لم يرد دليل ناسخ ثم يفعل عليه السلام ضده في مثل ذلك الوقت فنعلم أنه قد نسخ عنه غير أن النسخ والتخصيص إنما لحقا ما علمنا به أن ذلك الفعل يلزم النبي صلى الله عليه و سلم في مستقبل الأوقات وأنه يلزم غيره وإنما يقال إن ذلك الفعل قد لحقه النسخ على معنى أنه قد زال التعبد بمثله وأن التخصيص قد لحقه على معنى أن بعض المكلفين لا يلزمه مثله باب في أقوال النبي صلى الله عليه و سلم وأفعاله إذا تعارضت
اعلم أن فعله وقوله إذا تعارضا لم يخل إما أن يتعارضا من كل وجه او من وجه دون وجه فان تعارضا من كل وجه لم يخل إما أن نعلم تقدم أحدهما على

الآخر أو لا نعلم ذلك فان علمناه لم يخل إما أن نعلم تقدم الفعل أو تقدم القول
فإن علمنا تقدم الفعل نحو أن يصلي النبي صلى الله عليه و سلم إلى بيت المقدس ونعلم أن حكم غيره حكمه في ذلك ما لم يمنع مانع ويقول بعد ذلك الصلاة إلى بيت المقدس غير جائزة فإن ورد القول عقيب الفعل كان هو صلى الله عليه و سلم مخصوصا من ذلك القول ويجب أن يكون متناوله لغيره وإلا لم يكن للقول فائدة ولا يجوز أن يكون قوله متناولا له صلى الله عليه و سلم ويكون نسخا للفعل عنه لأنه إنما يكون نسخا للفعل إذا دل على وجوب استمرار مثله في المستقبل عليه ولو كان كذلك لم يجز أن يدلنا عقيبه على أنه منسوخ عنه لأن ذلك نسخ الشيء قبل وقت فعله وإن كان القول متراخيا بعد ما حضر وقت الفعل مرة أخرى فإنه إن كان القول يتناولنا وإياه كان ناسخا للفعل عنا وعنه وإن كان يتناوله وحده كان نسخا عنه وحده وإن كان يتناولنا فقد كان نسخا عنا فقط
وإن كان قوله متقدما على فعله فان كان الفعل عقيب القول وكان القول يتناولنا وإياه كان فعله مخصصا له وحده دوننا لأنا لو خرجنا أيضا من الخطاب بطلت فائدته وإن كان الفعل متراخيا عن الول كان ناسخا للقول عنه فقط إن كان القول يتعلق به فقط وإن كان القول يتعلق بنا فقط كان فعله ناسخا عنا فقط إذا علمنا أن حكمنا في الفعل حكمه وإن كان القول يتعلق بنا وبه كان الفعل ناسخا للقول عنا وعنه إذا علمنا أن حكمنا فيه حكمه
فأما إن لم نعلم تقدم أحدهما على الآخر فالتعلق بالقول أولى لأنه يتعدى إلينا بنفسه والفعل لا يتعدى إلينا ولا يتناولنا بنفسه ولأنا إذا جوزنا أن يكون الفعل قد تقدم جوزنا أن لا يكون قد تعدى إلينا بنفسه ولا بغيره لأن القول حينئذ يكون ناسخا له فنحن نشك إذا في تناوله لنا ونقطع على تناول القول لنا من جهة صيغته فكان أولى

فأما إذا تعارض قوله وفعله من وجه دون وجه فمثاله نهيه صلى الله عليه و سلم عن استقبال القبلة واستدبارها للغائط والبول وجلوسه لقضاء الحاجة في البيوت مستقبل بيت المقدس وذلك يحتمل أن يكون مباحا في البيوت لكل أحد ويحتمل أن تكون إباحته خاصة بالنبي صلى الله عليه و سلم ويحتمل أن يكون نهيه صلى الله عليه و سلم عن استقبال القبلة واستدبارها عاما لأمته في البيوت والصحارى ويحتمل أن يكون خاصا في الصحارى وقد اختلف الناس في ذلك من غير تفصيل فعند الشافعي أنه مخصوص بفعله وعند الشيخ أبي الحسن أنه ينبغي أن يجرى نهيه على إطلاقه ويخص فعله به صلى الله عليه و سلم وقاضي القضاة يتوقف في المسألة واعلم أن قوله عز و جل لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وقوله فاتبعوه مع استقباله بيت المقدس في البيوت معارض لنهيه عن استقبال القبلة لغائط أو بول فلا ينبغي أن يعترض بأحدهما على الآخر إلا لوجه يترجح به أحدهما على الآخر وليس يجوز أن يترجح نهيه على فعله من حيث كان قوله يتعدى إلينا بنفسه وفعله لا يتعدى إلينا بنفسه لأن إن اعترض بنهيه عن استقبال القبلة وجب أن يخص به قول الله عز و جل لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وهذا قول فيتعدى إلينا بنفسه والأولى أن يقال إن نهيه أخص من قول الله عز و جل لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فكان وقوع التخصيص به أولى فان قيل فعله أخص من هذا النهي لأن نهيه عام في البيوت والصحارى وفعله يختص بالبيوت فكان الاعتراض به أحق قيل فعله لا يتعدى إلينا فهو وإن كان أخص بالبيوت فليس يتعدى إلينا فان قيل فعله مع قول الله عز و جل لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أخص من هذا النهي فوجب

تخصيص النهي به والجواب أنا إذا جعلنا النهي هو المخصص كنا قد خصصنا به وحده قول الله عز و جل لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وإن كان المخصوص هو هذه الآية وهي أعم من النهي كان تخصيصها أولى ولهم أن يقولوا ونحن إذا خصصنا هذا النهي فإنا نخصه بفعل النبي صلى الله عليه و سلم مع ما ثبت من التأسي بالنبي صلى الله عليه و سلم ومجموع هذين أخص من النهي فيجب أن يكون ذلك أولى أو يتعادل القولان فيلزم فيهما الوقف والرجوع إلى دليل آخر


الكلام في الناسخ والمنسوخ
باب في فصول الناسخ والمنسوخ إعلم أن الكلام في ذلك يقع في الاسم وفي المعنى أما في الاسم فبأن نتكلم في فائدة اسم النسخ في اللغة وفي الشرع ويتبع ذلك الكلام في حده فأما في المعنى فمن وجوه منها الفصل بين النسخ وبين البداء ومنها ذكر شروطه والفصل بينهما وبين ما ليس من شروطه ومنها الدلالة على حسنه ولما كان النسخ لا يتم إلا بشيئين ناسخ ومنسوخ وجب أن نذكرهما فنذكر ما يجوز نسخه وما لا يجوز وما يجوز وقوع النسخ به وما لا يجوز ومما يدخل في أبواب النسخ ذكر ما أخرج من النسخ وهو منه وما أدخل فيه وليس منه وذكر الطريق إلى معرفة كون الشيء ناسخا أو منسوخا أما الكلام في فائدة الاسم فيجب تقديمها وتقديم الحد ليصح أن نتكلم في شروطه وأحكامه ويتبع ذكر حده الكلام في المفصل بينه وبين غيره ثم الكلام في شروطه وما ليس من شروطه ثم الدلالة على حسن النسخ إذا اختص بشروطه ثم الدلالة على ما اشترطناه كنسخ الشيء بعد وقت فعله ثم ذكر ما قلناه أنه ليس بشرط كنسخ عبادة لم يقيد الأمر بها بالتأييد وكنسخ العبادة لا إلى بدل أو إلى بدل أخف ثم نذكر ما يجوز نسخه ويدخل فيه نسخ التلاوة ونسخ الحكم ونسخ الأخبار ثم نذكر ما يقع النسخ به وما لا يقع وذلك فصول منها نسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة ومنها نسخ السنة بالكتاب والكتاب بالسنة وذكرنا نسخة بأخبار الآحاد ولم نؤخره إلى الكلام في الأخبار لأنا لا نمنع من نسخه

بأخبار الآحاد وليس يقف المنع من ذلك على قيام الدلالة على قبول خبر الواحد وليس كذلك وقوع التخصيص بها لأن ذلك مرتب على كون أخبار الآحاد طريقة يحتج بها فلذلك أخرنا القول في وقوع التخصيص بها إلى أبواب الأخبار ثم نذكر ما لا يجوز نسخه ولا وقوع النسخ به كالإجماع والقياس وفحوى القول ثم نذكر ما ألحق بالنسخ أو أخرج منه كالزيادة في النص والنقصان منه ثم نذكر الطريق إلى كون الناسخ ناسخا ولما كان النسخ موقوفا على التنافي وعلى ذكر التاريخ وكانت الأحكام تتنافى على الشخص الواحد وعلى الأشخاص الكثيرة دخل في ذلك العمومان إذا تعارضا فوجب ذكر ذلك أجمع على الترتيب ونحن نأتي على ذلك أجمع إن شاء الله
باب في فائدة اسم النسخ في اللغة وفي الشرع اعلم أنه لما كان اسم النسخ مستعملا في أصول الفقه وجب ذكر فائدته لنفهمها عند إطلاقه ولما كان مستعملا في اللغة وفي الشريعة نظرنا هل فائدته فيهما واحدة أو مختلفة
فاسم النسخ مستعمل في اللغة في الإزالة وفي النقل أما في الإزالة فقولهم نسخت الشمس الظل لأنه قد لا يحصل الظل في مكان آخر فيظن أنه انتقل إليه وقولهم نسخت الريح آثارهم وأما في النقل فقولهم نسخت الكتاب أي نقلت ما فيه إلى كتاب آخر والأشبه أن يكون مجازا في ذلك لأن ما في الكتاب لم ينتقل على الحقيقة وإذا كان مجازا فيه كان حقيقة في الإزالة لأنه غير مستعمل في سواهما فاذا بطل كونه حقيقة في أحدهما كان حقيقة في الآخر وإلا بطل أن يكون الاسم حقيقة في اللغة إن قيل إذا كان ما في الكتاب لم ينتقل على الحقيقة علمنا أنهم إنما وصفوه بأنه منسوخ لتسبهها بالمنقولة من حيث حصل مثله في كتاب آخر فجرى حصول

مثله في مكان آخر مجرى حصوله وذلك يدلنا على أن اسم النسخ موضوع للنقل فلهذا تجوزوا به فيما يشبه النقل ولو كان حقيقة للإزالة لم يسموا الكتاب منسوخا لأنه غير مزال ولا شبه المزال والجواب أنه لا يمتنع أن يكون حقيقة للإزالة فاستعمل في النقل من حيث كان النقل مزيلا للمنقول عن مكانه وإن حصل في مكان آخر ثم استعمل في نسخ الكتاب من حيث شكل المنقول من الوجه الذي ذكر السائل فيكون استعمال ذلك في الكتاب تشبيها بوجه المجاز واستعماله في المجاز تشبيها بالحقيقة وهو المزال فان قيل وصفهم الريح بأنها ناسخة للآثار والشمس بأنها ناسخة للظل مجاز أيضا لأن الناسخ للآثار والظل هو الله سبحانه فاعل الشمس والريح قيل لا يمتنع أن يكون الله سبحانه هو الناسخ لذلك من حيث فعل سبب الإزالة وتكون الشمس والريح موصوفان على الحقيقة بأنهما ناسخان من حيث اختصاصهما بسبب الإزالة على أن أهل اللغة لو كانوا اعتقدوا أن الشمس هي الفاعلة للإزالة ثم اضافوا النسخ إليها لوجب اتباعهم في تسمية هذه الإزالة نسخا ولا نتبعهم في اعتقادهم أن الشمس والريح فاعلان على أنه لا يمتنع أن يكون وصف الشمس بأنها ناسخة مجازا وكون هذا الوصف مجازا لا يوجب كون وصفهم الإزالة نسخا مجازا
فأما استعمال اسم النسخ في الشرع فعند الشيخ أبي عبد الله أنه منقول إلى معنى في الشرع ولا ييجري عليه على سبيل التشبيه بالمعنى اللغوي لأنه يفيد في الشرع معنى مميزا فجرى مجرى اسم الصلاة وعند الشيخ أبي هاشم أنه يفيد معنى في الشرع على طريق التشبيه باللغة وذلك أنه يفيد إزالة مثل الحكم المتقدم كما يفيد في اللغة الإزالة إلا أن الشرع قصره على إزالة مثل الحكم الثابت بطريقة شرعية على وجه مخصوص فجرى مجرى قولنا دابة في أنه غير منقول لكنه مخصوص ببعض ما يدب


باب في حقيقة الناسخ والمنسوخ والنسخ اعلم أن غرضنا أن نحد الطريق الناسخ ولما كان قولنا ناسخ يقع على الطريق وعلى غيره وجب أن نذكر ما يقع عليه هذا الاسم ثم نعمد إلى الطريق الناسخ فنحده فنقول
إن الناصب للدلالة الناسخة يوصف بأنه ناسخ فيقال إن الله عز و جل نسخ التوجه إلى بيت المقدس فهو ناسخ ويوصف الحكم بأنه ناسخ فيقال إن وجوب صوم شهر رمضان ناسخ صوم عاشوراء ويوصف المعتقد لنسخ الحكم أنه ناسخ فيقال فلان ينسخ الكتاب بالسنة يعتقد ذلك ويوصف الطريق بأنه ناسخ فيقال إن القرآن ناسخ للسنة وقد حد قاضي القضاة الطريق الناسخ بأنه ما دل على أن مثل الحكم الثابت بالنص غير ثابت على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه وغرضه بهذا الحد أن يتناول كل ما كان طريقا إلى النسخ سواء كان خبرا متواترا أو غير متواتر وهذا الحد يخرج منه خبر الواحد إذا نسخ الحكم لأنه لا يوصف بأنه دليل على الحقيقة ويخرج منه ما دل على نسخ الحكم الثابت بالعقل لأن النبي صلى الله عليه و سلم لو فعل فعلا وعلمنا من قصده أن وجوبه يتعدى إلينا لولا دليل ناسخ فإن ما دل على إزالته يوصف بأنه ناسخ وإن لم يرفع ما ثبت بنص ويلزم أن يكون العجز ناسخا لأنه يدل على أن مثل الحكم الثابت بالنص غير ثابت ويلزم أن تكون الأمةإذا اختلفت على قولين وسوغت للعامي تقليد كل واحد من الطائفتين ثم أجمعت على أحد القولين أن يكون ذذلك نسخا لأنها كانت نصت على إباحة تقليد الطائفة الأخرى وينبغي أن نحد الطريق الناسخ بأنه قول صادر عن الله عز و جل أو منقول عن رسول الله أو فعل منقول عن رسوله يفيد إزالة مثل الحكم الثابت بنص صادر عن الله أو بنص أو فعل منقولين عن رسوله مع تراخيه عنه على

وجه لولاه لكان ثابتا وقد تضمن هذا الحد أخبار الآحاد لأنها وإن كانت أمارات فانها موصوفة بأنها تفيد إزالة مثل الحكم الثابت وأنها منقولة عن الرسول صلى الله عليه و سلم ولا يلزم عليه اتفاق الأمة على أحد القولين لأن قولها غير صادر عن الله وعن رسوله ولا يلزم عليه أن يكون الشرع ناسخا لحك العقل لأن العقل ليس بقول ولا فعل منقول عن الرسول ولهذا لا يلزم عليه العجز المزيل للحكم ولا أيضا تقييد الحكم بغاية أو شرط أو استثناء لأن ذلك غير متراخ ولا يلزم عليه البداء لأ البداء هو إزالة نفس الحكم الثابت بالنص ولا يلزم إذا أمرنا الله سبحانه بفعل واحد ثم نهانا عن مثله أن يكون ذلك نسخا وإن كان مزيلا لمثل حكم الأمر لأنه لو لم يكن هذا النهي لم يكن مثل حكم الأمر ثابتا
فأما المنسوخ فهو الحكم المزال إذا اختص بالشرائط التي ذكرناها وقد دخل في ذلك نسخ خطاب القرآن لأن نسخه هو نسخ كون تلاوته قربة وعبادة وذلك نسخ للحكم
وأما النسخ فهو إزالة مثل الحكم الثابت بقول منقول عن الله أو رسوله أو فعل منقول عن رسوله وتكون الإزالة بقول منقول عن الله أو عن رسوله أو بفعل منقول عن رسوله مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتا وقد حد قوم النسخ بأنه إزالة حكم بعد استقراره وهذا لا يصح لأن استقرار الحكم هو كونه مرادا فازالته بعينه بداء وحد أيضا بأنه إزالة مثل الحكم بعد استقراره وهذا يلزم عليه أن يكون متى زال الحكم بالعجز أن يكون زواله نسخا وحد أيضا بأنه نقل الحكم إلى خلافه وهذا يلزم عليه أن يكون نقل الحكم إلى خلافه بالشرط والغاية أو بالعجز نسخا وحد أيضا بأنه بيان مدة الحكم الذي في التقدير والتوهم جواز بقائه وهذا يلزم عليه أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم لو أخبر زيدا أنه يعجز عن الفعل وقت كذا أن يكون ذلك نسخا


باب الفصل بين البداء والنسخ اعلم أن البداء هو الظهور يقال بدا لنا سور المدينة إذا ظهر وإنما يكون الشيء ظاهرا للإنسان إذا تجلى له وصار معه على وجه يعلمه أو يظنه فأما الأمر والنهي فليسا من البداء بسبيل لكنهما قد يدلان عليه نحو أن ينهي الآمر المأمور الواحد أن يفعل ما أمره بفعله في الوقت الذي أمره بفعله فيه على الوجه الذي أمره أن يوقعه عليه نحو أن يقول زيد لعمرو صل ركعتين عند زوال الشمس من هذا اليوم عبادة لله عز و جل لا تصلهما في هذا الوقت من هذا اليوم عبادة لله عز و جل فالنهي تعلق بما تعلق الأمر به على الحد الذي تعلق الأمر به من غير تغايربين متعلقيهما فيصح أن تثبت المصلحة مع أحدهما دون الآخر وذلك يدل إما على أن الآمر قد خفى عنه من الصلاح ما كان ظاهرا أو ظهر له من الفساد ما كان خافيا وهو البداء فلذلك نهى عما كان أمر به على الحد الذي أمر به وإما أن يكون ما خفى عنه شيء ولا ظهر له شيء لكنه قصد أن يأمر بالقبيح أو ينهي عن الحسن وكل ذلك لا يجوز على الله عز و جل فأما إذا لم يتكامل الشرائط التي ذكرناها فانه لا يجب أن يدل على البداء ولا على تعبد قبيح لأنه إن نهى عن صورة الفعل غير ذلك المأمور أو نهى المأمور عن غير ما أمر به نحو أن يأمر بالصلاة وينهي عن الزنا أو ينهي عما أمر به على وجه آخر نحو أن يأمر بالصلاة على طهارة وينهي عنها على غير طهارة فهناك تغاير بين أمرين يمكن أن تحصل المصلحة في أحدهما والمفسدة في الآخر وكذلك لو نهاه عن صورة الفعل في وقت آخر والنسخ من هذا القبيل وذلك لأنه لا يمتنع أن يعلم الله عز و جل فيما لم يزل أن الفعل من زيد مصلحة في وقت مفسدة في وقت آخر فيأمره بالمصلحة في وقتها وينهاه عن المفسدة في وقتها فلا يكون قد ظهر له ما لم يكن ظاهرا أو لا خفي عنه ما كان ظاهرا ولا أمر بقبيح ولا نهى عن حسن وإنما أمكن

ذلك لأنه قد حصل بين المأمور به والمنهى عنه تغاير وانفصال فصح أن تثبت المصلحة مع أحدهما دون الآخر وإذا أمكن هذا القسم الذي ذكرناه بطل القول بأنه لا بد من أن يدل إما على البداء وإما على تعبد قبيح والله أعلم
باب في شرائط النسخ اعلم أن لوصف النسخ نسخا ولصحته وحسنه شروط وقد ألحق بها ما ليس منها أما شروط الوصف فأن يكون الحكمان الناسخ والمنسوخ شرعيين لأن العجز يزيل التعبد الشرعي ولا توصف إزالته بأنها نسخ والشرع يزيل حكم العقل ولا توصف إزالته بأنها نسخ ومن شروطه أن يكون الناسخ منفصلا عن المنسوخ إما في الجملة أو في التفصيل وذلك أن المتصل بالمنسوخ ضربان غاية وغير غاية فما ليس بغاية هو أن يقول الله عز و جل صلوا أيام الجمعة لا تصلوا الجمعة الفلانية والغاية ضربان أحدهما غاية مجملة والآخر مفصلة فاسم النسخ لا يثبت معها كقول الله عز و جل ثم أتموا الصيام إلى الليل وأما المجملة فاسم النسخ يثبت معها إذا فصلت نحو قول الله سبحانه فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموتالآية فلما دل الدليل على تفصيل هذا السبيل ثبت اسم النسخ وليس من شرط اسم النسخ أن يكون الكلام المنسوخ متناولا بلفظة للمنسوخ ألا ترى أن الأمر لا يفيد بلفظه التكرار فلو أمر الله عز و جل بالفعل ثم دل الدليل على أن المراد به التكرار ودل الدليل على رفع بعض المرات كان رفعه نسخا
وأما شرط صحة النسخ فهو أن يكون إزالة لحكم الفعل دون نفس الفعل

وصورته لأن صورة الصلاة إلى بيت المقدس لا تصح إزالتها بالأدلة الشرعية وإنما الأدلة الشرعية دلت على زوال وجوبها وليس من شرط الصحة أن يكون المنسوخ شائعا في جملة المكلفين بل يصح أن يكون الحكم المنسوخ لم يتوجه جنسه إلا إلى مكلف واحد
وأما حسن النسخ فهو أن لا يكون إزالة لنفس ما تناوله التعبد على الحد الذي تناوله بل لا بد من أن يزيل التعبد مثله في وقت آخر أو على وجه آخر ولذلك لم يحسن نسخ الشيء قبل وقته ولا نسخ ما لا يجوز أن يتغير وجهه نحو نسخ وجوب المعرفة بالله عز و جل لأن كون ذلك لطفا لا يتغير ولا نسخ قبح الجهل لأن قبحه لا يتغير ويحسن نسخ قبح بعض الآلام أو حسن بعض المنافع لأنه يجوز مع كون الألم ألما أن يحسن ومع كون النفع نفعا أن يقبح ومن شرائطه أن يكون ما تناوله الناسخ متميزا للمكلف من المنسوخ وأن يكون مقدورا
فأما نسخ الحكم إلى بدل هو أخف منه أو مساو له أو نسخه إذا لم يقيد الأمر به بالتأبيد فليس بشرط في وقوع الاسم ولا في الصحة ولا في الحسن
باب في الدلالة على حسن نسخ الشرائع اتفق المسلمون على حسن نسخ الشرائع إلا حكاية شاذة عن بعض المسلمين أنه لا يحسن ذلك واليهود على فرق ثلاث ففرقة منعت من ذلك عقلا وفرقة منعت منه سمعا وإجازته عقلا وفرقة أجازته عقلا وسمعا
والدليل على حسنه من جهة العقل أن مثل ما تعبد الله سبحانه به يجوز أن يقبح في المستقبل فاذا قبح حسن النهي عنه إذ النهي عن القبيح حسن وإنما قلنا يجوز أن يكون مثل ما تعبدنا الله عز و جل به قبيحا في المستقبل لأنه

لو يجز ذلك لم يحسن أن يقول الله عز و جل تمسكوا بالسبت ما عشتم إلا السبت الفلاني وأيضا فانه كما يجوز العقل أن يكون التمسك بالسبت مصلحة فانه يجوز كونه مصلحة في وقت مفسدة في وقت آخر كما يجوز كون الرفق بالصبي مصلحة في وقت مفسدة في وقت آخر وكما يجوز كونه مصلحة لزيد دون عمرو في وقت واحد يجوز أن يكون مصلحة لزيد في وقت دون وقت وكما يجوز كون الصحة والمرض والغنى والفقر مصلحة في وقت دون وقت يجوز كون التمسك بالسبت مصلحة في وقت دون وقت لا فرق في العقل بين هذه الأقسام
وللمخالف أن يحتج بوجهين أحدهما لا ببينة على الأمور المقيد بالتأبيد بل ببينة على النهي عن مثل ما تعبدنا به وهذا أشبه بأن يكون وجها عقليا والآخر ببينة على أمر قيد بالتأبيد حتى يكون السمع قد منع من النسخ
أما الأول فهو أن يقال لو نهى الله عز و جل عن صورة ما تعبد به لكان إما قد خفي عليه صلاح ما أمر به ما كان ظاهرا أو ظهر له من فساد ما كان خافيا فيه وهو البداء أو يكون عالما بما كان عالما به إلا أنه قصد الأمر بالقبيح والنهي عن الحسن والجواب أنه إنما يلزم ذلك لو لم يجز كون مثل الواجب قبيحا في وقت آخر فأما إذا جاز ذلك فقد أمكن قسم آخر سوى ما ذكر وهو أن يعلم الله سبحانه فيما لم يزل وجوب ما أمر به في الوقت الذي أمر به وقبحه في الوقت الذي نهى عنه ولو كان مثل الفعل حكمه في جميع الحالات لكان حكم نكاح الأخوات والختان في جميع الحالات حكما واحدا ومعلوم أن نكاح الأخوات قد كان غير محظور من قبل ومحظور في شرع موسى عليه السلام
أما الوجه الثاني فتحريره أن يقال إن الأمر بالفعل أبدا يفيد وجوب فعله في جميع الأوقات بشرط الإمكان فلو أمر الله سبحانه بالعبادة أبدا لم يخل إما أن يكون قد أراد بالأمر فعل العبادة أبدا ما بقي الإمكان أو لم يرد

فعلها أبدا فان لم يرده أبدا مع اقتضاء الظاهر له كان ملبسا لأنه لم يدل في الحال على خلاف الظاهر ولو جاز تأخير بيان ذلك جاز تأخير بيان المجمل والعموم ولما كان في الإمكان تعريفنا تأبيد شريعة من الشرائع وأن كان قد أراد فعلها أبدا اقتضى ذلك وجوب فعلها أبدا ووجوب العزم على أدائها أبدا ووجوب اعتقاد وجوبها أبدا واستحقاق الثواب على فعلها أبدا فلو نهى الله سبحانه عنها في المستقبل لدل نهيه على أنه قد خفي عليه ما كان ظاهرا من وجوبها أو ظهر له ما كان خافيا من قبحها أو لأنه قصد النهي عما يعلمه حسنا والأمر بما يعلمه قبيحا وكل هذه الأقسام فاسدة والجواب أن الأمر المطلق لا يفيد التكرار وإنما المقيد بالتأبيد إذا أفاد التأبيد بشرط الإمكان لا يجوز نسخه إلا أن يكون المكلف قد أشعر بالنسخ عند أمره وقيام الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم يقتضي أن يكون قد اقترن بالأمر بالسبت الإشعار بالنسخ نحو أن يخبرهم لمجيء نبي إلى غير ذلك من وجوه الإشعار فاذا أشعر بالنسخ لم يكن قد أوهمنا الباطل لأنا مع الإشعار لا نقدم على اعتقاد التأبيد ولا تمتنع القدرة على تعريفنا بتأبيد الشريعة لأن طريق إعلامنا ذلك أن يخلى أمره المؤبد من بيان النسخ مفصلا ومن الإشعار به وقولنا في بيان المجمل الذي لا يعرف المراد به أصلا وفي بيان التخصيص كقولنا في بيان النسخ وقد تقدم شرح هذه الجملة عند الكلام في تأخير البيان فاذا أراد بالأمر المؤبد بعض ما تناوله ونهانا عما لم يرده لم يكن قد أمر بقبيح ولا نهى عن حسن ولا ظهر له ما كان خافيا ولا خفي عنه ما كان ظاهرا بل كان عالما فيما لم يزل بوجوب ما أمر به في وقته وقبح مثله في وقت آخر ولا يلزم استحقاق العقاب على ما استحق به الثواب وإنما يلزم استحقاق العقاب على مثل ما استحق به الثواب
وأجاب قاضي القضاة عن قولهم إن الأمر بالفعل أبدا يقتضي الدوام فقال إنه لا يفيد الدوام لعلمنا أن التكليف ينقطع ولذلك لا يفهم من قول القائل لغيره لازم فلانا أبدا أو احبسه أبدا الدوام ولقائل أن يقول

إن التأبيد يفيد الدوام في الأوقات كلها وإنما يخرج ما بعد الوقت والعجز من الخطاب لدلالة وما عداهما باق على الظاهر كما لو قال له افعل في كل وقت إلا أن تعجز أو تموت حسب ما نقوله في ألفاظ العموم كلها وكذلك قول القائل احبس فلانا أبدا حتى يعطى الحق ولازمه أبدا إلا أنا نعلم من قصد المتكلم أنه يريد حبسه حتى يخرج من الحق ما دام حيا لعلمنا أنه لا غرض له في حبس الموتى فان قيل فالأمر المقيد بالتأبيد يفيد دوام الفعل ما دام مصلحة فالنهي يفيد زوال المصلحة قيل إنا بالأمر نعلم أنه مصلحة فاذا كان مقيدا بالتأبيد أفاد كونه مصلحة أبدا كما لو قال هو مصلحة أبدا وأجاب عن قولهم بأن ذلك يمنع من القدرة على تعريفنا دوام الشريعة بأن ذلك لا يمنع من ذلك لأنه يجوز أن يضطر الأمة من قصد نبيها إلى أن شريعته لا تنسخ ويجوز أن يعلموا ذلك بأن يقول لهم شريعتي مصلحة ما بقي التكليف وبأن ينقطع الوحي ولقائل أن يقول إنه وإن جاز أن تعلم الأمة ذلك من قصد نبيها فالنبي صلى الله عليه و سلم لا بد من أن يعرف أن شريعته لا تنسخ بخطاب أو تنتهي إلى خطاب فإن جاز أن يعترض الأمر المؤبد النسخ جاز مثله في ذلك الخطاب الذي عرف به النبي صلى الله عليه و سلم أو جبريل أن الشريعة لا تنسخ وإنما نعلم أن الوحي منقطع إذا قال النبي صلى الله عليه و سلم إن شريعتي دائمة أو لا نبي بعدي فان جاز تأخير بيان النسخ مع تناول الأمر لجميع الأوقات جاز أن يكون مراده لا نبي بعدي إلا فلان أو فلان ويتأخر بيان هذا التخصيص وقوله شريعتي مصلحة ما بقي التكليف يفيد ظاهره دوام المصلحة لشرعه كما يفيده الأمر بها أبدا لأن أمر الحكيم بالفعل يدل على كونه مصلحة كما أن خبره عن كونه مصلحة يدل على ذلك فإن جاز تأخير بيان نسخ أحدهما جاز مثله في الآخر وأجاب عن قوله إن في تأخير بيان النسخ إلباس بأن الإلباس إنما يثبت إذا لم يبين الحكيم ما يجب بيانه مما يحتاج المكلف إليه فأما ما لا يحتاج إليه فلا يجب بيانه ولا إلباس في فقد بيانه وليس يحتاج المكلف في حال الخطاب إلى معرفة وقت ارتفاع العبادة ولقائل أن يقول وليس يحتاج

أيضا في حال ورود العموم والخصوص والخطاب المجمل إلى تعرف صفة المجمل ومن لم يدخل تحت العموم وإنما يحتاج إلى ذلك عند الفعل فان قال يحتاج في تلك الحال إلى بيان صفة العبادة وتخصيص العام ليعلم أن من دخل تحت العام ممن لم يدخل تحته ليعلم صفة ما كلف فعدم بيان ذلك مخل بعلمه قيل وكذلك تأخير بيان النسخ يخل بعلمه أن العبادة دائمة
وأجاب بأن العبادة تنقطع بالعجز ولا يعلم متى يطرأ ولم يكن في ذلك إلباس فكذلك في النسخ فان قال قائل إن الأمر بالفعل هو كونه مشروطا بالتمكن قيل والأمر بالعبادة مشروط بكونها مصلحة فان قال إنما نعلم كونها مصلحة بالأمر فاذا كان الأمر مؤبدا كانت المصلحة مؤبدة قيل إنما علمنا كون الفعل مصلحة من حيث علمنا أن الحكيم لا يأمر بما ليس بمصلحة وكما علمنا ذلك فقد علمنا أنه لا يأمر عما لا يقدر عليه فان دل الأمر المؤبد على دوام المصلحة ليدلن أيضا على دوام التمكين ولقائل أن يقول إن الله عز و جل إذا أمرنا بفعل فقد أشعرنا فيه بجواز انقطاع التعبد به بالموت لأنا قد علمنا انقطاع التكليف فيه بالموت والعجز وجوزنا من جهة العادة وجود العجز ولو علمنا بالأمر ارتفاع الموت عنا كنا مغرين بالمعاصي فاذا جوزنا ذلك فقد حصل الإشعار بارتفاع العبادة في كل وقت ولو لزم على ذلك جواز تأخير بيان النسخ للزم جواز تأخير بيان العموم لأن الله سبحانه لو أمر جماعة بصلاة الظهر جاز أن يعجز بعضهم قبل الظهر فيعلم بذلك أنه سبحانه ما عناه بالخطاب وأنه عنى بعض من تناوله الخطاب ولم يدلنا على ذلك عند الخطاب ولم يلزم من ذلك أن يخاطب بالعام والفعل مصلحة لبعض من تناوله الخطاب دون بعض ولا يتبين ذلك عند الخطاب
وأجاب أيضا بأن بيان تأخير بيان النسخ هو تأخير بيان ما لم يرد بالخطاب مما لا يؤثر في تمكن المكلف من الأداء وليس كذلك تأخير بيان صفة العبادة وقد تقدم القوم منا في ذلك

وأجاب أيضا بأن الشاهد قد فرق بينهما لأن من أمر عبده بأخذ وظيفة له في كل يوم لا يلزمه أن يبين له في الحال متى انقطاع ذلك ولا يجوز أن لا يبين له في الحال صفة الوظيفة ولقائل أن يقول لا نسلم حسن ذلك إذا كان يعلم وقت انقطاع أخذ الوظيفة بل لا بد من بيان ذلك إما على جملة أو على تفصيل وأيضا فان الإنسان قد يقول لوكيله خذ لي وظيفة وسأبين لك غدا صفتها فالعقلاء لا يستحسنون ذلك فالوجه في ذلك عن الشبهة ما قدمنا من الإشعار
فأما من يمنع من أهل ملتنا من وقوع النسخ في شريعتنا فانه إن منع من حسن ذلك على الإطلاق فما ذكرنا على اليهود وما وجدناه من النسخ يبطل قوله وإن منع من النسخ إلا مع تقدم الإشعار ولم يسم ما تقدم من الإشعار بنسخة منسوخا فهو قولنا إلا أنه مخالف في الاسم وإن منع من وجود النسخ في شريعتنا أريناه ذلك نحو نسخ ثبات الواحد للعشرة ونسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة مع أن التوجه إلى بيت المقدس كان معلوما بشرع النبي صلى الله عليه و سلم لأنه صلى الله عليه و سلم لم يكن متعبدا بشرع من تقدم ونسخ صوم عاشوراء برمضان فان أقر بذلك وقال لا أسميه نسخا لزمه أن لا يسمي رفع شريعتنا لشرع من تقدم نسخا
باب في نسخ الشيء قبل فعله اعلم أن نسخ الشيء قبل فعله ضربان أحدهما نسخ له بعد أن يقضى وقته والآخر نسخ له قبل أن يقضى وقته
أما القسم الأول فجائز لأن مثل الفعل يجوز أن يصير في مستقبل الأوقات

مفسدة ولا فرق في جواز ذلك في العقل بين أن يعصى المكلف أو يطيع فالقول بأنه إذا عصى لا يجوز أن لا يصير مثل ما عصى فيه مفسدة فيما بعد كالقول بأنه إذا أطاع لا يجوز أن يصير مثله مفسدة فاذا جاز أن يصير مفسدة فيما بعد جاز النهي عنه وان يبين لنا أن الأمر لم يتناوله
وأما نسخ الشيء قبل وقته فغير جائز عند شيوخنا المتكلمين وبعض أصحاب أبي حنيفة رحمه الله وبعض أصحاب الشافعي رحمه الله وذهب بعض الفقهاء إلى جواز ذلك ودليلنا أن الله عز و جل لو قال لنا في صبيحة يومنا صلوا عند غروب الشمس ركعتين بطهارة ثم قال عند الظهر لا تصلوا عند غروب الشمس ركعتين بطهارة لكان الأمر والنهي قد تناولا فعلا واحدا على وجه واحد في وقت واحد صدرا من مكلف واحد إلى مكلف واحد وفي تناول النهي لما تناوله الأمر على الحد الذي تناوله من غير انفصال دليل إما على البداء وإما على القصد إلى الأمر بالقبيح والنهي عن الحسن إن قيل لم زعمتم أن هذا الأمر والنهي تعلقا بفعل واحد على حد واحد قيل لأنهما لو لم يتناولا فعلا واحدا لم يخل إما أن يكون الأمر تناول الفعل المذكور والنهي لم يتناوله أو تناول النهي والفعل المذكور والأمر ما تناوله أو لم يتناوله واحد منهما فان لم يتناوله الأمر لم يخل إما أن يكون قد عني بالأمر شيء أو لم يعن به شيء فان لم يعن به شيء فهو عبث وإن عني به شيء انقسم إلى أن يكون قد عني به فعل واحد مثل الفعل الذي تناوله النهي أو مضاد له أو مخالف له ولا يجوز أن يتناول مثله لأن المكلف لا يميز بين فعليه المثلين في وقت واحد فتكليفه فعل أحدهما بعينه وتجنب الآخر المنهى عنه بعينه مع أنهما لا يتميزان له تكليف لما لا يطاق ولو تميزا له امتنع أن يكون أحدهما مصلحة والآخر مفسدة
وأيضا لو انصرف الأمر إلى شيء والنهي إلى غيره لوجب على المكلف فعل المأمور به بعد وجود النهي وليس هذا هو المسألة المفروضة التي وقع فيها

الخلاف وكذلك لو قيل إن الأمر تعلق بضد ما تعلق به النهي على أن المسألة مفروضة في نهي تعلق بالصلاة لا بنهي تعلق بضد الصلاة لأن النهي لو تعلق بضد الصلاة لما كان ناسخا للصلاة ولا منافيا للتعبيد بها وإن كان الأمر تناول فعلا مخالفا لما تناوله النهي نحو أن يقال إنه أمر بالعزم على الصلاة أو باعتقاد وجوب الصلاة وكونها مأمورا بها أو أن المكلف سيفعلها لا محالة كان الله سبحانه قد استعمل قوله صلوا مكان قوله اعزموا واعتقدوا وليس ذلك بعبارة عن هذا النهي لا في اللغة ولا في الشرع لا حقيقة ولا مجازا ولو صار ذلك عبارة عنه في الشرع لما تأخر بيانه عن وقت الخطاب وذلك يخرج عن مسألة النسخ إلى مسألة تأخير البيان
وأيضا فانه لا بد من أن يكون في الأمر بالعزم والاعتقاد فائدة ولا فائدة في ذلك إذا كان المعزوم عليه غير واجب فان قالوا الفائدة في ذلك أن يختبر المكلف قيل حقيقة الاختبار إنما تجوز على من لا يعرف العاقبة دون من يعرف العاقبة
وأيضا فايجاب العزم والاعتقاد على الإطلاق لا يحسن والمعزوم عليه غير واجب لأنه لا يحسن اعتقاد وجوب ما ليس بواجب فان قالوا إنما أمر المكلف بالعزم على الفعل بشرط كونه واجبا قيل قد كان يمكنكم أن تقولوا إنه أمر بالفعل بشرط كونه واجبا ولا تضمروا في الأمر العزم الذي ليس بمذكور فان قالوا ذلك فسنتكلم عليه من بعد
وأيضا فليسوا بأن يقولوا إنه إنما أمر بالعزم على الصلاة بشرط كونها واجبة ويتوصلوا إلى ذلك بظاهر النهي أولى من أن يقولوا إنه إنما نهى عن إرادة الفعل المأمور به بشرط كونه قبيحا لا يتجدد به أمر آخر ويجوزوا ورود أمر آخر به ويتوصلوا إلى ذلك بظاهر الأمر ومما يفسد القول بأن الأمر دليل على وجوب اعتقاد فعل المأمور به أن إيجاب ذلك يقتضي القطع على بقاء المكلف وفي ذلك إغراء بالمعاصي

فأما القول بأن الأمر تناول الفعل المذكور وهو الصلاة وأن النهي تناول غير ما تناوله الأمر إما مثله أو ضده أو مخالفا له فيبطل بما ذكرناه الآن ويبطل أيضا أن يكون النهي تناول العزم على أداء الصلاة أو الاعتقاد لوجوبها لأنه لا يجوز أن يقبح منا اعتقاد وجوب الصلاة والعزم عليها إلا وقد ارتفع وجوبها وفي ذلك تناول النهي لما تناوله الأمر وهو الذي أردنا بيانه فاذا فسد أن يكون الأمر وحده تناول الفعل أو النهي وحده ووجب أن يكونا قد تناولاه فأحرى أن يفسد القول بأن كل واحد منهما لم يتناوله فان قالوا هذا الأمر وهذا النهي وإن تناولاه فعلا فإنما تناولاه على وجهين قيل إن المسألة مفروضة في أن يأمر الله سبحانه بالصلاة بطهارة ثم ينهى عنها بطهارة على الوجه الذي أمر به فالوجه واحد فان قالوا بل الوجه مختلف لأنه أمرنا بالفعل بشرط ألا ينهى عنه قيل البارىء سبحانه عالم بأن هذا الشرط لا يحصل والأمر بالشرط إنما يحصل ممن لا يعرف العواقب وأيضا فان النهي ليس بوجه يقع عليه الفعل وأيضا فليس بأن يقولوا أمرنا بالفعل بشرط أن لا ينهى عنه أو بشرط كونه مصلحة أو يكون الغرض به توطين النفس على فعله بأولى من أن يقولوا بل نهانا عنه بشرط أن لا يتجدد أمر آخر قبل فعله ويكون الغرض كراهة فعله إن لم يتجدد أمر آخر به ويمكن أن تقرر الدلالة فيقال النهي عن الشيء قبل وقت فعله هو نهي عما تناوله الأمر على الحد الذي تناوله في الوقت والمكان والوجه على حسب ما مثلناه وهذا يؤدي إلى الفساد المتقدم ذكره فإن قيل إن النهي لم يتناول ما تناوله الأمر قيل إن المسألة مفروضة في أن يأمرنا الله سبحانه بالصلاة عند غروب الشمس بطهارة ثم ينهى عنها في ذلك الوقت بعينه بطهارة فمتعلقهما واحد فان قالوا الأمر إنما تناول العزم على الصلاة أو اعتقاد وجوبها والنهي تناول نفس الصلاة أجبنا عنه بما تقدم
واحتج المخالف بأشياء

منها قول الله عز و جل يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب فدل على أنه يمحو كل ما شاء محوه وفي ذلك جواز محو العبادة قبل وقتها والجواب أن حقيقة المحو هو محو على كل وجه الكتابة وقد قيل المراد به ما يكتبه الملكان من المباحات ويبقيه ما يشاء من الطاعات والمعاصي وقيل المراد به محو النكبات والبلايا بالصدقة على معنى أنه لولاها لنزل ذلك وعلى أن الآية تدل على أنه يمحو ما يشاء وليس في الآية أنه شاء محو العبادات قبل أوقاتها
ومنها أن إبراهيم قال لإسماعيل عليهما السلام إني أرى في المنام أني أذبحك فقال له افعل ما تؤمر فأضجعه وأخذ المدية ليذبحه وذلك لا يكون إلا وقد أمر بالذبح ثم إن الله عز و جل نهاه عن ذبحه قبل وقت الذبح وفداه بذبحه والجواب أنه لم يفعل ما فعله إلا وقد أمر بشيء ومعناه أنه أمر بالذبح ولا رؤية الذبح في المنام أمر له بالذبح فيحتمل أن يكون أمر بالذبح ويحتمل أن يكون أمر بما فعله وامتثله ولهذا قال الله عز و جل قد صدقت الرؤيا ولو كان قد فعل بعض ما أمر به لكان قد صدق بعض الرؤيا وقول إسماعيل افعل ما تؤمر إنما يفيد الأمر في المستقبل وقوله إن هذا لهو البلؤا المبين لا يمنع مما ذكرناه لأن إضجاع ابنه وأخذ المدية مع غلبة الظن بأنه يؤمر بالقبح بلاء عظيم وإنما فدى بالذبح ما كان يتوقعه من الأمر بالذبح وقد قيل إنه أمر بصورة الذبح وهو القطع وأنه كان كلما قطع موضعا من الحق وتعداه إلى غيره وصل الله سبحانه ما تقدم قطعه فإن قيل حقيقة الذبح هو قطع مكان مخصوص تبطل معه الحياة

قيل ليس كذلك لأن الإنسان يقال إنه مذبوح قبل بطلان الحياة ولهذا يقال قد ذبح هذا ولم يمت بعد ولو كان حقيقة الذبح ما ذكروه لم يمتنع حمل الآية على المجاز بدليلنا المتقدم وقيل إنه أمره بالذبح والله سبحانه جعل على عنقه صفيحة من حديد فكان إذا أمر إبراهيم السكين لم يقطع شيئا من الحلق وهذا تأويل سائغ إذا قلنا إنه أمر بما يجرى مجرى الذبح من إمرار السكين فأما إذا قيل إنه أمر بالذبح على الحقيقة فانه لا يسوغ لأنه تكليف ما لا يقال
ومنها أن الله عز و جل نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول قبل أن فعل ذلك والجواب أنه نسخ ذلك إلا بعد أن حضر وقت الفعل ولهذا ناجى علي رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد أن قدم الصدقة فعلمنا أن وقت الفعل قد كان حضر سواء ناجاه غيره أو لم يناجه
ومنها أن النبي صلى الله عليه و سلم صالح قريشا يوم الحديبية على رد من هاجر إليه ثم نسخ الله سبحانه ذلك قبل الرد بقوله عز و جل فان علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار والجواب أنه لا يمتنع أن تكون الآية نزلت بعد مضي وقت كان يجوز أن يهاجرن إليه فيردهن فيكون النسخ واقعا بعد وقت الفعل وروى الواقدي أن أبا بصير لما رده النبي صلى الله عليه و سلم إلى قريش انحاز مع جماعة ممن أسلم من قريش فكان يمنع من قدوم الميرة على أهل مكة فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه و سلم تقسم عليه بأرحامها إلا رد أبا بصير والنفر الذين معه إليه وأن لا يرد عليهم أحداها هاجر إليه فاذا كان العهد وقع على رد المهاجرين إليهم لأنهم آثروا ذلك وشرطوه فمتى كرهوه زال الشرط فلم يجب ردهم لم يكن ذلك نسخا
ومنها قولهم إن النبي صلى الله عليه و سلم لما عرج به إلى السماء فرض الله عز و جل عليه

وعلى امته خمسين صلاة فأشار عليه موسى عليه السلام بالرجوع وأن يشفع في النقصان وأنه قبل ما أشار عليه فردت الصلاة إلى خمس بعد رجعات وذلك نسخ قبل الوقت والجواب أن ذلك خبر واحد لا يجب قبوله فيما يجب أن نعلم وأيضا فان الخبر يتضمن من أنواع التشبيه ما يدل على أن أكثره موضوع وأيضا فان ذلك يقتضي نسخ الشيء قبل وقته وقبل تمكن المكلف من العلم وعلل المخالف تقتضي المنع من ذلك لأنهم يجوزون هذا النسخ على ان يكون الغرض في التعبد بالمنسوخ العزم على أدائه والاعتقاد لوجوبه وهذا لا يتم إلا مع علم المكلف بالتعبد بالمنسوخ
ومنها قولهم لو أمرنا الله سبحانه بمواصلة الفعل سنة جاز أن ينسخه عنا بعد أشهر وذلك نسخ قبل أوقاته التي هي بقية السنة والجواب أن نسخه له يدلنا على أنه لم يعن بالسنة جمعها وأنه لم يكن أراد إلا الفعل في بعض السنة فيكون النسخ بيانا للمراد بالخطاب على وجه يكون الأمر تناول غير ما تناوله النهي وليس كذلك إذا ورد النسخ قبل حضور كل شيء من أوقات الفعل لأنه يكون قد نسخ جميع ما تناوله الأمر فيكون النهي قد تناول نفس ما تناوله الأمر
ومنها أنه إذا جاز أن يأمر الله تعالى زيدا أن يفعل غدا فعلا ثم يمنعه منه قبل مجيء غد فيكون مأمورا بالفعل بشرط زوال المنع جاز أن ينهاه عنه قبل الغد فيكون مأمورا به بشرط زوال النهي والجواب أنه لا يجوز أن يأمر زيدا أن يفعل في غد ويمنعه منه في غد لأنه أمره بالفعل مطلقا وأراده منه ثم منعه كان قد كلفه ما لا يطيقه وإن أمره بشرط زوال المنع فالأمر بشرط لا يجوز وقوعه من العالم بالعواقب فاذا أمر جماعة أن يفعلوا الفعل في غد فانه يجوز أن يمنع بعضهم من الفعل ويدلنا المنع على أن الله عز و جل ما عنى بخطابه من علم أنه يمنع ولا يجوز أن يمنع جميعهم بشيء أو أمر به جماعة ثم نهى عنه جميعهم فقد تعلق الأمر بما تعلق النهي به على خد واحد وذلك يؤدي إلى ما

ذكرناه من الفساد وليس ذلك بموجود في منع بعض من أمر بالفعل
ومنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في مكة أحلت لي ساعة من نهار ومع ذلك منع من القتال فيها وهذا نسخ قبل وقت الفعل والجواب أن إباحة القتال في تلك الساعة لا تقتضي وقوع القتال فيها لأن المباح لا يجب وقوعه لا محالة فلا يمتنع أن يكون نهي عن القتال بعد تلك الساعة وعلى أن إباحة القتال فيها يفيد حسن اختياره له وحسن كفه عنه ومنعه منه فلا يمتنع أن يحتاج المنع منه ولا يمتنع أن يكون أبيح أن يقتل فيها قوما معينين مثل ابن خطل وغيره ولم يبح له القتال
باب في أنه يحسن نسخ العبادة وإن كان الأمر بها مقيدا بلفظ التأبيد ذهب بعض الناس إلى أن الله عز و جل لو قال لنا افعلوا هذا الفعل أبدا لم يجز نسخه والذي يفسد قولهم هو أن النسخ إنما يرد على عبادة قد أمرنا بها بلفظ يفيد الاستمرار أو يدل الدليل على أن المراد به الاستمرار فلفظ التأبيد كغيره من الأدلة والألفاظ المفيدة للاستمرار فكما جاز دخول النسخ على هذه الألفاظ إما بمقارنة إشعار النسخ لها أو من غير مقارنة ذلك جاز دخوله على لفظ التأبيد فلا معنى للفرقة بينهما وأيضا فقد قال شيوخنا إن العادة في لفظ التأبيد المستعمل في الأمر المبالغة لا الدوام ألا تراه هو المفهوم من قول القائل لغيره لازم فلانا أبدا أو احبسه أبدا أو امض إلى السوق أبدا
واحتج المخالف بأشياء
منها أن لفظ التأبيد يفيد استمرار وجوب الفعل في كل أوقات الإمكان فجرى مجرى أن ينص الله سبحانه على وجوب عبادة في كل وقت من تلك الأوقات فكما لا يجوز ورود النسخ على هذا فكذلك ذاك والجواب أن

اللفظ إذا تناول جملة أشياء جاز إخراج بعضها منه وإذا تناول شيئا واحدا لم يجز إخراج شيء منه ولهذا كان العموم في تناوله أشخاص الجنس يجري مجرى ألفاظ تتناول كل واحد من تلك الألفاظ في امتناع دخول التخصيص فيه على أن ذلك يمنع من النسخ كله لأن المنسوخ لا بد من كونه لفظا يفيد الاستدامة إما بنفسه وإما بدلالة على أن عند أصحابنا أن لفظ التأبيد في التعبد ليس يفيد من جهة العرف كل وقت من أوقات المستقبل
ومنها قولهم إنا لو أمرنا بالعبادة بلفظ يقتضي الاستمرار لجاز دخول النسخ عليه فلو جاز ذلك مع التقيد بالتأبيد لم يكن في التقييد به فائدة والجواب أن التقييد بذلك يفيد تأكيد الاستمرار أو تأكيد المبالغة في الاستمرار فاذا ورد النسخ عليه علمنا أن لفظ التأبيد كان الغرض به تأكيد المبالغة ولو منع ذلك من النسخ لمنع تأكيد العموم من التخصيص
ومنها قولهم لو جاز نسخ ما ورد بلفظ التأبيد لم يكن لنا طريق إلى العلم بدوام العبادة في أزمان التكليف والجواب أن لنا طرقا إلى ذلك بأن لا يقترن بالأمر بالعبادة ما يدل على ان المراد به بعض الأزمان إما دلالة مفصلة أو مجملة وعند أصحابنا أن طريقنا إلى ذلك أن يقول الله عز و جل هذا العبادة واجبة عليكم إلى آخر أوقات التكليف
ومنها قولهم إن لفظ التأبيد يفيد الدوام إذا وقع في الخبر فيجب في الأمر مثله والجواب أن إفادة الدوام فيهما لا يمنع من قيام الدلالة على أن المراد به غير ظاهر كما نقوله في جميع ألفاظ العموم ثم ننظر متى يجب أن يقوم الدلالة على ذلك فان حسن أن يتأخر الدلالة على ذلك من غير إشعار جوزناه وإن لم يحسن باشعار مقارن شرطناه وأصحابنا يمنعون من إفادة لفظ التأبيد الدوام إذا وقع في التعبد


باب في أن إثبات بدل في العبادة ليس بشرط في نسخها اعلم أنه يحسن نسخ العبادة إلى بدل ولا إلى بدل والبدل ضربان أحدهما ينافي المبدل نحو نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة فالجمع بينهما مستحيل في صلاة واحدة والآخر لا ينافي المبدل مثل نسخ صوم عاشوراء برمضان وذهب بعض الناس إلى المنع من نسخ الشيء لا إلى بدل وليس يخلو إما أن يكونوا منعوا من تسمية دفعة لا إلى بدل نسخا أو يكونوا منعوا من حسن ذلك أو من وقوعه في الشريعة أو قالوا إن الشرع ورد بأن ذلك لم يقع
أما اشتراطه في الاسم فباطل لأن النسخ هو الإزالة في الأصل ولم يدل دلالة على اشتراط البدل في الاسم فلم نشرطه فيه كما لم نشرط غيره فيه لأن الأمة سمت رفع تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه و سلم لا إلى بدل نسخا
وأما حسن ذلك فلانه يجوز في العقل أن يكون مثل المصلحة مفسدة في وقت آخر من غير أن يقوم مقامها فعل آخر كما يجوز ذلك وإن قام مقامها فعل آخر لا فرق في العقل بينهما فجاز نسخها إلى بدل ولا إلى بدل
وأما الدلالة على وقوع ذلك في الشريعة فهي أن تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول قد نسخ لا إلى بدل والاعتداد بالحول قد زال إلى أربعة أشهر وعشرا فما زاد على هذه المدة قد ارتفع لا إلى بدل وهذا أيضا يدل على أن الشريعة لم ترد بأن ذلك لم يقع وأيضا فلسنا نجد في الشريعة ما يدل على أن ذلك لم يقع فان قالوا قول الله عز و جل ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها يدل على ذلك لأنه أخبر أنه لا ينسخ إلا ويأتي

بخير ما نسخ أو مثله والجواب أن نسخ الآية يفيد نسخ لفظها ولهذا قال نأت بخير منها فليس لنسخ الحكم ذكر في الآية ولو تناولت الآية الحكم لجاز أن يقال إن نفي الحكم وإسقاط التعبد به خبر منه في الوقت الذي تصير العبادة فيه مفسدة
باب في أن رفع العبادة إلى ما هو أخف منها ليس بشرط في نسخها ذهب قوم من أهل الظاهر إلى المنع من نسخ عبادة إلى بدل هو أشق منها فان كانوا منعوا من وقوع اسم النسخ إذا كانت العبادة الناسخة أشق فالذي يفسده أن النسخ هو الإزالة ولا دليل على اشتراط ما ذكروه وقد سمى المسلمون إزالة التخيير بين الصوم والفدية بنفس الصوم نسخا وهو أشق وكذلك إزالة الحبس في اليوت إلى الجلد والرجم وقولهم إن نسخ العبادة إلى ما هو أخف منها أذهب في الإزالة يقتضي إزالة نسخها لا إلى بدل ليكون أذهب في الإزالة على أن العبادة المنسوخة زائل وجوبها سواء كان بدلها أشق أو أخف وليس يعقل في زوال الوجوب تزايد وإن منعوا من حسن نسخ العبادة إلى بدل هو أشق فالذي يفسده هو أن مثل العبادة إذا صار مفسدة جاز أن يكون المصلحة ما هو أشق منها وجاز أن يكون ما هو أخف منها هو الصلاح لا فرق في العقل بينهما وإن كانوا منعوا من وقوع ذلك في الشريعة فالذي يبطله نسخ إمساك الزانية في البيوت إلى الجلد والرجم

ونسخ التخيير بين الصوم والفدية إلى نفس الصوم وهو أشق وإن قالوا قد جاءت الشريعة بأن ذلك لم يقع فما ذكرناه الآن يبطله مع أنا لم نجد في ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها وقالوا خير منها ما كان أخف منها ومثلها ما جرى في السهولة مجراها قيل إن ظاهر الآية يتناول نسخ التلاوة على أن خيرا من العبادة هو ما كان أنفع منها وأصلح في الدين وإن كان أشق وإن احتجوا بقول الله عز و جل يريد الله بكم اليسير ولا يريد بكم العسر وقالوا إرادة ما هو أشق إرادة العسر قيل لهم هذا يمنع من التعبد بالمشاق وأيضا فإن إرادة ما هو أشق مما هو أصلح وأبلغ في التحذر من المضار وأكثر ثوابا إرادة لليسر لا للعسر وإن احتجوا بقول الله عز و جل يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا قيل ليس في ذلك لفظ عموم حتى يقتضي أن يريد التخفيف في كل شيء ومن كل وجه وعلى أن إرادة الأشق الذي يكون معه أبعد من المضار وأصلح في الدين إرادة للتخفيف لأنه يؤول إلى التحفيف
باب جواز نسخ التلاوة دون الحكم ونسخ الحكم دون التلاوة يدل على جواز ذلك أن التلاوة والحكم عبادتان وكل عبادتين فانه يجوز أن يصير مثلاهما مفسدتين فيجب النهي عنهما ويجوز أن يصير كل واحدة منهما بانفرادها مفسدة دون الأخرى فيلزم النهي عنها دون الأخرى وقد نسخ الله سبحانه الحكم دون التلاوة في قوله تعالى متاعا إلى الحول غير إخراج بقوله سبحانه يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا

ونسخت التلاوة دون الحكم فيما روي أنه كان مما أنزل الله عز و جل والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله ويحتمل أن يكون ذلك مما أنزل وحيا ولم يكن ثابتا في المصحف وقد روي عن عمر أنه قال لولا أن يقال زاد عمر في المصحف لأثبت في حاشيته الشيخ والشيخة وقد نسخت التلاوة والحكم جميعا فيما روي عن عائشة أنها قالت كان مما أنزل الله سبحانه عشر رضعات يحرمن فنسخن بخمس وليس يجب إذا ارتفعت التلاوة أن يرتفع الحكم لأن الدليل إذا دل على شيء في أوقات جاز عدمه والحكم ثابت فان النبي صلى الله عليه و سلم لو قال زيد يعيش مائة سنة لم يجز بطلان حياة زيد عند عدم هذا القول من النبي صلى الله عليه و سلم ولهذا جاز أن تتقدم الدلالة على مدلولها وليس يجب إذا ارتفع الحكم أن ترتفع التلاوة من حيث كانت التلاوة دلالة على الحكم ويستحيل بقاء الدلالة مع عدم مدلولها وذلك لأن التلاوة دلت على الحكم في عموم الأوقات بشرط أن لا يعارضها ما يمنع من مدلولها كما نقوله في دلالة العموم على الاستغراق وهذا الشرط غير قائم مع وجود النسخ إن قيل لو بقيت الدلالة مع عدم حكمها لكان الغرض بالآية التعبد بالتلاوة فقط وأنتم تأبون ذلك قيل إنما نأنبى التعبد بتلاوة ما لا يفهم فأما ما كان له حكم ثم زال وهو مفهوم في نفسه أو لم يتضمن حكما أصلا كالأخبار عن الأمم السالفة فلا يمنع من التعبد بتلاوته فقط
باب جواز نسخ الأخبار منع أكثر الناس من نسخ الأخبار وأجازه الشيخ أبو عبد الله وقاضي القضاة والكلام في ذلك يكون في الأخبار وفي فوائدها وفي توابع فوائدها
أما فوائد الأخبار فضربان أحدهما لا يجوز تغييره والآخر يجوز تغييره فالأول كالأخبار عن قبح الظلم وكالأخبار عن صفات الله الذاتية ونسخ هذه

الفوائد لا يصح لأن الأخبار عن زوالها كذب وأما الفوائد التي يجوز تغييرها فضربان احدهما أحكام والآخر غير أحكام والثاني ضربان أحدهما فوائد مستقبلة والآخر ماضية كلاهما يدخلها معنى النسخ وإن لم يسم نسخا أما المستقبلة فنحو أن يخبرنا الله سبحانه أن يعذب العصاة أبدا فانه يجوز أن يدلنا في المستقبل بأنه أراد بالتأبيد ألف سنة وذلك إنما يجوز بأن يشعرنا بهذا البيان عند الخطاب وقد منع شيوخنا رحمهم الله من دخول النسخ في الوعد والوعيد والذي ذكرناه غير ممتنع وأما الماضي فيجوز أن يخبر الله عز و جل أنه عمر زيدا ألف سنة ويشعرنا أنه أراد البعض ويدلنا في المستقبل أنه عمره ألفا إلا خمسين وأما الفوائد التي هي الأحكام ويجوز تغيرها فكالأخبار عن وجوب الحج ابدا كان يجوز نسخه في المستقبل لأن ما أجاز نسخه لو تعلق به أمر هو جواز انتقال كون ذلك مصلحة إلى أن يكون مفسدة وجواز أن يدلنا على أن المراد بالخطاب المفيد لاتصال العبادة انقطاعها وهذا قائم في الخبر والقول بأن من شرط حسن النسخ كون المنسوخ أمرا أو نهيا مع أنه لا تأثير لذلك كالقول بأن من شرطه كون المنسوخ خبرا
فان قيل لاشتراطنا كونه أمرا أو نهيا تأثير لأن دخول النسخ على الخبر يؤذن بكونه كذبا قيل ودخوله على الأمر يؤذن بالبداء فان قالوا لا يؤذن بالبداء لأن النهي إنما دل على أن الأمر ما تناول ما تناوله النهي قيل والدليل الناسخ دل على أن الخبر المنسو ما تناول ما تناوله الدليل الناسخ وإذا تغاير متعلقهما ارتفع الكذب كما يرتفع البداء في الأمر والنهي فإن قيل إنما يجوز دخول النسخ على الخبر المتناول للأحكام لأنه في معنى الأمر بالفعل قيل هذا إقرار بدخول معنى النسخ فيه وهو ما أردناه وقولكم إنما دخل النسخ على الخبر لأنه ليس في معنى الأمر كقول من قال إنما دخل على الأمر لأنه في معنى الخبر عن وجوب الفعل على أنهم إن أرادوا بقولهم الخبر في معنى الأمر أنه على صيغته كان الحس يشهد بخلافه وإن أرادوا أنه يفيد فائدة الأمر من الوجوب فلسنا نأبى ذلك

واحتج الشيخان أبو علي وأبو هاشم رحمهما الله للمنع من نسخ الخبر بأن القائل لو قال أهلك الله عادا ثم قال ما أهلكهم كان كذبا والجواب إن إملاكهم غير متكرر لأنهم لا يهلكون مرة بعد مرة بل إنما يهلك كل واحد منهم مرة فاذا قال ما أهلكهم رفع تلك المرة وهذا كذب وإن أراد بقوله ما أهلكهم ما أهلك بعضهم كان تخصيصا وليس بنسخ وذلك يجوز مع اقتران البيان وليس كذلك الخبر عن تكرار الفعل وتواليه في الأزمان لأن قيام الدلالة على أنه ما أريد تكرارها في بعض الزمان وهو النسخ الذي أجزناه في الأمر والنهي فهذا هو الكلام في نسخ فوائد الأخبار
فأما ما يتبع فوائدها فهو الاستدلال بالخبر عن فوائدها ونسخ ذلك جائز سواء بقيت الفوائد أو نسخت أما إذا نسخت فلا شبهة في ارتفاع الاستدلال لأنه لا يجوز الاستدلال على إثبات ما ليس بثابت وأما إذا لم تنسخ فوائدها فانه يجوز أن يكون الاستدلال بالخبر مفسدة كالاستدلال بأخبار التوراة على أحكام هي الأن ثابتة
وأما نسخ الأخبار أنفسها فضربان أحدهما أن تنسخ عنا تلاوة الخبر والآخر أن ينسخ عنا الابتداء بالخبر أما نسخ تلاوة الخبر فجائز كنسخ تلاوة أخبار التوراة وغيرها وأما نسخ الابتداء بالخبر فنحو أن يأمر الله سبحانه أن نخبر عن شيء فيجوز أن ينسخ عنا وجوب الإخبار عنه وكونه ندبا ويدلنا على قبحه سواء كان فائدة الخبر مما يجوز أن تتغير ومما لا يجوز أن تتغير كالأخبار عن صفات الله سبحانه لأنه لا يمتنع أن يكون في الإخبار عن ذلك مفسدة كما كان في تلاوة الجنب والحائض للقرآن مفسدة ولا يجوز أن نؤمر بنقيض ما كنا نخبر به إن كان ذلك مما لا يجوز تغيره نحو الأمر بالإخبار

بأن الله سبحانه عالم ثم الأمر بالإخبار بأنه غير عالم لأن ذلك كذب لا يحسن الأمر به ويجوز أن نؤمر بالإخبار بنفي ما أمرنا أن نخبر به إن جاز تغيره نحو أن نؤمر بالإخبار عن كفر زيد ثم نؤمر بالإخبار عن إيمانه فيما بعد وقد ذكر قاضي القضاة في الشرح أنه يبعد أن يبقى وجوب الفعل ويحرم العزم على أدائه قال إلا أن يجوز كون العزم عليه مفسدة ويستحيل أن يحرم علينا إرادته المقارنة له لأن لا يكون الفعل واقعا على ما أمرنا أن نوقعه عليه إلا مع مقارنتها
باب نسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة أما الكتاب فمتساو في وقوع العلم به ووجوب العمل وكذلك السنن المقطوع بها واما السنن المنقولة بالآحاد فهي متساوية في كونها أمارات يلزم العمل بكل واحد منها فلو لم يجز مع تساوي الناسخ والمنسوخ في القوة ووقوع النسخ فيهما بطل ما علمناه من جواز النسخ فإذا ثبت ذلك ووجدنا أحد الخبرين أو الآيتين متأخرا عن الآخر وحكمهما متناف لم يمكن فيهما إلا النسخ وقد نسخ الله الاعتداد بالحول باعتداد أربعة أشهر ونسخ الله سبحانه الصدقة بين يدي مناجاة الرسول بقوله تعالى أأشفقتم الآية ونسخ ثبات الواحد للعشرة بقوله الآن خفف الله عنكم الآية وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن زيارة القبور ثم قال كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وقال في شارب الخمر فان شربها الرابعة

فاقتلوه فحمل إليه من شربها الرابعة فلم يقتله
فأما نسخ الخبر المتواتر بأخبار الآحاد فجائز في العقل والشرع قد منع منه
باب نسخ السنة بالكتاب ذهب أكثر الناس إلى حسن ذلك ووقوعه ومنع الشافعي منه ودليلنا أنه لو امتنع ذلك لم يخل إما أن يكون امتناعه من حيث القدرة والصحة أو من حيث الحكمة أما من حيث القدرة والصحة فبأن يقال إن الله عز و جل لا يوصف بالقدرة على كلام ناسخ لسنة نبيه أو لو أتى بكلام هذه سبيله لم يكن دالا على النسخ والأول والثاني باطلان لأنه الله سبحانه قادر على جميع أقسام الكلام ولا يجوز خروج كلامه من أن يكون دليلا على ما هو موضوع وأما الحكمة فبأن يقال لو نسخ الله سبحانه كلام نبيه لنفر ذلك عنه وأوهم أنه لم يرض بما سنه وهذا باطل لأن النسخ إنما يرفع الحكم بعد استقرار مثله وذلك يمنع من هذا التوهم لأنه لو لم يرض بما سنه لم يقر عليه أصلا على أنه لو نفر عنه لنفر عنه أن ينسخ سنته بسنة أخرى لأن السنة الناسخة إنما صدرت عنه لأجل الوحي فجرى مجرى كلام ينزله الله عز و جل إن قيل إن الله عز و جل إذا أنزل آية ناسخة أمر نبيه صلى الله عليه و سلم أن يسن سنة تكون هي الناسخة قيل لا وجه لوجوب ما ذكرتم فلم قطعتم به ولأنه لو كان كذلك لم تكن السنة بأن تكون ناسخة أولى من الآية
واحتج المخالف بأشياء
منها قول الله عز و جل لتبين للناس ما نزل إليهم فدل على أن كلامه بيان ولو نسخ لارتفع كونه بيانا وذلك لا يجوز قيل إنه ليس في

قوله لتبين للناس ما نزل إليهم دليل على أنه لا يتكلم إلا بالبيان كما أنك إذا قلت دخلت الدار لأسلم على زيد ليس فيه أنك لا تفعل فعلا آخر على أنه ليس في كون كلامه كله بيانا ما يمنع من نسخه بالكتاب كما لا يمنع من نسخة بالسنة وكما لا يمنع كون بعض الكتاب بيانا من نسخه بالكتاب
ومنها قولهم من شرط الناسخ أن يكون من جنس المنسوخ ولهذا لم ينسخ الكتاب العقل والجواب أنه يجوز نسخ حكم العقل بالكتاب وإنما لا يسمى ذلك نسخا فليس كلامنا في الأسماء وإيجابهم كون الناسخ من قبيل المنسوخ دعوى لا دليل عليها
وأما الدلالة على أنه نسخت السنة بالقرآن فهي أنه كان يجب في الابتداء التوجه إلى بيت المقدس بالسنة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن متعبدا بشريعة من قبله ثم نسخ ذلك بقول الله عز و جل وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ولم يكن وجوب التوجه إلى بيت المقدس معلوما بقول الله عز و جل فأينما تولوا فثم وجه الله لأن هذا يقتضي التخيير بين الجهات وهذا دليل على أن الآية وردت بعد إيجاب التوجه إلى الكعبة في المسافر إذا صلى باجتهاد إلى بعض الجهات ثم بان له أن تلك الجهة ليست بجهة القبلة
باب نسخ القرآن بالسنة السنة ضربان أحدهما متواتر والآخر آحاد أما المتواتر فقد منع الشافعي

وطائفة منع بالعقل من نسخ القرآن به وأجازه المتكلمون وأصحاب أبي حنيفة من جهة العقل واختلف هؤلاء فمنهم من قال قد وقع ومنهم من قال لم يقع ولم يرد المنع منه
والدليل على جوازه في العقل أنه لو لم يجز لكان إما أن لا يجوز في القدرة والصحة أو في الحكمة ومعلوم أن النبي صلى الله عليه و سلم يقدر على أنواع الكلام ولو أتى بكلام موضوع لرفع حكم من الأحكام لدل على ما هو موضوع له ولو امتنع ذلك في الحكمة لكان وجه امتناعه أن يكون منفرا عنه صلى الله عليه و سلم وموهما أن النبي صلى الله عليه و سلم يأتي بالأحكام من قبل نفسه فهذا لو نفر عنه لنفر عنه من حيث أزال الحكم وادعى أنه أوحي إليه بازالته وهذا قائم في نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة وكان يجب لو لم يكن القرآن معجزا أن يكون نسخ بعضه ببعض منفرا وأن يكون نسخ الآية بما لا يظهر الإعجاز فيه منفرا
فإن قالوا إنما جاز نسخ القرآن بالقرآن لأن اللقرآن معجز قيل إنا لا نفتقر في دليلنا إلى تشبيه السنة الناسخة بالقرآن فتفرقوا بينهما بما ذكرتم على أن النسخ هو رفع الحكم وإزالته وذلك هو موقوف على أن يدل دليل على رفعه وليس من شرط الدليل أن يكون معجزا فان قيل إذا لم يكن كلام النبي صلى الله عليه و سلم معجزا لم يتكلم بالنسخ قيل إنما لا يجوز أن يتكلم به لو كانت دلالته موقوفة على كونه معجزا ومعلوم أن القرآن ينسخ القرآن وإن لم يظهر في الناسخ الإعجاز وتنسخ السنة بالسنة ولا لإعجاز فيها فان قيل إذا نسخت السنة القرآن كان الله قد أنزل آية تكون هي الناسخة قيل إنما يجب ذلك لو كان لذلك وجه وجوب ولم تكف السنة في النسخ وقد بينا أنه لا وجه لوجوب ذلك إذ السنة ممكنة وكافية في النسخ من غير تنفير على أنه إذا وردت السنة وجب أن يضاف النسخ إلى كل واحد منهما لأنه ليس إحداهما أولى بذلك من الأخرى إن قيل إذا كان النبي صلى الله عليه و سلم لا ينسخ الآية عندكم إلا بوحي فيجب إضافة النسخ إلى الوحي وإن لم يظهر لنا كما أنه إذا

أجمعت الأمة على نسخ الآية لم يضف النسخ إليها ولكن إلى ما دلها إلى النسخ وإن لم يظهر لنا والجواب أن في ذلك تسليم لما نريده من المعنى وهو نسخ آية بسنة من غير أن يظهر لنا الوحي وإنما نازعتم في وصف السنة بأنها ناسخة وليس يمتنع أن يفارق السنة الإجماع لأن الأمة إذا أجمعت على حكم لم نقل إنه شرعها ولذلك لا يقال إنها نسخت الكتاب بقولها والشرع يضاف إلى النبي صلى الله عليه و سلم فجاز أن يضاف النسخ إليه
واحتج المخالف بأشياء
منها قوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم فوصفه بأنه يبين ونسخ العبادة هو رفعها ورفعها ضد بيانها والجواب أن نسخها هو بيان ارتفاعها وذلك بيان للمراد بالخطاب كالتخصيص هو بيان للعموم وإن أخرج بعض ما تناوله ولو لم يكن النسخ بيانا لم يكن في وصف الله عز و جل نبيه بأنه مبين ما يمنع من كونه على صفة أخرى غير البيان وهو كونه ناسخا والشيخ أبو هاشم رحمه الله يحمل قوله تعالى لتبين للناس لتظهر لهم ذلك وتؤديه وإذا حملها على ذلك استوعب جميع ما أنزل إلينا وإذا حمل على بيان المجمل لم يستوعبه فكان هذا التأويل أولى لمطابقته العموم
ومنها قوله عز و جل وإذا بدلنا اية مكان آية قالوا فأخبر أنه إنما يبدل الآية بالآية والجواب أنه أخبر بأنه إذا بدل آية مكان آية قال قائلون كيت وكيت وليس في ذلك دليل على أنه لا يبدل الآية إلا بآية كما أنك إذا قلت إذا قصدت زيدا راكبا تكلم فينا الأعداء لا يدل على أنك لا تقصده إلا راكبا على أن ظاهر قوله عز و جل وإذا بدلنا آية مكان آية يتناول تبديل نص الآية لا حكمها

ومنها أن الله عز و جل حكى عن المشركين أنهم قالوا عند تبديل الاية بالآية إنما أنت مفتر وأنهم وهموا عند ذلك وأنه أزال هذا الإيهام بقوله قل نزله روح القدس من ربك بالحق والجواب أن ذلك لا يمنع من نسخ القرآن بالسنة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لا ينسخ القرآن إلا إذا أوحي إليه بذلك فقد نزله روح القدس
ومنها قوله عز و جل قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي والجواب أن النبي صلى الله عليه و سلم لا ينسخ أحكام القرآن إلا متبعا ما أوحي إليه من ذلك على أن قولهم ائت بقرآن غير هذا أو بدله ينصرف إلى ألفاظ القرآن دون أحكامها
ومنها قول الله عز و جل ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها
واحتجوا بالآية من وجوه
منها أنه أخبر أن ما ينسخه من الآي يأت بخير منه وذلك يفيد أنه يأتي من جنسه وجنس القرآن قرآن ألا ترى أن الإنسان إذ قال ما آخذ منك من ثوب آتيك بخير منه يفيد أنه يأتيه بثوب خير منه والجواب أن ذلك لا يفيد ما قالوه ألا ترى أن الإنسان إذا قال ما آخذ منك من ثوب آتيك بما هو خير منه احتمل أن يأتيه ببستان واحتمل غيره فلا يمتنع أن يكون المراد بذلك نأت بخير منها أي أنفع منها أو مثلها في النفع من جنسها أو من غير جنسها إن قيل إذا قال الإنسان لغيره ما آخذ منك من ثوب آتيك

بما هو خير منه إنما يفيد ما ذكرتم لأنه قد ذكر لفظه ما وهذه اللفظة تقع على الثوب وعلى غيره مما لا يعقل وليس كذلك الآية لأن الله لم يقل نأت بما هو خير منها وإنما قال نأت بخير منها فنظيره قول القائل ما آخذ منك من ثوب آتيك خيرا منه في أنه يفيد ثوبا خيرا منه وذلك يقتضي أن يضمر في الكلام اسم الثوب قيل لا نسلم أنه إذا قال آتيك بخير منه كان المراد ثوبا خيرا منه بل يجوز أن يأتيه بشيء ليس بثوب يبين ذلك أنه لا بد في ذلك من إضمار فليس بأن يضمر آتيك بثوب خير بأولى من أن يضمر آتيك بشيء هو خير منه وليس يجب إضمار الثوب لأنه قد تقدم ذكره ولا يجب إذا رجع لام العهد إلى معهود قد تقدم ذكره أن يجب مثله في الإضمار لأنهما متباينان
ومنها أن قول الله عز و جل نأت بخير منها يفيد أنه هو المنفرد بالإتيان بخير من الآية وذلك لا يكون إلا والناسخ قرآن والجواب أن السنة إذا دلت على نسخ القرآن فالذي أتى بما هو أنفع مما كان هو الله عز و جل ألا ترى أنه عز و جل هو الناسخ والموحي إلى نبيه بالنسخ
ومنها قولهم نأت بخير منها يفيد أن الذي يأتي به خير من الآية على الإطلاق والسنة لا تكون خيرا من القرآن على الإطلاق لأجل اختصاص القرآن بالإعجاز والجواب أن ما تضمنه السنه الناسخة خير وأنفع من المنسوخ وليس يجب أن يكون خيرا من الآية من جميع الوجوه لأنه ليس في قوله نأت بخير منها لفظ يعم جميع وجوه الخير
ومنها أن الله عز و جل قال ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير فدل على أن الذي يأتي به هو المختص بالقدرة عليه وهذا هو القرآن دون غيره من الكلام والجواب أن المتمكن من إزالة الحكم إلى ما هو خير منه

وأنفع هو الله عز و جل وحده لأنه المختص بالعلم بالمصالح وحده
وقد منع الشيخ أبو هاشم رحمه الله من التعلق بالاية بما هو جواب عن الوجوه التي ذكروها وهو أن قوله نأت بخير منها أو مثلها ليس فيه أنه يأتي بخير منها ناسخا بل لا يمتنع أن يكون الذي يأتي به مما هو خير منها أنه في حكم آخر بعد نسخ الآية ويكون الناسخ غير الآية إن قيل كل من أوجب عند نسخ الآية الإتيان بآية أخرى قال إنها هي الناسخة وفي ذلك ما قلنا قيل إنا لا نوجب ذلك من جهة الحكمة وإنما نحكم بذلك لأجل إخبار الله سبحانه في هذه الآية ولم يجر هذا القول على هذا التفصيل بين الأمة قبل أبي هاشم فيدعى إجماعها فيه وقد منع من التعلق بالآية بأن ظاهر قوله عز و جل وما ننسخ من آية نسخ التلاوة دون الحكم فقط إلا أنه لا يطلق فيما نسخ حكمه وبقيت تلاوته أنه قد نسخ ألا ترى أنه يقال ما نسخت الآية وإنما نسخ حكمها ولهم أن يقولوا بل قد يطلق ذلك لأن الناس يقولون إن قول الله سبحانه إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة منسوخ وإن كانت التلاوة باقية وقد قالوا أيضا أنتم تجيزون نسخ تلاوة الآية بسنة بأن ينهي النبي صلى الله عليه و سلم عن تلاوتها فإن ثبت أنه لا يجوز نسخ تلاوتها بسنة وجب مثله في حكمها لأن أحدا لم يفرق بينهما فان قلنا لا يمتنع أن لا تنسخ التلاوة إلا وتأتي آية أخرى وإن لم تكن ناسخة ويكون الدليل على ذلك هذه الآية كان ذلك رجوعا إلى الوجه المتقدم
فأما الدلالة على أن نسخ القرآن بالسنة قد وقع فهي أنه كان الواجب على الزانية الحبس في البيوت بقول الله عز و جل فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ثم نسخ الله عز و جل ذلك بقوله

الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة وليس وإن كان الحبس موقوفا على غاية وكان قوله الزانية والزاني بيانا لتلك الغاية ما يمنع أن يكون ذلك نسخا لأن بيان الغاية المجملة يسمى نسخا وهذا كلام في الأسماء ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم نسخ ذلك بالرجم فان قيل بل نسخ ذلك بما كان قرآنا وهو قوله الشيخ والشيخة إذا زنيا قيل إن ذلك لم يكن قرآنا يدل على ذلك أن عمر رضي الله عنه قال لولا أن يقول الناس زاد عمر في المصحف لأثبت في حاشيته الشيخ والشيخة إذا زنيا فلو كان ذلك قرآنا في الحال أو كان قد نسخ لم يكن ليقول ذلك فعلمنا أن ذلك سنة من النبي صلى الله عليه و سلم وأراد عمر أن يخبر بتأكيده
فأما نسخ القرآن والأخبار المتواترة بأخبار الآحاد فجائز في العقول وقال بعض الناس بورود التعبد بالمنع منه وذكر عن بعض أهل الظاهر أن ذلك غير ممنوع منه ودليلنا أن الصحابة رضي الله عنها كانت تترك أخبار الآحاد إذا رفعت حكم الكتاب قال عمر رضي الله عنه لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري اصدقت أم كذبت
واحتج المخالف بأشياء
منها أن الحكم بأخبار الآحاد معلوم بدليل قاطع والحكم به كالحكم بالآية فجاز نسخ الآية به كما جاز نسخ آية بآية والجواب أن ما ثبت من الإجماع يمنع من كون الحكم بها معلوما إذا كانت رافعة لحكم الكتاب على أن الدليل القاطع الدال على قبول الأخبار لم يتناول أخبار الآحاد إذا كانت ناسخة لدليل الكتاب فلا يمكن أن يقال إن الحكم بها والحال هذه معلوم
ومنها أنه إذا جاز تخصيص القرآن بأخبار الآحاد مع أن التخصيص يفيد

أن ما تناوله ما كان أريد بالعام فبأن يجوز النسخ بها أولى إذ كان النسخ إنما يرفع مثل الحكم بعد كون الحكم مرادا بالآية والجواب أن ما ذكروه يدل على جواز النسخ به من جهة العقول ولا يدل على أنه ما منع منه في الشريعة وقد بينا أن الإجماع قد منع منه
ومنها قولهم إن نسخ الكتاب قد وقع بأخبار الآحاد من وجوه منها ان قوله قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية منسوخ بما روي بالآحاد أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع والجواب أن قوله قل لآ أجد فيما أوحى إلي إنما يتناول ما اوحي إليه إلى تلك الغاية ولا يتناول ما بعد ذلك فلم يكن النهي الوارد بعد ذلك نسخا وأيضا فإن الآية تمنع من تحريم كل ما عدا الميتة من الدم ولحم الخنزير فنهى النبي صلى الله عليه و سلم من أكل كل ذي ناب من السباع ولا يمتنع أن يكون مقارنا للآية فيكون مخصصا لا ناسخا
ومنها أن قول الله عز و جل وأحل لكم ما وراء ذلكم إن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين منسوخ بما روي بالآحاد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تنكح امرأة على عمتها ولا على خالتها والجواب أن ذلك مما تلقى بالقبول فهو لذلك معلوم يجري مجرى التواتر في جواز وقوع النسخ به ولا يمتنع أن يكون هذا ومثله مقارنا للآية فيكون مخصصا
ومنها أن قول الله عز و جل كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين منسوخ بما روي بالآحاد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا وصية لوارث والجواب أن هذا متلقى بالقبول فجرى مجرى التواتر وقد روى عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما انهما نسخا

ذلك بقول الله عز و جل يوصيكم الله في أولادكم وقول النبي صلى الله عليه و سلم لا وصية لوارث بيان لوقوع النسخ بقول الله يوصيكم الله في أولادكم ولا يمتنع أن يكون كان ذلك في صدر الإسلام جائزا ثم منع من ذلك كما قلناه في نسخ القبلة عن أهل قباء بخبر واحد وذلك يدلنا على أن النسخ بأخبار الآحاد كان جائزا في صدر الإسلام ثم منع منه
ومنها أن الجمع بين وضع الحمل والمدة منسوخ بأحد الأجلين والجواب أن من الناس من قال ذلك غير منسوخ ومنهم من جعل آية الوضع ناسخة في الحامل خاصة وهو قول ابن مسعود وغيره ومن الناس من جعل ذلك مخصصا لأنه يمكن فيه البناء وفي هذه المسألة نظر لأن المعول فيها على خبر عمر وهو خبر واحد
باب في نسخ الإجماع وفي وقوع النسخ به اعلم أنه لو نسخ الإجماع لكان ينسخ بدليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع ومعلوم أن الإجماع إنما انعقد بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم فلم يرد كتاب أو سنة بنسخانه فان قيل هلا جوزتم أن تظفر الأمة بعد اتفاقها بنص كان قد خفي عنها فتنسخ اتفاقها به قيل لو كان في الشريعة نص لما خفى عنها بأجمعها لأنه لا يجوز أن تذهب بأجمعها عن الحق سيما وإجماعها الحق في واحد منه وليس من مسائل الاجتهاد فيقال قد وجب عليها العمل بالنص بشرط أن تظفر به كما قيل ذلك في مسائل الاجتهاد على أنها لو كلفت العمل بالنص بشرط أن تظفر به فاذا لم تظفر به كانت مكلفة العمل باجتهادها لما كان

عدولها عما أجمعت عليه لأجل النص الذي ظفرت به نسخا لأن الحكم إذا ثبت بشرط وعلم بالعقل زوال ذلك الشرط لم يسم رفع الحكم نسخا إن قيل ايجوز أن ينسخ الله حكما أجمعت عليه الأمة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم قيل يجوز ذلك وإنما منعنا أن تجمع الأمة بعد وفاة النبي لله حتى يكون إجماعها هو المعتبر ثم ينسخ فأما اتفاقها في حياة النبي صلى الله عليه و سلم لأجل توقيفه أو إقراره فالمعتبر فيه بتوقيفه وإقراره والنسخ يتوجه إلى ذلك
ولا يجوز نسخ الإجماع باجماع لأن الإجماع الثاني إن دل على أن الإجماع الأول كان باطلا لم يجز ذلك وإن كان الإجماع الأول حين وقع وقع صحيحا لكن الإجماع الثاني حرم القول به من بعد لم يجز ذلك إلا لدليل شرعي متجدد وقع لأجله الإجماع الثاني من كتاب أو سنة أو لدليل كان موجودا وخفي عليهم من قبل ثم ظهر لهم وكل ذلك قد أفسدناه إن قيل أليس إذا اختلفت الأمة على قولين في المسئلة فقد سوغت بأجمعها للعامي أن يأخذ بكل واحد من القولين وسوغت للمجتهد أن يأخذ بكل واحد منهما إذا أداه اجتهاده إليه فاذا اتفقت على أحد القولين كانت قد حظرت بأجمعها على العامي والمجتهد المصير إلى القول الآخر فهذا نسخ إجماع بإجماع قيل إنالا نأبى ذلك غير أنا لا نسميه نسخا لأن الأمة حين اختلفت على القولين إنما سوغت للعامي وللمجتهد الأخذ بكل واحد منهما بشرط بقاء الخلاف وكون المسألة من مسائل الاجتهاد وهذا الشرط معلوم زواله بالعقل متى اتفقت الأمة على أحد القولين وما هذه سبيله لا يكون نسخا ألا ترى أن الله عز و جل لما قال ثم أتموا الصيام إلى الليل فعلق الصوم بغاية يعلم حصولها بالحس وبالعقل لم يكن ارتفاع الصوم عند ذلك نسخا
ولا يجوز نسخ الإجماع بقياس لأن القياس إن كان قياسا على أصل مقتدم فذهاب الأمة عنه ووقوع إجماعها على خلافه يدل على فساده لأن الأمة لا يجوز

ذهابها عن الحق وإن كان قياسا على اصل متجدد فليس يجوز أن يتجدد الحكم فيه إلا عن كتاب أو سنة أو إجماع ولا يجوز تجدد كتاب أو سنة بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم وإن كان قياسا على إجماع فهو باطل لأنه لو كان القياس عليه حقا لما ذهب عنه الأمة باجمعها
فأما وقوع النسخ بالإجماع فلو حصل دليلا شرعيا من كتاب أو سنة أو إجماع إجماع أو قياس وقد بينا أن الإجماع لا ينسخ الإجماع وأما نص الكتاب والسنة فلا يجوز أن ينسخه الإجماع لأن الإجماع لا يجوز أن ينعقد على خلافه إذ الأمة لا تجمع على خطأ فلو اتفقوا على خلاف النص لدل ذلك على نص ناسخ لم ينقلوه نحو إجماعها على أن لا غسل على من غسل ميتا وينبغي أن يضاف النسخ إلى ذلك النص لأن الأمة كالناقلة له والمخبر بالنص الناسخ لا يكون هو الناسخ
والقول في نسخ الإجماع بفحوى القول ونسخ فحوى القول به كالقول في النص مع الإجماع وسيجيء نسخ القياس بالإجماع إن شاء الله عز و جل
باب في نسخ القياس وفي وقوع النسخ به اعلم أن قاضي القضاة رحمه الله منع من نسخ القياس لأنه تبع للأصول فلم يجز مع ثبوتها رفعه ولأنه إنما يثبت بعد انقطاع الوحي وقال في الدرس إن القياس إن كان معلوم العلة جاز نسخه قال لأن النبي صلى الله عليه و سلم لو نص على أن علة تحريم البر هو الكيل وأمرنا بالقياس لكان ذلك كالنص في تحريم الأرز فكما جاز ان يحرم الأرز ثم ينسخه جاز أن يسنخ عنا تحريم الأرز المستفاد بهذه العلة المنصوص عليها ويمنع من قياسه على البر والعلم أنه لو نسخ القياس المتعلق بالأمارات لنسخه إما كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس ولا يخلو القياس المنسوخ إما أن يكون ثابتا في حال حياة النبي صلى الله عليه و سلم أو بعد وفاته

فان كان في حال حياته فليس يمتنع رفعه بالنص وبالقياس أما بالنص فنحو أن ينص النبي صلى الله عليه و سلم على تحريم البر وينبه على أن علة تحريمه الكيل ويتعبد بالقياس ونعمل بذلك ثم ينص على إباحة الأرز ويمنع من قياسه على البر وأما نسخه بالقياس فبأن تكون المسألة بحالها إلا أن النبي صلى الله عليه و سلم نص على إباحة بعض المأكولات ونبه على أن علته كونه مأكولا بأمارة هي أقوى من الأمارة الدالة على أن علة تحريم البر هي الكيل فيلزم من ذلك قياس الأرز على ذلك المأكول فأما القياس المستفاد بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم فإنه يمتنع نسخه بنص كتاب أو سنة متجددين لتعذر ذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم ويجوز نسخه في المعنى بنص متقدم وباجماع وبقياس أما بالنص فنحو أن يجتهد بعض الناس فيحرم شيئا بقياس بعدما اجتهد في طلب النصوص ثم يظفر بنص بخلاف قياسه أو يجمع الأمة على خلاف قياسه أو يظفر هو بقياس أولى من قياسه فيلزم في كل الأحوال ترك قياسه الأول ولا يسمى ذلك نسخا لأن القياس الأول إنما عمل به بشرط أن لا يعارضه قياس أولى منه ولا نص ولا إجماع هذا إنما يتم على القول بأن كل مجتهد مصيب لأن القائل بذلك يقول إن هذا القياس قد تعبد به ثم رفع فأما من لا يقول كل مجتهد مصيب فانه لا يقول قد تعبد به فلا يمكن نسخ التعبد به
فأما وقوع النسخ بالقياس فلو حصل لكان إما أن ينسخ قياسا آخر وقد تكلمنا في ذلك من قبل أو ينسخ إجماعا وذلك لا يجوز لاتفاق الأمة على أن الإجماع أولى من القياس إلا أن يراد بذلك أن القياس على أحد القولين إذا وقع الاتفاق عليه يرفع القياس على القول الآخر فيجوز ذلك ولا يسمى نسخا ولا يجوز نسخ النص بقياس لأن الصحابة كانت تترك آراءها بالنصوص ولهذا صوب النبي صلى الله عليه و سلم معاذا في رجوعه إلى الاجتهاد إذا لم يجد كتابا ولا سنة وبهذا نجيب عن قياسهم نسخ النص بالقياس على تخصيص النص بالقياس وقياسهم ذلك على نسخ خبر الواحد بخبر الواحد إن قيل أليس لما قال الله عز و جل الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فان يكن منكم

مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن ألف يغلبوا الفين علمنا أن ثبات الواحد للعشرة منسوخ وإن كان ذلك غير مصرح به وإنما هو نبه عليه فصح أن القياس ينسخ النص والجواب أنه ليس في الآية المنسوخة ثبات الواحد للعشرة فيكون هذا التنبيه قد نسخه فان كان ذلك معلوما من قوله فإن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين من حيث كان ذلك يفيد أن يثبت كل واحد بإزاء عشرة حتى يكون العشرون بإزاء مائتين فمفهوم ايضا من قوله وإن يكن منكم مائة صابرة ثبات الواحد للاثنين لأنه لا يكون مائة بإزاء مائتين إلا وكل واحد منهم بإزاء اثنين ويبين ذلك أنه ورد عقيب قوله الآن خفف الله عنكم يفيد رفع ثبات العشرين للمائتين والا لم يكن التخفيف حاصلا وقد قيل إن ثبات الواحد للعشرة مفهوم من الاية المنسوخة من فحوى القول
باب نسخ فحوى القول ووقوع النسخ به أما وقوع النسخ به فجائز لأنه إن كان قول الله عز و جل فلا تقل لهما اف يدل من جهة اللغة على المنع من الضرب فاللفظ المفيد للشيء من جهة اللغة يجوز أن يقع النسخ به وإن كان يدل عليه من جهة الأولى فهو آكد من اللفظ فجاز وقوع النسخ به أيضا ويجوز أن ينسخ الأصل والفحوى إن كانا مما يجوز نسخهما وأما نسخ الأصل فانه يفيد نسخ الفحوى لأنه إنما يثبت تبعا له فاذا ارتفع الأصل ارتفع ما يتبعه ويجوز أن تدل دلالة على ثبوت الفحوى فلا يحكم بثبوته إذا ارتفع الأصل إلا لدليل مستأنف فأما

نسخ الفحوى مع ثبات الأصل فقد أجازه قاضي القضاة في كتاب العمد وقال في شرحه يجوز ذلك إلا أن يكون فيه نقض الغرض ومنع منه في الدرس وهو الصحيح لأن فحوى القول لا يرتفع مع بقاء الأصل إلا وقد انتقض الغرض لأنه إذا حرم علينا التأفيف على سبيل الإعظام للابوين كان إباحة ضربهما نقضا للغرض
باب الزيادة على النص هل هي نسخ أم لا ذهب شيخانا أبو علي وأبو هاشم رحمهما الله وأصحاب الشافعي إلى أنها ليست بنسخ على كل حال وقال قوم إن النص إن أفاد من جهة دليل الخطاب أو الشرط خلاف ما أفادته الزيادة كانت الزيادة نسخا نحو قول النبي صلى الله عليه و سلم في سائمة الغنم زكاة فانه يفيد دليله نفي الزكاة عن المعلوفة فمتى زيدت الزكاة في المعلوفة كان ذلك نسخا وقال شيخانا أبو الحسن وأبو عبد الله رحمهما الله إن كانت الزيادة مغيرة حكم المزيد عليه في المستقبل كانت نسخا وإن لم تغير حكمه في المستقبل بل كانت مقارنة له لم تكن نسخا فزيادة التغريب في المستقبل على الحد يكون نسخا وكذلك لو زيد في حد القاذف عشرون وأما الزيادة التي لا تنفك من المزيد عليه فنحو أن يجب علينا ستر الفخذ فيجب علينا ستر بعض الركبة ولا يكون وجوب ستر بعضها نسخا ولم يجعلوا الزيادة عند التعذر نسخا نحو قطع رجل السارق بعد قطع يده وإحدى رجليه وقال قاضي القضاة إن كانت الزيادة قد غيرت المزيد عليه تغييرا شرعيا حتى صار المزيد عليه لو فعل الزيادة على حد ما كان يفعلها قبلها كان وجوده كعدمه ووجب استئنافه فإنه يكون نسخا نحو زيادة ركعة على ركعتين وإن كان المزيد عليه لو فعل على حد ما كان يفعل قبل الزيادة صح فعله فاعتد به ولم يلزم استئناف فعله وإنما يلزم أن يضم إليه

غيره لم يكن نسخا نحو زيادة التغريب على الحد وزيادة عشرين على حد القاذف وعنده أن زيادة شرط منفصل عن العبادة لا تكون نسخا نحو زيادة الوضوء في شرائط الصلاة قال ولو خير الله سبحانه بين فعلين كان زيادة فعل ثالث ناسخا لقبح تركهما ولم يختلف الناس في أن زيادة عبادة على العبادات لا يكون نسخا للعبادات ولا زيادة صلاة على صلوات وإنما جعل أهل العراق زيادة صلاة على الصلوات الخمس نسخا لقوله عز و جل حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى لأنه يجعل ما كان وسطى غير وسطى وقد اعترضهم قاضي القضاة فقال ينبغي أن تكون زيادة عبادة على آخر العبادات نسخا لأنه يجعل العبادة الأخيرة غير أخيرة وإن كانت الفروض عشرا خرجت من أن تكون عشرا والخلاف واقع في زيادة ركعة على ركعتين حتى تصير الصلاة ثلاث ركعات وفي زيادة التغريب على الحد فالأول يخالف فيه أصحاب الشافعي والثاني يخالف فيه الشيخان أبو الحسن وأبو عبد الله وأنا أتكلم على المذهبين وأذكر ما ينصر به كل واحد منهما ثم اذكر ما أقوله أنا في ذلك إن شاء الله
أما حجة من قال زيادة التغريب على الجلد ليس بنسخ فهو أن النسخ هو الإزالة للحكم ولم يزل بهذه الزيادة حكم عن الثمانين لأنها واجبة جائزة كما كانت وإنما يلزم أن يضم إليها غيرها والمخالف يتوصل إلى ثبوت النسخ في ذكر من وجوه
منها أن الجلد كان قبل هذه الزيادة كمال الحد فصار بعدها بعض الحد فقد أزالت الزيادة كون الجلد كمال الحد الجواب أن قولنا أن يجلد جميع الحد الواجب فعله معناه أنه لا يلزم أن يضم إليه غيره وقولهم قد صار بعض الحد الواجب فعله معناه أنه وجب أن يضم إليه غيره فقولهم إن هذه

الزيادة نسخ لأنها صيرت الجلد بعض الحد الواجب فعله معناه إنما كانت الزيادة نسخا لأنها زيادة فمعنى العبارتين واحد وقد أجيبوا فقيل بأن الكل والبعض من أحكام العقل دون الشرع فلم يفد النسخ وللمخالف أن يقول إن الكل والبعض في الجملة يعلمان بالعقل فأما كون الشيء كل الحكم الشرعي أو بعضه فانما يعلم بالشرع
ومنها قولهم إن الجلد قد كان مجزئا وحده والجواب أن معنى قولنا إنه قد صار غير مجيء وحده هو أنه يجب ضم شيء آخر إليه فعاد ذلك إلى تعليل الشيء بنفسه وقيل لهم أيضا إن زيادة التغريب لو كان نسخا لجاز أن يقدر وجوده لا إلى بدل وهذا غير ممكن ها هنا وهذا ليس بجواب عن كلامهم وإنما هو استئناف دليل وهو مع ذلك غير صحيح لأن النسخ هو الإزالة ووللخصم أن يقول قد يجوز إزالة أجزاء الثمانين لا إلى بدل أصلا وقد يجوز إزالته إلى بدل غير الثمانين وقد يجوز إزالته بزيادة على الثمانين ولا يجوز إزالته بالزيادة على الثمانين إلى بدل لأن قولنا زيادة على الثمانين إثبات للثمانين فاسقاطها بدل والحال هذه متناقض كما بينا في القول بازالة العبادة لا إلى بدل مع ثبوت المبدل
ومنها قولهم إن الجلد وحده كان يتعلق به رد الشهادة فلما زيد التغريب صار لا يتعلق به وحده والجواب أن مخالفهم لا يعلق رد الشهادة بالجلد ولو تعلق به لكان الأقرب أن يقال إن زيادة بالتغريب قد تنسخ تعلق رد الشهادة لا أنه نسخ للجلد على أن هذا لا يلزم أيضا لأن رد الشهادة تعلق بما هو حد فتغير الحد إلى زيادة أو نقصان لم يرفع تعليق رد الشهادة بما هو حد كما أن تغير العدة بزيادة أو نقصان لا يرفع تعلق أحكامها بها ومعلوم أن الفروض لو كانت خمسا لوقف على ادائها قبول الشهادة فلو زيد فيها

لوقف قبول الشهادة على فعل الفرض السادس ولم يوجب هذا نسخ وقوف قبول الشهادة على أداء الفروض وللمخالف أن يقول إنه لو زيد في مدة العدة لكان ذلك نسخا لتعلق أحكامها بالمدة المزيد عليها ولو زيد في الفرائض فرض آخر نسخ ذلك تعلق قبول الشهادة بأداء تلك الفرائض وحدها لا أنه يكون ناسخا للفرائض وله أن يقول إن كون الجلد لا يجزىء وحده إذا زيد عليه التغريب ليس هو معنى قولنا قد زيد عليه غيره هو أنه قد تعبدنا معه بشيء آخر وذلك يرجع إلى الأمر بالزيادة وكون الجلد وحده لا يجزىء معناه أنه لا يسقط به الغرض وهذا يتبع نفي التعبد بالزيادة فاذا كانت الزيادة قد أزالت هذا الإجزاء فقد وقع بها النسخ ألا ترى أن الله عز و جل لو نص فقال الثمانون وحدها مجزئة في الحد وهي كمال الحد ثم زاد على الثمانين لكان ذلك نسخا فكذلك ما ذكرناه ولقائل أن يقول إن الله عز و جل لو صرح بذلك لكان إجزاء الجلد وحده حكما شرعيا فكانت إزالته نسخا فأما إذا لم ينص على ذلك بل أوجب الجلد فان إيجابه لذلك لا يتعرض للتغريب بنفي ولا إثبات وإنما يعلم نفيه بقاء على حكم الأصل وإزالة حكم الأصل ليس بنسخ وللمخالف أن يقول إن هذا لا يمنع مما أفسدنا به قولكم إن رفع الإجزاء مع الجلد وحده هو معنى إثبات الزيادة وأن تعليل كون الزيادة نسخا من حيث رفع تعلق الإجزاء بالجلد وحده هو تعليل الشيء بنفسه وايضا فقد نقضتم هذا الاعتبار بمسألة وهو أن قاضي القضاة قال إن الله عز و جل لو خير بين فعلين ثم زاد في التخيير ثالثا فصرنا مخيرين بين ثلاثة أشياء لكان قد نسخ قبح تحريم ترك الشيئين الأولين ومعلوم أنه إذا خير بين شيئين فإنه لا يتعرض تخييره بما عداهما بتحريم ولا إيجاب وإنما نعلم أن الثالث ليس بواجب لأن الأصل أنه غير واجب ولم ينقلنا عنه شرع فصار نفي وجوبه معلوما بالعقل ومع ذلك قد قال إن ما دل على وجوبه يكون ناسخا
فأما حجة من قال إن زيادة ركعة على ركعتين نسخ فهو أن هذه الزيادة جعلت وجود الركعتين وحدهما كعدمهما وأوجبت الاستئناف وازالت

الإجزاء ومن قبل هذه الزيادة لم تكن الركعتان كذلك وهذا معنى النسخ وهذا منتقض على قول قاضي القضاة بالزيادة المنفصلة فإن زيادة عضو في الطهارة أو زيادة طهارة أخرى ليس بنسخ للصلاة عنده ومع ذلك فوجود الصلاة كعدمها إذا لم يغسل ذلك العضو ويجب استئنافها وهي غير مجزئة وكون هذه الزيادة منفصلة ليس يمنع من انتقاض ما اعتلوا به فان شرطوا ذلك في العلة قيل لهم أي تأثير لانفصال الشرط واتصاله في ذلك فإن قالوا لأن الشرط المزيد إذا كان متصلا كالركعة نسخ جملة العبادة قيل النسخ إنما هو إزالة الأحكام لا الأفعال والإجزاء زائل سواء كان الشرط متصلا أو منفصلا فان قالوا إنما نعني بقولنا إن زيادة الركعة نسخ أن الركعة نسخت وجوب الجلوس عقيب الركعة الثانية قيل الجلوس موضعه آخر الصلاة وهذا لم يتغير وإنما تغير آخر الصلاة فلم ينسخ موضع الجلوس كما قلتم إن الزيادة في العدة لا تنسخ تعلق الأحكام بها فان قالوا الصلاة بعد زيادة عضو في الطهارة يجب فعلها كما يجب من قبل وإنما يجب أن نقدم عليها فعلا آخر فجرى مجرى الجلد في أنه يلزم بعد زيادة التغريب كما كان يلزم من قبل وإنما يجب أن نضم إليه فعلا آخر فالمسألتان سواء وإنما تفترقان في الفعل الذي يجب في المسألة الأولى ينبغي أن يتقدم وفي المسألة الثانية يتأخر والجواب أن هذا لا يمنع من انتقاض علتكم وهي أن وجود الصلاة بعد زيادة ركعة كعدمها على أن هذا يقتضي أن لا تكون زيادة ركعة على ركعتين نسخا لأن الركعتين يجب فعلهما على ما كانا عليه لكنه يلزم تأخير التشهد وأن لا يتعلق بالركعتين وهذا إن كان نسخا فهو نسخ لموضع التشهد وقد بينا من قبل أنه يجري مجرى زيادة العدة في أنه ليس بنسخ كتعلق الأحكام بالمدة الأولى ويمكن من قال إن زيادة الركعة ليس بنسخ أن يقول لو كان نسخا لكان إما أن يكون نسخا للركعتين ومعلوم أن النسخ لا يتعلق بالأفعال أو نسخا لموضع التشهد وقد بينا أنه ليس بنسخ لذلك أو نسخا لإجزاء الركعتين وحدهما وهذا يلزم عليه أن تكون زيادة غسل عضو في

الطهارة نسخا للصلاة وأن تكون زيادة التغريب نسخا للحد لأنه لا يجزىء وحده فالكلام مترجح على ما ترى وأنا أذكر طريقة بينة يزول معها كل إشكال فأقول إن الكلام في الزيادة على النص يقع في مواضع ثلاثة في معنى النسخ وفي اسمه وفي حكمه ولا رابع لذلك
أما معنى النسخ فبأن يقال هل الزيادة على النص تفيد معنى النسخ أم لا والجواب أنها تفيده لأن معنى النسخ هو الإزالة وكل زيادة هي مزيلة لحكم من الأحكام لأنها إما أن تكون زيادة في الوجوب أو في الندب أو في الإباحة أو في الحظر فإن كانت زيادة في الوجوب فقد رفعت نفي وجوب تلك الزيادة وإزالته نحو زيادة التغريب في الحد لأنه لم يكن واجبا ثم صار واجبا وكذلك القول في الزيادة على الندب وعلى الإباحة وعلى الحظر
وأما الكلام في الاسم فبأن يقال هل الزيادة على النص تسمى نسخا أم لا والجواب أن الزيادة التي كلامنا فيها هي زيادة شرعية فان كانت قد ازالت حكما ثابتا بدليل شرعي وكانت متراخية عنه سميت الزيادة نسخا ويسمى الدليل المثبت للزيادة ناسخا وإن كان الحكم الذي رفعته الزيادة حكما ثابتا في العقل لا في الشرع لم تسم الزيادة نسخا على ما تقدم بيانه
وأما الكلام في الحكم فبأن يقال هل يجوز إثبات الزيادة على النص بخبر واحد وقياس أم لا والجواب أنه إن كان ما أزالته الزيادة حكما ثابتا بالعقل لا بالشرع فانه يجوز إثباته بخبر واحد وقياس إلا أن يمنع من ذلك مانع نحو أن يكون البلوى بما أثبتته الزيادة عاما فلا يقبل فيه خبر واحد على قول بعض الناس أو يكون حدا أو كفارة أو تقديرا فلا يثبت بالقياس على قول بعضهم ولا يقبل عند هؤلاء خبر الواحد والقياس في ذلك لا للنسخ لكن لأمور أخر وإن كان الحكم الذي أزالت الزيادة مثله ثابتا بالشرع وكان دليل الزيادة متأخرا عن ذلك الشرع فإنه لا يجوز إن كان دليل الزيادة قياسا لأن القياس المتأخر لا يرفع حكم النص على ما مضى وإن كان دليل الزيادة خبر

واحد وكان الحكم الذي رفعته ثابتا بخبر واحد أيضا جاز أن يقبل في الزيادة وإن كان ثابتا بقرآن أو بخبر متواتر لم تجز إزالته بخبر واحد متراخ لأن خبر الواحد لا يزيل الحكم المتواتر بعد استقرار مثله ويجوز أن يزيله الخبر المتواتر فإن أجمعت الأمة على قبول خبر الواحد في ذلك علمنا أنه كان مقارنا وأنه مخصص
وعند هذا التفصيل تزول كل شبهة وأنا أنسق عليه المسائل لتظهر فائدته إن شاء الله
أما زيادة التغريب أو زيادة عشرين على جلد ثمانين فليس بمزيل لوجوب الثمانين وإنما يزيل نفي وجوب ما زاد على الثمانين من العشرين والتغريب فهو من هذه الجهة نسخ في المعنى ولا يسمى نسخا لأن نفي وجوب ما زاد على الثمانين لم يكن معلوما بدليل شرعي فلم تكن إزالته نسخا وذلك أن إيجاب الثمانين لم يتعرض لما زاد عليها باثبات ولا نفي وإنما علمنا نفي ما زاد عليها لأن العقل يقتضي نفي وجوبه ولم ينقلنا عنه دليل شرعي وإذا كان ذلك حكما عقليا جاز قبول خبر الواحد والقياس فيه إلا أن يمنع منه مانع سوى النسخ وأما كون الثمانين مجزئة وحدها وأنها وحدها كمال الحد وتعلق رد الشهادة عليها وحدها فهو تابع لنفي وجوب الزيادة ألا ترى أنه لو وجب ما زاد عليها بدليل مقارن لم تكن الثمانون وحدها مجزئة ولا تعلق بها وحدها رد الشهادة ولا كانت كمال الحد فاذا كان كان ذلك تابعا لنفي وجوب الزيادة وكان نفي وجوبها معلوما بالعقل جاز قبول خبر الواحد والقياس في الزيادة وفيما يتبعها ولو أن الله عز و جل قال الثمانون كمال الحد وعليها وحدها يتعلق رد الشهادة لما قبلنا في الزيادة خبر واحد ولا قياسا لأن نفي وجوب الزيادة قد ثبت بدليل شرعي متواتر فلو كان إيجابه الثمانين يقتضي بدليل الخطاب نفي وجوب ما زاد عليها لكان أثبات الزيادة يسمى نسخا

ولما قبلنا فيها خبر واحد ولا قياسا متأخرين فأما تقييد الرقبة بالإيمان فهو في معنى التخصيص لأنه يخرج عتق الكافرة من الخطاب فان كان ما اقتضى هذا التقييد خبر واحد أو قياس وكان متراخيا لم يقبل لأن عموم الكتاب أجاز عتق الكافرة فتأخر حظر عتقها في الكفارة هو النسخ بعينه فلم يقبل فيه خبر واحد ولا قياس وإن كان القياس أو خبر الواحد مقارنا فهو تخصيص والتخصيص يصح بخبر الواحد والقياس فأما إذا قطعت يد السارق وإحدى رجليه ثم سرق فإن إباحة قطع رجله الأخرى رفع حظر قطعهما وحظر قطعها إنما يثبت يالعقل فجاز رفعه بخبر واحد وقياس ولم يسم نسخا فأما إذا أمرنا الله عز و جل بفعل أو قال هو واجب عليكم ثم خيرنا بينه وبين فعل آخر فإن هذا التخيير يكون مزيلا لحظر ترك أوجبه علينا إلا أن حظر تركه كان معلوما بالبقاء على حكم العقل وذلك لأن قوله أوجبت هذا الفعل عليكم يقتضي أن للإخلال به تأثيرا في استحقاق الذم وهذا لا يمنع من أن يقوم مقامه واجب آخر وإنما علم أن غيره لا يقوم مقامه لأن الأصل أنه غير واجب ولو كان واجبا بالشرع لدل عليه دليل شرعي فصار علمنا بنفي وجوبه موقوفا على أن يكون الأصل يقتضي نفي وجوبه مع نفي دليل شرعي فالمثبت لوجوبه إنما رفع حكما عقليا فجاز أن نثبته بقياس أو خبر واحد مثال ذلك أن يوجب الله علينا غسل الرجلين ثم يخيرنا بينه وبين المسح على الخفين وكذلك إذا خيرنا الله عز و جل بين شيئين ثم أثبت معهما ثالثا فأما إذا قال الله عز و جل هذا الفعل واجب وحده أو قال ليس يقوم غيره مقامه فإن إثبات بدل له فيما بعد رافع لما علمنا بدليل شرعي لأن قوله هذا واجب وحده هو صريح في نفي وجوب غيره فالمثبت لوجوب غيره رافع لحكم شرعي فلم يجز كونه خبر واحد ولا قياسا فأما قول الله عز و جل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان فهو تخيير بين

استشهاد رجلين أو رجل وامرأتين والحكم بالشهادة واليمين زيادة في التخيير وقد بينا أن الزيادة في التخيير ليس بنسخ يمنع من قبول خبر الواحد والقياس فيه ومن قال إن الحكم بالشاهد واليمين نسخ لهذه الآية يلزمه أن يكون الوضوء بالنبيذ نسخا لقوله عز و جل فلم تجدوا ماء فتيمموا فأما إذا كانت الصلاة ركعتين فقط فزيد فيها ركعة أخرى قبل التشهد فان ذلك يكون ناسخا لوجوب التشهد عقيب الركعتين وذلك حكم شرعي معلوم بطريقة معلومة فلم يثبت بخبر واحد ولا قياس وليس ذلك بنسخ للركعتين لأن النسخ لا يتناول الأفعال ولا هو نسخ لوجوبهما لأن وجوبهما ثابت ولا نسخ لإجزائهما لأنهما مجزئتان وإنما كانتا مجزئتين من دون ركعة أخرى والآن لا تجزءان إلا مع ركعة أخرى وذلك تابع لوجوب ضم ركعة أخرى ووجوب ركعة أخرى ليس يرفع إلا نفي وجوبها ونفي وجوبها إنما حصل بالعقل فلم يمتنع من هذه الجهة أن يقبل في ذلك خبر الواحد والقياس فأما إذا زيدت الركعة بعد التشهد وقبل التحلل فانه يكون نسخا لوجوب التحلل بالتسليم أو ناسخا لكونه ندبا وذلك حكم شرعي معلوم فلم يجز أن يقبل فيه خبر الواحد والقياس فأما كونه ناسخا للركعتين أو لوجوبهما أو لإجزائهما فالقول فيه ما ذكرناه الآن فأما زيادة غسل عضو في الطهارة فليس بنسخ لإجزائها ولا لوجوبها وإنما هو رفع لنفي وجوب غسل ذلك العضو المعلوم نفي وجوبه بالعقل وكذلك زيادة شرط آخر في الصلاة لا تقتضي نسخ وجوب الصلاة فأما كون الصلاة غير مجزئة بعد زيادة الشرط فهو تابع لوجوب ذلك الشرط وإجزاؤها تابع لنفي وجوبه ونفي وجوبه لم يعلم بالشرع وكذلك ما يتبعه فجاز قبول خبر الواحد والقياس فيه هذا إن لم يكن قد علمنا نفي وجوب هذه الأشياء من دين النبي صلى الله عليه و سلم باضطرار فأما إن علمناه باضطرار فقد صار ذلك معلوما بشرع مقطوع به فلم يجز رفعه بخبر الواحد والقياس فأما قول الله عز و جل ثم أتموا الصيام إلى الليل فانه يفيد كون

أول الليل طرفا وغاية للصيام كما يفيده لو قال آخر الصيام وغايته الليل لأن لفظه إلى موضوعة للغاية فايجاب صوم أول الليل يخرج أوله من أن يكون طرفا مع أن الخطاب يفيده وفي ذلك كونه نسخا حقيقة لا يقبل فيه خبر واحد ولا قياس لأن نفي وجوب صوم أول الليل معلوم بدليل قاطع فأما لو قال الله عز و جل صلوا إن كنتم مطهرين فانه لا يمنع أن يقبل خبر الواحد والقياس في إثبات شرط آخر الصلاة لأن إثبات بدل للشرط لا يخرجه من أن يكون شرطا إذ لا يمتنع أن يكون للحكم الواحد شرطان وليس كذلك إثبات صوم جزء من الليل لأن ذلك يخرج أول الليل من أن يكون غاية وأما نفي كون الشرط الآخر شرطا فلم نعلمه بالسمع وإنما علمناه بالعقل فلم يكن رفعه رفعا لحكم شرعي
باب في النقصان من شروط العبادة وأجزائها هل هو نسخ ما عداه أم لا اعلم أنه لما كان الغرض بهذا الباب ذكر النقصان من شروط العبادة وأجزائها وجب أن نذكر أولا ما شرط العبادة وما جزؤها فشرط العبادة ما يقف صحتها عليه وهو ضربان احدهما جزء منها والآخر ليس بجزء منها فالجزء منها هو واحد مما هو مفهوم من العبادة كالركوع والسجود وما ليس بجزء فهو ما لم يكن واحدا مما هو المفهوم من العبادة كالوضوء مع الصلاة ولا خلاف في أن النقصان من العبادة هو نسخ لما أسقط منها
واختلفوا هل هو نسخ لغيره أم لا فقال الشيخ أبو الحسن إن نسخ شرط من شروط العبادة أو جزء من أجزائها ليس بنسخ العبادة وقال إن نسخ التوجه إلى بيت المقدس ليس بنسخ للصلاة ولا نسخ صوم عاشوراء نسخ للصوم أصلا وقال عند ذلك إن ما كان من شروط الصوم وما لم يكن من شروطه لا يلحقه النسخ فلذلك لما جاز صوم عاشوراء بنية غير مبيتة لم يكن ذلك منسوخا وثبت مثله في شهر رمضان

وعند قاضي القضاة أن نسخ شرط منفصل من شرائط العبادة لا يكون نسخا للعبادة فنسخ الوضوء لا يكون نسخا للصلاة ونسخ جزء من أجزاء الصلاة يكون نسخا للصلاة وقال إن نسخ التوجه إلى بيت المقدس هو نسخ للصلاة وعندنا أن نسخ الشرط المنفصل كنسخ الةوضوء لو كان نسخا للصلاة لم يخل إما أن يكون نسخا لصورة الصلاة وهذا محال لأن النسخ يرفع الأحكام دون صورة الأفعال وإما أن يكون نسخا لحكم من احكام الصلاة إما وجوبها أو إجزائها وكونها عبادة أو نفي إجزائها مع فقد الوضوء ومعلوم أن وجوب الصلاة وكونها مجزئة وعبادة لا يزول وإن زال وجوب الوضوء وأما نفي الإجزاء مع فقد الطهارة فقد زال وذلك لأن الصلاة ما كانت تجزىء بلا طهارة فلو نسخ وجوب الطهارة لصارت تجزىء وارتفع نفي إجزائها وذلك تابع لسقوط وجوب الطهارة فان أراد الإنسان بقوله إن نسخ الوضوء يقتضي نسخ الصلاة هذا المعنى فصحيح لكن الكلام موهم لأن إطلاق القول بأن الصلاة منسوخة هو أنه قد خرجت عن الوجوب أو عن أن تكون عبادة واحتج قاضي القضاة لقوله إن نسخ الشرط المنفصل لا يكون نسخا للعبادة بأن الشرط تابع للمشروط ونسخخه لا يكون نسخا للمتبوع ولهذا لم يكن نسخ طهارة بعض المياه نسخه للصلاة وأما نسخ جزء من العبادة كنسخ ركعة من الصلاة فإنه ليس بنسخ لباقي الركعات لأن النسخ لا يتناول صورة الفعل ولا هو نسخ لوجوب الركعات ولا لكونها شرعية مجزئة لأن ذلك باق لم يرتفع لكنه رفع لوجوب تأخير التشهد ورفع لنفي إجزائها من دون الركعة لأن قبل النسخ ما كان يجوز الصلاة من دون هذه الركعة وإن كانت الركعة لما نسخت وأوجبت علينا أن تخلى الصلاة منها كان قد ارتفع إجزاء الصلاة إذا فعلناها مع الركعة المنسوخة وإجزاء الصلاة مع الركعة قد كان حكما شرعيا فجاز أن يكون رفعه نسخا فأما التوجه نحو القبلة في الصلاة فهو هيئة من هيئاتها لأن الواجب منه ما قارن التكبيرة وما بعدها دون ما قبلها فنسخه لا يكون نسخا للصلاة وصفاتها وشروطها لأن الصلاة

واجبة في كل مكان على البدل على ما كانت عليه وإنما حرم التوجه إلى بيت المقدس فصار التوجه منسوخا وإجزاء الصلاة إلى بيت المقدس ووجوبها مرتفعا دون ما سوى ذلك فأما نسخ صوم عاشوراء فهو نسخ للصوم لأنه لم يجب الصوم إلا في ذلك اليوم نفسه ورفع وجوبه فيه رفع لوجوبه على الإطلاق لأنه لم يبق وقت آخر كان الصوم واجبا فيه فيبقى وجوبه فيه ويجري مجرى أن يجب علينا صلاة في مكان مخصوص ثم يقال لنا لا تصلوا فيه في أنه لا يبقى علينا صلاة واجبة وكذلك لو قيل لنا لا تصلوا في هذا اليوم وصلوا في يوم آخر لكانت الصلاة الأولى قد نسخت وإنما كوجه إلينا إيجاب عبادة أخرى بأمر آخر فكذلك نسخ صوم عاشوراء برمضان وإذا كانت جملة الصوم قد سقطت لم تبق شروطه ولم يجب أن تكون شروط الصوم الثاني هي شروط الصوم المنسوخ لأنه لا يمتنع اختلاف العبادات في الشروط
واما قول الشيخ أبي الحسن إن النسخ يتناول الوقت فلا يصح ظاهره لأن النسخ يرفع أحكام الأفعال دون الأوقات
باب الطريق إلى معرفة كون الحكم منسوخا اعلم أن الطريق إلى ذلك شيئان احدهما لفظ النسخ والآخر التأريخ مع التنافي أما لفظ النسخ فقد يتناول المنسوخ وقد يتناول الناسخ أما الأول فنحو أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم هذه العبادة منسوخة وأما الثاني فكما قيل إن صوم شهر رمضان نسخ صوم عاشوراء وأما التاريخ مع التنافي فهو أن يتنافى الحكمان بان يكون أحدهما نفيا للآخر أو بأن يتضادا
مثال التنافي قول النبي صلى الله عليه و سلم كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ونحو قوله لا وصية لوارث وقول الله عز و جل الآن خفف

الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا الآية فأما قوله تعالى أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فاذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة فلا يدل على نسخ تقديم الصدقة على مناجاة الرسول لأنه ليس في التوبة علينا ولا في الأمر بالصلاة والزكاة ما يمنع من ذلك وإنما يعلم النسخ من قصد النبي صلى الله عليه و سلم
وأما الحكمان الضدان فنحو أن يوجب الله سبحانه علينا الصلاة في أوقات مخصوصة في مكان مخصوص ثم يوجب علينا في بعض تلك الأوقات صلاة في مكان آخر فيكون أحدهما ناسخا للآخر
والأحكام المتنافية إما أن ترجع إلى مكلف واحد أو إلى جماعة والراجعة إلى جماعة إنما أن ترجع إليها بألفاظ العموم وإنما يتم ذلك بالعمومين إذا تعارضا وعلم التأريخ فيهما فنعلم أيهما هو الناسخ وأيهما هو المنسوخ فيجب بيان كلا الأمرين أما التأريخ فقد يعلم بقول ينبىء بنفسه عن التقدم وقد يعلم باسناد أحدهما إلى شيء متقدم وهذا الثاني ضروب منها أن يسند أحدهما إلى زمان متقدم فيقال كان في السنة الفلانية والآخر في السنة الفلانية ومنها أن يسند كل واحد من الحديثين إلى غزاة سوى في الغزاة الأخرى ويعلم تقدم أحدهما على الأخرى ومنها أن يسند أحدهما إلى فعل متقدم ومنها أن يروى أحدهما رجل تقدمت رؤيته للنبي صلى الله عليه و سلم على رؤية راوي الخبر الآخر وانقطعت رؤيته للنبي صلى الله عليه و سلم لما رواه الخبر الآخر فأما إذا كانت رؤيته قد دامت إلى رؤية الراوي الآخر فليس يجب أن تكون روايته متقدمة
وذكر قاضي القاضة أن أحد الخبرين إذا وافق حكم العقل علمنا أنه المتقدم وليس كذلك لأنه لا يمتنع أن يكون ابتداء الشريعة جاءت بخلاف ما في الأصل ثم نسخ ذلك بما يقتضيه العقل

وأما الذي يعلم به تقدم أحدهما لفظا فضربان أحدهما أن يصدر من النبي صلى الله عليه و سلم لفظ يدل على ذلك كقوله صلى الله عليه و سلم كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها والآخر أن يصدر ذلك من الصحابي وذلك ضروب منها أن يقول الصحابي كان هذا الخبر متقدما على هذا الخبر وفي السنة الفلانية ولا شبهة في قبول ذلك إذا كان المنسوخ غير منقول بالتواتر فان كان منقولا بالتواتر قبل ايضا عند قاضي القضاة وإن كان خبر الواحد لا ينسخ به حكم متواتر كما أن شهادة الشاهدين لا يثبت بها الزنا والحد ويثبت الإحصان بشهادتهما وإن كان الحد يتعلق بالإحصان فلا يمتنع أن لا يتعلق الحكم بالشيء ويتعلق بسبب من أسبابه ولقائل أن يقول ليس كل شيء لم يمتنع فهو ثابت لا محالة بل يحتاج ثبوته إلى دليل زائد على كونه غير ممتنع فأما إذا قال الصحابي كان هذا الحكم ثم نسخ نحو ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال في التشهد التحيات الزاكيات كان ذلك مرة ثم نسخ ويجوز أن يقول هذا نسخ هذا كقولهم إن خبر الماء نسخ بالتقاء الختانين فانه يجوز أن يكون قال ذلك اجتهادا فلا يلزمنا وحكى الشيخ أبو عبد الله عن الشيخ أبي الحسن أن الراوي إذا عين الناسخ فقال هذا نسخ هذا جاز أن يكون قاله اجتهادا فلا يجب الرجوع إليه وإن لم يعين الناسخ بل قال هذا منسوخ قبل ذلك نحو قول عبد الله في التشهد كان ذلك مرة ثم نسخ قال لأنه لولا ظهور ذلك ما أطلق النسخ إطلاقا ولقائل أن يقول إنه يجوز أن يظهر ذلك عنده من جهة الاستدلال فلذلك أطلقه اطلاقا ويلزمه أن يرجع إلى قوله وإن عين الناسخ لأنه لولا ظهور كون الخبر ناسخا ما أطلق ذلك إطلاقا
باب في العمومين إذا تعارضا اعلم أن العمومين إذا تعارضا لم يخل إما أن يتعارضا من كل وجه أو من

وجه دون وجه فان تعارضا من كل وجه فمثاله أن يكون أحدهما بنفي الحكم عن كل ما يثبت الآخر الحكم فيه على ذلك الحد في ذلك الوقت أو يثبت أحدهما ضد ما يثبته الآخر من الحكم ولا يخلو العمومان المتعارضان من كل وجه إما أن يكونا معلومين أو مظنونين أو يكون أحدهما معلوما والآخر مظنونا فان كانا معلومين لم يخل إما أن يعلم تقدم أحدهما على الآخر أو يعلم اقتران أحدهما بالآخر أو لا يعلم شيء من ذلك فان علم تقدم أحدهما الآخر نسخ المتأخر المتقدم وإن لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر ولا أنهما وردا معا فالوجه أن يرجع إلى غيرهما لأنه يجوز أن يكون كل واحد منهما هو المتأخر فيكون ناسخا وإن علم أنهما وردا معا وأمكن التعبد بالتخيير فيهما كان التعبد فيهما بالتخيير فيكون المكلف مخيرا بين العمل وبهذا الخبر أو بهذا كالتخيير بين الكفارات لأنه إذا تعذر الجمع لم يبق إلا التخيير وسيجيء القول في جواز التعبد بالتخيير عند تعارض الأدلة والأمارات ولا يجوز أن يرجح أحدهما على الآخر بما يرجع إسناده أو طريق العلم كشهادة الأمة له بالصحة ولا بما يرجع ما تضمنه أحدهما من كونه محظورا أو حكما شرعيا إلى غير ذلك لأن الترجيح بكثرة الرواة وغيرها مما ذكرناه يؤثر في قوة الظن فاذا كان كل واحد من الخبرين معلوما غير مظنون لم يكن هناك ظن يقويه الترجيح فان قيل هلا قلتم إن المسألة من مسائل الاجتهاد عند تعارض العمومين المعلومين ثم رجحتم العمل بأحدهما لأمر يرجع إلى كون ما تضمنه محظورا أو حكما شرعيا قيل إنا إن فعلنا ذلك كنا قد أسقطنا الخبر الآخر مع مساواة الآخر له في وقوع العلم بصحته ولولا ما ذكرنا لم يثبت النسخ بين كثير من الألفاظ لأن كل لفظين تضمنا حكمين متنافيين فانه يمكن أن يرجح أحدهما على الآخر في أكثر الأمر وإن تأخر أحدهما عن صاحبه فاما إذا كان أحدهما معلوما والآخر مظنونا فانه إما أن ينقل تقدم أحدهما على صاحبه أو

لا ينقل ذلك فان نقل ذلك وكان المعلوم منهما هو المتأخر كان ناسخا للآخر وإن كان المظنون منهما هو المتأخر لم ينسخ المعلوم ووجب العمل بالمعلوم منهما وإن لم ينقل تقدم أحدهما على صاحبه وجب العمل بالمعلوم منهما لإنه إن كان المعلوم هو المتقدم للمظنون لم يجز أن ينسخه المظنون وإن كان المعلوم متأخرا عن المظنون فالمعلوم هو الناسخ ففي كلا الحالين يجب العمل بالمعلوم فان قيل فجوزوا أن يكونا وردا معا فيكون التعبد فيهما التخيير قيل هذا إن جوزناه فانه لا يمنع من الرجوع إلى المعلوم وحده لأنا نرجحه بكونه معلوما وأما إن كانا مظنونين فإنه إن نقل تقدم أحدهما فالأول منهما منسوخ بالثاني وإن نقل أنهما وردا معا رجح بينهما وعمل على الأقوى منهما فإن تساويا فالتعبد فيهما بالتخيير وكذلك إن لم ينقل تقدم أحدهما على الآخر ولا مقارنته له أنه يرجح بينهما ويعمل على الأقوى منهما أو يكون الإنسان مخيرا إن تساويا عند المجتهد فأما إذا كان كل واحد من العمومين عاما من وجه خاصا من وجه فنحو قول النبي صلى الله عليه و سلم من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ونهيه صلى الله عليه و سلم عن الصلاة عند قيام الظهيرة وبعد صلاة العصر وعند طلوع الشمس لأن الخبر الأول عام في الأوقات خاص في القضاء والخبر الثاني خاص في الأوقات عام في القضاة وفي غيره من الصلوات التي لا أسباب لها وكل واحد منهما عام فيما الآخر خاص فيه وليس يخلو مثل هذين العمومين إما أن يعلم تقدم أحدهما على الآخر أو لا يعلم ذلك فإن لم يعلم ذلك لم يخل إما أن يكونا معلومين أو مظنونين أو أحدهما معلوما والآخر مظنونا فان كانا معلومين لم يجز ترجيح أحدهما على الآخر بقوة الإسناد ويجوز ترجيح أحدهما على الآخر بذلك إن كانا مظنونين وإن كان أحدهما معلوما والآخر مظنونا جاز ترجيح المعلوم منهما عند التعارض بكونه معلوما فأما الترجيح بما تضمنه أحدهما من كونه محظورا أو حكما شرعيا فانه يجوز ذلك سواء كانا معلومين أو مظنونين أو أحدهما معلوما والآخر مظنونا لأن الحكم بأحدهما طريقة الاجتهاد وليس في

ترجيح أحدهما على الآخر إطراح الآخر وليس كذلك إذا تعارضا من كل وجه فإن لم يترجح أحدهما على الآخر فالتعبد فيهما بالتخيير وقد رجح بعضهم التعلق بقول الله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف على التعلق بقوله عز و جل أو ما ملكت أيمانكم من حيث كان قوله وأن تجمعوا بين الأختين أخص بموضع الخلاف وهو الجمع بين الأختين
ولقائل أن يقول إن موضع الخلاف هو الجمع بين أختين مملوكتين فان كانت الآية الأولى أخص بالخلاف لأن فيها ذكر الجمع بين الأختين فيجب أن تكون الآية الثانية أخص بالخلاف لأن فيها ذكر المماليك ويمكن أن يجاب عن ذلك فيقال إن الآية الأولى فيها ذكر مسألة الخلاف أكثر مما في الآية الثانية لأن فيها ذكر الجمع وذكر الأختين وفي الآية الثانية ذكر المملوكات فقط فلهذا كانت الأولى أخص بموضع الخلاف وأشد تعلقا به
فأما إن علم تقدم أحدهما على صاحبه وكانا معلومين أو مظنونين أو كان المتقدم منهما مظنونا والآخر معلوما فان المتأخر منهما يجب أن ينسخ المتقدم على قول من قال إن العام ينسخ الخاص المتقدم وهكذا يجيء على قولهم لأنه إذا كان عندهم أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم ما لم يثبت كونه أعم من اللفظ المتقدم أولى بأن يكون ناسخا وإن كان المتقدم معلوما والمتأخر مظنونا لم يجز عندهم أن ينسخ الثاني الأول ووجب الرجوع فيهما إلى الترجيح لأن المظنون لا ينسخ المعلوم وإذا لم يجز أن يكون الثاني منهما ناسخا وأمكن استعماله مع الترجيح وجب الرجوع إلى الترجيح فأما من يقول إن العام المتأخر يبنى على الخاص المتأخر وأن الخاص المتأخر يخرج بعض ما دخل تحت العام المتقدم فالذي يجيء على مذهبه أن لا يفرق بين أن يكونا معلومين أو

مظنونين أو أحدهما معلوما والآخر مظنونا في استعمال الترجيح وترك النسخ بأحدهما لأنه ليس يتخلص كون المتأخر أخص من المتقدم فيخرج من المتقدم ما دخل تحت المتأخر وبالله التوفيق

-
المعتمد في أصول الفقه تأليف أبي الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي المتوفى ببغداد 436 ه 1044 م


الكلام في الإجماع
باب في فصول الإجماع اعلم أن الغرض بذلك هو القول في أن الإجماع حجة ولما كان الإجماع هو اتفاق من جماعة على أمر من الأمور إما فعل أو ترك وجاز أن يلحق اتفاقهم اشتباه فيخرج منه ما هو منه ويجعل منه ما ليس منه وجاز أن يكون الاتفاق حجة بشرط وجاز أن يعارض قولهم حجة أخرى ووجب أن يكون لهم طريق إلى ما اتفقوا عليه أو يكون لنا طريق إلى ما اتفقوا عليه وجب أن نتكلم في كل ذلك فندل على أن الإجماع حجة ثم في الاتفاق بماذا يقع هل هذا بالقول أو بالفعل أو بالرضا والاعتقاد ثم نتكلم في المتفقين فنبين من يعتبر قوله في الإجماع ومن لا يعتبر فيه ويدخل في كلا القسمين أبواب وهي أنه لا يعتبر في الإجماع بكل من بعث النبي صلى الله عليه و سلم ولا بجميع المكلفين إلى حد التكليف ولا بالعامة في مسائل الاجتهاد ويعتبر بأهل الأعصار والامصار وبالمجتهد وإن لم يشتهر بالفتوى وبالتابعي الحدث المعاصر للصحابة وبالواحد من أهل العصر فلا ينعقد الإجماع دونه ثم نتكلم فيما يتفقون عليه فنبين ما الذي يكون اتفاقهم فيه حجة وما الذي لا يكون اتفاقهم فيه حجة ويشتمل ذلك على أبواب وهي أنه لا يكون إجماعهم حجة فيما لا يعلم صحة الاجتماع إلا بعد العلم بصحته فيكون حجة في إزالة الخلاف المتقدم وهل يكون حجة في أمور الدنيا وهل يكون حجة وإن كان سبب اجتماعهم اجتهاد آرائهم فاذا عرفنا

بهذه الفصول الاتفاق والمتفقين وما يكون الاتفاق حجة فيه تكلمنا في شرط كونه حجة ثم نتكلم فيما أخرج من الإجماع وفيما ألحق به ويدخل في ذلك فصول وهي هل اختلاف الأمة في المسألة على قولين هو اتفاق على المنع مما عداهما وهل اتفاقهم على الاستدلال بدليل أو اعتلال بتعليل أو تأويل هو اتفاق على المنع مما عدا ذلك وهل اتفاقهم على أن لا فرق بين المسألتين اتفاق على المنع بينهما وهل اختلافهم في المسألة على قولين هو اتفاق على جواز الأخذ بكل واحد منهما على كل حال أم لا وبعد ذلك نتكلم فيما يعارض الإجماع ثم في طريق المجتمعين إلى ما اتفقوا عليه ويشتمل ذلك على أنه لا بد من أن يتفقوا على طريق وهل ذلك الطريق الاجتهاد أم لا وكيف الحال فيهم إذا اتفقوا على موجب خبر الواحد ثم نتكلم في طريقنا إلى اتفاقهم ويدخل في ذلك انقراض أهل العصر هل هو طريق إلى اتفاقهم وهل عدم المخالف للقول الذي لم ينتشر طريق إلى الاتفاق عليه
باب في الدلالة على أن الإجماع حجة اعلم أن إجماع أهل كل عصر من الأمة صواب وحجة وقال النظام ليس ذلك حجة وقالت الإمامية ذلك صواب لأن الإمام داخل فيهم وهو الحجة فقط ودليلنا قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس والوسط من كل شيء خياره والحكيم لا يخبر بخيرية قوم ليشهدوا وهو عالم بأنهم كلهم يقدمون على كبيرة في تلك الحال فيما يشهدون به بل لا يجوز ذلك إذا علم أنهم يقدمون فيما يشهدون به على قبيح صغير أو كبير فصح أن ما شهدوا به أنه من الدين فهو صواب

إن قيل المراد بذلك أن يشهدوا بذلك في الآخرة على الامم السالفة أن أنبياءهم بلغت إليهم الرسالة وذلك يقتضي كونهم دولا في حال ما يشهدون دون حال الدنيا والجواب أنه لو كان هذا هو المراد لقال سنجعلكم أمة وسطا وأيضا فانهم إن شهدوا بتبليغ الرسل إلى الامم قبلهم والامم قد شاهدت ذلك فعلمهم بذلك أقوى من علم هذه الأمة فلم يجز أن يستشهد الأنبياء بمن علمه أضعف وأيضا فجميع الامم عدول في الآخرة على معنى أنهم لا يفعلون القبيح فلا معنى لتخصيص هذه الأمة بالعدالة لو كان المراد به الآخرة
إن قيل قوله ليشهدوا ليس فيه لفظ عموم فيقضي أن يشهدوا بجميع أنواع الشهادات فما يؤمنكم أن يكون المراد بذلك ليشهدوا على من بعدهم بإيجاب النبي صلى الله عليه و سلم العبادات عليهم قيل لو كان المراد ذلك لم يؤثر فيما ذكرناه من أن وصفهم بالعدالة يمنع من كونهم مقدمين على كبيرة وعلى أنه إن أريد بذلك إخبارهم من جهة التواتر فلا معنى لجعلهم عدولا لهذا الغرض لأن بخبر مثلهم يقع العلم إذا نقلوا بأجمعهم وإن لم يكونوا عدولا وإن أريد بذلك أنه جعلهم عدولا ليخبرونا بالآحاد فذلك غير موجود في كل واحد منهم لأنه ليس كل واحد من الأمة عدلا إذا انفرد
فان قيل المراد أن أكثرهم عدل قيل الظاهر من قوله جعلناكم من وجه بالخطاب إليهم وهم أهل العصر فيجب أن يكونوا بأجمعهم عدولا في تلك الحال وفي الشيء الذي أجمعوا عليه ودانوا به ولو ثبت أن أكثرهم لا يواقعون كبيرة صح أن الإجماع حجة لأنه إن كان كثير من الأمة لا يواقعون كبيرة أصلا فقد تحققنا أنه إذا اتفقت الامة كلها أن ما اتفقوا عليه ليس بكبير لدخول أولئك في الجملة
إن قيل المراد بذلك أنه جعل أكثرهم عدولا في الظاهر لا في الحقيقة

ليشهدوا من جهة الخبر قيل الظاهر من قوله جعلناكم أمة وسطا أنهم كذلك على الحقيقة لأن الخبر يقتضي كون المخبر على ما تناوله كما لو أخبر أنه جعلهم بيضا أو سودا
فان قيل إن كان المراد بالأمة جميع من صدق بالنبي إلى يوم القيامة لم يثبت مع ذلك كون الإجماع حجة فان أريد من كان موجودا حين نزلت الآية لم يصح أن يتعلقوا بالإجماع في شيء إلا أن يعلموا أن جميع من كان حاضرا حين نزلت الآية قال بذلك القول قيل أما القسم الأول فلا يصح لأن جميع من صدق بالنبي إلى قيام الساعة لا يجوز أن يشهدوا بلزوم العبادات على غيرهم لأنه ليس غيرهم مكلف بعد تلك الحال ولا يجوز القسم الثاني لأنه لا سبيل لنا إلى العلم به وقد أمرهم الله تعالى أن يشهدوا وذلك يقتضي وجوب القبول علينا ولا يجوز أن يقف وجوب قبولنا منهم على ما لا سبيل لنا إلى العلم به وأيضا فان الشهادة علينا إنما تكون بعد حدوثنا وموت النبي عليه السلام وهذا يقتضي أن يكون المراد بالأمة عصر الصحابة بعد وفاة النبي عليه السلام
دليل آخر قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر يدل على أنهم ينهون عن كل منكر لأن لام الجنس يستغرق الجنس فلو أجمعوا على مذهب منكر لما نهوا عنه بل كانوا أمروا به
إن قيل قوله كنتم خير أمة يقتضي تقدم كونهم خير أمة وليس في الآية دليل على أنهم يستديمون هذه الحال والجواب أنه قد قيل إنه يحتمل أن يكون كان ها هنا هي الزمانية ويحتمل أن تكون زائدة وإن أفاد لفظها نصب قوله كنتم خير أمة كقوله تعالى كيف نكلم من كان في المهد صبيا ويحتمل أن تكون كان ها هنا تامة بمعنى وجدتم ويكون

قوله خير أمة نصب على الحال وأي هذه الوجوه ثبت لم يضرنا لأن قوله خير أمة إن أفاد تقدم كونهم كذلك فقوله تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر يقتضي كونهم كذلك في كل حال وما ينهون عن كل منكر لأنهم لو كانوا ينهون عن بعض المنكرات ويأمرون ببعض وينهون عن ذلك في بعض حالاتهم دون بعض لما كانوا خير أمة أخرجت للناس لأن الامم السالفة قد نهوا عن كثير من المنكر وأمروا بكثير من المعروف في بعض الحالات دون بعض ألا ترى أنهم أمروا بالتوحيد ونهوا عن الإلحاد وأمروا بنبوة أنبيائهم ونهوا عن تكذيبهم فوجب حمل الآية على العموم في جميع الحالات
فأما الوجهان الآخران فالأمر في صحة الاستدلال معهما ظاهر دليل قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا فجمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد فلو كان اتباع غير سبيل المؤمنين مباحا لما جمع بينه وبين المحظور في الوعيد ألا ترى أنه لا يجوز أن يقول الحكيم لعبده إن زنيت وشربت الماء عاقبتك وإذا قبح اتباع غير سبيلهم وجب تجنبه ولم يمكن تجنبه إلا باتباع سبيلهم لأنه لا واسط بين اتباع سبيلهم واتباع غير سبيلهم
إن قيل إنما جمع الله بين مشاقة الرسول وبين اتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد لأن اتباع غير سبيلهم قبيح بشرط مشاقة الرسول وغير قبيح إذا لم يوجد مشاقة الرسول قيل له هذا يقتضي أن يكون من شاق الرسول يجب عليه اتباع سبيل المؤمنين مع مشاقته للرسول ومشاقة الرسول ليست معصية فقط وإنما هي معصية على سبيل الرد عليه والمعاندة له لأن من صدق بالنبي وفعل بعض المعاصي لا يقال إنه مشاق للرسول ومن كذب بالنبي صلى الله عليه و سلم ورد عليه

لا يصح أن يعلم صحة الإجماع لأنه إنما يعلم صحته بالسمع ومن لا يصح أن يعلم صحة الإجماع لا يصح أن يؤمر باتباعه في تلك الحال
فان قيل إن الله تعالى شرط في لحوق الوعيد بمن اتبع غير سبيل المؤمنين تبين الهدى واللام في الهدى للجنس فاقتضت استيعاب الهدى فكان معنى الآية من تبين جميع الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين لحقه الوعيد فيدخل ما أجمعوا عليه في جملة الهدى فيجب تقدم بيانه بدليل سوى قول الأمة ثم يتبعون فيه كما أن الإنسان إذا قال لغيره إذا تبين لك صدق فلان فاتبعه يقتضي تبين صدقه بشيء سوى قوله وقد أجيبت عن ذلك بأن تبين الهدى شرط في لحوق هذا الوعيد المذكور بمشاقة الرسول فقط لا في اتباع غير سبيل المؤمنين لأن الإنسان إنما يكون مشاقا ومعاندا إذا تبين له الحق وعرفه فكان هذا الشرط مقصورا على المشاقة فقط
ويجاب عن السؤال أيضا بأن الهدى الذي تبينه شرط في ثبوت مشاقة الرسول وفي لحوق الوعيد هو التوحيد والعدل وصدق الرسول دون تبين الهدى الذي هو الفروع ألا ترى أن من عرف التوحيد والعدل وصدق النبي صلى الله عليه و سلم وحاد عن نبوته ورد عليه كان مشاقا له وإن لم يعرف أحكام الفروع وإذا أنكر لم تكن المعرفة بأحكام الفروع وغيرها مما زاد على التوحيد والعدل والنبوات شرطا في المشاقة وفي لحوق الوعيد بها لم تكن شرطا في لحوق الوعيد بمن اتبع غير سبيل المؤمنين لأن الوعيد المعلق بهما واحد
وأيضا فان تأويل السائل يبطل فائدة تمييز المؤمنين بهذا الكلام مع علمنا أنه خرج مخرج الإعظام لهم ألا ترى أن غير المؤمنين إذا عرفنا أن قولا من أقاويلهم هذا فانه يلزمنا أن نقول مثل قولهم كما يلزمنا مثل ذلك في قول المؤمنين عند السائل على أن اتباع المؤمنين هو الرجوع إلى قولهم لأنهم قالوه

وليس اتباعهم هو مشاركتهم في قولهم لأن دليلا دل عليه ألا ترى أنا لا نكون متبعين لليهود في إثبات الصانع جل ثناؤه وفي نبوة موسى وإن شاركناهم في اعتقادهم ذلك لما لم نصر إلى ذلك لأجل قولهم
وأيضا فهذا السائل إن جعل سبيل المؤمنين على كل حال هذا فقد أوجب اتباعه في كل حال وفي ذلك الرجوع إلى قولنا وإن لم يجعله هذا على كل حال لزمه أن لا يكون اتباعه على كل حال واجبا والأمر يفيد وجوب اتباعهم على كل حال فعلمنا أنه لم يرد تبين كل الهدى
فان قيل لستم بأن تتركوا الظاهر في استغراق الهدى بأولى من أن نترك نحن ظاهر الآية في اتباع سبيل المؤمنين في كل حال ونتمسك بعموم الهدى قيل الفرق بيننا وبينكم أنكم إذا حملتم الهدى على العموم لزمكم أن تحملوا الآية على وجوه لا فائدة فيها على ما بيناه من قبل وهذا الجواب لا يقوم بنفسه إلا بما تقدم من الأجوبة وفيها كفاية
إن قيل قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين يحتمل أن يكون غير في هذا الكلام بمعنى إلا فيكون معنى الآية ويتبع إلا سبيل المؤمنين فيكون ذلك توعدا لمن لم يتبع سبيلهم ومن شك فيه توقف ولمن اتبع سبيلا غير سبيلهم ويحتمل أن يكون صفة فيكون معنى الآية ويتبع سبيلا غير سبيل المؤمنين فلا يدخل في هذا الوعيد من لم يتبع سبيلهم ولا سبيل غيرهم بل توقف فما يؤمنكم أن يكون غير ها هنا صفة فلا يكون لكم في الاية دلالة والجواب أن هذا السؤال يقتضي أن تكون الآية قد حظرت على الإنسان إذا أجمعت الامة على إباحة شيء أن يقول بحظره أو بوجوبه والمخالف لا يحظر ذلك وأيضا فالمتوقف في قولهم يتبع سبيلا غير سبيلهم فقد دخل في الوعيد ألا ترى أن من شك في نبوة النبي صلى الله عليه و سلم يوصف أنه يتبع

غير سبيل المؤمنين وأيضا فالمفهوم في قول القائل لا تتبع غير سبيل الصالحين اتبع سبيلهم
فان قالوا إنما فهم ذلك لأن اسم الصالحين مدح قيل لهم وكذلك اسم المؤمنين فيجب أن يفهم من قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين إيجاب اتباع سبيل المؤمنين
إن قيل قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين معناه ويتبع سبيلا غير سبيلهم وهذا يقتضي سبيلا واحدة قيل فيجب أن يحرم اتباع هذه السبيل لأنها غير سبيلهم والمخالف لا يحرم ذلك على أن قوله غير سبيل المؤمنين إن أفاد اتباع غير سبيلهم فهو عام في كل سبيل كان موصوفا بأنه غير سبيلهم كما أن الإنسان إذا قال من دخل غير داري ضربته فهم منه كل دار غير داره
إن قيل السبيل هو الطريق دون القول والفتوى فيجب أن يدخل في ذلك ما استطرقوه دون الفتوى قيل المعلوم أنه لم يرد ما استطرقوه من الطرق التي يمشون فيها لأنه ليس يحرم على الإنسان أن يمشي في طريق لا يمشون فيه فان كان المراد بذلك ما استطرقوه في الأدلة فيجب ما اعتقدوه دليلا أن يكون دليلا والمخالف لا يوجب ذلك على أن ما اجتباه الإنسان لنفسه وتمسك به يقال إنه سبيله سواء كان دليلا أو غيره لأنه يقال لمن حرم النبيذ إنه ليس يسلك سبيل ابي حنيفة ويقال للإنسان اسلك سبيل التجار فيفهم من ذلك افعل فعلهم في زيهم وأخلاقهم وعاداتهم فصح أن ذلك غير مقصور على الأدلة
فان قيل المجمعون صاروا إلى ما أجمعوا عليه باستدلال واجتهاد فالاجتهاد في تلك المسألة سبيلهم كما أن الحكم الذي حكموا به سبيلهم فلم أوجبتم على من بعدهم المصير إلى ما حكموا به وأسقطتم عنه الاجتهاد بأولى من أن

توجبوا عليه الاستدلال والاجتهاد وتسقطوا عنه المصير إلى حكمهم على كل حال والجواب أنا إذا أوجبنا عليه المصير إلى حكمهم كنا قد أمرناه باتباع سبيلهم في الحكم وفي الاستدلال لأن من يتبع الإجماع فقد استدل على الحكم الذي أجمعوا عليه وإن كان دليله غير دليل المجمعين وليس يجب على الإنسان أن يستدل بنفس ما استدل به غيره إذا ظفر بدليل آخر على أنه إن وجب على المكلف الاستدلال بنفس ما استدل به الأولون على الحد الذي استدلوا به فذلك يؤديه إلى الحكم الذي اتفقوا عليه لأنهم إنما اتفقوا عليه لأجل الاستدلال وفي هذا أوجبوا مشاركتهم في الحكم
فان قيل إذا اتفق أهل العصر على استباحة شيء وفعلوه بأجمعهم أيلزم من بعدهم فعله لأن فعلهم سبيلهم قيل إنما يجب عليه اعتقاد إباحته فأما فعله فلو اوجبناه مع أنهم لم يوجبوه لكان ذلك خلاف سبيلهم
إن قيل قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين لا يمنع من اجتماعهم على الكفر والردة فمن أين أنه لا يجوز ذلك عليهم قيل الآية إن لم تمنع من ذلك فهي مانعة من مخالفتهم فيما أجمعوا عليه إذا كانوا مؤمنين ولا يمتنع أن تدل على أنهم لا يجمعون جميعا على الردة
دليل آخر وأيضا فاذا اجتمع أهل كل عصر على أنه لا يجوز أن يجتمعوا على الردة كان ذلك من سبيلهم فلم يجز مخالفتهم فمتى ثبت هذا الإجماع صج الاستدلال به وقد أجيب عن السؤال بأن إيجاب الله علينا اتباع سبيل المؤمنين يقتضي أن لا يخلو عصر من الأعصار من مؤمنين حتى يصح منا امتثال الأمر باتباعهم وفي ذلك أنهم لا يجمعون جميعا على الردة وهذا الجواب غير لازم لأن إيجابه علينا اتباع سبيل المؤمنين يقتضي وجوب ذلك متى وجد مؤمنون كما يقتضي وجوب ذلك متى أجمعوا فكما لا يلزم بهذا الإيجاب أن

يجتمعوا في كل عصر حتى يصح اتباعهم فكذلك لا يجب أن يوجدوا في كل عصر
إن قيل قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين يقتضي دخول النبي صلى الله عليه و سلم فيهم لأنه عليه السلام سيد المؤمنين فيجب إذا حدث حادثة في زمان الصحابة فأجمعوا عليها أن لا تكون حجة لأنه ليس للنبي فيها قول وإنما يمكنكم أن تعلموا أن قول النبي عليه السلام فيها هو ما أجمعوا عليه إذا ثبت لكم أن الإجماع حجة قيل إن الله تعالى لم يعن النبي صلى الله عليه و سلم بقوله ويتبع غير سبيل المؤمنين وإن كان عليه السلام سيدهم لأنه لو عناه مع كافة المؤمنين لم يكن لذكر من سواه من المؤمنين فائدة إذ الحجة ثابتة بقوله والوعيد يتوجه إلى من خالف قوله دون ما عداه من المؤمنين فعلمنا أنه أراد غيره من المؤمنين ليدلنا على أنهم حجة كما أن الرسول حجة
إن قيل فيجب أن لا يكون ما أجمع عليه الصحابة حجة في زمنهم لأنه ليس في تلك الحادثة قول لمن حضر نزول هذه الآية من المؤمنين الذين ماتوا قبل وفاة النبي عليه السلام والجواب أنا لو اعتبرنا قول من كان مؤمنا في ذلك الوقت فقط للزم أن لا نعتبر قولهم لأن قول الامة في ذلك الوقت لا بد من أن يعرفه النبي صلى الله عليه و سلم فيقر عليه فتكون الحجة هي إقرار النبي عليه السلام وترك إنكاره عليه
إن قيل اسم المؤمنين يفيد أشخاصا يستحقون الثواب والمدح فيجب أن يكون الحجة هو إجماع هؤلاء دون الفساق وإن خالفهم غيرهم قيل كذلك نقول إلا أنا إذا اعتبرنا إجماع جميع أهل القبلة دخل المستحقون للثواب في جملتهم فان علمنا فسق كثير من أهل القبلة فقد ذكر أبو علي أنه يعتبر إجماع من عداهم ممن ظاهره أنه مستحق للثواب والمدح ولا اعتبار بالباطن لأن الله

تعالى لا يكلفنا اتباع سبيل المؤمنين إلا ولنا طريق إلى معرفة كونهم مؤمنين وإذا كان قد جعل لنا سبيلا إلى معرفة الظاهر دون الباطن علمنا أنه أراد اتباع سبيل من ظاهره استحقاق الثواب والمدح وأنه لم يكلفنا الباطن
إن قيل ليس يصح التعليق بالآية على قول شيوخكم ولا على قول غيرهم أما قول شيوخكم فالمؤمنون عندهم المستحقون للثواب والمدح فما يؤمنكم إذا اتفقت الامة على قول أن يكون ذلك خطأ يخرجون به من استحقاق الثواب والمدح فاذا لم يأمنوا ذلك لم يأمنوا كونهم مؤمنين إلا بعد الاستدلال بغير قولهم على أن ذلك القول حق وصواب وذلك يخرج قولهم من أن يكون دليلا على كونه صوابا وشرط كون قولهم دليلا أن يكون قولا صادرا عن مؤمنين وأنتم إنما تعلمون هذا الشرط بعد العلم بالمدلول وهو صحة قولهم
فان قلتم إنهم إذا اتفقوا على حكم هو من الفروع لم يستحقون به الذم لأن كل مجتهد في الفروع مصيب ولأنه خطأ مغفور قيل لكم المعول في ذلك هو على الإجماع فمتى لم يثبت أن الإجماع حجة لم يصح أن يعلم ذلك على أن ذلك يمنع من الاستدلال بهذه الآية على حجية الإجماع في غير مسائل الاجتهاد
فان قلتم إن الآية تدل على اتباع قول المؤمنين لأجل قولهم لا لدليل آخر على ما تقدم بيانه وذلك يقتضي كونهم معينين غير موصوفين فيجب أن يكون المراد بقوله ويتبع غير سبيل المؤمنين على موجب اللغة أو من كان ظاهره قبل ما أجمعوا على أنه مستحق للثواب لأنا إن لم نحمل الآية على ذلك لم يصح اتباع قولهم لأجل أنهم قالوه قيل لكم لستم بأن تعدلوا عن الظاهر فتحملوا الآية على التصديق أو تحملوا المؤمنين على من كان قبل ذلك الإجماع يستحق المدح في الظاهر وتمسكوا بالظاهر في وجوب اتباعهم لأجل قولهم بأولى من أن تتمسكوا علينا اتباع سبيل المؤمنين الموصوفين سواء كانوا موجودين

أو غير موجودين كما نقول اتبع سبيل الصالحين وأنت تريد صالحين موصوفين أي واتبع سبيلا من حقها أن تكون سبيل الصالحين وهي التي كانوا بها صالحين أو يكون المراد اتبع سبيل المؤمنين في ترك مشاقة الرسول فاذا اعتدل التأويلان سقط احتجاجكم بالآية
وأما غير شيوخكم فانهم وإن قالوا إن المؤمن في الشريعة هو المصدق بالله وبرسوله فانه إنما لم يصح لهم الاحتجاج بالآية لأن ظاهر قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين يدل على حظر مخالفة جماعة هم مصدقون بالله بقلوبهم وذلك لا سبيل إليه
فان قالوا المراد بذلك المؤمنون في الظاهر دون الباطن لأنه لا يجوز أن يكلف اتباع من لا سبيل لنا إلى العلم به قيل لهم قد تركتم الظاهر لأن من يظهر الإيمان ولا يعتقده ليس بمؤمن على التحقيق والآية تفيد تعليق الوعيد على من خالف من هو مؤمن على الحقيقة فان جاز لكم أن تعدلوا عن هذا الظاهر جاز لنا أن نقول المراد بالآية سبيل المؤمنين الموصوفين على ما تقدم بيانه وترك الظاهر في كون المؤمنين المذكورين في الآية معينين إن كان الظاهر يفيد كونهم معينين فنترك ظاهرا في الاية ونتمسك بغيره كما تركتم ظاهرا في الاية وتمسكتم بغيره
دليل قوله تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وقد قيل إنه استدل بذلك بأن أمر بالاعتصام بحبل الله على أنهم قد اعتصموا به وهذا باطل لأن الأمر لا يدل على وقوع امتثاله
ويمكن أن يستدل بالآية من وجوه أخر
منها أن يقال إذا أجمع أهل العصر على قول لم يجز لبعضهم أن يترك هذا

القول لأنهم إذا فعلوا ذلك كانوا قد تفرقوا والله تعالى قد نهى عن ذلك والجواب أنه إن كان ما أجمعوا عليه حقا فقد حرم عليهم التفرق عنه وإن كان خطأ وجب عليهم بأجمعهم العدل عنه والإجماع على الحق وأن لا يتفرقوا عنه فقد قال المخالف إنه يحرم عليهم التفرق وإن لم يحصل الإجماع حقا
ومنها أن يقال إذا أجمع أهل العصر على قول لم يجز لأهل العصر الثاني أن يخالفوهم لأنه إذا خالفهم أهل العصر الثاني كان أهل العصر الثاني قد تفرقوا والجواب أنه لا يوصفون بأنهم متفرقون إذا أجمعوا على مخالفة أهل العصر الأول فان افترقوا هم على قولين فقد نهوا عن ذلك لأنه يجب عليهم الاجتماع على الحق
ومنها أن يقال إذا خالف أهل العصر الثاني لأهل العصر الأول فقد صار أهل العصر الأول مع الثاني متفرقين والنهي يمنع من ذلك والجواب أن أهل العصر الأول غير موجودين في هذه الحالة فيقال إنهم مع أهل العصر الثاني منهيون عن التفرق وأيضا فان المفهوم من قوله تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا وقوله ولا تفرقوا هو أن لا يتفرقوا في الاعتصام بحبل الله كما أن المفهوم من قول الإنسان لعبيده ادخلوا الدار أجمعين أي لا تتفرقوا في دخول الدار فيجب على المستدل أن يبين ما أجمع أهل العصر عليه اعتصام بحبل الله تعالى حتى يعلم من بعدهم أنهم قد نهوا عن مفارقتهم وهذا غير ظاهر لأن قوله ولا تفرقوا مطلق في النهي عن التفرق فيتناول كل شيء
دليل قال الله تعالى يآيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول فشرط التنازع في وجوب الرد إلى الكتاب والسنة فدل أنهم إذا لم يتنازعوا لم يجب الرد لأن

تعليق الحكم بالشرط يدل على أن ما عداه بخلافه
ولقائل أن يقول أيسقط وجوب الرد إلى الكتاب والسنة ويصير ترك ذلك مباحا إذا اتفقوا على الحكم بالرد إلى الكتاب والسنة أو إذا اتفقوا على ذلك من غير رد إليهما فان قلتم بالثاني جوزتم وقوع الإجماع من غير دليل وجواز ذلك يمنع صحة الإجماع وإذا قلتم بالأول نسبتم إلى الله تعالى ما لا يجوز لأن طلب الحكم من الكتاب والسنة بعد ما وجد منهما محال إذ طلب ما هو موجود عند الطلب مستحيل فإباحة ترك المستحيل عبث لا يصدر عن حكيم
فان قيل فما المراد بالآية قيل المراد بها الحث على طاعة أولى الأمر وهم الأمراء فما تدبروا به من أمر الدين والدنيا مما لا نعلم أنه خطأ فان ظننا أنه خطأ ونازعناهم فيه رددناه إلى الله ورسوله وهذا كما لو قال الإنسان لعبيده أطيعوا من أوليه عليكم فان تنازعتم وتخالفتم فردوه إلي لفهم منه ما ذكرناه
دليل وهو قول النبي صلى الله عليه و سلم لا تجتمع أمتي على خطأ فنفى جميع الخطأ عن إجماعهم لأن ذلك نفي لنكرة تعم ومما أجمعوا عليه أنه لا يجوز مخالفة ما أجمعوا عليه فيجب كون ذلك صوابا غير خطأ وينبغي أن يتشاغل بتثبت الخبر ثم بالكلام في متنه وقد سلك الناس في تثبيته وجوها
منها أن الخبر وإن نقل بالآحاد فان معناه بالتواتر روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال أمتي لا تجتمع على ضلال وقال يد الله مع الجماعة وقال الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين ابعد وقال ما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن وقال من خالف الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه قالوا فجرى ذلك مجرى ما تناقل بالآحاد من تفاصيل سخاء حاتم في أنه قد صار بإجماعه متواترا ولقائل أن يقول إن هذه الأخبار تبلغ خمسة أو ستة ولو روى خمسة نفر أو ستة خبرا لم يجب أن يكون معلوما

ولو وجب أن يكون بعض هذه الأخبار صحيحا لم يمنع أن يكون الصحيح منها قوله الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين ابعد وذلك يدل على أن الأغلب فيما اجتمع عليه كونه صحيحا وليس ذلك من الأخبار عن سخاء حاتم بسبيل لأنه لا يمكن لأحد أن يخالف في سخاء حاتم ويمكن أن يخالف في هذه الأخبار
ومنها أن التابعين اعتقدوا بأجمعهم صحة الإجماع ولم يظهر فيما بينهم شيء لأجله صاروا إلى هذا الرأي إلا هذا الخبر فعلمنا أنهم صاروا إليه لأجله والعادة في أمتنا أنها لا تجتمع على موجب خبر إلا وقد قامت الحجة به ألا ترى أنه ما نقل بالآحاد ولم تقم الحجة به لم يتفقوا على موجبه لما كان حكمهم بموجبه موقوفا على الاجتهاد في حال الراوي ولقائل أن يقول إني لا أعلم أن جماعة التابعين اعتقدوا كون الإجماع حجة كما لا أعلم ذلك في أهل هذا العصر سيما وقد روي عن بعضهم أنه قال في قول القائل لامرأته أنت حرام أنه ليس بشيء وهذا بخلاف إنما أفتت به الصحابة ولو ثبت أنهم أجمعوا على ذلك لم نأمن أن يكون إنما اعتقدت صحة الإجماع لأجل الآيات فقط لا للخبر ولو علمنا أنهم اعتقدوا صحة الإجماع لأجل الخبر لم نعلم أنه صحيح لأنهم إن قالوا فإنه لا يجوز أن يعتقدوا صحة الإجماع بخبر لم يقم به الحجة لأن ذلك خطأ والامة لا تجتمع على خطأ كانوا قد سلموا صحة الإجماع وبنوا عليه الدليل فان أوجبوا ذلك لأن الحكم بخبر الواحد موقوف على الاجتهاد في حال الراوي وذلك يمنع من اتفاق جماعتهم على موجبة قيل لهم أليس يجوز أن يجمعوا على الحكم من جهة القياس والاجتهاد ويجوز من جهة العقل أن يجمعوا من جهة الشبه وإن أوجبوا ذلك لأنهم استقرءوا الأخبار فوجدوا ما كان منها قد قامت الحجة به قد اتفقوا على موجبه وما لم تقم الحجة به لم يجمعوا عليه ألا ترى أن أخبار الآحاد في الفقه لم يجمعوا على موجبها قيل لهم ولم زعمتم أن عادتهم مستمرة بذلك في كل ما لم تقم الحجة به من الأخبار وما أنكرتم أن يكون هذا الخبر لم تقم الحجة به وأجمعوا على

موجبة وقد تركت الصحابة آرائهم بخبر حمل بن مالك وصاروا إلى خبر عبد الرحمن في المجوس وأجمعوا على أنه لا تنكح المرأة على عمتها بخبر واحد
وإن قالوا لم يجمعوا على ذلك إلا لقيام الحجة به قيل تثبتوا ذلك حتى يصح استدلالكم ولو كانوا أجمعوا على ذلك لقيام الحجة بهذه الأخبار لم يصح الاستدلال بذلك على قبول الأخبار المظنونة
فان قالوا أليس بعض أخبار الآحاد لم يجمعوا على موجبها قيل إنا لم نوجب أن يجمعوا على موجب خبر الواحد وإنما جوزنا ذلك وجوزنا خلافه فلم يلزمنا ما ذكرتم
فان قيل لا يجوز على التابعين مع شدة تدينهم وإعظامهم للدين أن يقطعوا على كون شيء حجة في الشرع بما لا يوجب القطع واليقين كما لا يجوز والحال هذه أن يقبلوا خبر واحد في جواز نسخ الشرع بحسب شهوات بعضهم والجواب أنه يجوز أنهم اعتقدوا ذلك لشبهة كما اعتقد كثير من أصحاب الحديث في الله تعالى ما يستحيل عليه لأخبار آحاد بالتقليد ولا يمتنع أن يكونوا ظنوا صدق الراوي ولم يقطعوا به فظنوا أن الإجماع حجة واعتقدوا وجوب ما أجمعوا عليه لأنهم قد ظنوا صحته كما اعتقدوا وجوب قبول خبر الواحد في الأحكام إذا ظنوا صدق الراوي وما ذكروه من اعتقادهم النسخ بحسب الشهوات فانه يجوز عليهم أن يقبلوا خبرا مرويا في ذلك إلا أن يعلم أن إجماعهم حجة أو يعلم أنهم قد استبعدوا تغير الشرع بحسب شهوات الناس فمنع هذا الاستبعاد من إجماعهم على صحة الخبر وليس اتفاق الامة على الحق بمستبعد كاستبعاد تغير الشرع بالشهوات بل الأغلب عند الناس أن الحق لا يخفى على الجمع الكثير والناس الشريفة يعظمون الامة فالخبر الواحد ينفي الخطأ عنهم ويطابق هذا المستقر في أنفسهم وورود الخبر بنسخ الشريعة بحسن الشهوات ينافي لما تكن في نفوس الامة

وليس يمتنع أن يستدل مستدل على وجوب المصير إلى الإجماع بأخبار الآحاد لأن العقل عندنا يدل على وجوب قبول خبر الواحد من حيث التحرز عن المضار فاذا روى الواحد عن النبي صلى الله عليه و سلم أن أمته لا تجتمع على خطأ ظننا أنهم كذلك ولزمنا العمل بما حكموا به كما أن المسافر لو أخبره من ظاهره الصدق عن بعض من يثق به أنه يأمر بالرجوع في سفره إلى رثد في طريقه فانه لا يغلط أو أنه قليل الغلط في السفر لزمه الرجوع إليه إذا غلب على ظنه صدق الراوي وإصابته من أمره بالرجوع إلى رثد إلا أن هذه الأخبار لا تقتضي القطع على إصابة المجتمعين وإنما يسوغ الاستدلال بالإجماع في الأعمال دون العلوم
فأما الكلام في متن الخبر فقد تقدم طرف منه وهو كيفية الاستدلال به ويرد عليه وجوه
منها أن يقال هلا كان الخطأ المنفي عنها هو السهو وليس هو خلاف الحق والجواب أن الجماعة المعظمة لا تجتمع على السهو كما لا يجوز أن تجتمع على مأكل واحد فلو كان المراد ما ذكروه لم يكن فيه فائدة كما لو قال أمتي لا تجتمع على مأكل واحد وأيضا فجميع الامم لا يجوز أن يجتمعوا على السهو فمدح هذه الأمة بذلك وتخصيصهم به لا فائدة فيه
ومنها أنه روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لم يكن الله ليجمع أمتي على الخطأ قالوا ونحن نقول بذلك لأن الله تعالى لا يحمل العباد على الخطأ والجواب أنا نجمع بين الخبرين فنقول لا يجتمعون على الخطأ ولم يكن الله ليجمعهم على الخطأ على أن الله تعالى لا يحمل أحدا على الخطأ فلو كان المراد بالخبر هذا لم يكن في تخصيص الامة به معنى
ومنها أنه روي أنه قال أمتي لا تجتمع على ضلال والضلال هو الكفر دون غيره والجواب أنا نجمع بين ذلك وبين الخبر النافي لأنواع الخطأ عنهم

وأيضا فكل معصية ضلال لأنه قد عدل بها عن الحق ومنه قوله تعالى قال فعلتها إذا وأنا من الضالين
ومنها أن يقال ما المراد بأمة النبي صلى الله عليه و سلم فيقال اختلف الناس في ذلك فقال قوم أمته كل من بعث إليه وقال آخرون بل هم كل من صدقه وهو الصحيح لأنه المفهوم من إطلاق قولنا أمة النبي ولأن المسلمين يدعون لأمة محمد ولا يدعون لكل من بعث النبي إليه فان قيل فيجب أن يقع قوله أمتي على من صدقه إلى انقطاع التكليف لأنه ليس فيه بعد ذلك تكليف فيحتج فيه بالإجماع والجواب أن قوله عليه السلام أمتي لا تجتمع على خطأ لا يتناول إلا من كان في ذلك العصر دون من لم يوجد لأن من لم يوجد لا يكون مصدقا في تلك الحال ولقائل أن يقول إن كان المراد بقوله أمتي لا تجتمع على خطأ كل من صدقه إلى انقطاع التكليف لم يكن في الخبر دلالة على أن الإجماع حجة ووجب أن يكون المراد بالخبر ما ذكرناه وإن كان المراد بالخبر من هو موجود بمن صدقه وجب أن لا يدخل تحت الخبر إلا من كان موجودا من أمة النبي صلى الله عليه و سلم عند قوله أمتي لا تجتمع على خطأ فلا يمكن والحال هذه أن تستدلوا باجماع الصحابة بعده مع علمهم أن كثيرا ممن كان حيا عند ورود هذا الخبر من النبي صلى الله عليه و سلم قد توفي أو تجويزكم أنه توفى وما تنكرون أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم إنما عنى بهذا الكلام أن من عاصر هذا القول فيه لا يجتمع على خطأ ولم يكن قصده أن يجتمع بقولهم لأنهم إذا أجمعو على شيء فأقره النبي صلى الله عليه و سلم فالحجة هي إقراره فان قلتم إن المصدقين به بعد وفاته هم أمته فدخلوا تحت ظاهر الخبر قيل لكم إنما يدخلون تحته لو كانوا جميع أمته وليسوا جميع أمته بل جميع أمته هم مع تقدمهم
ومنها قولهم ولم إذا كانوا ما أجمعوا عليه ليس بخطأ فيكون حجة فان قلتم لأن الأمة أجمعت على أنه لا يجوز مخالفة ما أجمعوا عليه قيل لكم ومتى

أجمعوا على ذلك وفيهم من يقول يجوز أن يجتمعوا على خطأ فان أدعيتم أن الصحابة والتابعين كلهم كانوا يعتقدون أن الامة لا تجتمع على خطأ لم يسلم الخصم لكم ذلك قيل قد أجاب قاضي القضاة عن السؤال بأن المعتبر هو بإجماع من يقول إن الأمة لا تجتمع على خطأ وإن جاز مخالفتهم لكان هذا القول الحق قد أخرج عن أقاويل الامة لأنه ليس فيهم من جمع بين هذين القولين وفي ذلك اتفاقهم على الخطأ في مسألتين وسيجيء القول في ذلك
دليل الجماعات الكثيرة على اختلاف هممهم وأغراضهم لا يجوز أن يتفقوا على قول إلا لداع ولا يجوز أن يكون التقليد هو الذي دعاهم لأن كثيرا منهم يبطل التقليد ولو دعتهم الشبهة لنقلت ونقل خوضهم فيها فاذا لم تنقل علمنا أنه بحجة قاطعة ويجري مجرى اتفاقهم على رواية ما شاهدوه في أنه لا يجوز الخطأ عليهم فيه والجواب أن العقل يجيز اتفاق الجماعات الكثيرة على الخطأ من جهة الرأي ويلزمهم على ما قالوه أن لا يجوز اتفاق جميع الأمم على خطأ وكذلك كل جماعة من الأمة يقع العلم بخبر مثلها ويلزم إذا نقلوا ما أجمعوا لأجله أن يجوز وأن كونه شبهة لأنهم إنما أحالوا أن يجمعوا عن شبهة لا تنقل وعلى أنه لا يمتنع أن يكون بعضهم صار إلى القول بشبهة ثم قلدهم الباقون لمحبتهم لهم وانصراف أهوائهم إليهم أو لاستثقالهم النظر وتصويبهم التقليد وعلى أن كثيرا من الناس يظهر القول بفساد التقليد ثم ينظر في الدليل فاذا شق عليه استعماله قطع النظر وقلد ولا يمتنع أن يكونوا بأجمعهم صاروا إلى القول بشبهة فظنوها حجة فأضربوا عن نقلها لظنهم أنها حجة كما يضربون عن نقل الحجة إذا أجمعوا على موجبها
والفرق بين رواية الجماعة الكثيرة عما شاهدته وإن لم يقع اللبس فيه وبين ما قالته من جهة الرأي أن الرأي يعترضه الشبهة والأهواء فتصير الأهواء مع التقصير في النظر الشبهة بصورة الحجج فلا يؤمن أن يكونوا اتفقوا لذلك وهذا صنف عما شاهدوه وزال اللبس فيه لأن كل واحد منهم عالم بما

شاهدوه ولا يجوز مع كثرتهم أن يخبروا بما يعلم كل واحد منهم أنه كان فيه وأن غيره يعلم أنه كاذب فيه
دليل قد ثبت دوام شرعنا إلى انقضاء التكليف فوجب أن يكون قول الامة حجة ليدوم قيام الدلالة على اتصال الشرع والجواب أن الحجة في ذلك القرآن والاجتهاد والأخبار على أن شرعنا منقطع بانقطاع التكليف كانقطاع شرع من قبلنا بالنسخ فدوام كل واحد من الشرعين كدوام الآخر أو تقارنه فكما لا يجب أن يكون قول إحدى الامتين حجة لم يجب في الأخرى مثله
وأما من خالف في الإجماع فانه يسلك مسالك ثلاثة أحدها أن يحيل وقوع الإجماع والآخر أن يحيل ثبوت الطريق إليه والآخر أن يقول ليس في العقل ولا في السمع دليل عليه
أما إحالة الإجماع فمن وجهين
أحدهما أن يقول يستحيل أن يجوز على كل واحد من الأمة الخطأ ولا يجوز على جماعتهم كما يستحيل أن يكون كل واحد منهم مصيبا وجماعتهم غير مصيبين وأن يكون كل واحد منهم أسود وجماعتهم غير سود والجواب أن المستحيل هو أن يقال إن كل واحد من الامة يجوز كونه مخطئا في القول الذي اتفقوا عليه وجماعتهم غير مخطئين فيه ولم نقل ذلك وإنما نقول إن كل واحد منهم يجوز أن يكون قوله خطأ إذا انفرد وإذا اجتمع مع جماعة الامة لم يكن قوله خطأ وليس يمتنع أن يفارق الواحد الجماعة ألا ترى أن كل واحد منهم يجوز أن يأكل اليوم مأكلا مخصوصا ولا يجوز أن يجتمعوا على أكله في ذلك اليوم ونظير ما ذكروه أن نقول كل واحد منهم مخطىء والكل في ذلك القول غير مخطىء وهو نظير قول القائل الكل ليسوا بسود وكل واحد منهم أسود ونظير قولنا في الإجماع أن نقول كل واحد من الناس

يجوز أن يكون أسود في البلد الفلاني فان اجتمعوا في بلد آخر لم يكونوا سودا بل بيضا
والوجه الآخر في إحالة الإجماع قولهم لو انعقد الإجماع لكان إن انعقد عن نص وجب نقله والاستغناء به ولا يجوز انعقاده عن أمارة لأنهم على كثرتهم واختلاف هممهم لا يجوز اتفاقهم عن الأمارات المظنونة والجواب أنه لا يمتنع أن يتفقوا عن نص لا ينقلوه اكتفاء بالإجماع أو ينقل ويكون محتملا فيستغنى بالإجماع عن النظر فيه ويجوز اتفاقهم عن أمارة كما جاز اتفاق الجماعات عن شبهة
وأما من قال لا طريق إلى إثبات الإجماع فسيجيء في باب منفرد ومن قال لا دليل على صحة الإجماع فقوله باطل لما تقدم من الدليل
باب في الاتفاق بماذا يكون اعلم أن الاتفاق يكون من الجماعة بالفعل نحو أن يفعلوا بأجمعهم فعلا واحدا ويكون بالقول ويكون بالرضا نحو أن يخبروا عن أنفسهم بالرضا ونحو أن يظهر القول فيهم ولا يظهرون كراهية مع زوال التقية وقد يجتمعون على الفعل وعلى القول وعلى الإخبار عن الرضا في مسألة واحدة وكل هذه الأشياء أدلة على الاعتقاد لحسن ما رضوا به ولوجوبه على أن اتفاقهم على الفعل يدل على حسنه من حيث كان العقل دليلا على اعتقادهم لحسنه ومن حيث كانوا قد اتفقوا على فعله لأنه لو كان خطأ ما اجتمعوا على فعله كما لا يجتمعون على اعتقاد حسنه وقد يجتمعون على ترك القول في الشيء وعلى ترك فعله فيدل ذلك على أنه غير واجب لأنه لو كان واجبا لكان تركه محظورا وفي ذلك إجماعهم على المحظور ويجوز أن يكون ما تركوه مندوبا إليه

لأن تركه ليس بمحظور وذلك نحو أن يتركوا اعتقاد الأفضل من بعض أهل الأعصار باب في أنه لا اعتبار في الاجماع بجميع من بعث النبي صلى الله عليه و سلم إليه
اعلم أن جميع من بعث إليه النبي صلى الله عليه و سلم هم المكلفون إلى انقضاء التكليف من مؤمن وكافر ومجتهد وغير مجتهد ولا اعتبار بالكافرين في الإجماع لأنه لا يمكنهم معرفة الأحكام الشرعية فوقوف الإجماع عليهم يؤدي إلى تعذر الإجماع لوقوفه على ما هو متعذر ولأن الإجماع لا تعلم صحته إلا بالسمع وأدلة السمع لا تتناول الكافر كقوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين وقوله كنتم خير أمة أخرجت للناس وقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس الآية وقوله صلى الله عليه و سلم امتي لا تجتمع على خطأ وهذا الاسم لا يفهم من إطلاقه الكافر ولا اعتبار في الإجماع بكل المؤمنين إلى انقضاء التكليف لأن في أدلة الإجماع ما يقتضي أن أهل العصر الواحد حجة ولأن الإجماع حجة فلو اعتبرنا في الإجماع جميع المكلفين إلى آخر التكليف لم يكن حجة لأنه ليس بعدهم تكليف فيكون إجماعهم حجة فيه
فان قيل يكون حجة على من أجمع معهم ثم فارقهم قيل كيف يكون حجة عليه ولا يؤمن أن يحدث بعدهم من يخالفهم فلا يكون جميع المكلفين إلى انقضاء التكليف متفقين على ذلك الحكم
وأما غير المجتهدين فذكر قاضي القضاة أن الأقوال المنتشرة في الامة ضربان أحدهما منتشر في الخاصة فقط كمسائل الاجتهاد والآخر منتشر في

الخاصة والعامة وذلك ضربان أحدهما معلوم باضطرار من دين النبي صلى الله عليه و سلم والثاني غير معلوم من دينه باضطرار فالمعلوم من دينه باضطرار كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان وتحريم البنت وما أشبه ذلك وما هذه سبيله يستغنى في الاحتجاج عليه عن قول منقول عن النبي أو إجماع والصحيح أن ذلك معلوم من الدين باستدلال لأنا لو نعلم تواتر النقل عن النبي عليه السلام بتحريم البنت أو تواتر نقل القرآن وأنه لا يجوز أن يحرم شيئا إلا وهو معتقد لتحريمه لم نعلم أنه يعتقد تحريم ذلك ألا ترى أنه لو لم ينقل إيجاب صوم شهر رمضان عنه لم يعلم دينه في ذلك وكذلك لو علمنا النقل في ذلك وجوزنا أن يوجب ما لا نعتقد وجوبه علينا لم يعلم ذلك وكذلك القول في كل ما يدعى أنه معلوم باضطرار أنه من دين النبي صلى الله عليه و سلم وإنما اشتبهت الحال فيه لأن العلم بأنه من دينه ظاهر ولم يحصل فيه نزاع بين الامة
وأما الأقوال المنتشرة في الخاصة والعامة وهي معلومة من الدين باستدلال فذكر قاضي القضاة أن منها تحريم بنت البنت وأن بنت الخالة مخالفة في التحريم للخالة ومعرفة أوقات الصلوات
ولقائل أن يقول أما معرفة أوقات الصلوات على التفصيل فمن مسائل الاجتهاد لأنه يدخل في تفصيل ذلك معرفة آخر الوقت وذلك مجتهد فيه وأما معرفة أوقات الصلوات على الجملة وتحريم بنت البنت فالعامة إنما تعرف ذلك يالرجوع إلى العلماء لا بالاستدلال لأن المكلف إنما يعرف ذلك استدلالا بظواهر تعلم أنها قد تجردت عما يعارضها وإنما يعلم عدم ذلك بعد أن يفتش الشريعة والعامة لم تنظر في هذه الظواهر ولا فتشت عما يعارضها
فأما مسائل الاجتهاد فقد اختلف الناس في اعتبار العامة فيها فقال قوم إن العامة وإن وجب عليها اتباع العلماء فان اجماع العلماء لا يكون حجة على أهل العصر الثاني حتى لا تسوغ مخالفتهم إلا بأن يتبعهم العامة من أهل عصرهم فان لم يتبعوهم لم يجب على أهل العصر الثاني من العلماء اتباعهم وقال

آخرون إجماع العلماء حجة على من بعدهم اتبعهم عوام عصرهم أو لم يتبعوهم
واحتج الأولون بأنه إنما كان قول الامة حجة لانها بأجمعها معصومة من الخطأ وليس يمتنع أن تكون جماعتهم الخاصة والعامة معصومة من الخطأ فاذا لم يمتنع ذلك وكانت ظواهر الإجماع تتناول الخاصة والعامة وجب اشتراط دخول العامة ووجب القول بأن اللطف إنما يثبت للامة بأجمعها وهذا هو الإجماع في قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين وهذا يتناول العلماء وغيرهم وقوله كنتم خير أمة أخرجت للناس وقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا الآية كل ذلك خطاب مواجهة يتناول جميع من كان في ذلك العصر من الامة كالخطاب بالعبادات
واحتج الذاهبون إلى القول الثاني بأن العامة يلزمها المصير إلى قول العلماء فهو كالمنصرف فيها فلم يكن بقبولها اعتبار
ولقائل أن يقول ولم إذا وجب عليها المصير إلى قول غيرها لا يعتبر بقولها وما أنكرتم أنه وإن وجب ذلك عليها فانه لا يكون حجة من دونها ويمكن أن يحتج في المسألة أيضا فيقال إن الأمة إنما يكون قولها حجة إذا قالته بالاستدلال لأنه لا يجوز أن تحكم بغير دليل فهي إنما عصمت من الخطأ في استدلالها والعامة ليست من أهل النظر والاستدلال على الحوادث فتعصم منه
فان قالوا لا يمنع أن يكون اللطف ثابتا لجماعة الامة مجتهدها وغير المجتهد منها ولا يكون لبعضها لطف يعصمها من الخطأ قيل إذا كان اللطف إنما يعصم من الخطأ في الاستدلال ولم يكن من العامة استدلال لم يصح أن تكون معصومة فيه وبهذا الوجه يخص ظواهر الآيات


باب في إجماع أهل الأعصار ذهب أكثر الناس إلى أن إجماع أهل كل عصر حجة على من بعدهم وقال أهل الظاهر إجماع الصحابة وحده حجة دون غيرهم من إجماع أهل الأعصار
ودليل الأولين أن أدلة الإجماع لا تخص عصرا دون عصر لقوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين والتابعون مؤمنون وكذلك أهل كل عصر وقوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا وقوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس وقوله صلى الله عليه و سلم لا تجتمع أمتي على الخطأ
والمخالف يحتج بأشياء منها الإجماع إنما عرف كونه حجة بالشرع والأدلة السمعية تختص بالصحابة دون غيرهم لأن قوله كنتم خير أمة أخرجت للناس وقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا خطاب مواجهة يتناول ظاهره الحاضرين وهم الصحابة دون غيرهم فلا يمتنع أن يكون الله تعالى عناهم بالخطاب ليميزهم بهذا المدح وقوله ويتبع غير سبيل المؤمنين يتناول الصحاب فأما التابعون فالخطاب لا يتناولهم وحدهم بل يتناولهم مع ما تقدم من الصحابة لأن المؤمن هو المستحق للثواب سيما وهذا الخطاب خرج مخرج المدح والصحابة بعد موتهم يستحقون المدح والثواب وإذا كان المؤمنون هم التابعون مع ما تقدم من الصحابة فاستحال أن يكون لمن تقدم من الصحابة قول في الحادثة في زمن التابعين واستحال أن يكون لجماعة المؤمنين قول أو لم يكن إذ المخالف في الحالتين مخالف لبعض المؤمنين لا لجميعهم
فان قلتم إذا لم يجز أن يعني الله تعالى بقوله ويتبع غير سبيل المؤمنين

من تقدم من الصحابة لأنه لا يمكن أن يكون لهم قول فيما حدث بعدهم وجب أن يعني الله تعالى بقوله التابعين دون من تقدم فيدخل من خالفهم تحت الوعيد قيل إنه لم يعن من تقدم لما ذكرتم ولا عنى الحاضرين من التابعين لأنهم بعض المؤمنين وإنما عنى من يطلق عليه في وقته أنه جماعة المؤمنين وليس ذلك إلا الصحابة فقلنا إن إجماع الصحابة وحدهم حجة وكذلك قوله لا تجتمع أمتي على ضلال لا يتناول التابعين وحدهم لأنه لا يطلق عليهم في عصرهم أنهم جميع أمة النبي عليه السلام بل يقال إنهم بعض أمته ويطلق القول في عصر الصحابة بأنهم الآن جميع أمته الجواب إن هذا السؤال لا يتوجه على من قال إن اسم المؤمنين اشتقاق من التصديق لأن من لم يصدق في الحال حتى مات لا يطلق عليه اسم مؤمن ولا يوصف ايضا بأنه ليس بمؤمن لأنه يوهم أنه كان مؤمنا
ولا يلزم الشيخ أبا هاشم رحمه الله لأن لام الجنس لا يوجب الاستغراق ويجوز أن يدخل تحته ثلاثة فصاعدا فمتى تركنا وظاهر قطعنا على أنه قد أريد به ثلاثة فلم يجب أن يكون أريد بالمؤمنين مجموع الصحابة والتابعين إلا أن الإجماع الذي يعرفه الخصم قد منع أن يراد بالآية بعض أهل العصر فأخرجناه في الخطاب ووجب أن يراد به جميع أهل العصر وأما من يقول إن لام الجنس استغراق فله أن يقول ليس يخلو إما أن نريد بهذه الآيات من حضر عند حدوث الحادثة ولا بغير من تقدم موته من المؤمنين وذلك قولنا أو بغير من تقدم وذلك يمنع من كون إجماع الصحابة حجة لأن من مات قبل وفاة النبي صلى الله عليه و سلم هو مؤمن وليس له في الحادثة قول
فان قيل فما الجواب لمن سأل عن هذا السؤال ممن لا يقول إن إجماع الصحابة ولا غيرهم حجة قيل قد تقدم في الباب الأول
واحتجوا بقوله صلى الله عليه و سلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم قالوا فحكمة بأن الاقتداء بأصحابه اهتداء الجواب أن ذلك لا يمنع من كون

التابعين مثلهم في ذلك على أن قوله بأيهم اقتديتم اهتديتم يتناول آحادهم وليس قول كل واحد منهم حجة على المجتهدين فعلمنا أنه إنما حث بذلك العامة على استفتاء كل واحد منهم
واحتج بأن الصحابة قد اختصت بمشاهدة النبي عليه السلام والحضور عند الوحي فكان لهم مزية بذلك الجواب ولم قلتم إن ذلك يوجب أن يكون لهم مزية في كون قولهم حجة دون غيرهم
واحتجوا بأن قول التابعين لو كان حجة لكان إنما صاروا إليه عن نص متواتر أو غير متواتر أو عن أمارة اجتهدوا فيها ولو كان كذلك لما ذهب كل ذلك على الصحابة لأنهم لا يكونون أدنى رتبة من التابعين الجواب أنه لا يمتنع أن لا تحدث الحادثة في الصحابة فلا يفحصوا عن نص وارد فيها ولا عن أمارة مجتهد فيها فلا يظفروا بها ويظفر التابعون بها إذا اضطروا إلى طلبها عند حدوث الحادثة ولا يمتنع أن تحدث الحادثة في زمن الصحابة فيختلفون فيها ويتفق التابعون فيها على أحد أقوالهم فيظفر التابعون في ذلك القول بما لم يظفر به أحد الطالبين من الصحابة لأن قول بعض الصحابة به ليس بحجة
باب في وجوب اعتبار المجتهدين كلهم من أهل العصر الواحد في الإجماع يضمن هذا الباب فصولا منها أن أكثر أهل العصر لا يكون إجماعا ومنها اعتبار المجتهد من التابعين إذا عاصر الصحابة ومنها اعتبار المجتهد وإن لم يشتهر بالفتوى ومنها اعتبار أهل الأمصار كلهم
أما الفصل الأول فقد بين أكثر الناس أن أهل العصر إذا اتفقوا على قول إلا الواحد والاثنين من المجتهدين لا يكون حجة وقال أبو الحسين الخياط إن ذلك حجة

ودليل الأولين أن أدلة الإجماع لا تتناولهم إذا خرج عنهم الواحد لأن قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين لا يتناول إلا جميع أهل العصر على قول من قال إن لام الجنس تعم ومن قال لا تعم فانه لا يوجب استغراقها للأكثر حتى لا يبقى إلا الواحد والاثنان بل يجعلها حقيقة في الثلاثة والمخالف لا يجعل قول الثلاثة حجة وقوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا وقوله كنتم خير أمة أخرجت للناس وقوله صلى الله عليه و سلم لا تجتمع أمتي على ضلال يتناول جميع أهل العصر لأن أكثرهم يقال لهم بعض الأمة ولا يطلق وصفهم بأنهم الأمة وأيضا ففي الصحابة من تفرد بأقاويل لم توافقه عليها الجماعة ولم تنكر عليه كتفرد ابن عباس بمسائل في الفرائض وكذلك ابن مسعود رضي الله عنهما
واحتج المخالف بأشياء
منها قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين وقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس وقوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس وقوله عليه السلام لا تجتمع أمتي على ضلال قالوا وهذه الأسماء تتناول حقيقة جميع المؤمنين وجماعة الأمة وإن شذ منهم الواحد كما أن الإنسان يقول رايت بقرة سوداء وإن كان فيها شعرات بيض ويقول أكلت رمانة وإن سقط منها حبات لم يأكلها والجواب أن أسماء الجمل والعموم لا تتناول الأكثر إلا مجازا ألا ترى أنه يجوز أن يقال في الأمة إلا الواحد ليس هؤلاء كل المؤمنين ولا كل الأمة فعلمنا أن اسم الكل لم يتناول إلا الجميع وقول الإنسان أكلت الرمانة وهو يريد أكثرها مجاز وكذلك الوصف للبقرة بالسواد إذا كان فيها شعرات بيض ولا يمتنع أيضا أن يكون الوصف للبقرة بالسواد يفيد في العرف كونها سوداء في

رأي العين فلا يمنع ذلك وجود شعرات بيض فيها ولا يمتنع أن يكون قول القائل أكلت رمانة معناه في العرف أكلت ما جرت العادة بأكله وليس يكاد ينفك الرمانة من حبات تتساقط منها فذلك خارج من الكلام بالعرف وليس يجب إذا نقل العرف ذلك أن ينقل غيرها من الأسماء
ومنها قول النبي صلى الله عليه و سلم عليكم بالسواد الأعظم وأهل العصر كلهم إلا الواحد والاثنان هم السواد الاعظم ويقال عليكم بملازمة الجماعة وذلك يتناول أهل العصر إلا الواحد والاثنين والجواب أن ذلك في أخبار الآحاد ويقتضي أن يجب اتباع الثلاثة والأربعة لأنهم جماعة وبطلان ذلك يدل على أنه عنى بالجماعة جميع أهل العصر وأما السواد الأعظم فهم جميع أهل العصر لأنه ليس أعظم منه ولو لم يكن المراد ما ذكرناه لدخل تحته النصف من أهل العصر إذا زادوا على النصف الآخر بواحد أو اثنين أو ثلاثة فان قيل قوله عليه السلام عليكم بالسواد الاعظم يقتضي أن يكون حجة على غيرهم ممن ليس هو من السواد الأعظم وذلك لا يتم إلا بأن يكون في العصر غيرهم ممن لم يجمع معهم والجواب أنه يجوز أن يكون حجة على من يأتي بعدهم ممن هو أقل منهم عددا
ومنها قولهم إن الواحد من أهل العصر إذا خالف من سواه من أهل العصر يوصف بالشذوذ وذلك اسم ذم ولذلك أنكرت الصحابة على ابن عباس مقالته في الربا والجواب أنا لا نسلم أن الواحد شاذ إلا إذا خالف بعد ما وافق وابن عباس لم ينكر عليه الصحابة لأن قول غيره حجة عليه لكن لأجل خير ابي سعيد
ومنها قولهم إن أهل العصر إلا الواحد والاثنان لو أخبروا بشيء وقع العلم بخبرهم فيجب مثله في إجماعهم والجواب أنهم جمعوا بين الموضوعين بغير علة وعلى أنه يلزم أن يكون أهل بلد واحد حجة إذا أجمعوا أن بروايتهم يقع العلم فان فصلوا بين إجماعهم وبين خبرهم بأن إجماعهم يقع عن رأي

واستدلال وخبرهم يقع عن إدراك فهو فصلنا
ومنها قولهم إن الإجماع حجة في العصر وفيما بعده وذلك يقتضي أن يكون فيهم من يخالفهم حتى يكونوا حجة عليه والجواب أنه يجوز أن يكونوا حجة على من يأتي من بعد وحجة على آحادهم تمنعهم من الرجوع عما قالوه ولو وجب أن يكون الإجماع حجة على مخالف قد عاصر المجمعين لوجب إذا أجمع كلهم على قول أن لا يكون حجة
فاذا ثبت أن خلاف الواحد والاثنين لا ينعقد معه الإجماع فمتى روي إجماع أهل عصر متقدم على قول وروي بالتواتر ان واحدا لم يجتمع معهم لم يكن إجماعا وإن روي ذلك بالآحاد فان كان قد روي عنه بالتواتر الوفاق لم يترك التواتر لأجل الآحاد كما لا يعارض خبر واحد عن النبي صلى الله عليه و سلم بخبر متواتر وإن لم يكن قد روي موافقة لهم لم يحكم بأنهم أجمعوا لأنه لا يكفي أن يعلم موافقة ذلك الواحد لهم فكيف إذا رويت عنه المخالفة
وحكى الشيخ أبو عبدالله عن الشيخ ابي الحسن أن الإجماع إذا ظهر في العصر وروي عن واحد منهم بالآحاد خلافه لم يقدح ذلك في الإجماع ذكر ذلك فيما روي بالآحاد عن أبي طلحة في البرد وإن علمنا أن اتفاق أهل العصر إلا الواحد وعلمنا أنه كانت له حالة موافقة فان علمنا أنه وافقهم ثم خالفهم ثبت الإجماع وإن علمنا أنه خالف تلك المقالة قبل أن يجتمعوا لم يثبت الإجماع وإن لم نعلم هذا التفصيل فالأولى أن لا يثبت الإجماع لأنه لم يؤمن أن لا يكون إنما قال بذلك القول قبل أن يقولوا به ثم خالفه قبل أن يتفقوا عليه فان حكى عن بعض أهل العصر ما يحتمل أن يكون موافقة وما يحتمل أن لا يكون موافقة لهم فان كان ظاهره الموافقة حمل عليها وإن كان ظاهره المخالفة حمل عليها وإن لم يكن له ظاهر فذكر قاضي القضاة في الشرح أنه يحمل على الموافقة لأنه لو كان مخالفا لقويت دواعيه إلى إظهار الخلاف وليس كذلك لو كان موافقا لأنه يكفي في الموافقة السكوت وترك

الإنكار ولأنه لو كان ذلك القول باطلا لكانوا قد اتفقوا على ترك الإنكار الصريح وذلك لا يجوز وذكر قاضي القضاة عن ابن الإخشيد أن قوما قالوا إن أهل العصر إذا حكموا بحكم وحكى عن غيرهم من أهل الأعصار خلافه فان كانوا كثرة لا يجوز أن يظهروا خلاف ما يبطنوه قدح ذلك في الإجماع وإن جاز أن يظهروا خلاف ما يبطنونه لم يقدح ذلك في الإجماع وهذا باطل لأن جواز إظهارهم خلاف ما يبطنونه لا يمنع جواز كون باطنهم موافقا لظاهرهم فيكون ذلك خلافا قادحا في الإجماع
وأما الفصل الثاني فهو أن المجتهد من التابعين إذا حضر مع الصحابة في وقت الحادثة فانه لا يكون قولهم حجة إذا خالفهم وعم بعضهم أنه يكون حجة وإن خالفهم ودليل الأولين ان أدلة الإجماع لا تتناولهم إلا معه نحو قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين وقوله صلى الله عليه و سلم أمتي لا تجمع على خطأ وجرى مجرى الحدث من الصحابة إذا كان من أهل الاجتهاد لأن الإجماع لا ينعقد من دونه
والمخالف يحتج بما روي أن عائشة أنكرت على أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف خلافه على الصحابة في بعض المسائل والجواب أنه يجوز أن تكون أنكرت عليه لأنه خالفها بعد ما اتفقت وكان اتفاقها سابقا لكونه من أهل الاجتهاد أو لم تكن المسالة من مسائل الاجتهاد وعلى أن قولها بانفرادها ليس بحجة
وأما الفصل الثالث فهو أن يخالف في المسألة بعض المجتهدين ممن لم يشتهر بالفتوى كواصل بن عطاء فانه لا يكون قول من عداه حجة وقال بعض الناس يكون حجة لأن مسائل الاجتهاد يجب الرجوع فيها إلى أهل الاجتهاد فقول غيرهم لا يؤثر في إجماعهم كما أن قول النحاة لا يؤثر في إجماعهم يبين

ذلك أنا إذا أردنا تقويم شيء وجب الرجوع فيه إلى أهل الخبرة بأسعار ذلك الشيء ودليلنا أن أدلة الإجماع تتناول هذا الإنسان نحو قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين وقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا وقوله صلى الله عليه و سلم أمتي لا تجتمع على ضلال وإنما أخرجنا العامة من ذلك لأنهم ليسوا بأهل الاجتهاد وليس كذلك هذا المجتهد وبهذا فارق النحاة وما ذكروه من الرجوع في التقويم إلى الخبرة بأسعار ذلك الشيء فهو حجة لنا لأنا نرجع إلى من يخبر ذلك وإن لم يكن مشتهرا بالتقويم ولا منتدبا لتقويم الأشياء فكذلك ينبغي أن يرجع في الحوادث إلى أهل الاجتهاد وإن لم ينتدبوا للفتوى
وأما الفصل الرابع وهو إجماع أهل الأعصار فعند أكثر الناس أن الحجة هي إجماع أهل الأعصار كلهم من المجتهدين في العصر الواحد وحكي عن مالك أنه قال إجماع أهل المدينة وحدهم حجة وقال بعض أصحابه إنما جعل نقلهم أولى من نقل غيرهم دليلنا أن أدلة الإجماع لا تتناولهم وحدهم نحو اسم المؤمن واسم الامة ولأن الأماكن لا تؤثر في كون الأقوال حجة وقول النبي صلى الله عليه و سلم المدينة طيبة تخرج خبثها كما يخرج الكير خبث الحديد لا يدل على أن إجماع أهلها حجة وإنما هو مدح لها وليس المراد بذلك ذم كل من خرج منها لإجماع الأمة على أن الخروج منها غير مذموم وكون المدينة مهبط الوحي لا يدل على أن إجماع أهلها حق وأما كون روايتهم أولى من رواية غيرهم فقد ذكر قاضي القضاة في الشرح والدرس أن ذلك لا يمتنع ولا فرق بين رواية الواحد منهم وهو بالمدينة أو بغيرها وإنما المراد بذلك أن تكون روايتهم بعد عصر الصحابة أولى من رواية غيرهم لأن أهل البلد أعرف بما يجري فيه من غيرهم وأنه يرجع الناس في معرفته إلى البقعة التي حدث فيها ذلك لأنهم إما أن يكونوا شاهدوه أو أخبرهم به جماعة ممن شاهدوه ويمكن فيهم من كثرة المخبرين ما لا يمكن في غيرهم بل غيرهم يرجع إليهم


باب فيما يكون الإجماع حجة فيه وما لا يكون حجة فيه اعلم أن ما تجمع الأمة عليه ضربان أحدهما لا يمكن معرفة صحة الإجماع قبل المعرفة بصحته والآخر يمكن معرفة صحة الإجماع قبل المعرفة بصحته
فالأول لا يصح الاحتجاج بالإجماع فيه كالإجماع على أن الله تعالى حكيم عادل وأن محمدا نبي لأنه إنما يمكن أن تعرف صحة الإجماع بعد أن يعرف أن الله تعالى أو رسوله قد شهد بأن الإجماع حق وأنهما لا يشهدان بشيء إلا وهو على ما شهدا به وإنما يعرف ذلك إذا عرفت حكمة الله تعالى وأنه لا يفعل القبيح وأن محمدا صادق ليعلم صدقه في إخباره أن القرآن كلام الله تعالى حتى يعلم أن ما فيه من الآيات الدالة على الإجماع من قبل الله تعالى فاذا كانت المعرفة بصحة الإجماع لا يمكن أن تتقدم على المعرفة بالله وبحكمته وصدق رسوله لم يصح الاستدلال به على ذلك إذ من حق الدليل أن يعلمه المستدل على الوجه الذي يدل عليه قبل علمه بالمدلول
فأما ما يمكن أن يعرف صحة الإجماع قبل المعرفة به فهو ضربان أحدهما من أمور الدنيا والآخر من أمور الدين فالأول نحو أن يجتمعوا أنه لا يجوز الحرب في موضع معين ذكر قاضي القضاة أنه يجوز لمن بعدهم مخالفتهم في ذلك لأن حالهم في ذلك ليست بأعظم من حال النبي صلى الله عليه و سلم ومعلوم أنه صلى الله عليه و سلم لو رأى رأيا في الحرب لساغ مراجعته فيه وليس إجماعهم على إمامة أبي بكر من هذا القبيل لأن ذلك من أمور الدين وذكر في كتاب النهاية أنه لا يجوز مخالفتهم لأن أدلة الإجماع منعت من الخلاف عليهم ولم يفصل بين أن يكون قد اتفقوا على أمر ديني أو دنياوي ويفارقون النبي صلى الله عليه و سلم لأن الذي منع من جواز الخطأ عليه هو المعجز وذلك لا يتعلق بأمور الدنيا وليس كذلك الأمة فأما أمور الدين فانه يكون اتفاقهم حجة فيه سواء كان عقليا نحو

رؤية الله تعالى لا في جهة ونفي ثان مثله أو كان شرعيان لأنه يمكن العلم بصحة الإجماع قبل العلم بذلك إذ الشك في ذلك لا يخل بالعلم بالله تعالى وحكمته وصدق نبيه ولا فرق بين أن يكون القول صادرا عن اجتهاد عن أمارات أو استدلالا بأدلة ولا فرق بين أن يكون قد تقدم ذلك الإجماع اختلاف أو لم يتقدمه اختلاف وسنتكلم في كلا الموضعين إن شاء الله
باب في أن الإجماع إذا انعقد عن اجتهاد كان حجة ذكر قاضي القضاة عن الحاكم صاحب المختصر أنه قال إذا انعقد الإجماع لأهل العصر عن اجتهاد جاز لمن بعدهم ان يخالفهم فيه وعندنا أنه حجة يحرم خلافه لقوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين فاذا اجتمعوا على الحكم بالاجتهاد فخلافه ليس هو سبيلهم فلم يجز اتباعه
فان قيل إنما لم يكن سبيلهم لأنه لم يؤد الاجتهاد إليه فاذا أدى إليه الاجتهاد كان سبيلهم وإن كان ذلك الاجتهاد اجتهاد غيرهم والجواب أن ذلك شرط لا دليل عليه فلم يجز إثباته ولو جاز ما ذكروه لجاز أن يقال فيما أجمعوا عليه عن دليل إنه سبيلهم بشرط أن يؤدي الاستدلال إليه وخلافه ليس هو سبيلهم إن لم يؤد الاستدلال إليه فإن أدى الاستدلال إليه كان سبيلهم وإن كان ذلك الاستدلال استدلال غيرهم فيبطل التعلق بالإجماع أصلا
فان قيل أليس لو اتفقوا على الحكم اجتهادا ولم يعلم كل واحد منهم أن غيره قد وافقه جاز لكل واحد منهم مخالفة ذلك الحكم ولا يأثم من خالفه فقد صار جواز مخالفة ذلك الحكم سبيلهم بأجمعهم قيل هذا لازم فيهم إذا أجمعوا على الحكم بالأدلة

والجواب في الموضعين واحد وهو أنه إذا كانت الحال هذه فانه إنما جوز كل واحد منهم مخالفة قولهم بشرط كونه غير مجمع عليه ألا ترى أنه لو علم أنه مجمع عليه لم يجز ذلك فاذا علمنا أن الحكم متفق عليه لم يجز أن نخالفهم
فأما من قال إن الحق في واحد فانه يمنع من مخالفة قوله سواء اتفق عليه أو لم يتفق عليه ويدل عليه قوله صلى الله عليه و سلم أمتي لا تجتمع على خطأ ومما اتفقوا عليه أنه لا يجوز مخالفتهم ولقائل أن يقول لم زعمتم أنهم اجتمعوا على ذلك وإذا كان في الناس من يجوز مخالفتهم لم يؤمن أن يكون في المجمعين عن اجتهاد من يجوز مخالفتهم فلا يصح ادعاء الإجماع فالمخالف يقيس القول المجمع عليه باجتهاد على المختلف فيه بعلة أن كل واحد منهما صادر عن اجتهاد والجواب أن العلة في الأصل أنه قول لم يقترن به دليل مقطوع به وليس كذلك ما اجتمع عليه ثم تعارضهم فيقيس المسألة على ما اتفقوا عليه مما ليس من مسائل الاجتهاد بعلة أن كل واحد منهما قول متفق عليه
باب في الاتفاق بعد الاختلاف وبعد الاتفاق وفي الاختلاف بعد الاتفاق اعلم أن أهل العصر إذا اتفقوا على حكم من الأحكام فانه يجوز أن يتفق من بعدهم على متابعتهم وهو الواجب عليهم ويجوز أن يخالفهم بعض أهل العصر الثاني ولا يحل ذلك لهم لأنه لا يستحيل من بعض الامة أن يعدل عن الحق ولا يجوز أن يتفق أهل العصر الثاني على مخالفتهم
وحكى قاضي القضاة عن الشيخ أبي عبدالله أنه قال إنما لم يجز أن يتفقوا على مخالفتهم لأن أهل العصر الأول أجمعوا على أنه لا يجوز أن يقع الإجماع من بعد على مخالفتهم ولو لم يجمعوا على ذلك لجاز أن يتفقوا على مخالفتهم ويكون الإجماع الثاني في حكم الناسخ للأول وحكي عن الشيخ أبي علي أنه قال

لو جاز ذلك لجاز أن يخالفهم رجل واحد ولجاز أن ينضم إليه غيره إلى أن يتفق أهل العصر الثاني على خلاف قول الأولين وقوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين يمنع من أن يتبع أهل العصر الثاني غير سبيلهم ولأن المسألة إن لم تكن من مسائل الاجتهاد فخلاف ما اجتمع عليه أهل العصر الأول فيها ضلالة والامة لا تجتمع على ضلالة فأما إذا اختلف أهل العصر في المسألة على قولين فانه يجوز أن يتفق من بعدهم على أحدهما فاذا اتفقوا كان صوابا وحجة محرمة للأخذ بالقول الآخر
وفي كلا الموضعين اختلاف أما جواز اتفاق من بعدهم على أحد القولين فقد منع منه قوم ظنا منهم أن اختلاف من تقدم في ضمنه الإجماع على جواز الأخذ بكل واحد من القولين على الاطلاق فأدخلوا في الإجماع ما ليس منه وهذا سنذكره عند الكلام فيما ألحق بالإجماع وليس هو منه وأما إذا اتفقوا على أحد القولين فقد حكى قاضي القضاة في العمد عن بعض المتكلمين وبعض أصحاب أبي حنيفة والشافعي أنه لا يكون حجة في تحريك القول الآخر وحكي عن شيخنا أبي عبدالله وأبي الحسن وبعض أصحاب الشافعي أنه يكون حجة في تحريم القول الآخر وذكر في الشرح أن الناس اختلفوا في ذلك فمنهم من جعل ذلك محرما للخلاف على كل حال ومنهم من لم يجعله محرما للخلاف على كل حال ولم يفصل بين الصحابة والتابعين ومنهم من جعله محرما للخلاف في حال دون حال والحال التي يحرم فيها الخلاف هي أن يكون المتفقون على أحد القولين في المسألة هم الذين اختلفوا فيها سواء كان ذلك عصر الصحابة أو غيرهم والحال التي لا يكون اتفاقهم معها حجة مزيلة للخلاف هي أن يختلف أهل عصر ويتفق من بعدهم على أحد قوليهم
والدليل على أن الاتفاق يحرم الاختلاف على جميع الأحوال قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين وقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا

وقد بينا أن ذلك يتناول كل عصر ولم يفصل في تحريم اتباع غير سبيل المؤمنين بين أن يكون قد تقدم اختلاف أو لم يتقدم
واستدل قاضي القضاة بقوله صلى الله عليه و سلم أمتي لا تجتمع على خطأ فيجب كون ما اتفق عليه أهل العصر الثاني غير خطأ
فان قيل ليس هو خطأ وليس يحرم بعدهم أن يخالفهم قيل قد أجمعوا على أنه لا يجوز أن يخالفهم ولقائل أن يقول إنه لا يمكن ادعاء الإجماع على ذلك لأن الأمة مختلفة في اتفاق أهل العصر على أحد القولين هل يجوز مخالفته أم لا
واستدل أيضا بأن الإجماع المبتدأ لا يجوز خلافه وكذلك إذا اختلفت الصحابة ثم اتفقت فيجب مثله في التابعين إذا اتفقوا بعد اختلاف الصحابة ولقائل أن يقول إن أوجبتم ذلك لدخول اتفاقهم تحت أدلة الإجماع فذلك رجوع إلى الأدلة المتقدمة وإن أوجبتم ذلك بالقياس فما العلة الجامعة فان قلتم العلة في ذلك أنه إجماع قيل لكم ليست هذه علة معلومة والأصل في الجماعة أنه يجوز اتفاقها على الخطأ وإنما امتنعنا من ذلك للأدلة فيجب اعتبارها دون القياس لأنه لا يظفر في ذلك بعلة معلومة وليس لكم أن تجعلوا العلة في الأصل كونه إجماعا بأولى من أن نجعلها كونه إجماعا مبتدأ على انه قد حكى قاضي القضاة في الدرس أن قوما قالوا إن اتفاق الصحابة بعد اختلافها لا يحرم الخلاف
واحتج المخالف بأمور
منها قوله تعالى فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول فشرط التنازع في وجوب الرد والتنازع قد حصل وليس يخرج بالاتفاق الواقع

من أن يكون قد تقدم حصوله فوجب الرد والجواب أن الرد إلى الإجماع والتعلق به رد إلى الله والرسول كما أن الأخذ بكتاب الله بحكم القياس رد إلى الكتاب والسنة وأيضا فأهل العصر الثاني إذا اتفقوا ولم يكونوا متنازعين فلم يجب عليهم الرد على قول من يستدل بهذه الآية على صحة الإجماع
ومنها قولهم إن في ضمن اختلاف أهل العصر في المسألة على قولين اتفاق منهم على جواز الأخذ بكل واحد منهما في كل حال لأنه لا يختص حالا دون حال فلو كان اتفاق من بعدهم على أحد القولين محرما للأخذ بالقول الآخر لم يخل إما أن يكشف عن تحريمه في المستقبل فيكون نسخا وذلك لا يكون بعد انقطاع الوحي وإما أن يكشف عن تحريمه في الماضي والمستقبل فيدل على خطأ من تقدمه وذلك لا يجوز وهذا هو معنى قولهم لو حرم الخلاف في المستقبل لحرمه في الماضي والجواب أن القائلين بأن الحق في واحد لا يجوز أن يحتجوا بهذا الكلام لأن عندهم أن المجتهد لا يجوز أن يأخذ بكل واحد من القولين وإنما يجب عليه أن يأخذ بالحق منهما والعامي إنما يجوز له أن يقلد من يفتيه فاذا أجمعوا على أحدهما لم يجد من يفتيه بالآخر فيقال قد حرم عليه الأخذ به بعد أن كان حلالا وأما القائلون بأن كل مجتهد مصيب فجوابنا لهم إن احتجوا بذلك هو أن المختلفين في المسألة إنما سوغوا الأخذ بكل واحد منهما لأن المسألة مختلف فيها وهي من مسائل الاجتهاد ويبين ذلك أنهم لو سئلوا عن جواز الأخذ بكل واحد منهما لعللوا بذلك فعلى هذا المستدل أن يبين أن المسألة بعد الاتفاق هي من مسائل الاجتهاد وأما نحن فاذا بينا أنهم إذا اتفقوا عليها فقد تناولهم أدلة الإجماع وحرم خلافهم علمنا أن الشرط المجوز للأخذ بكل واحد من القولين قد زال فزال حكمه ولا يسمى ذلك نسخا لأن الحكم إذا وقف على شرط يعلم زواله وثبوته لا بالشرع فانه لا يكون زواله بزوال شرطه نسخا ألا ترى أن زوال وجوب الصيام بدخول الليل لا يكون نسخا فان قيل لستم بأن تجعلوا اجتماع المختلفين على جواز الأخذ بكل واحد من القولين مشروطا بثبوت الاختلاف بأولى من أن نجعل نحن كون

الاتفاق حجة مشروطا بنفي تقدم الخلاف قيل ما ذكرناه أولى لأنا قد بينا أن المختلفين سوغوا الأخذ بكل واحد من القولين بالشرط الذي ذكرناه فكان الأولى ما قلناه على أن ما ذكروه ينتقض عليهم باجماع أهل العصر بعد النظر والفحص الطويل لأن ذلك اتفاق منهم على جواز التوقف في المسألة ولا يسوغ بعد اتفاقهم التوقف فيها وينتقض على قول بعضهم إن الصحابة إذا اتفقت بعد ما اختلفت حرم الأخذ بالقول الآخر ثم يقال لهم إذا لم تجعلوا اتفاق أهل العصر الثاني حجة مع أنه اتفاق صريح فهلا قلتم إن اتفاق أهل العصر الأول على جواز الأخذ بكل واحد من القولين ليس بحجة في جواز الأخذ به مع أنه اتفاق ليس بصريح وهو مع ذلك مبني على القول بأن كل مجتهد مصيب
ومنها قولهم لو كان قولهم إذا اتفقوا بعد الاختلاف حجة لكان قول إحدى الطائفتين حجة إذا ماتت الطائفة الأخرى وفي ذلك كون قولهم حجة بالموت والجواب أنا نتبين لموت إحدى الطائفتين أن قول الأخرى حجة لدخول تحت أدلة الإجماع لا أن الموت يوجب كون قولهم حجة على أن مسألتنا جميع المختلفين قالوا باخذ القولين وليس كذلك إذا ماتت إحدى الطائفتين
ومنها قولهم لو كان اتفاق أهل العصر الثاني حجة لكانوا قد صاروا إلبه بدليل وحجة ولو كان كذلك لما خفي على الصحابة والجواب أنه لا يجوز أن يخفى هذا ومثله على جميعهم فأما أن يخفى على بعضهم فيجوز لأن بعضهم ليس بحجة
باب في انقراض العصر هل هو شرط في كون الإجماع حجة اعلم أن كثيرا من الناس لم يعتبروا انقراض العصر أصلا واعتبره بعضهم واختلف هؤلاء فقال بعضهم هو طريق إلى انعقاد الإجماع وسيجيء القول

فيه ومنهم من جعله شرطا في كون الإجماع حجة وجوز لبعض المجمعين أن يخالف قوله
ودليل الأولين قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين وقوله كنتم خير أمة أخرجت للناس وقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء وقوله صلى الله عليه و سلم أمتي لا تجتمع على ضلال وكل ذلك يوجب الرجوع إلى الإجماع ولا يفرق بين انقراض العصر ونفي انقراضه
دليل ليس يخلو إما أن تكون الحجة هي انقراض العصر أو اتفاقهم بشرط انقراض العصر أو اتفاقهم فقط والأول يقتضي أن يكون العصر لو انقرض من دون اتفاقهم أن يكون حجة والثاني يقتضي أن يكون لموتهم تأثير في كون قولهم حجة وذلك لا يجوز كما لا يكون لموت النبي صلى الله عليه و سلم تأثير في كون قوله حجة
ولقائل أن يقول أليس موت النبي لا يصير معه قوله حجة والامة عندكم إذا اختلفت في المسألة على فرقتين ثم ماتت إحداهما كان قول الأخرى حجة ففارقت الأمة النبي عليه السلام في ذلك فهلا جاز أن تفترقا في الوجه الآخر
دليل آخر لو اعتبرنا انقراض العصر لم ينعقد الإجماع لأنه قد حدث من التابعين في زمن الصحابة قوم من أهل الاجتهاد وذلك يجوز مخالفتهم لهم لأن العصر ما انقرض ويجب اعتبار انقراض عصر التابعين ومعلوم أنه لم ينقرض عصرهم إلا بعد أن حدث من تابعيهم من هو من أهل الاجتهاد فجاز أن يخالفوهم ويعتبر انقراض عصرهم ثم كذلك القول في كل عصر
ولقائل أن يقول إنه لا يمتنع أن يكون المعتبر هو انقراض عصر من كان

مجتهدا عند حدوث الحادثة لا من يتجدد بعد ذلك فلا يلزم اعتبار عصر التابعين إذا حدث فيهم مجتهد بعد حدوث الحادثة
واحتج المخالف بأشياء
منها أن عليا عليه السلام سئل عن بيع أمهات الأولاد فقال كان رأيي ورأي عمر أن لا يبعن ثم رأيت بيعهن فقال له عبيدة السلماني رأيك مع الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك فدل على أنه كان الإجماع قد سبق والجواب أنه قد روي أن جابر بن عبد الله كان يرى في زمن عمر جواز بيعهن فلم يكن الإجماع قد انعقد وقول عبيدة السلماني رأيك مع الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك يدل على أنه قد كان على قول عمر جماعة وليس قول كل جماعة هو إجماع وإنما اختار أن ينضم قول علي إلى قول عمر لأنه رجح قول الأكثر على قول الأقل
ومنها أن أبا بكر الصديق كان يرى التسوية في القسمة ولم يخالفه أحد من الصحابة ثم خالفه عمر لما صار الأمر إليه ففضل في القسمة ولم ينكر عليه السلف والجواب أن عمر رضي الله عنه قد كان خالفه في زمانه وناظره فقال له أتجعل من جاهد في سبيل الله بماله ونفسه كمن دخل في الاسلام كرها فقال إنما عملوا لله وإنما أجورهم على الله وإنما الدنيا بلاغ ولم يرو أن عمر رجع إلى قول أبي بكر فلا يمتنع أنه كان يرى التفضيل فلما صار الأمر إليه فضل
ومنها قولهم إن الإجماع لا يستقر قبل انقراض العصر لأن الناس يكونون في حال تأمل وفحص فوجب وقوعه على انقراض العصر والجواب إن أرادوا بنفي الاستقرار نفي كونه حجة فذلك نفس المسألة وإن أرادوا أنه لا ينعقد فهو خارج عما نحن بسبيله لأنا إنما تكلمنا على من قال إنه ينعقد ولا يكون حجة على أن الفصل بين حال التأمل وحال القطع على الشيء لا يفتقر إلى

انقراض العصر لأنا نفصل بين الناظر المتأمل المتوقف وبين القاطع المناضل لأن الإنسان إذا أخبر عن نفسه أنه معتقد للشيء فهو بخلاف أن يخبر عن نفسه أنه متأمل متوقف
باب فيما أخرج من الإجماع وهو منه أعلم أن أهل العصر إذا اختلفوا في المسألة على قولين متنافيين فإنه يتضمن اتفاقهم على تخطئة ما سواهما فلا يجوز لمن بعدهم إحداث قول آخر وحكي عن بعض أهل الظاهر أنه لم يجعل ذلك اتفاقا على تخطئة ما سواهما فأجاز لمن بعدهم إحداث قول آخر ثالث والقول في ذلك فرع على إمكان إحداث قول ثالث فيجب بيانه أولا
فنقول إن القولين المتنافيين في المسألة لا يمكن أن يكون بينهما قول ثالث إلا أن يكون فيه بعض الموافقة لكل واحد من القولين أو لأحدهما مثاله أن يقول بعض الأمة النية واجبة في الطهارات كلها ويقول الباقون ليست بواجبة في شيء من الطهارات فيمكن أن يقول قائل هي واجبة في بعض الطهارات دون بعض ومثاله أيضا أن يقول بعض الأمة النية واجبة في كل طهارة ويقول بعضهم هي واجبة في بعض الطهارات دون بعض فيمكن أن يقول قائل ليست بواجبة في شيء من الطهارات ومثاله أيضا قول بعض الأمة الجد يرث جميع المال مع الأخ وفي قول الباقين يقاسم الأخ فيمكن أن يقول قائل لا يرث شيئا أصلا مع الأخ فيكون قد وافق من قال يقاسم الأخ بعض الموافقة لأنهما قد اشتركا في أن منعا الجد من بعض المال
واحتج من أجاز إحداث قول ثالث بأن الممنوع منه هو مخالفة الإجماع وليس مع هذا الإختلاف إجماع ولأنه روي عن ابن سيرين أنه قال في امرأة وأبوين إن للأم ثلث جميع المال وأن لها ثلث ما يبقى في زوج وأبوين

ففصل بين المسألتين ولم ينكر عليه مع أن الصحابة رضي الله عنهما لم تفصل بينهما بل قال بعضهم في المسألتين لها ثلث ما بقي وقال آخرون لها ثلث جميع المال وقال سفيان الثوري إن الأكل ناسيا لا يفطر والجماع ناسيا يفطر ومن تقدمه منهم من فطر بهما ومنهم من لم يفطر بهما وهذا الاحتجاج من المخالف يدل على أنه أجاز إحداث قول ثالث في المسألتين لا في مسألة واحدة
واحتج قاضي القضاة للمنع من إحداث قول ثالث بأن الأمة أجمعت على المنع من ذلك كما أجمعت على المنع من إحداث قول يخالف الإجماع المصرح والاتفاق على ذلك سابق ألا تراهم منعوا من إحداث قول آخر في الجد مع الأخ حتى يقال المال كله للأخ قال ولنا أن ندعي الإجماع في ذلك مطلقا ولنا أن ندعيه في الجد خاصة ونحمل عليه غيره فنقول إنما منعوا من ذلك في الجد لأنه إحداث قول آخر لم يقل به أحد من الأمة لأنه لا وجه له يمكن أن يعلل فيه إلا بما ذكرناه إذ لا يمكن أن يقال إنما لم يجز أن يقال المال كله للأخ لأنه لا أمارة لذلك لأن الأمارة على ذلك إن لم تكن أقوى من الأمارة الدالة على أن المال كله للجد لم تكن أضعف منها
ولقائل أن يقول لا اسلم أن في المنع من إحداث قول ثالث إجماعا سابقا ولا سبيل لكم إلى العلم بذلك فأما مسألة الجد فلا يجوز تجديد قول آخر فيها ليس لأنهم أجمعوا على المنع من ذلك بل لأن القول بأن المال كله للأخ يتضمن ما أجمعوا على خلافه
واحتجوا أيضا بأن الأمة إذا اختلفت على قولين فقد أجمعت في المعنى على المنع من إحداث قول ثالث لأن كل طائفة تحرم الأخذ إلا بما قالته أو قاله مخالفها فقط فجواز إحداث قول ثالث يقتضي جواز الأخذ به وقد منعوا منه
ولقائل أن يقول إنما حظروا الأخذ إلا بما قالوه بشرط أن لا يؤدي

اجتهاد غيرهم إلى إحداث قول ثالث كما يقولون إنهم سوغوا الأخذ بكل واحد من القولين بشرط أن لا يقع الإتفاق على أحدهما فخرج المسألة من مسائل الاجتهاد فينبغي أن يقال إن كان اختلافهم على قولين هو في مسألتين فالقول في ذلك يأتي نحو أن يقول بعضهم كل طهارة تحتاج إلى نية ويقول الباقون ليس شيء من الطهارات يحتاج إلى نية فيقول قائل آخر بعضها تحتاج إلى النية دون بعض وإن كان اختلافهم في مسألة واحدة نحو مسألة الجد مع الأخ لم يجز إحداث قول ثالث لأنه مخالف لصريح إجماعهم كالقول بأن المال كله للأخ لأن في ذلك سلب المال كله عن الجد والمختلفون في مسألة الجد قد اتفقوا على أن للجد قسطا من المال من قال منهم إنه أحق بجميع المال ومن قال إنه يقاسم الإخوة وهذا الوجه يفسد قولهم إن الممنوع منه هو مخالفة الإجماع ولا إجماع مع الإختلاف لأنا قد بينا أن إحداث قول ثالث فيه خلاف لما أجمعوا عليه وأما المحكى عن ابن سيرين والثوري فليس هو من هذه المسألة بل من مسألة أخرى وهي التفرقة بين ما أجمعوا على أنه لا فرق بينهما
واحتجاج أهل الظاهر بقول ابن سيرين والثوري يدل على أنهم جوزوا إحداث قول ثالث في هذه المسائل وأشباهها دون ما ذكرناه من مسألة الجد وأمثالها وسنذكر الآن القول في التفرقة بين المسألتين وفي غيرهما مما ألحق بالإجماع وليس منه بعون الله
باب في أهل العصر إذا لم يفصلوا بين مسألتين هل لمن بعدهم أن يفصل بينهما أم لا
اعلم أنهم إذا لم يفصلوا بينهما فذلك ضربان أحدهما أن يقولوا لا فصل بين هاتين المسألتين في كل الأحكام أو في الحكم الفلاني والآخر أن لا ينصوا

على ذلك لكن لا يكون فيهم من فرق بينهما في الحكم فالأول لا يجوز لأحد أن يفصل بينهما لأن الفصل بينهما خلاف لما نصوا عليه واعتقدوه ولأن قولهم لا فصل بينهما ظاهره يقتضي أنهما قد اشتركا فيما يقتضي الحكم من غير وجه يفرق بينهما فمن فصل بينهما فقد خالفهم في ذلك
وهذا الضرب ينقسم أقساما ثلاثة أحدهما أن يروى اتفاق الأمة على حكم المسألتين نحو أن يحكموا فيهما بالتحريم أو بالتحليل والآخر أن يروى اختلاف الأمة فيهما فيحكى عن طائفة أنها حكمت فيهما بالتحريم وعن الباقين أنهم حكموا فيهما بالإباحة والآخر أن لا يروى لنا عنهم اختلاف في المسألتين ولا اتفاق فمتى كان كذلك ودل الدليل في إحدى المسألتين على تحريم أو إباحة وجب أن يحكم في المسألة الأخرى بذلك ولا يفرق بينهما
فأما إذا لم ينصوا على أنه لا فصل بينهما بل لا يكون فيهم من فرق بينهما نحو أن يحكم بعض الأمة في كلا المسألتين بحكم ويحكم الباقون فيهما بنقيضه وذلك ضربان أحدهما أن يشيروا إلى حكم واحد فيثبته أحد الفريقين في المسألتين وينفيه الآخرون عنهما نحو أن يحرم شطر الأمة كلا المسألتين ويبيحهما الباقون والضرب الآخر أن يشيروا فيهما إلى حكمين مختلفين نحو أن يوجب بعض الأمة النية في الوضوء ولا يجعل الصوم من شرط الاعتكاف ولا يوجب الباقون النية في الوضوء ويجعلون الصوم من شرط الاعتكاف
أما القسم الأول فذكر قاضي القضاة في الدرس والشرح أنه إن كان المعلوم أن طريقة الحكم في المسألتين واحدة لا يجوز كونها متغايرة فذلك جار مجرى أن يقولوا لا فصل بينهما لأنا نعلم أنهم قد اعتقدوا أنه لا يفرق بينهما وأنه قد نظمهما طريقة واحدة ومن فصل بينهما فقد خالف ما اعتقدوه من ذلك فأما إن جاز أن لا تكون الطريقة في المسألتين واحدة وأنهم سووا بينهما لطريقين فإنه يجوز لمن بعدهم أن يفرق بينهما فيحرم إحدى المسألتين ويبيح الأخرى فيوافق في كل قول أحد الفريقين لأنه بذلك لا يكون مخالفا لما

أجمعوا عليه لا في حكم ولا في تعليل لأنا قد بينا أن العلة يجوز أن لا تكون واحدة ولأنه لو كان إذا قال بعض الأمة بتحريم مسألتين متباينتين في العلة وقال الباقون بإباحتهما قد أجمعوا على أن لا فصل بينهما لوجب إذا حرم بعضهم إحدى مسألتين متباينتين وأباح اخرى وحرم الباقون ما أباحه هؤلاء وأباحوا ما حظروه أن يكونوا قد أجمعوا على أن بينهما فرقا فلا يجوز لأحد أن يحرمهما معا أو يبيحهما معا ولو لم يجز ذلك لوجب على من وافق الشافعي في مسألة أن يوافقه في جميع مذهبه ويسقط عنه الاجتهاد والأمة مجمعة على خلاف ذلك وما حكى عن ابن سيرين من أنه فرق بين زوج وأبوين وامرأة وأبوين وأن الثوري فرق بين جماع الصائم ناسيا وبين أكله ناسيا فإن كانت طريقة المسألتين اللتين فرقا بينهما متغايرة فما فعلاه جائز وإلا لم يجز على أن ابن سيرين قد عاصر بعض الصحابة فلا يمتنع أن يكون حاضرا حين اختلفوا في زوج وأبوين وامرأة وأبوين
وذكر قاضي القضاة في العمد أنه لا يجوز الفصل بين المسألتين ولم يفصل هذا التفصيل ذكر ذلك في أن الأمة لا يجوز أن تخطىء في مسألتين وذكر في شرح هذا الباب أمثلة احتج بها
فمنها أن يعقد شطر الأمة لرجل الإمامة ويسكت الباقون فلو لم يكن ذلك الرجل مستحقا للإمامة لكان العاقدون قد اخطأوا بالعقد والباقون قد أخطأوا بالسكوت ولقائل أن يقول إن تلك مسألة واحدة وهي إمامة ذلك الشخص والكل قد رضوا بها وأجمعوا على ترك إنكار العقد له من غير مانع فلو كان خطأ لما أجمعوا على ترك إنكاره
ومنها أن يتفق نصف الأمة على مذهب المرجئة في غفران ما دون الشرك من كبير وصغير ويتفق الباقون على مذهب الخوارج في المنع من غفران جميع المعاصي وهذا الاتفاق على الخطأ في مسألتين ولقائل أن يقول إن ذلك خطأ في مسألة واحدة لأن القائلين بهذين القولين متفقون على أن الصغيرة لا يجب

سقوط عقابها لأن المرجىء يقول إن غفرانها بفضل وجوز عقاب فاعلها والخارجي لم يوجب سقوط عقابها فقد اتفقوا على الباطل وهو أن عقابها لا يجب سقوطه
ومنها أن يتفق نصف الأمة على أن العبد يرث والقاتل لا يرث ويتفق الباقون على عكس ذلك على أن العبد لا يرث والقاتل يرث فيكونوا قد اتفقوا على الخطأ في إرث العبد والقاتل إذ الصواب أنهما جميعا لا يرثان والنبي صلى الله عليه و سلم منع من اجتماعهم على الخطأ سواء كان ذلك في مسألة واحدة أو في مسألتين ولقائل أن يقول إنه كان لا يمتنع أن تختلف الأمة في القاتل والعبد على ما ذكرتموه لأن الخطأ إما أن يكون هو القول بإرث العبد أو بإرث القاتل أو بإرثهما جميعا ولم يقع الاتفاق على إرث أحدهما على انفراده ولا على إرثهما جميعا لأن كل واحد من الأمة لم يقل بإرثهما جميعا فيثبت أن اتفاق نصف الأمة على الخطأ في مسألة واتفاق النصف الآخر على الخطأ في مسألة أخرى لا يفيد اتفاق جميعهم على الخطأ
واحتجوا أيضا بأن الأمة إذا حرم نصفها كلا مسألتين وأباحهما الآخرون فقد اتفقوا على أن لا فصل بينهما وإن لم ينصوا على ذلك وليس يقدح في وقوع الاتفاق على ذلك أن تكون أدلتهم مختلفة وإذا كان كذلك دخل ذلك تحت أدلة الإجماع والجواب أن قول هذا المحتج إن الأمة قد اعتقدت أنه لا فرق بين المسألتين يفهم منه أمور
منها أنهم اعتقدوا أن بينهما تعلقا واشتراكا يقتضي التسوية في الحكم وأنه ليس بينهما ما يقتضي التفرقة في الحكم وهذا باطل لأنه لا يجوز أن يتفقوا على ذلك في مسألتين قد فرضنا أنه لا تعلق بينهما
ومنها أن يكونوا قد نصوا على أنه لا فرق بينهما وهذا باطل لأن كلامنا مفروض في أنهم لم ينصوا على ذلك
ومنها أن يكونوا قد اتفقوا على استواء المسألتين في الحكم في الجملة وإن

افترقوا في تفصيله ولا يمكن أن يقال ذلك ها هنا لأنه إنما يقال اتفقوا على استواء حكم المسألتين في الجملة إذا دل الدليل على أن حكم المسألتين حكم واحد إما التحريم وإما التحليل ثم يحتاجون إلى أن ينظروا في حكمها على التفصيل وإنما يدل الدليل على ذلك من حال المسألتين إذا كان بينهما تعلق يقتضي ذلك وكلامنا في مسألتين لا تعلق بينهما وما هذا سبيله لا يعتقد فيهما أنه لا فرق بينهما يبين ذلك أن شطر الأمة إذا أوجب النية في الوضوء لدليل وأوجب غسل النجاسة لدليل آخر فإنه لا يقال إنهم قد اعتقدوا أنه لا يجوز افتراقهما في الوجوب بل عندهم أنه يجوز أن تدل الدلالة على وجوب أحدهما دون الآخر وإنما اتفق إن دل على وجوب هذا دليل وعلى وجوب ذلك دليل فكذلك لو دل دليل على وجوب النية في الوضوء ودل دليل آخر على نفي وجوب غسل النجاسة لم يجز أن يقال قد وجب افتراقهما وأن الأمة أجمعت على وجوب افتراقهما لأن المعقول من ذلك ثبوت تعلق يقتضي وجوب افتراقهما لا أنه اتفق إن دل على وجوب أحدهما دليل وعلى نفي وجوب الآخر دليل آخر ولو وجب أن يفرق بينهما لوجب على من أداه اجتهاده إلى قول الشافعي في مسألة أن يوافقه في جميع مسائله وإن لم يكن بينهما تعلق وإذا لم يكن من الأمة بأجمعها فيما نحن بسبيله اتفاق على حكم ولا على علة لم يدخل ما ذكروه تحت أدلة الإجماع ولو دخل تحت قوله صلى الله عليه و سلم أمتي لا تجتمع على خطأ لدل ذلك على أن ما قالوه ليس بخطأ ولا يدل على أن الفرق بينهما خطأ إذا أدى إليه اجتهاد مجتهد على قول من قال إن كل مجتهد مصيب
واحتج أيضا بأن الأمة إذا اختلفت على قولين في مسألتين فقد أوجبت كل طائفة منها على غيرها أن تقول بقولها أو بقول الطائفة الأخرى وحظرت ما سوى ذلك وذلك يمنع من إحداث قول مفرق بين المسألتين والجواب أنهم إنما أوجبوا ذلك بشرط أن لا يفرق بعض المجتهدين بين المسألتين فلا نسلم أنهم

حظروا ذلك إلا بهذا الشرط كما أنهم جوزوا الأخذ بكل واحد من القولين بشرط أن لا يقع الاتفاق على أحد القولين
فأما القسم الثاني وهو إذا أشارت الأمة إلى حكمين متباينين في مسألتين كما ذكرناه في إيجاب النية في الطهارة وجعل الصوم شرطا في الاعتكاف فإنه إن جاز أن يكون بينهما فرق يذهب إليه مجتهد جازت التفرقة بينهما وإن لم يجز أن يكون بينهما فرق بل كان ينظمهما طريقة واحدة تقتضي فيهما الحكمين المتباينين على بعد ذلك لم يجز أن يخالف بين حكميهما بل الواجب أن يقال فيهما ما قالوه
باب في أهل العصر إذا تأولوا الآية بتأويل أو استدلوا على المسألة بدليل أو اعتلوا فيها بعلة هل يجوز لمن بعدهم إحداث تأويل أو دليل أو علة غير ما ذكروه أم لا
إعلم أن الإنسان إذا استدل بطريقة على حكم من الأحكام أو على فساد شبهة أمارة كانت تلك الطريقة أو دلالة فإنه إما أن يكون أهل العصر الأول قد نصوا على فساد تلك الطريقة أو على صحتها أو لم ينصوا على صحتها ولا على فسادها فإن نصوا على فسادها أو على صحتها فهو على ما نصوا عليه وإن لم ينصوا على ذلك لم يمتنع صحة تلك الطريقة إلا أن يكون في صحتها إبطال حكم أجمعوا عليه والدليل على ما قلناه أن الناس في كل عصر يستخرجون أدلة وعللا ولا ينكر عليهم فكان ذلك إجماعا ولأنه لو لم يجز ذلك لكان إما أن لا يجوز لأنه مخالف للإجماع المتقدم ومعلوم أن الأمة لم تحكم بفساد الدليل الثاني نصا ولا حكمها بصحة دليلها يقتضي فساد غيره إذ لا يمتنع أن يكون على المذهب الواحد أكثر من دليل واحد
ويمكن من منع من ذلك أن يستدل بأشياء

منها قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين والدليل الثاني غير سبيل المؤمنين فالوعيد لاحق بمن اتبعه والجواب أن قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين خرج مخرج الذم لمن اتبع غير سبيلهم فالمفهوم منه من اتبع ما نفاه المؤمنون وحكموا بإبطاله دون ما لم يحكموا بفساده بل لو اتفق لهم لجاز أن يقولوا به ألا ترى أنه لو لم تحدث المسألة في العصر الأول وحدثت في العصر الثاني جاز أن يقول أهل العصر الثاني فيها قولا ولا يقال إن ذلك اتباع غير سبيل المؤمنين ممن تقدم لما لم يكونوا قد نفوه وحكموا بإبطاله
ومنها أن قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر يدل على أنهم يأمرون بكل معروف لأجل لام الجنس فلو كان الدليل الثاني معروفا لأمروا به والجواب أن قوله وتنهون عن المنكر يقتضي أيضا أن ينهوا عن كل منكر فلو كان الدليل الثاني باطلا لكان منكرا ولنهوا عنه فلنا في الظاهر مثل ما لهم
ومنها أن قوله صلى الله عليه و سلم أمتي لا تجتمع على خطأ يدل على أن ما ذهبوا عنه ليس بخطأ وقد ذهبوا على الدليل الثاني فلم يكن ذهابهم عنه خطأ وإذا لم يكن خطأ لم يكن ما ذهبوا عنه دليلا والجواب إن أردتم بقولكم ذهبوا عن الدليل الثاني أنهم حكموا بفساده لم يوجد ذلك في مسألتنا وإن أردتم أنهم لم ينصوا على أنه دليل أو لم يستدلوا به فذلك صحيح وتركهم الاستدلال به والنص على كونه دليلا ليس بخطأ ولا يجب من ذلك فساد الدليل لأنه إنما كان تركهم الاستدلال به غير خطأ لاستغنائهم بدليلهم عنه
ومنها قولهم إنه لو جاز أن يذهب على أهل العصر الأول الدليل الثاني جاز أن يوحي الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه و سلم دليلين على حكم واحد فيسن النبي صلى الله عليه و سلم ذلك الحكم لأجل أحد الدليلين دون الآخر والجواب أن يقال لهم قد

==========================

ج4. كتاب : المعتمد في أصول الفقه محمد بن علي بن الطيب البصري


جمعتم بين الأمرين بغير علة وأيضا فإن أوحى الله تعالى إلى نبيه بأحد الدليلين فيسن الحكم عقيبه ثم أوحى إليه بالدليل الثاني فإنه إنما يسن الحكم لمكان الدليل الأول لأنه لم يكن سواه حين سن الحكم ويكون الدليل الثاني تأكيدا وإن كان قد أوحى إليه بهما معا فلا بد من أن يكلفه فهم المراد بهما ولا بد من أن يفهم المراد بهما فلا يجوز أن يدعوه أحدهما إلى أن يسن الحكم دون الآخر لأن في ذلك رفضا للآخر وإنما قلنا لا بد من أن يكلفه أن يفهم المراد بهما لأنه لا يجوز أن يخاطبه بما لا يفهم المراد منه ولأنه إن كلفه أن يبلغ كلا الدليلين إلى أمته وجب أن يفهم المراد به لأنه لا يؤمن أن يسأل عنه وإذا لم يعرف المراد به نفر عنه
ومنها أنه لو كان الدليل الثاني صحيحا لما جاز أن يذهب عن الصحابة مع تقدمها في العلم والجواب أنه يجوز أن يذهب عنهم إذا لم يطلبوه استغناء بما ظفروا به من الدليل وأهل العصر الثاني إنما ظفروا به لأنهم تنبهوا بما ذكره الأولون واستغنوا عن طلب الدليل الأول فشغلوا أفكارهم وزمانهم في طلب غيره
فإن قيل أفكلف الأولون طلب الدليل الثاني قيل كلفوا ذلك على سبيل التطوع وترك ذلك جائز والقول في العلة كالقول في الدلالة لأن العلة دلالة على الحكم في الفرع إلا أن تعود العلة بالنقض على ما اجتمعوا عليه بأن يوجد في موضع أجمعت الأمة فيه على نقيض حكمها نحو أن يعلل معلل تحريم البر بأنه جسم لأن ذلك موجود فيما أجمعوا على إباحته فمن لم يقل بتخصيص العلة لا يجيز ذلك
وأما إذا تأولت الأمة الآية بتأويل فإنهم إن نصوا على فساد ما عداه لم يجز إحداث تأويل سواه وإن لم ينصوا على ذلك فمن الناس من منع من تاويل زائد وأجراه مجرى المذهب الزائد ومنهم من أجازه وهو الصحيح لأن التابعين ومن بعدهم قد أحدثوا تأويلات لم يكن ذكرها السلف ولم ينكر عليهم ولأنه ليس في إحداث تأويل آخر مخالفة لإجماعهم لأنهم لم ينصوا على إبطاله وليس في

إجماعهم على التأويل الأول إبطال الثاني لأنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى قد أراد كلا التأويلين وأراد أن يفهم بالخطاب شيئا ما إما هذا وإما هذا وإما كلاهما وكل ذلك مخير فيه فإذا فهمت الأمة أحدهما فقد خرجت عما كلفته لأنهم كلفوا فهم كلا التأويلين بشرط أن يطلبوه
باب في أهل العصر إذا اختلفوا في المسألة على قولين هل يجوز وقوع الاتفاق على أحدهما أم لا
حكى قاضي القضاة عن الصيرفي أنه منع من اتفاق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول وأجازه أكثر الناس ولم يجعلوا الاختلاف المتقدم متضمنا على جواز الأخذ بكل واحد من القولين على كل حال ووجهه انه إن أريد بجواز انعقاد الإجماع إمكانه فلا شبهة في أن الجماعة الكثيرة يمكنها أن تتفق على موجب الدلالة ولهذا جاز انعقاد الإجماع المبتدأ وإن أريد به الحسن فلا شبهة أيضا في حسن إجماع الجماعة على مقتضى الدلالة وإن أريد بالجواز الشك فمعلوم أنه لا دليل يدل على القطع على نفي إجماعهم على حكم من الأحكام حتى لا يشك في ذلك ومما يدل على إمكان ذلك وحسنه أن الصحابة توقفت في الامامة ثم أطبقت على إمامة أبي بكر رضي الله عنه واتفق التابعون على المنع من بيع أمهات الأولاد بعد اختلاف الصحابة فيه
والمخالف يحتج بأن اختلاف أهل العصر الأول في ضمنه اتفاق منهم على جواز تقليد العامي لكل واحد من القولين وجواز أخذ المجتهد بكل واحد منهما إذا أداه اجتهاده إليه فلو أجمع أهل العصر الثاني على أحد القولين لكان لا يخلو إما أن يصح الإجماعان أو يفسدا أو يصح احدهما ويفسد الآخر وليس يجوز أن يفسد أولا أحدهما لأن الأمة لا تجتمع على خطأ ولو كانا صحيحين لكان الثاني منهما ناسخا للأول والنسخ بعد ارتفاع الوحي محال ولو جاز ذلك لجاز أن يتفق أهل العصر على قول ويتفق أهل العصر الثاني على

خلافه وفساد هذه الأقسام يمنع من اتفاقهم على أحد القولين والجواب أن القائلين بأن الحق في واحد لا يجوز لهم أن يحتجوا بهذا الكلام لأن عندهم أن المجتهد لا يجوز أن يأخذ إلا بالحق من القولين وإنما يجوز للعامي أن يقلد من يفتيه فإذا اتفقوا على أحدهما لم يجد العامي من يفتيه بالآخر فلا يمكن أن يقال قد حرم عليه الأخذ به إذا أفتي به بعد أن كان حلالا وأما القائلون بأن كل مجتهد مصيب فجوابهم إن احتجوا بذلك هو أن المختلفين في المسألة إنما سوغوا الأخذ بكل واحد من القولين لأن المسألة مختلف فيها وهي من مسائل الإجتهاد لأنهم لو سئلوا عن جواز الأخذ بكل واحد منهما لعللوا بذلك فعلى هذا المحتج أن يبين أن المسألة من مسائل الاجتهاد وإن وقع الاتفاق عليها حتى يصح دليله وقد سلف استقصاء هذا الجواب من قبل في باب متقدم
وأما قولهم لو جاز أن يجتمع أهل العصر الثاني على خلاف ما اجتمع عليه الأولون من جواز الأخذ بكل واحد من القولين لجاز اتفاق أهل العصر الأول على قول واتفاق أهل العصر الثاني على قول خلافه فلا يستقر إجماع فباطل لأنا قد بينا أن المختلفين قد سوغوا الأخذ بكل واحد من القولين بشرط قد زال وأهل العصر الثاني قد اجمعوا على المنع من ذلك مع زوال الشرط فلم يجمع الآخرون على خلاف ما أجمع عليه الأولون وليس كذلك إذا أجمع الأولون على قول وأجمع الآخرون على خلافه
باب في الإجماع إذا عارضته الأدلة اعلم أنهم قد يجمعون على القول وعلى الفعل وعلى الرضا واتفاقهم على الفعل لا يقتضي أن غيرهم مثلهم فيه إلا لدلالة وإذا رضوا بكون القول قولا لهم ولغيرهم كان صوابا منهم ومن غيرهم فأما إذا قالوا قولا وعارضه قول

النبي صلى الله عليه و سلم فلا يجوز أن نعلم أن قصد النبي صلى الله عليه و سلم بكلامه هو ظاهره ونعلم أن قصدهم بكلامهم ظاهره مع تعارض الكلامين لأن الأدلة لا تتناقض ثم لا يخلو إما أن نعلم أن قصد النبي صلى الله عليه و سلم ظاهره أو نعلم أن قصد الامة بكلامهم هو ظاهره أو لا نعلم قصد النبي صلى الله عليه و سلم ولا قصد الامة فان علمنا قصد النبي صلى الله عليه و سلم وجب تأويل كلام الامة على موافقة كلام النبي صلى الله عليه و سلم وإن علمنا قصد الامة بكلامهم وجب تأويل قوله صلى الله عليه و سلم وإن لم نعلم قصد أحدهما فان كان أحدهما أخص من الآخر خصصنا الأعم بالأخص وإن لم يكن أحدهما أخص من الآخر فانهما يتعارضان لأنه يحتمل أن تكون الامة قد عرفت أن النبي صلى الله عليه و سلم قصد بكلامه غير ظاهره ويحتمل أن تكون عرفت أنه قصد ظاهر كلامه وأرادت هي بكلامها غير ظاهره ويحتمل أو يقال لو علمت أن النبي أراد بكلامه ظاهره لما أطلقت كلاما يفيد ظاهره مخالفته فلا بد والحال هذه من أن تكون قد علمت أنه أراد بكلامه غير ظاهره
وأما نسخ أحدهما بالآخر فلا يصح وقد تكلمنا في ذلك في باب الناسخ والمنسوخ
باب في أن الأمة لا تجتمع إلا عن طريق اعلم أن الأمة لا تجتمع إلا عن دلالة أو أمارة ولا تجتمع عبثا ذكر قاضي القضاة في الشرح أن قوما أجازوا انعقاد الإجماع عن توفيق لا توفيق بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب وإن لم يكن لهم دلالة ولا أمارة والدليل على المنع من ذلك أن مع فقد هذه الدلالة والأمارة لا يجب الوصول إلى الحق ولأنهم ليسوا بآكد حالا من النبي صلى الله عليه و سلم ومعلوم أن النبي صلى الله عليه و سلم لا يقول الا عن وحي فالامة أولى أن لا تقول إلا أن عن دليل ولأنه لو جاز لهم ذلك لكان قد جاز لكل واحد منهم أن يقول بغير دلالة لأنهم إنما يجتمعون على القول بأن

يقول كل واحد منهم به وإذ جاز ذلك لآحادهم لم يكن للمجمعين مزية في ذلك
فان قيل مزية الإجماع في ذلك أنه يكون حجة وكل واحد منهم له أن يقول عن غير دلالة ولا يكون قوله حجة فاذا أجتمعوا كان حجة قيل إنما أردنا أن لا يكون للإجماع مزية في جواز القول بغير دلالة والخلاف في ذلك يرجع إلى قول مويس بن عمران من أنه يجوز للعالم أن يقول بغير دلالة بأن يعلم الله تعالى أنه لا يقول إلا بالصواب
واحتج المخالف بأشياء
منها أن الإجماع حجة فلو لم ينعقد إلا عن دلالة لكانت الدلالة هي الحجة ولم يكن في كون الإجماع حجة فائدة والجواب أن هذا يبطل بقول النبي صلى الله عليه و سلم فانه حجة ولا يقول إلا عن دلالة ولا يلزم إذا صدر الإجماع عن حجة أن لا يكون في كونه حجة فائدة وعلى أنه لا يمتنع أن يكون قولها حجة وما صدر قولها عنه حجة فيكون في المسألة حجتان وأيضا فالفائدة في ذلك أن يسقط عنا البحث عن الحجة ويسقط عنها نقلها ويحرم علينا الخلاف الذي كان سائغا في مسائل الاجتهاد على قول من قال كل مجتهد مصيب
ومنها أن الإجماع قد انعقد من غير دليل نحو إجماعهم على بيع المراضاة من غير عقد والاستصناع واجرة الحمام وغير ذلك وأخذ الخراج وأخذ الزكاة من الخيل والجواب أن كل ذلك ما وقع إلا عن دليل وإن جاز أن لا ينقل لما ذكرناه من أن الإجماع لا ينعقد إلا عن دليل وأما الاستصناع وعقد المراضاة فقد كانا على عهد النبي صلى الله عليه و سلم ولم ينكره فدل على جوازه على أن بيع المراضاة لما جرت العادة به جرى الأخذ والإعطاء في الدلالة على الرضا مجرى القول وكذلك اجرة الحمام وأما قسمة أرض العدو فللإمام أن يقسمها وأن لا يقسمها ويعمل فيها بحسب المصلحة ولهذا لم يقسم النبي صلى الله عليه و سلم

منازل مكة ولا آبار هوازن ومياههم وأما أخذ الزكاة من الخيل فليس باجماع ولولا أنه قد علم من أوجبها من النبي صلى الله عليه و سلم مما دل على أخذ الزكاة منها إذا كثرت لكان إيجابه لها نسخا للشريعة ولما ترك النكير عليه
باب في الأمة إذا أجمعت على موجب الخير هل يكون الخبر طريقا إلى ما أجمعت عليه الأمة أم لا
اعلم أن الأمة إذا أجمعت على حكم كان في الأخبار ما يدل عليه فاما أن يكون خبر واحد أو متواترا فان كان متواترا فاما أن يكون نصا لا يحتاج معه إلى استدلال طويل واجتهاد أو يحتاج معه إلى ذلك فان كان نصا علمنا أنهم أجمعوا لأجله لأنه لا يجوز مع تواتره أن لا يقفوا عليه مع طلبهم لما يدل على الحكم ولا يجوز مع ظهوره أن لا يدعوهم إلى الحكم فيكون طريقهم إليه سواء ظهر فيهم خبر مثله أو لم يظهر وإن كان يحتاج في الاستدلال به إلى اجتهاد طويل وبحث لم يمتنع أن يكونوا اجمعوا لأجله ولم يمتنع أجمعوا لأجل خبر متواتر هو أجلى منه لم ينقل اكتفاء بالإجماع إذا استدل به بعضهم واستدل الباقون بخبر آخر أو بقياس
وإن كان الخبر منقولا بالآحاد لم يخل إما أن يروي لنا أنه ظهر فيهم أو لا يروي ذلك فان لم يرو ذلك جوزنا أن يكون ظهر فيهم فلم ينقل إلينا ظهوره فأجمعوا لأجله وجوزنا أن يكون ظهر فيهم خبر آخر أجمعوا أو بعضهم لأجله ولم ينقل إلينا اكتفاء بالإجماع لأنه إذا جاز أن يكون ذلك الخبر كان ظاهرا فيهم فلم ينقل ظهوره إلينا جاز أن يظهر فيهم خبرا آخر فلا ينقل إلينا أصلا وإن كان قد روى أن ذلك الخبر قد كان ظهر فيهم فإما أن يروي بالتواتر أو بالآحاد فان كان قد روى بالآحاد وجوزنا صدق الراوي وأن يكونوا أجمعوا لأجله وجوزنا كذبه فلا يقطع على أنهم أجمعوا لأجله

ولكن يغلب صدقه على الظن
وإن نقل ظهور الخبر فيهم بالتواتر جاز أن يكونوا أجمعوا لأجله ويقطع على ذلك من حاله إن قالوا أجمعنا لأجله أو كانوا متوقفين عن الحكم بأجمعهم أو كان بعضهم قد حكم بخلافه فلما سمعوا الخبر قالوا به وإنما قلنا إنه يجوز أن يجمعوا لأجل خبر الواحد لأن خبر الواحد طريق إلى الحكم وليس يمتنع في الجماعة الكثيرة أن يجمعا على الحكم طريق من طرقه وإن لم يقولوا أجمعنا لأجله ولا نقل رجوعهم إليه بعد توقفهم جوزنا أن يكونوا حكموا بغيره ولم ينقل اكتفاء بالإجماع وبالجملة متى جوزنا أن لا ينقل الخبر المتواتر اكتفاء بالإجماع على موجبه لم يجز القطع على أن السلف أجمعوا لأجل خبر الواحد ولا خبر متواتر محتمل إلا أن يقولوا إنا حكمنا لأجله أو يجمعوا على موجبه عند سماعهم له
فان قيل فاذا أجمعوا على مقتضى خبر الواحد أيقطعون على صدق المخبر قيل لا لأنه يجوز أن تكون المصلحة أن نحكم بما ظننا صدقه من الأخبار سواء كانت صادقة في أنفسها أو كاذبة
باب في جواز وقوع الإجماع عن اجتهاد اعلم أن القائلين بأن الإجماع لا ينعقد إلا عن طريق اتفقوا على جواز انعقاده عن دلالة لأنه لو لم يجز انعقاده عن دلالة لم يجز عن أمارة وفي ذلك تعذر انعقاده وأن يكون الله تعالى قد أمرنا باتباع ما يتعذر وقوعه واختلفوا في انعقاده عن أمارة فمنع قوم من أهل الظاهر من ذلك خفيت الدلالة أم ظهرت وأجاز أكثر الفقهاء انعقاده عن الجلي والخفي من الأمارات وأجاز قوم انعقاده عن الجلي دون الخفي

ودليلنا أن الأمارة طريق إلى الحكم كما أن الدلالة طريق إلى الحكم ولا مانع من انعقاد الإجماع عنها كما لا مانع من انعقاد الإجماع عن الأدلة خفيها وجليها فكما جاز ما أمكن انعقاده عن جلي الأدلة وخفيها جاز مثله في الأمارات
فان قيل لم قلتم لا مانع من ذلك قيل لأنه لو منع مانع من ذلك كان معقولا وكان له تعلق معقول وما يعقل من ذلك إما أن يرجع إلى الدواعي والصوارف وإما أن يرجع إلى أحكام متنافية وما يرجع إلى الدواعي شيئان أحدهما أن يقال إن الأمة على كثرتها واختلاف همها وأغراضها لا يجوز أن يجمعها الأمارة مع خفائها ولأن أمارة الحكم الواحد قد تكون متغائرة فتكون أمارة بعضهم غير أمارة الآخرين فلا تكون الأمارة الواحدة داعية لهم إلى ذلك ولو جاز مع تعذر كون الأمارة داعية لجميعهم إلى الحكم أن يجمعوا عليه جاز أن يجتمعوا على مأكل واحد وعلى الكذب في شيء واحد
ويفارق ذلك اجتماعهم عن دلالة أو شبهة لأن الأدلة ظاهرة والشبه تتقدر بتقدير الأدلة عند من صار إليها ويفارق إجماع الخلق العظيم لحضور الأعياد لأن الداعي إلى ذلك ظاهر فيهم الجواب أن قولهم إن كثرة عدد الامة واختلاف اغراضها يمنع من اجتماعها على حكم الأمارة مع خفائها دعوى وليس يمتنع أن تجمعهم الأمارة الواحدة أو الأمارات على الحكم الواحد وإن اختلفت الأغراض وكثر العدد لأنهم قد اتفقوا على وجوب المصير إلى الأمارة فاذا ظهرت الأمارة لجميعهم دخلت في الجملة التي اعتقدوها ولذلك اتفق اصحاب أبي حنيفة في كثير من المسائل وهم خلق عظيم ويتفق كثير من أهل الحروب في كثير من الحالات في الآراء واتفق الخلق العظيم على المصير إلى موضع الأعياد لما تقدم منهم اعتقاد المصير إلى ذلك
ويفارق ذلك اتفاقهم على الكذب في شيء معين لأنه لا داعي لهم إلى ذلك

وقد بينا أن لما ذكرناه داعيا ولأنه لا يخطر ببالهم كلهم الشيء الذي يكذبون فيه إلا بأن يتراسلوا فأما استنباط الحكم بالأمارة فلا يحتاج إلى تراسل لأن الأمارات سائغة في المجتهدين لا يحتاجون فيها إلى تراسل
وأما اتفاق جميعهم على مأكل واحد فانما لم يجز لأن ذلك تابع لتساوي شهواتهم وتساوي إمكانهم وقد علمنا أنهم مختلفون في الشهوات وإمكان نيل مشتهاها فمنهم من يشتهي ما ينفر طبع الآخر عنه ومنهم من تقوى شهوته لما تنقص شهوة الآخر له فتدعوه قوة شهوته إلى تناوله دون الآخر وقد يتفق الاثنان في شهوة الشيء ويتعذر على أحدهما تحصيله أو يشق عليه ذلك ولا يتعذر على الآخر ولا يشق فلهذه الامور لم يتفقوا على مأكل واحد
وقولهم إن الحكم الواحد لا يكون له إلا أمارة باطل لأنه قد يجوز أن تكون له أمارة واحدة فتكون داعية لجميعهم إلى حكمها وقد تكون له أمارتان إحداهما أظهر من الأخرى فتدعو أظهرهما جميعهم إلى حكمها وقد تتساويان فيستدل بعضهم باحداهما ويستدل الباقون بالاخرى أو يستدل كل واحد منهم بكلتيهما فيتفقون في الحكم وإن تغايرت الأمارات وتفرقتهم بين الأمارات والشبهة لا تصح لأن الشبهة لا تعلق لها والأمارات لها تعلق فاذا جاز أن يجتمع الخلق العظيم على الخطأ لما لا تعلق به فبأن يجوز أن يجتمعوا لما له تعلق أولي
والوجه الآخر من الدواعي هو قولهم إن من الامة من يعتقد بطلان الحكم بالأمارة وذلك يصرفه عن الحكم بها وليس في مقابلة ذلك داع فيدعوه إلى حكمها وذلك يمنع من اجتماع كل الامة على حكمها والجواب أن هذا الخلاف حادث عندنا والصحابة كانت مجمعة على صحة الاجتهاد فهذه الشبهة لا تتناول عصر الصحابة وقد أجيب عن ذلك بأنه لا يمتنع فيمن اعتقد بطلان الحكم بالأمارة أن يصير إلى حكمها إذا كانت ظاهرة لاعتقاده كونها دلالة فيؤدي ذلك إلى اتفاق الكل على حكمها وهذا الجواب لا يتوجه إلى من منع

من اجتماعهم على الأمارة الخفية لهذه الشبهة وأيضا فان من اعتقد قبح الحكم بالأمارة ثم حكم بها لاعتقاده فيها أنها دلالة فقد أقدم على اعتقاد لا يأمن كونه قبيحا وذلك قبيح وغذا كان كذلك لم تكن كل الأمة قد أصابوا في ذلك الحكم ولا يجوز أن تجمع الامة فلا يكون كل واحد منهم مصيبا فيما أجمعوا عليه
وبهذا يجاب من انفصل عن الشبهة بأن قال لا يمتنع فيمن اعتقد قبح الحكم بالأمارة أن يحكم بها وإن علم أنها أمارة إذا لم يجد سواها إذ لا يمتنع في بعض الامة أن يناقض
وأما المنع من انعقاد الإجماع عن اجتهاد لأنه يؤدي إلى اجتماع أحكام متنافية فهو أن يقال إن الحكم الصادر عن اجتهاد لا يفسق مخالفة ويجوز مخالفته فلا يجعل أصلا ولا يقطع عليه ولا على تعلقه بالأمارة والحكم المجمع عليه لا يجوز مخالفته ويفسق مخالفه ويجعل أصلا ويقطع عليه وعلى تعلقه بطريقه فلو صدر الإجماع عن اجتهاد لأجتمعت فيه هذه الأحكام على تنافيها والجواب أما قولهم إن الحكم المجتهد فيه يجوز مخالفته فان القائلين بأن الحق في واحد لا يجوزون لأحد مخالفة الحق في مسائل الاجتهاد ألا تراهم يخطئون من خالفهم وإن أسقطوا عنه المأثم وكثير منهم يجوز للمقلد أن يقلد من يفتيه بخلاف الحق ولا يجوز ذلك فيما اتفق عليه ويقول إن ذلك من حق الاجتهاد إلا أن يصدر عنه الإجماع فان صدر عنه الإجماع لم يجز التقليد في خلافه فأما القائلون بأن كل مجتهد مصيب فانهم يجوزون لغيرهم من المجتهدين أن يخالفوهم في الحكم الذي قالوه عن اجتهاد ولا يجوزون مثله فيما اتفق عليه ويقولون إن جواز المخالفة من حكم الاجتهاد إذا لم يقترن به إجماع وليس هو من حكمه على الإطلاق فيلزم التنافي كما أن ذلك من حكم الاجتهاد إذا لم يقترن به تصويب النبي صلى الله عليه و سلم لأن المجتهد لو اجتهد مع غيبة النبي صلى الله عليه و سلم فبلغه ذلك فصوبه وحكم به فانه لا يجوز مخالفته فبان أن جواز

المخالفة ليس بحكم الاجتهاد على الإطلاق فاذا صوب النبي صلى الله عليه و سلم المجمعين كان كتصويبه المجتهد في المنع من مخالفة ذلك الحكم والعامي لا يجوز له مخالفة الحكم المجتهد فيه إذا لم يجد من يفتيه بغيره ولا يجوز للمجتهد أن يخالف ما حكم به عليه القاضي ولا يخرج منه فبان أن جواز المخالفة ليس من حق الاجتهاد على الإطلاق وأيضا فالمخالف يجوز أن ينعقد الإجماع عن خبر الواحد مع أن الإجماع لا يجوز مخالفته ويجوز مخالفة الحكم الذي رواه الواحد إذا أدى الاجتهاد في حالة إلى ترك حديثه وترجيح غيره عليه ولم يؤد انعقاد الإجماع عنه إلى التنافي فكذلك انعقاده عن اجتهاد
وأما قولهم إنه لا يفسق من خالف حكم الاجتهاد ويفسق من خالف الإجماع فجواب الفريقين عنه أن ذلك ليس من حكم الاجتهاد على الإطلاق بل هو من حكمه إذا لم يقترن به إجماع كما أنه من حكمه إذا لم يقترن به تصويب من النبي صلى الله عليه و سلم
وأما قولهم إن حكم الاجتهاد لا يجوز أن يجعل أصلا يجوز ذلك في حكم الإجماع فان من قال كل مجتهد مصيب لا يجوز لمن لم يؤده اجتهاده إلى الحكم أن يجعله اصلا لأن الواجب عليه غير ذلك الحكم فأما إذا أداه اجتهاده إليه فان منهم من يجعله أصلا ويقيس عليه فرعا آخر بعلة سوى العلة التي ثبت بها الحكم في المسألة المجتهد فيها ومنهم من لا يجعله أصلا لا لأنه مجتهد فيه لكن لأنه لا يجوز أن يقاس عليه إلا بعلة وتلك العلة يمكن أن يقاس الفرع بها على الأصل الأول فلا يكون لجعل ذلك الفرع أصلا معنى فأما الحكم المجمع عليه من جهة الاجتهاد فانه قد صار مقطوعا به كالمنصوص عليه فجاز أن يقاس عليه فرع من الفروع بالعلة التي ثبت بها الحكم فيه ويكون قياس الفرع عليه بتلك العلة كقياسه على الأصل الأول لأن كل واحد منهما طريقه مقطوع به وأما القائلون بأن الحق في واحد فانهم لا يجوزون القياس على ما هو خطأ وما ليس بخطأ فان قولهم في جعله أصلا ينبغي أن

يكون على ما ذكرناه الآن
وأما قولهم إن الحكم الصادر عن اجتهاد غير مقطوع به وعلى تعلقه بالأمارة فجواب أكثر من يقول بأن الحق في واحد أن ذلك هو من حق الاجتهاد إذا انفرد عن إجماع أو تصويب من النبي صلى الله عليه و سلم فاذا اقترن به أحدهما قطع به وعلى تعلقه بالأمارة وإنما يعلم تعلقه بالأمارة بما اقترن به ويجري مجرى أن يكون وقوف غلام زيد على باب الأمير أمارة على كون زيد في الدار فاذا شاهدناه فيها أو أخبرنا نبي قطعنا على كونه فيها وأن حكم الأمارة متعلق بها وكذلك إذا علمنا صحة الإجماع ثم أجمعوا عن أمارة وأما القائلون إن كل مجتهد مصيب فانهم يقولون إن المجتهدين يقطعون على لزوم الحكم لمن أداه اجتهاده إليه كما يقطعون على لزوم الحكم المجمع عليه ويقطعون على أنه غير لازم لمن لم يؤده اجتهاده إليه ويقولون هذا حكم الاجتهاد ما لم يقترن به إجماع ولا تصويب من النبي صلى الله عليه و سلم
وذكر في الشرح أن الأمة إذا أجمعت على حكم الأمارة لم يقطع على تعلق الحكم بها إلا أن تكون أمارة واحدة وتجمع الامة على تعلق الحكم بها ومتى لم يجتمع كلا الشرطين لم يقطع على ذلك والأولى أن يقال يقطع على تعلق الحكم بها لأنه ليس لذلك معنى أكثر من ثبوت حكمها كما ذكرناه في علمنا بأن زيدا في دار الأمير إذا شاهدناه فيها بعد مشاهدتنا لوقوف غلامه على الباب ويدل على جواز وقوع الإجماع عن اجتهاد أنه قد وقع ذلك ولم يكن ليقع إلا ووقوعه جائز ويدل على وقوعه إجماع الصحابة من جهة الاجتهاد على مبلغ حد الشرب وإجماعهم على قتال أهل الردة وإمامة أبي بكر وذكرهم وجه اجتهادهم فان أبا بكر قال لا أفرق بين ما جمع الله تعالى فقاس الزكاة على الصلاة في وجوب قتال المخل بها ولو كان معهم في قتال ما نعي الزكاة نص لنقلوه وقد ذكروا في إمامة أبي بكر تقديم النبي صلى الله عليه و سلم إياه في الصلاة ولقائل أن يقول إنما احتج أبو بكر بالآية على وجوب الزكاة ثم استفاد

وجوب قتالهم من أجل أن إنكار المنكر يكون بالقول فان نفع وإلا فبالقتال
باب في الطريق إلى معرفة الإجماع اعلم أنه إذا لزمنا المصير إلى الإجماع فلا بد من أن يكون لنا طريق إلى العلم به ولا يخلو إما أن يكون الإجماع معلوما بالعقل ضرورة أو استدلالا وإما معلوما بالإدراك ومعلوم أنا لا نعلم بأول العقل أن الأمة مجمعة على حكم من الأحكام ولا باستدلال عقلي فبقي أن الإدراك هو الطريق إلى ذلك إما أن ندرك قولهم بالسماع أو نشاهدهم يفعلون فعلا وإما أن نسمع الخبر عنهم وإذا لم يجز أن يكون المخبر عنهم هو الله ورسوله لأن الوحي مرتفع كان المخبر عن الأمة غيرهما فثبت أن طريق الإجماع هو سماعنا اقاويلهم ومشاهدهم فاعلين أو النقل عنهم والسماع إما أن يتناول قول كل واحد منهم أو يتناول قول بعضهم فان تناول قول كل واحد منهم كان طريقا كافيا وإن تناول قول بعضهم لم يكن طريقا إلى إجماعهم إلا بأحد أمرين إما أن ينقل لنا ذلك القول عن الباقين وإما أن ينقل سكوت الباقين عن النكير مع انتشار القول فيهم وارتفاع التقية والنقل عنهم إما أن يكون نقلا عن جميعهم فيكتفى به وإما أن يكون نقلا عن بعضهم فلا يكون طريقا إلا بأن نسمع من الباقين مثل ذلك القول وإما بأن نعلم سكوت الباقين عن النكير مع انتشار القول فيهم
والخبر عن المجمعين ضربان تواتر وآحاد وكل واحد منهما طريق إلى الإجماع ونحن نذكر القول المنتشر في الصحابة لدخوله في الجملة التي ذكرناها ولتعلق شبهة المخالف به فنقول إن قول بعض أهل العصر إذا انتشر في جميعهم وسكت الباقون فلم يظهروا خلافا فأما أن يعلم أن سكوتهم سكوت راض يكون ذلك القول قولا له أو لا يعلم ذلك من حالهم فان علم ذلك كان إجماعا لأنهم لو قالوا قد رضينا بهذا القول ونحن معتقدون له كان

إجماعا فاذا علمنا ذلك ضرورة فيهم على قول من يجوز وقوع العلم بالمذاهب باضطرار كان آكد وإن لم نعلم باضطرار أنهم رضوا بذلك القول قولا لهم فلا يخلو إما أن يكون من مسائل الاجتهاد أو لا يكون من مسائل الاجتهاد فان لم يكن من مسائل الاجتهاد فإما أن يكون على الناس فيه تكليف أو لا يكون عليهم فيه تكليف فإن لم يكن عليهم فيه تكليف كالقول بأن عمارا أفضل من حذيفة رضي الله عنهما جاز أن يكون خطأ لا يلزم الباقين إنكاره لأنه إنما يلزمهم إنكاره إذا علموا أنه منكر فاذا لم يلزمهم النظر في كونه منكرا جاز أن لا ينظروا فيه فلا يعلمون أنه منكر فلا يلزمهم إنكاره وليس بممتنع أن يتطابقوا على ترك إنكار ما لا يجب إنكاره ألا ترى أنهم لو سمعوا من يخبر بأن زيدا في الدار لم يلزمهم أن ينظروا هل أخبر عن ثقة أو على حسب ظنه أو أخبر قطعا وهو لا يأمن كونه كاذبا وإذا لم يلزمهم ذلك لم يجب الإنكار عليهم وإن كان على الناس في المسألة تكليف فانه إذا لم ينكر الباقون ذلك القول يكون صوابا لأنه لو كان خطأ لكانوا قد تطابقوا على ترك ما يجب عليهم من إنكار المنكر وإذا كان ذلك القول صوابا فخلافه خطأ لأن المسألة مما ألحق في واحد منه
فإن قيل أيجوز مع كون ذلك القول صوابا أن يكون من سكت يتوقف فيه غير قائل به قيل لا يجوز ذلك لأن إطباقهم على ترك الإنكار يجري مجرى قولهم إنه ليس بمنكر في الدلالة على أن ذلك القول غير منكر ولا يجوز أن يقولوا ذلك فيكون القول غير منكر إلا لأنهم بأجمعهم قالوه
وأما إذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد فالقائلون بأن الحق في واحد وما عداه يجب تركه يقولون في ذلك ما قلناه الآن فيما ليس من مسائل الاجتهاد والقائلون بأن كل مجتهد مصيب اختلفوا فقال أبو علي يكون ذلك إجماعا إذا انتشر القول فيهم ثم انقرض العصر وقال أبو هاشم لا يكون إجماعا ولكنه يكون حجة وقال أبو عبد الله لا يكون إجماعا ولا حجة

وحجة أبي علي أن المتعالم من أهل الاجتهاد إذا سمعوا الحادثة وطال بهم الزمان أن يفكروا فيها فان اعتقدوا خلاف ما انتشر من القول فيها أظهروه إذا لم تكن تقية ولا بد إذا كانت تقية أن يظهر سببها وأيضا فانه إن مات قبل من يتقيه صارت المسألة إجماعا وإن مات من يتقيه قبله وجب أن يظهر قوله فبان أنه لا يجوز أن ينقرض العصر من غير ظهور خلاف لما انتشر إلا وهو متفقون عليه وأيضا فان المتقي قد يظهر قوله عند ثقاته وخاصته فلا يلبث القول أن يظهر
وحجة من قال إنه لا يكون حجة أنه لا يمتنع أن يكون من سكت لم يفكر في المسألة لتشاغله بغيرها من الأشغال كالجهاد وسياسة الناس أو الفكر في غيرها من المسائل فلا يكون القول المنتشر إلا قول بعضهم وليس يؤدي ذلك إلا أن تذهب الأمة كلها عن الحق لأن ذلك القول المنتشر هو حق لأن المسألة من مسائل الاجتهاد وكل مجتهد فيها مصيب
وحجة أبي هاشم في أن ذلك حجة هي أن الناس في كل عصر يحتجون بالقول المنتشر في الصحابة إذا لم يعرف له مخالف
وأبو عبد الله لا يسلم هذا الإجماع على أن من يحتج بذلك يجعله إجماعا لأنه يقول قد انتشر هذا القول ولا يعرف له مخالف فكان إجماعا
وأما نقل الإجماع بخبر الواحد فمن الناس من لم يعمل به ومنهم من عمل به وهو الصحيح لأن قولهم حجة كما أن كلام النبي صلى الله عليه و سلم حجة فاذا لزمتنا الأحكام بنقل كلام النبي صلى الله عليه و سلم من جهة الآحاد فكذلك يلزمنا أن ينقل كلام الامة من جهة الآحاد فأما من قال إنه لا طريق إلى معرفة الإجماع فله أن يحتج فيقول إن المجمعين إما أن يكونوا هم الصحابة أو غيرهم من أهل الأعصار أما غيرهم فان كثرتهم وتباعد ديارهم يمنع أن نعرف في الحوادث قولهم بأجمعهم ألا ترى أن أهل بغداد لا يعرفون أهل العلم بالمغرب فضلا أن

يعرفوا أقاويلهم في الحوادث وأما الصحابة فانا لم نشاهدهم فيشافهونا بالحكم ولم ينقل عن كل واحد منهم قول في الحوادث لا بالتواتر ولا بالآحاد وليس معنى إلا أن بعضهم يقول وينتشر قوله في الباقين ولا يظهر له مخالف وليس هذا باجماع على الصحيح من قول من قال إن كل مجتهد مصيب وليس لكم أن تقولوا إنما تحصل المسألة إجماعا عند سكوت الباقين إذا علمنا أنهم سكتوا سكوت من يرضى أن يكون ذلك القول قولا له لأن الساكت قد يسكت لهذا الغرض ولأنه لا قول له في المسألة وإذا جاز كلا الأمرين خرج السكوت من أن يكون طريقا إلى أن الساكت قد رضي أن يكون القول قولا له وليس يجوز أن يعلم باضطرار أنهم يعتقدون صحة ذلك القول لأنكم لا تضطرون من كل واحد منهم أنه معتقد لما يظهره من الإسلام فكيف تكونون مضطرين إلى أنهم يعتقدون فرعا من فروعه والجواب أن هذه الشبهة لا تمنع من العلم بالإجماع أصلا لأن من عاصر الصحابة يمكنه أن يلتقي بكل واحد من المجتهدين أو ببعضهم ويروى له عن الباقين لأن أهل الاجتهاد كانوا في ذلك الوقت محصورين وكذلك التابعون وانتشار القول في هذا العصر من غير مخالف دليل على الإجماع فيما ليس من مسائل الاجتهاد وفي مسائل الاجتهاد أيضا على قول من قال إن الحق في واحد منها وعلى قول أبي علي أيضا وإن كان يقول إن كل مجتهد مصيب فأما غيره فذكر قاضي القضاة أن ما دل على الإجماع يقتضي أن يكون الله تعالى عنى بالإجماع القول المنتشر لأنه لا يجوز أن يوجب علينا اتباع ما لا سبيل لنا إليه فاذا لم يمكن إلا هذا القدر علمنا أن الله تعالى قد عناه
ولقائل أن يقول إنما أوجب الله تعالى علينا اتباع الإجماع إذا تمكنا منه وذلك يمكن لمن عاصر الصحابة وأمكن أن يسألهم ويمكن أيضا في القول المنتشر فيما ليس من مسائل الاجتهاد وهذا يكفي في حسن إيجاب الله تعالى اتباع الإجماع إذ قد أمكن من بعض الناس وعلى بعض الوجوه

وقد اجيب عن الشبهة أيضا بأنه لا يمتنع أن نعلم باضطرار شيئا طريقه الخبر وإن لم نعلم طريقه مفصلا ألا ترى أنا نعلم باضطرار اعتقاد أهل بلاد الروم النصرانية وأن الغالب على كثير من البلاد الجبر والتشبيه وإن لم نعلم طريق ذلك مفصلا وكذلك نحن نعلم ضرورة أنه ليس في الصحابة رضي الله عنهم من جعل الأخ أولى بالمال كله من الجد ولا يمتنع ذلك وإن لم يعلم طريقه مفصلا
ولقائل أن يقول إنا لا نعلم أن أهل بلاد الروم نصارى كلهم لأنا نجوز أن يكون فيهم المتظاهر بالاسلام واليهودية بل يقطع على ذلك وأن يكون فيهم من يظهر النصرانية ويعتقد غيرها وإنما نعلم أن الغالب عليهم إظهار النصرانية وذلك قد أخبرنا به جماعة نعلم صدقهم ولو كان الغالب عليهم إظهار دين الاسلام لما حاربونا ولما انكتم ذلك
وأما تشبيه مسألة الجد بما نعلمه من أن الغالب على كثير من البلاد الجبر والتشبيه فانه يقتضي أن نعلم أن الغالب على الصحابة أن الأخ لا يرث جميع المال مع الجد على أنا نعلم أنه لم يكن في الصحابة من يظهر ذلك لأنه لو أظهره مظهر لنقل ولكن للمحتج بهذه الشبهة أن يقول لعل من سكت عن القول في مسألة الجد والأخ لم يجتهد في المسألة وليس له فيها قول
وقد اجيب عن الشبهة بجواب آخر وهو انه لا يمتنع أن يضطر إلى أن الساكت عن الإنكار راض بكون ما سكت عن إنكاره قولا له فان لم يكن لنا إلى ذلك طريق معين كما نعلم قصد المتكلم عند كلامه وإن لم يكن لنا طريق معين إلى ذلك وليس لأحد ان يقول قد لا يكون الساكت راضيا بذلك القول لنفسه فلا يجوز أن يحصل العلم بأنه قد رضي بالقول لنفسه كما ليس له أن يقول لا أعلم قصد المتكلم لأن مثل كلامه قد يوجد ولا أعرف قصده ألا ترى أنه قد تجتمع الجماعة للرأي فيشير بعضهم ويسكت الباقون ويفترقون فيعلم أنه رأي جميعهم فاذا علمنا باضطرار أن مذهب جميع السلف أن الأخ ليس أولى بجميع المال من الجد علمنا أنه من هذا القبيل

ولقائل أن يقول ليس يجب إذا علمنا قصد بعض المتكلمين في بعض الأحوال أن نعلم قصد بعض الساكتين ولا يجب ولو علمنا ذلك في بعض الأحوال أن نعلم قصد من سكت في مسألة الجد وغيرها بل لا يمتنع أن يكون من سكت عن النكير إنما سكت لأنه لم يجتهد في المسألة لأن الفرض قد قام به غيره ولا يكون له في ذلك قول
فاذا ثبت أن النقل طريق إلى الإجماع وجب على الامة إظهار قولها ووجب على من سمعه ان ينقله كما يجب إظهار الفرائض على الرسول عليه السلام ويجب على من سمعها منه نقلها عنه وإذا كان من انتشر من الأقاويل في الأمة ولم يظهر له مخالف حجة جاز تخصيص العموم به وإن لم يكن حجة لم يجز ذلك
باب في انقراض العصر هل هو طريق إلى معرفة الإجماع أم لا عند الشيخ أبي علي أن أنقراض العصر طريق إلى معرفة الإجماع لأن العصر لا ينقرض إلا وقد شاع القول في جميع أهله فلو كان فيهم مخالف لأظهر خلافه وعند غيره أنه لا اعتبار بانقراض العصر في ذلك لأنه ليس يخلو أبو علي إما أن يقول لا طريق إلى الإجماع سواه أو يقول هو طريق وغيره طريق والأول لا يصح لأن المعاصر للصحابة لو سمع القول من كل واحد من المجتهدين أو سمع من بعضهم وأخبر عن الباقين لعلم إجماعهم والثاني أيضا لا يصح لأن ما ذكروه من انتشار القول ووجوب إظهار الخلاف موقوف على تمادي الزمان انقرض العصر أو لم ينقرض ولو كان انتشار القول في جميع أهل العصر موقوفا على انقراض العصر لكان في كونه طريقا إلى الإجماع ما ذكرناه من الخلاف في الباب المتقدم


باب في قول بعض الصحابة إذا لم ينتشر ولم يعرف له مخالف اعلم أن القول إذا لم ينتشر فيهم فإما أن يكون البلوى به عاما أو غير عام فان لم يكن عاما لم يكن إجماعا ولا حجة ولا كان مقطوعا على انه صواب وعند بعض الناس أنه إجماع يحتج به وإنما قلنا إنه ليس بإجماع لأن القول إنما يكون مجمعا عليه إذا اعتقده كل أهل العصر وليس يجوز أن يعتقده من لم يسمع به ولم يخطر بباله وإنما قلنا إنه ليس بحجة لأنه لو كان حجة لكان حجة لأنه إجماع وقد بينا إنه ليس بإجماع أو لأنه قول بعض السلف وسيجيء القول في ذلك أو لأن الامة أجمعت على الاحتجاج به وليس في ذلك إجماع لأن كثيرا من الناس ينكر على من يحتج بذلك وإنما لم يقطع على أنه صواب لأن من يقول إن الحق في واحد يجوز أن يكون خطأ ومن يقول إن كل مجتهد مصيب يجوز خطأ غيره إذا لم تكن المسألة من مسائل الاجتهاد وإن كانت من مسائل الاجتهاد فانما يحكم بأنه مصيب إذا استوفى الاجتهاد ولم يقل بأول خاطر وليس يعلم أحد من غيره أنه لم يضجع في اجتهاده فلذلك لم يقطع على أن القول صواب على الإطلاق
فان قيل لو لم يكن القول صوابا لكان الصواب قد خرج عن اقاويل الامة والجواب أن هذا الكلام يفيد أن للأمة كلها في الحادثة أقاويل وأن الصواب سواها وليس الأمر كذلك لأن المسألة مفروضة في قول لم يظهر في الأمة خلافه وأيضا فانه يجوز أن لا يكون للأمة في المسألة قول هو حق إذا لم يكن عليهم في ذلك تكليف ألا ترى أنه ليس لهم قول مما لم يحدث في عصرهم وجاز ذلك لما لم يكن عليهم في ذلك تكليف فكذلك لا تكليف عليهم فيما لم يبلغهم
وأما إذا كان البلوى بذلك القول عاما فان لم ينتشر فيهم ذلك القول فلا بد من أن يكون لهم في تلك المسألة قول إما موافق لما نقل إلينا أو مخالف

ولا يجوز مع اهتمام النقلة بالنقل أن يستفيض ذلك فلا ينقل وإذا ثبت أن قول بعض الصحابة إذا لم ينتشر لا يكون حجة فجرى مجرى قول الواحد منهم إذا خالف فيه غيره في أنه لا يخص به العموم


الكلام في الأخبار أبواب الأخبار
باب في اسم الخبر وحده وما به يكون الخبر خبرا وأقسامه الصدق والكذب باب في الاخبار التي يعلم صدقها والتي يعلم كذبها والتي لا يعلم كلا الأمرين من حالها باب في بيان وقوع العلم بالأخبار وصفة العلم الواقع بالتواتر باب في شرط وقوع العلم بالأخبار باب في أن خبر الواحد لا يقتضي العلم باب فيما يقبل فيه ما ليس بمتواتر من الأخبار وما لا يقبل فيه ذلك باب في جواز التعبد بأخبار الآحاد باب في ورود التعبد بأخبار الآحاد باب فيما يرد له الخبر وما لا يرد له ويدخل في ذلك المراسيل وغيرها باب في كيف ينبغي للراوي أن يروي وفي المفهوم من روايته باب في الأخبار المتعارضة باب فيما يرجح به الخبر على غيره فالأول باب في اسم الخبر وحده وما به يكون الخبر خبرا وأقسامه الصدق والكذب
أما قوله خبر فواقع على قول مخصوص وليس بواقع على سبيل الحقيقة على الإشارة والدلالة لأن من وصف غيره بأنه مخبر وبأنه فاعل للخبر لم يسبق إلى فهم السامع له إلا أنه متكلم بصيغة مخصوصة
فأما ما معه تكون الصيغة خبرا مستعملة في فائدتها فينبغي أن يشترط فيه الإرادة والأغراض لأن صيغة الخبر قد ترد ولا تكون خبرا بل تكون أمرا ولا تشترط الإرادة والأغراض في كون الخبر على صيغة الخبر

وأما حد الخبر فقد قيل إن أهل اللغة حدوه بأنه كلام يدخله الصدق والكذب فان قيل أليس قول القائل محمد ومسيلمة صادقان خبر وليس بصدق ولا كذب قيل قد أجاب الشيخ أبو علي بان هذا الخطاب يفيد صدق أحدهما في حال صدق الآخر فكأنه قال أحدهما صادق في حال صدق الآخر ولو قال ذلك كان قوله كذبا فكذلك إذا قال هما صادقان ولقائل أن يقول إنه ليس ينبىء هذا الكلام عن أن صدق أحدهما حاصل في حال صدق الآخر ولا أنه قبله ولا بعده فلا يكون ذلك معنى الكلام
وأجاب الشيخ أبو هاشم بأن هذا الكلام يجري مجرى خبرين أحدهما خبر بصدق النبي صلى الله عليه و سلم والآخر خبر بصدق مسيلمة فكما لا يجوز أن يقال في مجموع خبرين متميزين إنهما صدق أو كذب فكذلك في هذا الكلام ولقائل أن يقول بأن هذا الكلام لا يجري مجرى خبرين إلا من حيث أفاد حكما لشخصين وذلك لا يمنع من وصفه بالصدق والكذب ألا ترى أن قول القائل كل شيء قديم كذب وإن أفاد حكما لذوات كثيرة
وأجاب قاضي القضاة رحمه الله بأن مرادنا بقولنا ما دخله الصدق والكذب هو ما إذا قيل للمتكلم به صدقت أو كذبت لم يحظره اللغة وهذه صورة هذا الكلام فكان داخلا في حد الخبر
وأجاب الشيخ أبو عبد الله بأن هذا الكلام كذب فانه يفيد الإخبار عن شيء على خلاف ما هو به لأنه يفيد إضافة الصدق إليهما وليس هو مضافا إليهما وإن كان مضافا إلى أحدهما كان أن قول القائل كل إنسان أسود كذب لأنه يفيد إضافة السواد إلى جميعهم وليس هو مضافا إلى جميعهم
إن قيل إذا حددتم الخبر بأنه ما دخله الصدق والكذب وحددتم الصدق بأنه الإخبار على الشيء على ما هو به وحددتم الكذب بأنه الإخبار عن الشيء لا على ما هو به كنتم قد عرفتم المجهول بالمجهول قيل قد أجاب قاضي القضاة رحمه الله بأن الخبر قد عرفناه ولسنا نريد بتحديده أن نعرفه

وإنما نريد أن نفصله عن غيره فلم يكن فيما فعلنا تعريف المجهول بالمجهول وهذا لا يصح لأنه إن كان الغرض بالحد التمييز فنحن إذا ميزنا وفصلنا الخبر بالصدق والكذب وميزنا الصدق والكذب بالخبر كنا قد ميزنا وفصلنا كل واحد منهما بصاحبه وكأنا قلنا الخبر يتميز بأنه خبر فان صح ذلك فيجب الاقتصار على القول بأن الخبر هو خبر ولا يتكلف هذا التطويل وعلى أنا إن كنا قد عرفنا الخبر وعقلناه فمن سألنا عن حده فانما سألنا عن عبارة تنبىء عن هذا المعقول المعروف لنا فيجب أن نأتي بها والا لم نكن قد حددناه وأيضا فان كنا قد عقلنا جميع معنى الخبر فقد تميز لنا أيضا فيجب أن نستغني عن حده
جواب آخر وهو أن قولنا ما دخله الصدق والكذب أردنا به ما لا يحظر أهل اللغة أن يقال للمتكلم به صدقت أو كذبت وليس يقف حظر ذلك على معرفة الصدق والكذب بل ذلك يرجع فيه إلى اللغة وهذا لا يصح أيضا لأنه إنما يسوغ أهل اللغة أن يقال للمتكلم صدقت أو كذبت إذا عرفونا الصيغة وميزوها مما لا يصح أن يقال لمن تكلم به صدقت أو كذبت فالخبر هو ما اختص بتلك الصيغة فيجب أن يكون حد الخبر هو ما أنبأ عنها
والأولى أن نحد الخبر بأنه كلام يفيد بنفسه إضافة أمر من الامور إلى أمر من الامور نفيا أو إثباتا وإنما قلنا بنفسه لأن الأمر يفيد وجوب الفعل لا بنفسه وإن ما يفيد هو استدعاء للفعل لا محالة لا يفيد إلا ذلك بنفسه وإن ما يفيد كون الفعل واجبا تبعا لذلك ولصدوره عن حكيم وكذلك دلالة النهي على قبح الفعل فأما قول القائل هذا الفعل واجب او قبيح فانه يفيد تصريحه تعليق الوجوب والقبح بالفعل
فأما أقسام الخبر الصدق والكذب فعند أبي عثمان الجاحظ أن الخبر المتناول للشيء على ما هو به من شرط كونه صدقا أن يعتقد فاعله أو يظن أنه كذلك والمتناول للشيء لا على ما هو به من شرط كونه كذبا أن يعتقده فاعله أو

يظنه كذلك ومتى لم يعتقده كذلك ولم يظنه لم يكن صدقا ولا كذبا وأجراه مجرى الاعتقاد في خلوه من كونه علما أو جهلا إذا تناول الشيء على ما هو به ولم يقتض سكون النفس وحجة أبي عثمان هي أن زيدا إذا كان في الدار فظن ظان أنه ليس فيها فقال زيد في الدار لم يصفه أحد بأنه صادق فبطل أن يكون الخبر إذا تناول الشيء على ما هو به كان صدقا على كل حال ولو قال زيد ليس في الدار لم يصفه أحد بأنه كاذب فبطل ان يكون الخبر متى تناول الشيء لا على ما هو كان كذبا على كل حال ولو أخبر بأن زيدا في الدار وكان فيها وهو يعتقده أو يظنه فيها وصف بأنه صادق ويكون كاذبا إذا أخبر بانه ليس فيها وهو يظنه أو يعتقده فيها
وعند جماعة شيوخنا أن الخبر إما أن يكون صدقا أو كذبا لأن اليهودي إذا قال محمد صلى الله عليه و سلم ليس بنبي لم يمتنع أحد من وصفه بأنه كاذب ووصف خبره بأنه كذب وإن جاز أن لا يكون معتقدا ولا ظانا لنبوته صلى الله عليه و سلم وإذا قال قائل إنه نبي لم يمتنع أحد من وصفه بأنه صادق وأن خبره صدق فعلم أنه لا ينبغي أن يشترط الظن والاعتقاد في كون الخبر صدقا أو كذبا
وقد أفسد قاضي القضاة قول ابي عثمان بأن ظن المخبر واعتقاده يرجع إليه لا إلى الخبر فلم يكن شرطا في كونه كذبا وهذا لا يصح لأنه لا يمتنع ذلك كما أن إرادة المخبر راجعة إليه وهي شرط عنده في كون الخبر خبرا والكلام في ذلك في عبارة والأولى أن نفصل القول فيه فمتى سأل سائل عن رجل قال زيد في الدار وهو يظنه فيها ولم يكن فيها هل هو كاذب وكلامه كذب أو لا فانا نقول هو كاذب وكلامه كذب على معنى أن مخبره على خلاف ما تناوله ونوصف بأنه ليس بكاذب وكلامه ليس بكذب لمعنى أنه لم يقصد به الإخبار عن الشيء لا على ما هو به وإذا اختلف القصد بوصفنا لهذا الخبر بأنه كذب وجب أن لا يطلق الوصف عليه بذلك وأن يقيد وكذلك القول فيمن أخبر بالشيء على ما هو به وهو يظن أنه كاذب أن خبره يوصف بأنه صدق وأنه صادق على هذا التقييد فأما وصف اليهودي بأنه كاذب في

قوله إن محمدا صلى الله عليه و سلم ليس بنبي فمعناه أنه فاعل لخبر مخبره على خلاف ما هو به وأيضا فظاهر من اليهود العناد والتقصير في النظر فهم مقدمون على هذا الخبر مع خوفهم أن يكونوا كاذبين فوصفوا بأنهم كاذبون على طريق الذم
باب في الأخبار التي يعلم صدقها والتي يعلم كذبها والتي لا يعلم كلا الأمرين من حالها
الأخبار منها ما يعلم سامعها صدقها ومنها ما لا يعلم صدقها أما التي لا يعلم صدقها إما أن يعلم كذبها أو لا يعلم كذبها ولا صدقها والتي يعلم صدقها إما أن يعلمه بأمر منفصل عنها أو غير منفصل عنها فالأول إما أن يكون إخبارا عما يعلم صحته ضرورة بالإدراك أو غيره كالإخبار بعلو السماء على الأرض وبأن العشرة أكثر من الخمسة وإما أن يكون إخبارا عما يعلم صحته بالاستدلال بالعقل وبالسمع كالخبر عن حكمة الله سبحانه وهو وجوب الصلاة وغير ذلك وأما التي يعلم صدقها بما يتصل بالخبر ويتعلق به فإما أن يرجع إلى أحوال المخبر أو إلى أحوال السامع
فالاول ضربان أحدهما أن يكون المخبر لا يجوز عليه الكذب أصلا والآخر لا يجوز كونه كاذبا في ذلك الخبر وإن جاز ان يكذب في غيره فالأول أن يكون المخبر حكيما إما لعلمه وغناه وإما لأنه عصم من الكذب إما لدلالة المعجزات وإما لشهادة الله ورسوله بذلك كالامة وأما المخبر الذي يجوز عليه الكذب في غير ذلك الخبر فانما نعلم صدقه في الخبر إذا لم يكن له داع إلى الكذب ولا يجوز أن يشتبه عليه المخبر عنه وإنما نعلم أنه لا داعي له إلى الكذب إذا كان المخبرون كثرة يمتنع معها أن ينظمهم داع واحد إلى الكذب اتفاقا أو تواطؤا
وأما الراجع إلى السامع فإما أن يرجع إلى إمساكه عن النكير أو إلى مصيره إلى الخبر أما الأول فبأن يخبر المخبر بحضرة من يدعي عليه العلم بصدقه فلا

ينكره مع علمنا بأنه لو كان كاذبا لأنكره إما من جهة الحكمة وإما من جهة العادة فالأول أن يكون من ادعي عليه العلم بصدق الخبر نبيا وأما الثاني فبأن يكون من ادعى عليه العلم جماعة كثيرين ولا داعي لهم إلى الإمساك من رغبة ولا رهبة
فأما الراجع إلى مصيره إلى الخبر فهو أن لا يدعي على السامعين العلم به لكنهم يصيرون إليه عملا أو تقبلا أو تركا لرده على خلاف في ذلك
فاما الأخبار التي يعلم السامع كذبها فمنها ما يعلم ذلك من حالها لأمر منفصل عنها كالأخبار عما يعلم باضطرار كذبها أو بدليل سمعي أو عقلي ومنها ما يعلم ذلك من حالها بأمر متصل به وذلك راجع إلى كيفية نقل الخبر بأن ينقل خفيا ومن حقه أن ينقل ظاهرا وإنما يكون ذلك من حقه إذا كان المخبر عنه ظاهرا وقويت دواعي الدين أو العادة أو كليهما إلى نقله فالأول اصول الشريعة والثاني أن يثبت الناس على رجل بينة في مسجد الجامع يوم الجمعة فلا ينقله إلا واحد أو اثنان والثالث المعجزات فانه قد اجتمع فيها أنها غريبة بديعة وأن الدين يتعلق بها
فأما النص الذي تدعيه الإمامية وتدعي لزوم المعرفة به لأهل كل عصر فانه إذا لم ينقل نقلا يحج وأجمعت الامة على أنه لو كان صحيحا للزم العلم به أهل الأعصار فانا نعلم بطلانه لأن الله عز و جل لو كلفهم العلم به لجعل لهم إليه سبيلا فان لم يجمع الأمة على ذلك لم يعلم بطلانه إلى بطريق آخر لأنه لا يمتنع أن يكون صحيحا ويلزم العلم به من عاصر الإمام ويكون قول من قال إن فرض العلم به لازم لأهل الأعصار كلها باطلا
فأما ظهور مخبر الخبر فليس بموجب بانفراده شياع نقله لأن طلوع الشمس ظاهر ولم يجب نقله فأما أن لا ينقل الشيء نقل نظيره فليس بموجب كذب الخبر إلا أن تكون الدواعي قوية إلى نقله فأما إذا لم يكن كذلك فليس بممتنع إذا لم تقو الدواعي إلى نقله أن يتفق نقل نظيره نقلا شائعا ولا

ينقل هو هذا النقل فأما جهر النبي صلى الله عليه و سلم بسم الله الرحمن الرحيم فلو كان على حد جهره بالفاتحة كلها لنقل كنقل الفاتحة لأن الداعي إليهما واحد لكنه لا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم كان يجهر بالفاتحة في جميع صلوات الجهر وكان يجهر بسم الله الرحمن الرحيم تارة دون تارة أو كان يجهر بها جهرا خفيا يسمعها من قوى سمعه ممن قرب منه دون من بعد أو من ضعف سمعه حسب عادة كثير ممن يبتدىء بالقراءة يجهر بها جهرا قريبا ثم يشتد صوته فلذلك اختلف النقل للجهر ببسم الله الرحمن الرحيم
فأما الخبر الذي إذا فتش عنه أهل العلم ولم يظفروا به في جملة الأخبار بعد استقرار السنن فانه يعلم كذبه لعلمنا أن الأخبار قد دونت ورواية الخبر بعدما دونت الأخبار هي رواية لما دون وننظر فاذا لم يوجد ذلك علمنا كذبه لأنا لم نشاهده كما لو قال الراوي هذا الخبر في الكتاب الفلاني فلا نشاهده فيه
فأما ما يعم البلوى به إذا لم يشتهر نقله فان كان متضمنا للعلم فقد تقدم ذكره وإن كان متضمنا للعمل فسيأتي الخلاف فيه إن شاء الله
وأما الأخبار التي لا يعلم صدقها ولا كذبها فهي أخبار الآحاد التي لا يقترن بها ما يمنع من صحتها وهي ضربان منها ما تتضمن عملا ومنها ما تتضمن علما أما الأول فإما أن لا يجب العمل بها بان لا تتكامل فيها الشروط التي معها يجب العمل بها وإما أن يجب العمل بها إما عقلا كأخبار المعاملات وإما أن يجب سمعا كأخبار الشريعة وكالشهادات عند من لم يوجب العمل بها عقلا وأما المتضمنة للعلم فمنها ما يوافق مقتضى العقل ومنها ما لا يوافقه فالأول يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قاله والثاني إن أمكن تأويله من غير تعسف يجوز أن يكون قاله وإن لم يمكن تأويله إلا بتعسف لم يجز أن يكون قاله على ذلك الحد وإنما يجوز أن يكون قاله مع زيادة أو نقصان أو حكاية عن الغير
واعلم أنه لا يجوز كون أخبار الآحاد المروية عن النبي صلى الله عليه و سلم كلها كذبا لأن

العادة تمنع في الأخبار الكثيرة أن يكذب رواتها على كثرتها واختلافهم وكثرتهم وليس جميع ما يروي عنه صلوات الله عليه صدقا لما روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال سيكذب علي فان كان هذا الخبر صدقا فقد كذب عليه وإن كان كذبا فقد كذب عليه فيه صلى الله عليه و سلم
وقد كان السلف ينكرون كثرة الرواية وحكي عن شعبة أنه قال ثلث الحديث كذب وكثير مما يتضمن الجبر والتشبيه ما لا يمكن تأويله إلا بتعسف شديد لا يتعذر مثله في كل كلام متناقض وذلك يمنع أن يقوله النبي صلى الله عليه و سلم ولا يمنع أن يكون من روى ذلك من المتأخرين فقد تعمد الكذب ولا يمتنع أن يثبت أن بعض الصحابة الذي رواها أن يكون لحقه سهو وغلط وأن يكون النبي صلى الله عليه و سلم حكاه عن غيره وظن الراوي أنه حكاه عن نفسه أوخرج عن سبب بغير فائدته أو تقدمه ما يعين حكمه ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا دخل عليه داخل وهو في حديث ابتدا أوله لأن معنى الحديث يتغير بحسب أوله ولما ذكرنا قالت عائشة فيما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ولد الزنا شر الثلاثة والتاجر فاجر إنما عني صلى الله عليه و سلم تاجرا دلس وولد زنا سب أمه وقالت فيما روي عنه الشؤم في ثلاث المرأة والدار والفرس أنه صلى الله عليه و سلم حكاه عن غيره وأنكرت ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الميت يتعذب ببكاء أهله عليه وينبغي أن يواصل رواية هذه الأخبار وأمثالها لتكون مضبوطة فيمتنع الزيادة فيها ولو أهملت روايتها لأمكن أن يزداد فيها فاذا أنكرها منكر قال الراوي إنما لم يعرف ما رويته لأنه مما أهملت روايته وينبغي لراويها أن يتأولها لمن يرويها له إن كان يضعف عن تأويلها أو يبين له بطلانها إن لم يمكن تأويلها
باب في بيان وقوع العلم بالأخبار وبيان صفة العلم الواقع بالتواتر أما خبر الله عز و جل وخبر رسوله وأخبار الأمة فانما وقع العلم لمخبرها لأن حكمة الله تقتضي صدقه في إخباره وصدق من أظهر عليه المعجز وأخبر

بعدالته وأما الأخبار المتواترة كالإخبار عن وجود مكة وغيرها فقد حكي عن قوم أنه لا علم إلا بالحواس دون الإخبار والذي يبطل قولهم وجد اننا أنفسنا معتقدة وجود مصر وخراسان ساكنة إلى غير ذلك عند تواتر الأخبار علينا بها فجرى مجرى المعرفة بالمشاهدات ويفارق ما يرويه الواحد والاثنان ومن خالف في أنا معتقدون لذلك واثقون به فقد دفع ما نجده فلا وجه لمكالمته وليس لهم أن يقولوا لو وقع العلم بالأخبار المتواترة لوقع عند الخبر الأول والثاني لأن من يقول وإن العلم لمخبر هذه الأخبار مكتسب يقول إن شرط اكتسابه حاصل في التواتر دون الآحاد ومن يقول إنه ضروري يقول إن الله سبحانه اختار فعله عند التواتر دون الآحاد وله أن يقول ما ذكره السائل يجري مجرى الشبه والعلم الضروري لا ينتفي بما يجري مجرى الشبه ألا ترى أن العلم بالمدركات لا ينتفي باختلاف المناظر
واختلف الناس في العلم الواقع عند التواتر فقال شيخانا أبو علي وأبو هاشم إنه ضروري غير مكتسب وقال أبو القاسم البلخي إنه مكتسب وليس ذلك مما يحتاج إليه في أصول الفقه ونحن نؤمن إلى القول فيه لأن الناس قد ذكروه في أصول الفقه ونحيل باستيفائه على ما ذكرناه في شرح العمد فنقول إن الاستدلال هو ترتيب علوم يتوصل به إلى علم آخر فكل ما وقف وجوده على ترتيب علوم فهو مستدل عليه والعلم الواقع بالتواتر هذه سبيله لأنا إنما نعلم ما أخبرنا به إذا علمنا أن المخبر لم يخبر عن رأيه بل أخبر عما لا لبس فيه وأنه لا داعي له إلى الكذب فنعلم أنه لم يتعمد الكذب لعلمنا أنه لا داعي له إلى الكذب ونعلم أنه لا يجوز كونه كذبا وإن لم يتعمده لعلمنا بظهوره وارتفاع اللبس فيه فإذا فسد كونه كذبا ثبت كونه صدقا ومتى اختل شرط من هذه الشروط لم نعلم صحة الخبر
والقول بعد هذا إن ذلك طريق يمكن مثله في كل العلوم وأقوى ما يذكره الذاهبون إلى القول الأول محتجين ومعترضين على ما ذكرنا هو أن الواحد منا

يعلم وجود الصين ولا يعلم أنه اخبره بذلك كثرة وذلك باطل لأن الإنسان يعلم في الجملة أنه قد أخبره بذلك من لا داعي له إلى الكذب وإن لم يعلم أعيانهم ويعلم أن كل من يسأله عن الصين إما أن يخبره عن مشاهدة أو عن خبر من شاهده ويعلم أنه لا يجوز أن لا يكون لوجود الصين أصل ويتصل الأخبار عنها للأزمان الطويلة ولا يظهر كذبها لأحد من الناس ولا يجوز أن يظهر كذبها ولا يتحدث به ويظهر الخلاف فيه والإنكار له فينتشر
واحتجوا أيضا بأن العلم الواقع بالتواتر لا ينتفي بالشبه وهذه علامة الضروري وهذا غير مسلم لأن العلوم المجاورة للضرورية لا تنتفي بالشبه وهي مكتسبة
واحتجوا بان من ليس من أهل النظر كالمراهقين والعوام يعرفون البلدان فعلم أن ذلك غير واقع عن نظر والجواب أن النظر في ذلك ليس هو إلا ترتيب العلوم بأحوال المخبرين وهذا القدر يحصل للعامة والمراهقين لأن هؤلاء لا يمتنع أن يترتب في أنفسهم كثير من العلوم ويحصل لهم عن ذلك علوم أخر
واحتجوا بأن اعتقادنا للاستغناء عن النظر في العلم بالبلدان يصرفنا عن النظر فيه فيجب أن لا يقع منا وذلك يختل كوننا عالمين بها والمعلوم خلافه والجواب أن الاستدلال على ذلك ليس هو أكثر من ترتيب علوم بأحوال المخبرين على ما ذكرنا وذلك يحصل عند سماع المخبر المتواتر لأنا نعلم كثرتهم وامتناع تواطئهم واتفاق الكذب منهم ويعلم ظهور المخبر وارتفاع اللبس فيه والعلم بصحة المخبر عنه يقع عند ذلك من غير استيناف نظر بعد ما ذكرناه فهذا هو القول في الخبر المتواتر
فأما إذا أخبر الواحد بشيء لا لبس فيه بحضرة جماعة لا يتعمد مثلها الكذب فادعى مشاهدتها لذلك ولم يصرفها عن تكذيبه صارف بدين ولا رهبة ولا رغبة فسكتت عن تكذيبه فانه يعلم صدقه لأن استشهاده بها إنما هو طلب

لإخبارها بمثل ما أخبر به أو طلب لسكوتها عن تكذيبه فسكوتها عن تكذيبه كالإخبار عن تصديقه فاذا لم يجز أن يخبر بصدقه وهي عالمة أنه كاذب فكذلك إذا سكتت وأيضا فان نفوس الناس مؤثرة لتكذيب الكذاب سيما إذا استشهدها ومتى كفت عن ذلك وجدت في أنفسها ضررا فاذا لم يكن في مقابلة هذا صارف وجب أن تكذبه بأجمعها أو بعضها إن كان كاذبا فاما أن دعاها التدين أو رغبة إلى السكوت فان ذلك لا يستوي للجماعات في إيثارهما على الإخبار بكذب المخبر إذا علموه كذابا وأما هيبة السلطان فانها إن منعت في الحال عن تكذيبه فانها لا تمنع في المستقبل في غير ذلك المجلس ولا تمنع من إظهار ذلك إلى الإخوان والأصدقاء فلا يلبث ذلك أن يشيع ويظهر ولهذا لا يطمع السلطان في أهل بغداد أن يشتهر بهم الحال في ترك تكذيب المدعي أن بين البصرة وبغداد بلدا أكبر منهما
فاما خبر المخبر بحضرة النبي صلى الله عليه و سلم فانه إما أن يدعي عليه مشاهدته أو لا يدعي ذلك فان ادعاها فسكوت النبي صلى الله عليه و سلم عن الرد عليه مع كونه كاذبا موهم صدقه فاذا سكوته دليل على صدقه وإن لم يدع مشاهدته فإما أن يكون ما أخبر به من أمور الدين أو الدنيا فان كان من الدين فإما أن يكون قد علم خلاف ذلك من شرعه أو لم يعلم ذلك فان لم يعلم ذلك فسكوته دليل على صدقه لأنه لو كان كاذبا لأوهم صدقه وإن كان قد علم خلاف ذلك من شرعه فاما أن يكون ذلك مما يجوز أن يتغير شرعه فيه أو لا يجوز فان جاز تغيره كان سكوته دليلا على صدقه لأنه لو كان كاذبا لأوهم تغيره مع أنه ما تغير ولأن بسكوته قد ترك أن ينكر عليه فعلا قبيحا وهو كذبه وإن كان مما لا يجوز أن يتغير شرعه فيه لم يجب إنكاره إذا لم يؤثر إنكاره لأنه لا ايهام في سكوته ولا هو ترك لما يؤثر في إزالة المنكر ولهذا لا يجب عليه مواصلة الإنكار على اليهود والنصارى الذين كان يشاهدهم يتظاهرون بانحرافهم إلى الإسلام وإن كان يؤثر إنكاره فلا بد من إنكاره لوجوب إنكار المنكر إذا أثر وذلك نحو إنكار المعاصي على بعض أمته لأنه لا

بد من أن يكون لإنكاره على من يعتقد نبوته تأثير وإن كان ما أخبر عنه المخبر من أمور الدنيا فسكوته عن تكذيبه يقتضي كونه عالما بصدقه أو غير عالم بصدقه ولا بكذبه ولا يجوز كونه عالما بكذبه ولا ينكر ذلك عليه فان علمنا أنه لا يخفي عليه صدقه من كذبه فسكوته دليل على صدقه لأنه لو كان كاذبا لكان ما أتاه قبيحا يلزم إنكاره كسائر المنكر
فأما خبر الواحد إذا أجمعت الامة على مقتضاه وحكمت بصحته فانه يقطع على صحته لأنها لا تجمع على خطأ وإن لم تحكم بصحته فعند الشيخ أبي هاشم وأبي الحسن وأبي عبد الله رحمهم الله أن الأمة لا تجمع على مقتضى خبر الواحد إلا وقد قامت به الحجة وعند غيرهم أنه لا تكون الحجة قد قامت به ولا مقطوعا على معينه لأن الامة إذا اعتقدت وجوب العمل بالخبر المظنون لم يستحل أن يروي لها خبر واحد قد تكاملت فيه شرائط العمل فتعمل به لأن العمل يتبع الاعتقادات ولهذا جاز أن يجمعوا على الحكم بالاجتهاد لما كانوا قد اتفقوا على وجوب العمل به وجواز ذلك في خبر الواحد أولى لأنه أظهر
فان قالوا إذا أجمعنا على وجوب الاجتهاد قطعنا على الاجتهاد قيل إن أردتم أنكم تقطعون على أن الأمارة كانت مقطوعا بحكمها قبل الإجماع لم يصح لأن الأمارة لم تكن دلالة وإن أردتم أن الأمارة بعد الإجماع يقطع على تعلق الحكم بها فليس لذلك معنى إلا أن الحكم مقطوع به لا يجوز خلافه وهكذا نقول في حكم الخبر المجمع عليه وذلك غير القول بأن الخبر قد قاله النبي صلى الله عليه و سلم وحجة الأولين هي أن العادة جارية في أمتنا أنها لا تجمع على مقتضى خبر واحد إلا وقد قامت الحجة به ألا ترى أن ما لم تقم الحجة به لم يتفقوا على مقتضاه كحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم تطيب لحرمة قبل إحرامه وحديث بروع بنت واشق وأما الأخبار عن أصول الصلوات والزكوات فانه لما قامت الحجة بها أجمعوا على حكمها والجواب يقال لهم

إن أردتم أن أكثر أخبار الآحاد لم يتفقوا على موجبها قيل لكم قد جوزتم كون بعضها لم تقم الحجة به وقد وقع الإجماع على حكمه فان قالوا نقيس الأول على الأكثر الذي اختبرناه فعرفنا أن الإجماع لم يقع على حكمه إلا بعد قيام الحجة به بعلة أنها أخبار آحاد قيل لهم لم زعمتم صحة هذه العلة وأيضا فان من يعتقد وجوب العمل بخبر الواحد إذا روى له خبر واحد ولم يعمل به لا يقول إنما لم أعمل به لأنه خبر واحد بل يقول إنما لم أعمل به لأنه لم تتكامل فيه شرائط العمل أو يتاوله ويصير إلى غيره فبان أنه ليس العلة في أن لا يعمل به كونه خبر واحد ثم ينقض عليهم بخبر عبد الرحمن في جزية المجوس وخبر حمل بن مالك في الجنين لأن الصحابة أجمعت على مقتضى ذلك لأجل الخير من غير ان قامت الحجة به لأنهم أجمعوا عند سماع الخبر من غير تجدد شيء آخر ولهذا صح أن يستدل باجماعهم على ذلك على أنهم أجمعوا على العمل بأخبار غير مقطوع بها وإن أردتم أنكم عرفتم أن كل خبر واحد لم تقم الحجة به لم يجمعوا على حكمه قيل لم زعمتم ذلك وما أنكرتم أن يكون كثيرا مما أجمعوا على حكمه من أخبار الآحاد لم تقم به الحجة به ولو كان كل ما اجمعوا على مقتضاه قد قامت الحجة به لم يصح الاستدلال باجماع الصحابة على العمل بأخبار الآحاد
ويمكن أن يحتجوا فيقولوا إذا أجمعوا على موجب الخبر وجب كون الخبر حقا لأنهم لا يجمعون على خطأ ولا يجوز أن يقال إذا أجمعوا على حكمه قطعنا على أن الخبر حق وإن لم تكن الحجة قد قامت به لأن ذلك يقتضي أنهم لا يتفق منهم الإجماع على خبر إلا وقد قاله النبي صلى الله عليه و سلم من غير حجة دلتهم على ذلك ومثل ذلك لا يحصل بالاتفاق كما لا يجوز أن يتفق منهم الصواب من غير دلالة والجواب إنهم لم يجمعوا على صحة الخبر فيكون صحيحا وإنما أجمعوا على حكمه وذلك يدل على أن حكمه حق وصواب ولا يمتنع أن يقطع على صحة الحكم وإن كان الخبر مظنونا غير مقطوع بأن النبي صلى الله عليه و سلم قاله

فاما خبر الواحد إذا عمل عليه أكثر الصحابة وعابوا على من لم يعمل به فحكي عن عيسى بن أبان أنه يقطع به والصحيح أنه لا يقطع به لأن قول أكثر أهل العصر من المجتهدين ليس بحجة والأولى أن يستدل في تحريم بيع درهم بدرهمين نقدا بحديث أبي سعيد رضي الله عنه لا بإجماع الصحابة لأن ابن عباس يخالفهم
فأما إذا عمل بعض الصحابة بخبر واحد وتأوله الباقون فلا يجب القطع به لأنه ليس باتفاق منهم على أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله لأن الواجب على المجتهد أن يعمل به أو يتأوله
وأما إذا تضمن خبر الواحد علما وجاز أن يقوله النبي صلى الله عليه و سلم فان إمساك الصحابة عن إنكاره لا يدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله لجواز أن يكونوا إنما أمسكوا عن ردة لتجويزهم أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قد قاله
باب في شروط وقوع العلم بالخبر المتواتر اعلم أن من جعل العلم الواقع بالتواتر مكتسبا يشرط في وقوع العلم به أن يكون المخبرون كثرة يمتنع معها اتفاق الكذب منهم والتواطؤ عليه وأن يكونوا إنما أخبروا به مضطرين وإنما شرطنا ذلك لأنا لو جوزنا أن يشتركوا في الكذب اتفاقا أو بتواطؤ أو تراسل لم نأمن أن يكونوا كذبوا لهذين الوجهين ولو جوزنا أن يكونوا قد التبس عليهم ما أخبروا به فظنوا أنهم محقون فيه وهم غير محقين لم نثق بصحة ما اخبروا به وإنما قلنا إن ما تكاملت فيه هذه الشرائط من الأخبار يعلم صحتها لأن ما أخبر به المتواترون لو كان كذبا لم يخل إما أن يكونوا قد اعتقدوا كونه كذبا وتعمدوه أو يكونوا لم يعتقدوا ذلك بل ظنوه صدقا وهذا الاخير غير حاصل فيما هو معلوم باضطرار لأنه لا لبس في ذلك ولا اشتباه وإن كانوا تعمدوا الكذب فأما

أن يكونوا تعمدوه لغير داع أو لداع والاول باطل لأن المميز لا يفعل إلا لداع سيما ما له عنه صارف وإن كانوا تعمدوه لداع فإما أن يرجع الداعي إلى الخبر أو إلى غيره والأول باطل لأن الراجع إلى الخبر هو كونه كذبا وذلك يصرف عن فعله ويفارق إخبارهم بالصدق عما فيه فائدة لأن الفائدة تدعو إلى ذلك وكون الخبر صدقا لا يصرف وما يرجع إلى غير الخبر فهو إما الدين أو الدنيا من رغبة أو رهبة ولا يخلو إما أن يفعلوا ذلك لداع واحد من هذه الدواعي وإما أن يفعله بعضهم لبعض هذه الدواعي وبعضهم يفعل للبعض الآخر ولا يخلو إما أن تحصل لهم هذه الدواعي بتراسل أو تحصل لهم من غير تراسل ولا تشاعر أما التدين المؤدي إلى الإخبار بخلاف ما يعلم باضطرار فتدين ظاهر البطلان وليس يجوز أن يشترك الخلق العظيم في ترجيح ما قد ظهر فساده من التدين على ما في عقولهم من تجنب الكذب والنفور منه سيما إذا علم الكذاب أن غيره يعلم أنه كاذب بل لا بد أن يختلف أحوال الجماعات الكثيرة في ذلك إن لم يتفقوا على تجنب الكذب والعدول عن ذلك التدين الظاهر البطلان ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون قد دخلت عليهم شبهة في ذلك التدين أو لم تكن دخلت عليهم شبهة لأن الجماعة الكثيرة لا يتساوون في ترجيح الشبهة على ما في عقولهم من استقباح الكذب كما لا يجوز أن يتساووا في مأكل واحد وسلوك طريق واحد وأما الرغبة واعتقاد المنفعة فقد تكون رجاء عوض عن الكذب وقد تكون إيثار إطراف الناس فكثير من الناس يحبون أن يخبروا غيرهم بما لا أصل له ليطرفوهم ويقربوا بذلك من قلوبهم والجماعات لا يتساوون في إيثار ذلك على إطراح الكذب ولا يتساوون في الافتقار إلى ما وقعت الرغبة به بل كثير منهم لا يحتاج إليه وكثير منهم يحتاج إليه ولا يؤثره على الصدق فأما رغبة السلطان ورهبته فانهما لا تجمعان الجمع العظيم على الإخبار بما يعلمونه باطلا ألا ترى أن السلطان لا يمكنه ذلك في جميع أهل بغداد لأنه لا يحيط بهم إحصاؤه حتى يصير كل واحد منهم مضطرا إلى الخبر وقد تغري رهبة السلطان كثيرا من الناس بالتحدث بالشيء

على حقيقته عند الإخوان والثقات ولا يلبث بذلك أن يشيع الخبر الصحيح في الناس وربما علمنا في كثير من الأشياء أنه لا غرض للسلطان في أن نخبر عنها بالكذب وأنه لا غرض للمخبرين في ذلك ولا يجوز إبطال هذا القسم بأنه لو كان السلطان أرهبهم لظهر لأنه يقال في ذلك ما أنكرتم أن يكون السلطان دعاهم بالرهبة إلى كتمان الرهبة ولا يجوز أن تكون الجماعة العظيمة بعضها يخبر بما يعلم كذبا بالرغبة وبعضها لرهبة وبعضها للتدين لأن كلامنا في جماعة عظيمة أبعاضها جماعة عظيمة يمتنع تساوي أحوالها في قوة هذه الدواعي وإيثارها على استقباح الكذب والنفور عنه مع ما في طباع الناس من محبة التحدث بما كان وليس يجوز أن يقال إن الجماعة العظيمة قد يكون أن تخبر بما تعلمه كذبا أو تكتم ذلك إلا الواحد والإثنين لأنه إن جاز ذلك في الجماعة العظيمة إلا الواحد جاز مع ذلك الواحد ووجب لو لم يكن فيها ذلك الواحد أن يجوز أن يجتمعوا على الكذب وفي ذلك جواز الكذب على المتواترين
فهذه الشرائط يعتبرها من يقول إن العلم بالتواتر مكتسب ومن يقول إنه ضروري لا يعتبرها ويقول إن العلم لا يحصل بتأمل أحوال المخبرين وإنما يحصل من فعل الله سبحانه فان فعله الله سبحانه علمنا تكامل شروط التواتر في الخبر وإن لم يفعله علمنا أنه لم تتكامل الشرائط فيه ونقول إن العلم الضروري لو لم يحصل بالتواتر لكان يستدل به ويشرط في صحة الاستدلال به ما ذكرناه من الشرائط ونقول أيضا يجوز أن لا يقع العلم الضروري بخبر العشرين والثلاثين فان لم يقع العلم بخبرهم الضروري أمكن أن يستدل به إن حصلت فيه الشرائط التي ذكرناها
ويشرطون في حصول العلم الضروري بالتواتر أشياء
منها أن لا يكون السامعون عالمين بما أخبروا به باضطرار وليس يليق الكلام في ذلك بأصول الفقه وقد ذكرناه في الشرح للعمد

ومنها أن يكون المخبرون أكثر من أربعة
ومنها أن يكونوا مضطرين إلى ما أخبروا عنه ومن حكمه أنه إذا وقع العلم بخبر عدد أن يقع بخبر من ساواه في ذلك العدد فاذا وقع العلم لعاقل أن يقع لكل عاقل
أما وقوع العلم بخبر أربعة فمن قال إن العلم بالأخبار مكتسب فانه يقول إنما يقع العلم بالتواتر لأنه قد علم أن المخبرين لا داعي لهم إلى الكذب وإنما يعلم ذلك إذا علم استحالة اشتراكهم في داع واحد اتفاقا أو تواطؤا والأربعة لا يعلم استحالة كلا الأمرين عليهم فلم يقع العلم بخبرهم وأما من يقول العلم الواقع بالتواتر ضروري فانه يقول لو وقع العلم بخبر أربعة عن مشاهدة لوقع بخبر كل أربعة اضطروا إلى ما أخبروا عنه فكان يجب إذا شهد أربعة أنهم شاهدوا فلانا يزني أن يستغنى القاضي عن السؤال عنهم لأنه إن علم صدقهم فلا حاجة به إلى السؤال عنهم وإن لم يعلم صدقهم علم أنهم كذبة أو بعضهم فيستغني أيضا عن السؤال ولا يقيم الحد وفي الإجماع على وجوب إقامة الحد وإن لم يضطر إلى صدقهم على أن العلم لا يقع بخبر أربعة
ولا يقدح في ذلك كون الشهود مخبرين بلفظ الشهادة لا بلفظ الخبر لأن اختلاف الألفاظ لا يؤثر في ذلك ألا ترى أن الأخبار المتواترة بالفارسية والعربية سواء في وقوع العلم ولا يقدح في ذلك أن يقال إن من شرط الشهادة أن يجتمعوا في الشهادة وذلك يجوز وقوع التواطؤ منهم لأن اجتماع الأربعة عند الخبر وافتراقهم سواء في تجويز كونهم متواطئين فان جاز في إحدى الحالتين وقوع العلم بخبرهم جاز مثله في الحالة الأخرى
إن قيل فيجب إذا وجب على الحاكم أن يقيم الحد بشهادة خمسة وإن لم يضطر إلى العلم بصدقهم أن يدل ذلك على أن العلم الضروري لا يقع بخبر خمسة قيل لا يجب ذلك لأنه لا يمتنع أن يقع العلم بخبر خمسة وأن يكون

الحاكم إنما لم يعلم ضرورة صدق هؤلاء الخمسة وإن وجب عليه إقامة الحد لجواز أن يكون أربعة منهم شهدوا عن مشاهدة والخامس لم يشاهد فلزمه إقامة الحد بشهادة أربعة منهم وإن لم يعرفهم بأعيانهم ولا يمتنع أن يكون إنما لم يعلم صدقهم لأن الخمسة لا يقع العلم بخبرهم وإذا لم يمتنع كلا الأمرين لم يكن في ذلك دليل على أن الخمسة لا يجوز وقوع العلم بخبرهم ووجب كون ذلك مشكوكا فيه ولا يلزم على ذلك أن لا يقع العلم بعدد القاسمة من حيث لم يعتبر الحاكم وقوع العلم بخبرهم لأن أهل العراق يقولون يحلف خمسون من المدعى عليهم كل واحد منهم أنه ما قتل ولا عرف قاتلا فليس يخبرون عن مخبر واحد بل كل واحد منهم يخبر عن غير ما يخبر عنه الآخر وعند الشافعي يحلف خمسون من المدعين كل واحد منهم بحسب ظنه فمخبر كل واحد منهم غير مخبر الآخر
فان قيل ولو قالوا لو وقع العلم بخبر أربعة لوقع بخبر كل أربعة قيل لأنه لو وقع العلم بخبر قوم ولم يقع بخبر مثلهم مع تساويهم في الشروط لم يمتنع أن يخبرنا قافلة الحاج عن مكة فنعرفها وأن يخبرنا عن المدينة فلا نعرفها وفي ذلك جواز الشك في البلدان مع تواتر الأخبار عنها وهذا لا يصح لأن العلم بمخبر الأخبار من فعل الله عز و جل عندهم فما يؤمنهم أن يفعل العلم عند خبر اربعة دون أربعة ولا يجري العادة في ذلك على طريقة واحدة ويجري العادة على طريقة واحدة في فعل العلم عند إخبار الجماعات الكثيرة فلا يلزم الشك إذا أخبر بها الجماعات
فأما اشتراط كون المخبرين عالمين بما أخبروا عنه ضرورة فان من يقول إن العلم بالتواتر مكتسب يجعل من شرط الاستدلال به أنه لا يشتبه على المخبرين ما أخبروا عنه فيظنوه حقا فيخبروا عنه وأن لم يقصدوا الكذب وهذا يقتضي أن لا يكونوا عالمين باستدلال لأن ما يعلم باستدلال يجوز دخول الشبهة فيه على الخلق العظيم يبين ذلك أن المسلمين على كثرتهم يخبرون

اليهود بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم فلا يعلم اليهود ذلك ولو أخبرهم بعض المسلمين بما شاهدوه لعلمه اليهود ولا فرق بينهما وهذا الوجه يحتج به من قال إن العلم بمخبر الإخبار ضروري ويحتج أيضا بأن علم السامع فرع على علم المخبر ولم يجز كونه ضرورة مع كون الأصل مكتسبا وهذا لا يصح لأن علم السامع ليس بصادر عن علم المخبر وإنما هو فعل الله سبحانه مبتدأ إخبار إيجاده عن الخبر فلم يمتنع أن يفعله عند خبر من تعلم ما أخبر عنه باستدلال
فأما ان كل عدد وقع العلم بخبرهم لجماعة فانه يقع العلم بخبرهم لغير تلك الجماعة ويقع العلم بخبر مثل هؤلاء المخبرين فالدليل عليه عندنا هو أن العلم إنما يقع بخبرهم لأنهم اختصوا بشروط معلومة تؤدي إلى العلم بصدقهم وهي متقررة عند كل من عرف العادات وإن لم يعتبر عنها كثير منهم فاذا حصلت هذه الشروط في عدد آخر وجب أن يؤدي خبره إلى مثل ما أدى إليه خبر الأولين
وأما من قال إن العلم بالمخبر عنه ضرورة فانه يقول لو جاز خلاف ذلك لم يمتنع أن يكون في العقلاء من يخبرهم المتواترون بما شاهدوه فلا يعلم صدقهم وفي ذلك تجويز كون بعض العقلاء غير عالمين بأن في الدنيا مكة مع سماعه الأخبار عنها كسماعنا ولقائل أن يقول إن هذا الكلام يقتضي إحالة انتفاء العلم بمكة وأنتم لا تحيلون ذلك لأن وقوع العلم بذلك مبتدأ من فعل الله عز و جل
فان قالوا ليس ذلك بمحال ولكنا قد علمنا أنه لن تختلف فيه السامعون قيل لهم وكيف علمتم ذلك ولعل العادة قد جرت بخلاف ذلك في كثير من العقلاء وليس من شرط وقوع العلم أن يكون المخبرون أو بعضهم مؤمنين أما على قولنا فلأن الخبر طريق إلى العلم من حيث لم يكن للمخبرين داع إلى تعمد الكذب ولا كان الحق فيه ملتبسا ومجموع ذلك يمكن حصوله مع الكافرين ولأن أهل بلاد الكفر يعملون بتواتر أهل مقالاتهم من أحوال البلاد مثل ما

نعلمه نحن وهذا الوجه يحتج به من قال إن العلم بالتواتر ضروري وليس من شروط وقوع العلم بالخبر المتواتر أن يكون المخبرون عشرين لأنه لا دليل على اشتراط ذلك والأظهر أن شرط الاستدلال لا يحصل فيهم ومن يشرط هذا العدد يتعلق بقول الله سبحانه إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين قالوا فأوجب على العشرين الجهاد وإنما خصهم بالوجوب لأنهم إذا أخبروا علم صدقهم وهذا لا يدل لأنه الآية إنما تقتضي وجوب صبرهم لمائتين وليس فيها قصر الوجوب عليهم والأمة أيضا مجمعة على وجوب الجهاد على العشرة إذا كان فيهم غنى ولو أوجب الله على العشرين الجهاد دون من نقص منهم لم يكن في ذلك دلالة على أنه إنما خصهم بالوجوب لما ذكروه دون غيره من وجوه المصالح التي يختص الله تعالى بالعلم بها ولا دليل على اشتراط كون المخبرين سبعين ولا ثلاث مائة على ما يحكى عن بعضهم في السبعين تعلقا باختيار موسى سبعين رجلا من قومه ليصيروا معه إلى مناجاة ربه ولا فائدة في ذلك إلا ليخبروا قومهم فلو وقع العلم بخبر من دونهم لم يكن لاختيارهم فائدة وهذا لا يصح لأنه ليس في الآية أنه اختارهم لهذا الغرض ويجوز أن يكون اختارهم لهذا الغرض ولغيره ولم يكن مجموع الغرضين حاصلا فيمن دونهم وتعلق من اشتراط ثلاث مائة بأنهم عدة أهل بدر فتعلق بما لا علقة له بالمسألة فان قالوا إنما اختارهم النبي صلى الله عليه و سلم ليخبر المشركين بشرعه قيل لهم فقد كانوا أكثر من ثلاث مائة وايضا فمن أين أنه اختارهم لهذا الغرض وما تنكرون أنه اتفق اختيار ذلك العدد لا لما قالوه
باب في أن خبر الواحد لا يقتضي العلم قال أكثر الناس إنه لا يقتضي العلم وقال آخرون يقتضيه واختلف هؤلاء فلم يشرط قوم من أهل الظاهر اقتران قرينة بالخبر وشرط أبو إسحاق النظام في اقتضاء الخبر العلم اقتران قرائن به وقيل إنه شرط ذلك في التواتر

أيضا ومثل ذلك بأن نخبر بموت زيد ونسمع في داره الواعية ونرى الجنازة على بابه مع علمنا بأنه ليس في داره مريض سواه وحكي عن قوم أن يقتضي العلم الظاهر وعنوا بذلك الظن
واحتج الأولون بأشياء
منها أن خبر الواحد لو اقتضى العلم لاقتضاه كل خبر واحد كما أن الخبر المتواتر لما اقتضاه اقتضاه كل خبر متواتر وهذا اقتصار على الدعوى فان قالوا إنما اقتضى كل خبر متواتر العلم لأنه من قبيل ما يقع العلم عنده وهذا قائم في خبر الواحد لو كان فيه ما يقتضي العلم قيل لم زعمتم أن هذه هي العلة وما انكرتم أن العلم الواقع بالتواتر إن كان ضروريا فهو من فعل الله سبحانه فما يؤمنكم أن يختار فعله عند كل خبر متواتر لاقتضاء المصلحة لذلك ولم يقتض المصلحة فعله عند كل خبر واحد فلم يفعله عند كل أخبار الآحاد وإن كان العلم بالتواتر مكتسبا فما يؤمنكم أن تكون شروط الاستدلال به تتساوى فيها الأخبار المتواترة ولا يسمع فيه أخبار الآحاد
ومنها قولهم إن العلم لا يقع لشيء من الأخبار التي يرويها أربعة فقط فلم يقع لشيء من الأخبار التي يرويها واحد لأن الأربعة واحد وزيادة وهذا لا يصح لأنا قد بينا انه لا طريق لهم إلى العلم بأن العلم لا يقع لشيء من الأخبار التي يرويها أربعة
ومنها إبطالهم مذهب النظام لأنه لو وقف حصول العلم بالمخبر عنه على قرائن لم يمتنع أن يخبر المتواترون رجلا عاقلا بمكة ولا يقترن بخبرهم هذه القرائن فلا نعرفها وهذا إنما يفيد مذهب أبي إسحاق في اشتراط القرائن في وقوع العلم بالأخبار المتواترة ولعل أبا إسحاق عنى بالقرائن بالأخبار المتواترة ما لا ينفك منها الأخبار المتواترة نحو امتناع اتفاق الكذب منهم وأن لا يصح فيهم التواطؤ فلا يلزمه أن لا يعلم بعض العقلاء أن في الدنيا مكة
ومنها أنه ليس يخلو العلم الواقع عند الخبر إما أن يكون سببه القرينة

وحدها أو القرينة بشرط الخبر أو الخبر وحده أو الخبر بشرط القرينة والقسمان الأولان باطلان لأن القرينة لا تتناول المخبر عنه وإنما المتناول له هو الخبر فلم يجز أن لا يكون هو سبب العلم أو يكون سببه غيره ولو كان الخبر وحده يقتضي العلم لاقتضاه إذا تجرد والمعلوم خلافه ولا يجوز أن يقتضيه لشرط القرينة كسماع الواعية من دار المريض مع تقدم العلم بأنه لا مريض في الدار سواه لعلمنا أنه لو تجردت هذه القرينة عن الخبر لكان اعتقادنا موت ذلك المريض كاعتقادنا موته مع الخبر وهذا لا يصح لأنه يجوز أن يكون سبب الصراخ في داره موت غيره فجأة فاذا سمعنا الخبر بموت ذلك المريض مع الواعية كان اعتقادنا لموته آكد من اعتقادنا لموته عند سماع الواعية فقط فلا يمتنع أن تكون هذه القوة هي العلم على أن ما أبطلوا به أن تكون القرينة وحدها مقتضية للعلم لا يصح لأنها وإن لم يكن لفظا متناولا للمخبر عنه فهي فعل لا داعي إليه إلا الموت أعني الصراخ وحضور الجنازة وهذا وجه صحيح في التعلق بالمخبر عنه
وينبغي أن نقسم الكلام على المخالف فنقول به أتزعم أن كل خبر واحد يقتضي العلم فان قال نعم فنحن نعلم أن كثيرا من الناس يخبروننا بما لا نظنه فضلا أن نعلمه وكان يجب فيما لا نعلم صدقه من الأخبار أن نعلم كذبه وإن قالوا إنما نعلم صدق بعض أخبار الآحاد دون بعض قيل أتعلمون ذلك ضرورة أو اكتسابا فان قالوا ضرورة قيل هذا باطل لأنه ليس يكفي مجرد الخبر في وقوفنا على مخبره من دون أن نلحظ أمورا أخر فان كنا عالمين بالمخبر عنه فانما يقتضي علمنا به اكتسابا وتلك الامور إما أن ترجع إلى احوال المخبر وإما أن ترجع إلى غير احواله ومثال الثاني اقتران الواعية وحضور الجنازة بالخبر عن الموت وأما أحوال المخبر فنحو أن يكون له صارف عن الكذب في ذلك الخبر ولا يكون له داع إليه نحو أن يكون متحفظا من الكذب نافرا عنه في الجملة ونحو أن يكون رسولا من سلطان يذكر أن السطان يأمر الجيش بالخروج إليه فعقوبة السلطان تصرفه عن

الكذب ونحو أن يخبر الإنسان بأسعار بلده وهو ذو مروءة تصرفه عن الكذب ولا يكون له إلى الكذب في ذلك داع ونحو أن يكون الإنسان مهتما بأمر من الامور متشاغلا به فيسأل عن غيره فيخبر عنه في الحال فيعلم أنه لم يفكر فيه فيدعوه إلى الكذب داع مع علمنا بأن كونه كذبا يصرف عنه وهذه الأمور تقتضي أن لا غرض للمخبر في الكذب فيبطل بذلك أن يتعمد الكذب فيعلم أنه إنما تعمد الصدق وهذا استدلال على الشيء بابطال ضده
وإن قالوا إنما نعلم صدق خبر الواحد استدلالا بما ذكرتموه الآن قيل ليس فيما ذكرنا ما يؤدي إلى العلم لأنه قد يخبرنا الإنسان بموت المريض ويكون غرض أهله بالصراخ عليه وإحضار الجنازة إيهام السلطان موته ليسلم منه أو يكون قد أغمي عليه أو يكون غيره قد مات فجأة وقد يكون الإنسان شديد التحفظ من الكذب في الظاهر دون الباطن وقد يعدل عنه في بعض الأشياء دون البعض وقد يكون الإنسان مهتما بما يسأل عنه ويظهر أنه مهتم لغيره فاذا سئل عنه أظهر أنه قد نبه عليه وقد كان ساهيا عنه ثم أجاب عنه ليوهم أنه لم يتعمد الكذب فيه وقد يسبق من الإنسان يمين في أن يكذب في سعر الأشياء أو يكون غرضه أن يعجب الناس بغلاء الأسعار أو رخصها وإن كان كاذبا أو يكون له غرض في نفاق سلعته أو سلعة صديقه وقد يشتبه عليه الحال في ذلك فيخبر بالكذب وإن لم يتعمده وقد يرغب رسول السلطان بالمال الجزيل في أن يخبر رعية السلطان وجيشه بأمر السلطان إياهم بالخروج إليه وربما أمرع السلطان بالكذب في ذلك إما استهزاء وإما اختبارا لطاعة جنده وإذا أمكنت هذه الوجوه لم يعلم أنه لا غرض للمخبر إلا الصدق فلم يعلم صدقه وإن غلب الظن
وأما خط الإنسان فانه قد يتميز من غيره صورة كما يتميز صور الناس بعضها من بعض فاشتباه خط زيد بخط عمرو في بعض الحالات لا يقدح فيما

قلناه كما لا يقدح في تمييز الصور حصول الاشتباه بين بعض الصور في بعض الحالات
واحتج أهل الظاهر بأن الله عز و جل منعنا أن نقول عليه ما لا نعلم وتعبدنا بخبر الواحد فعلمنا أن خبر الواحد يقتضي العلم لا الظن والجواب إن التعبد بخبر الواحد لا يقتضي جواز القول علىالله بما لا يعلم لأنا وإن ظننا صدق الراوي فانا نعلم بدليل قاطع وجوب العمل به وإذا قلنا إن الله تعبدنا بذلك العمل فقد قلنا على الله بما لا نعلم
باب فيما يقبل فيه خبر الواحد وما لا يقبل فيه اعلم أن الرواية إما تتضمن شرعا عن النبي صلى الله عليه و سلم أو لا تتضمن ذلك والأول إما أن نكون تعبدنا فيه بالعلم فلا نقبل فيه خبر الواحد أو لم نتعبد فيه بالعلم بل بالعمل فنقبل فيه خبر الواحد إذا تكاملت شرائطه وسواء كان عبادة مبتدأة أو ركنا من اركانها أو حدا أو ابتداء نصاب أو تقديرا
وحكي قاضي القضاة رحمه الله عن الشيخ أبي عبد الله رحمه الله أنه كان يمنع من قبول خبر الواحد فيما ينتفي بالشبه وحكي عن أبي يوسف خلاف ذلك من قال ثم سمعته يقول بالقول الثاني وكان يمنع من قبوله في ابتداء الحدود وابتداء النصب وأركان الصلوات ويفرق بين ابتداء النصب وبين توافي النصب فقبل خبر الواحد في النصاب الزائد على خمسة أواق لأنه فرع ولا يقبله في ابتداء الفصيلات والعجاجيل لأنه أصل عنده ويقبل خبر الواحد في إسقاط الحدود ولا يقبله في إثباتها وقاضي القضاة يقبله في كل ذلك لأنه لا وجه يفصل به بينها وبين غيرها
وانتفاء الشيء بالشبه لا يمنع من قبول الخبر فيه كما لا يمنع من قبول الشهادة فيه غير أنا لا نقبل خبر الواحد في الحدود على وجه العقوبة وإنما

نقبله في الحدود على وجه الامتحان إلا على قول من أجاز العقوبة مع الظن وظاهر آية السرقة إنما يقتضي قطع السراق عقوبة وإنما علمنا بالسنة أن من قطع امتحانا مراد بالآية
وإن كان ما يرويه الراوي ليس يتضمن إضافة شرع إلى النبي صلى الله عليه و سلم فإما أن يجري مجراه كاضافة الفتوى إلى المفتي فيقبل فيه خبر الواحد وإما أن لا يجري مجرى إضافة الشرع وهذا إما أن يتضمن ما يفتقر إلى حكم الحاكم أو يتضمن ما لا يفتقر إلى ذلك فان تضمن ما لا يفتقر إلى حكم الحاكم فاما أن يتعلق به حكم شرعي أو لا يتعلق به ذلك فان لم يتعلق به ذلك كالهدايا والمعاملات وذلك يقبل فيه خبر الواحد إذا غلب على الظن صدقة بالغا كان المخبر أو غير بالغ فاسقا كان أو عادلا ويقبل أيضا في أمور الدنيا ما يجري مجرى الخبر في اقتضاء غالب الظن ولهذا قلنا إن وضع الماء في الطريق على بعض الوجوه يبيح شربه كما يبيحه الخبر بإباحته ووضع الصدقة في يد السائل يبيحه أخذها
فأما ما يتضمن ما يتعلق به حكم شرعي فالإخبار عن نجاسة الماء وكون الشاة ميتة يقبل خبر الواحد فيه ولتعلقه بالشرع لا يقبل فيه خبر المشرك واختلفوا في قبول خبر الفاسق لأن له شبها بأمور الدنيا وبأمور الدين فلذلك وقع الخلاف
وأما ما يفتقر إلى حكم الحاكم فمنه ما ليس هو حكما على معين ولا يتعلق به المخاصمة ومنه ما يكون حكما على معين ويتعلق به المخاصمة أما الأول فنحو رؤية هلال شوال ورمضان واختلف الفقهاء في هلال شوال فقبل بعضهم فيه خبر الواحد ولم يقبل بعضهم فيه إلا خبر اثنين وإنما وقع الخلاف فيه لأن له شبها بالأمور الدينية وله شبها بما يتعلق بالخصومات لأنه قد يحكم به الحاكم

وأما القسم الثاني فضربان أحدهما لا يمكن أن يقف عليه أكثر من واحد والآخر يمكن ذلك فيه فالأول يقبل فيه خبر الواحد وذلك دعوى المرأة انقضاء عدتها في زمان يجوز انقضاؤها فيه وأما الذي يمكن أن يقف عليه أكثر من واحد فمنه ما يشق ومنه ما لا يشق في الغالب والأول يقبل فيه خبر الواحد كشهادة القابلة في الولادة والثاني لا يقبل فيه خبر الواحد كالحقوق والحدود فصار خبر الواحد إنما يقبل في إثبات شرع ليس له طريق معلوم ولا يقبل في كثير مما يتعلق بالحكومات على الآخر ويقبل خبر الواحد في إثبات شرع ثم يتبع ذلك تعليق الحكم على الأعيان ولهذا قبلت الصحابة وضي الله عنها خبر الواحد في الجدة وتبع ذلك تعليق حكم على العين ولم يقبلوا خبر الواحد في رد الحكم لما تعلق بعين
باب في جواز ورود التعبد بأخبار الآحاد ذهب أكثر الناس إلى جواز التعبد بالعمل به ومنع آخرون من ذلك والدليل على جوازه أنه يجوز التعبد بالأخبار المتواترة فلو امتنع التعبد بأخبار الآحاد لامتنع ذلك لما به يفارق أخبار الآحاد أخبار التواتر والذي يمكن أن يقال إنهما يفترقان فيه شيئان أحدهما أن يقال إن العمل بأخبار الآحاد غير معلوم والآخر أن العمل بها وإن كان معلوما فانه موقوف على ظن صدق المخبر ووجوب العمل وقبحه لا يقفان على الظن
والذي يفسد الوجه الأول هو أنا نجيز العمل بخبر الواحد بأن يدل دليل قاطع على وجوب العمل به إذا تكاملت شروطه فنكون عند تكامل الشروط عالمين بوجوب العمل لمكان الدليل إذ لا فرق بين أن يقول الله عز و جل إذا غلب على ظنكم صدق الراوي فاعملوا بخبره وبين أن يقول إذا أخبركم فلان فاعملوا بخبره وبين أن يقول افعلوا كذا وكذا في أنا نعلم وجوب

الفعل في هذه الأحوال كلها
وأما الوجه الثاني وهو وقوف العمل على الظن فليس يمتنع لأن الفعل الشرعي إنما يجب لكونه مصلحة ولا يمتنع أن يكون مصلحة إذا فعلناه ونحن على صفة مخصوصة وكوننا ظانين لصدق الراوي صفة من صفاتنا فدخلت في جملة أحوالنا التي يجوز كون الفعل عندها مصلحة واجبا أو محظورا ولهذا يلزم المسافر سلوك طريق وتجنب آخر إذا أخبر بسلامة ذلك واختلال هذا من يغلب على ظنه صدقه ووجب على الإمام القطع والجلد والقتل إذا شهد بالزنا والقتل والسرق شاهدان أو أربعة ظاهرهم العدالة
وقد فرقوا بين خبر الواحد وبين الشهادة بأشياء
منها أن الشهادة تقبل فيما يجوز فيه الصلح وفيما يتعلق بالدنيا وليس كذلك خبر الواحد الجواب إن الشهادة مقبولة فيما لا يجوز فيه الصلح كالفروج وإراقة الدماء ويلزمهم جواز التعبد بخبر الواحد في احكام البياعات وغير ذلك وهم يأبون ذلك وأما أمور الدنيا فهي كأمور الدين فيما نحن بسبيله لأن الوجوب والقبح يدخل كل واحد منهما فيها والعبادات الشرعية إنما وجبت وقبحت لكونها مصالح فيما يتعلق بالدنيا من القتل وغيره فاذا جاز أن يجب علينا ما ذكرناه من أمور الدنيا بحسب الظن جاز ذلك في الشرعيات على أنا نقبل الشهادة في أمور شرعية كرؤية الأهلة على ان الحد أمر شرعي وقد قبلوا فيه شهادة الاثنين
ومنها قولهم أنتم تقبلون أخبار الآحاد في إثبات شرع والشهادة بأن زيدا قتل أو سرق ليس يثبت بها شرع والجواب إنه لا فرق بينهما لأنا عند الشهادة نعلم أن قتل المشهود عليه شرع ودليلنا على ذلك ما دلنا على وجوب العمل بالشهادات وعند خبر الواحد نعلم أن الحكم به شرع ودليلنا على ذلك ما دلنا على وجوب العمل بخبر الواحد فلا فصل بينهما إلا أن الحكم يثبت بالخبر في الجملة وبالشهادة يثبت على عين وهذا غير قادح في تعلق الحكم

الشرعي بالظن على أن الغرض باثبات الحكم في الجملة بخبر الواحد تعلق على الأعيان فاذا جاز إثباته في الأعيان بخبر مظنون جاز إثباته في الجملة لأن الغرض بالجملة الأعيان على انا إذا قبلنا شهادة شاهدين على زيد وشهادة غيرهما أو شهادتهما على عمرو وعلى خالد فقد علقنا الحكم على أعيان كثيرة بخبر مظنون على انه يلزمهم أن يقبلوا خبر الواحد في إثبات حكم على شخص واحد وهم يابون ذلك
ومنها قولهم إنه إنما وجب الحكم عند الشهادة بدليل قاطع والشهادة شرط وأنتم تجعلون الدليل على الحكم هو خبر الواحد ولا تجعلونه شرطا والجواب أنه لا بد في الحكم بخبر الواحد من خبر الواحد ومن الدليل الدال على وجوب العمل به وتسمية الخبر دليلا أو شرطا كلام في عبارة فلا يضرنا الامتناع من تسمية الخبر دليلا إذا كان الغرض ما ذكرناه
واحتج المخالف بأشياء
منها أنه لو جاز أن يكون علمنا بما أخبرنا به الواحد عن النبي صلى الله عليه و سلم مصلحة ونعلم ذلك إذا ظننا صدقه جاز أن يكون الفعل مصلحة إذا أخبرنا بوجوبه على الله سبحانه من يغلب على ظننا صدقه في أن الله تعالى أرسله ونعلم وجوب ذلك علينا وما الفرق بين أن يكون المخبر بالمصلحة عن الله عز و جل بلا واسطة أو بواسطة نبي والجواب أن من يجيز ورود التعبد الشرعي بالرجوع إلى خبر الواحد يقطع على وجوب العمل به لأن دليلا قاطعا دل على وجوب العمل به وهو قول الله عز و جل وقول رسوله أو قول الأمة وقول الأمة لا بد من أن يستند إلى قول الله وقول رسوله وإنما تكون الأدلة الشرعية قاطعة إذا علمنا صدق الرسول بمعجز حتى إذا أخبرنا بوجوب العمل بالخبر الواحد علمنا وجوب العمل به وهذا لا يتم إذا كان صدق المدعين للنبوة مظنونا غير مقطوع به فان قالوا إنما أنتم ما ذكرتم إذا ألزمناكم أن يكون صدق جميع الأنبياء مظنونا ونحن إنما نلزمكم أن تعلموا صدق بعض الأنبياء بمعجز

ونقول لكم ذلك النبي إذا أخبركم إنسان ان الله أرسله بشرائع وظننتم صدقه فاعملوا بها واعملوا أنها مصلحة الجواب أن تجويز كذب من أكرمه الله عز و جل بالرسالة من أقوى ما ينفر عنه وليس يجوز على الأنبياء ما ينفر عنهم لأن ذلك مفسدة وليس يجب في غيرهم من التنزيه عن التنفير ما يحب فيهم ألا ترى أنه لا يلزم على ذلك كون الأمراء والقضاة والشهود مجنبين ما ينفر عنهم حتى لا يجوز عليهم الكذب وإن كانوا ينفذون أحكاما شرعية ويحكمون بها وأيضا فانه إنما جاز العمل بخبر الواحد إذا غلب على ظننا صدق المخبر وليس يمتنع أن يغلب على ظننا صدق من اخبر أنه شاهد النبي عليه السلام وسمع منه كلاما كثيرا إذا مثل ذلك كثير قد جرت به العادات ولم تجر العادات بسماع كلام الله عز و جل من غير واسطة وما يحصل للنبي عليه السلام من الرئاسة العظيمة التي لا تدانيها رئاسة ويدعو الإنسان إلى ادعائها فاذا اجتمع للعاقل تجويزه كذب المدعي للنبوة من غير معجزة طلبا للرئاسة العظيمة مع أنه مخبر بما لم تجر به العادات لم يجر أن يغلب على ظنه صدقه وأيضا ففي الاقتصار على ظن صدق المدعي للنبوة أعظم مفسدة لما في النبوة من الرئاسة العظيمة التي يطلبها كل أحد فلو تعبدنا بالأخذ في ذلك بالظن لتعمد أكثر الناس التظاهر بالصدق والستر لتتم له هذه الرئاسة فيكثر المدعون للنبوة الواردون بالشرائع المختلفة وليس للمخبر مثل هذه الرئاسة ولا يجب تصديقه بغير الشرائع في كل حال لأن السنن تنحصر في حياة النبي وبعد وفاته بزمان يسير فما يرد بعد ذلك نعلم أنه كذب وأيضا فإن لزمنا ما ذكروه على قولنا في المخبرين لزمهم ذلك على قولهم وقولنا في الشهود لأنهم ينقلون ما إذا حكم به كان الحكم به شرعيا
ومنها قولهم لو جاز التعبد بأخبار الآحاد في فروع الشريعة جاز التعبد بها في الأصول وفي الأدلة والأخبار حتى إذا روى لنا الواحد أن أهل اللغة وضعوا اللفظ للعموم قبلناه وإذا أخبرنا الواحد أن زيدا في الدار جاز أن نخبر نحن أنه في الدار قطعا كما نخبر قطعا بوجوب ما أخبرنا الواحد بوجوبه

عن النبي صلى الله عليه و سلم الجواب يقال لهم ما تريدون بالاصول فان قالوا الصلوات الخمس وصوم شهر رمضان قيل قد كان يجوز ورود التعبد باخبار الآحاد فيها ولا يكون حينئذ من الاصول لأن اصول الشريعة هي ما لا يكون العلم بوجوبها متعلقا بظن وإن قالوا نريد بالاصول توحيد الله وعدله قيل لو قبلنا أخبار الآحاد في ذلك لقبلناها في الاعتقادات وذلك لا يجوز لأن الواحد إذا أخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم ان الله لا يرى لم يعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ذلك فلا يعلم أن الله لا يرى لأنا غير عالمين بدليله وإذا لم نكن عالمين بأنه لا يرى واعتقدنا ذلك لم نأمن كون اعتقادنا جهلا وكل اعتقاد لا يؤمن كونه جهلا فهو قبيح وأما فروع الشريعة فليست اعتقادات فيكون المقدم عليها مقدما على اعتقاد لا يامن كونه جهلا بل هي أعمال فان قيل ألستم عند خبر الواحد تعلمون وجوب الفعل عليكم فقد أقدمتم على اعتقاد أيضا قيل إنا نأمن كون ذلك الاعتقاد جهلا لأنه قد دل عليه دليل قاطع وهو ما دل على وجوب المصير إلى أخبار الآحاد فان قيل فهلا جاز أن يدل دليل قاطع على قبول خبر الآحاد في الرؤية وغيرها فتعتقدون ذلك وتأمنون كون اعتقادكم جهلا قيل إنا لا نجوز ذلك لأن كون البارىء تعالى غير مرئي امر حاصل في نفسه لا يحصل بحسب ظننا فلم يجب إذا ظننا صدق الراوي أن يكون تعالى غير مرئي وإذا لم يجب ذلك لم يجز أن يدل دليل قاطع على كونه كذلك إذا ظننا صدق الراوي أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول إن الله سبحانه لا يرى وكون العمل مصلحة يجوز أن يقف على أن نفعله ونحن على صفة وهو كوننا ظانين صدق الراوي وإذا جاز ان تكون مصلحتنا ان نفعل الفعل ونحن نظن صدق الراوي لوجوب الفعل جاز أن تدل دلالة قاطعة على وجوب ذلك علينا عند ظننا فاذا دلت على ذلك علمنا وجوب ذلك الفعل علينا واخبرنا قطعا عن وجوبه علينا فان قيل فيجب إذا أخبركم عن النبي صلى الله عليه و سلم بأن الله لا يرى من يغلب على ظنكم صدقه أن تظنوا أن الله لا يرى وتقتصروا على ذلك قيل لئن جاز الاقتصار على الظن في التوحيد والعدل والصفات لجوزنا

ورود التعبد بالاقتصار على الظن في ذلك ولكن لا نجوز الاقتصار على الظن في ذلك وهذا السؤال إنما يلزم على القول بأن خبر الثقة غير الظن وهذا يوافقنا عليه خصومنا فان كان السؤال لازما لنا فهو لازم لهم أيضا ولا جواب عنه إلا ما ذكرناه من أنه لا يجوز الاقتصار في التوحيد والعدل على الظن دون العلم وما ذكرناه هو الجواب عن الأخبار لأن زيدا إذا أخبرنا بأن عمرا في الدار وظننا صدقه لم نأمن أن لا يكون في الدار لأنه كونه في الدار ليس مما يحصل بحسب ظننا بل هو أمر في نفسه كذلك ظنناه أم لم نظنه فخبرنا قطعا عن أنه في الدار خبر لا نأمن من كونه كذبا فقبح فان أخبرنا بحسب ظننا جاز لأنا نأمن كونه كذبا فان قيل ايجوز أن يقول لكم النبي صلى الله عليه و سلم إذا ظننتم صدق من أخبركم بشيء فهو كما أخبركم قيل لا يجوز ذلك لأنه لا يجوز اتفاق الصدق في خبر كل من ظننا صدقه ولا يجوز أيضا أن يقول إذا أخبركم زيد بشيء وظننتم صدقه فهو صادق لأنه لا يجوز أن يتفق الصدق والصواب في كل ما ظنناه ويجوز أن يقول إذا أخبركم زيد بأمور يسيرة وعينها وظننتم صدقه فهو كما أخبركم لأنه يجوز أن يتفق الصدق والصواب فيما نظنه إذا كانت أشياء يسيرة نحو أن يقول إذا أخبركم زيد عن النبي صلى الله عليه و سلم بأن الله لا يرى أو قال إذا أخبركم مخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم بأن الله لا يرى وظننتم صدقه عن النبي عليه السلام فهو كما أخبركم أو يقول إذا أخبركم زيد بأن النبي عليه السلام قال إن الله لا يرى فهو صادق وإذا قال ذلك انتقلنا عن ظننا إلى القطع وجاز أن نخبر عن ذلك قطعا فأما إذا أخبرنا الواحد عن أهل اللغة أنهم وضعوا لفظا للعموم فانا لا نقطع على ذلك لأن كونهم واضعين له ليس مما يحصل بحسب الظن فهو بخلاف كون الفعل مصلحة ويجوز أن نظن أنهم وضعوا ذلك للعموم وأن يتعبدنا الله سبحانه بالاستدلال بذلك اللفظ على الشمول في الفروع الشرعية
ومنها قولهم لو جاز التعبد بخبر الواحد في الفروع جاز التعبد به في نقل

القرآن الجواب أنهم جمعوا بين الموضعين بغير علة ثم إن القرآن المنقول بالآحاد إما أن يظهر فيه الإعجاز وإما أن لا يظهر فيه الإعجاز فان لم يظهر فيه الإعجاز جاز أن نعمل بما تضمنه من عمل إذا نقل إلينا بالآحاد ولهذا نعمل بمثل ما ينقل من قراءة عبد الله بن مسعود رحمه الله وما يظهر فيه الإعجاز فهو حجة للنبوة ولا يكون حجة إلا وقد علم أنه لم يعارض في عصر النبي عليه السلام مع سماع أهل العصر له ولا يعلم ذلك إلا وقد تواتر نقل ظهوره في ذلك العصر
ومنها قولهم إن الشرعيات مصالح والواحد يجوز أن يكذب فيما يخبر به من فعل أو ترك ولا نأمن أن يكون ما تضمنه خبره مفسدة وقد أجاب قاضي القضاة رحمه الله عن ذلك في الشرح والدرس فقال إن الذي لا بد منه في الواجب الشرعي كونه مصلحة مدلولا عليه إما بعينه وإما بصفته فاذا قامت الدلالة على وجوب العمل عند خبر الواحد وظننا صدقه علمنا أن العمل صلاح لنا كما نعلم أن قطع اليد صلاح عند البينة وهذا لا يعترض قول المخالف إن الراوي إذا جاز عليه الكذب لم نأمن أن يخبر بالمفسدة ومتى ثبت للمخالف هذا كان له أن يقول لا يجوز أن تدل دلالة على ما ذكرتم فان قلتم قيام الدلالة على العمل بما ظنناه يدل على صدق المخبر قيل لكم فيجب أن تقطعوا على صدقه ولئن جاز ذلك ليجوزن أن تدل دلالة على أن نحكم ما نريده فنعلم أن كل ما نريد الحكم به فهو صواب فان قلتم لا يجوز أن يتفق ذلك في كل ما نريده قيل لك ولا يجوز أن يتفق الصواب في كل ما نظن صدق الراوي فيه فأما ما ذكره من الحكم عند البينة فهو نقض لما اعتلوا به لأنه يجوز أن يكذب الشهود فنقطع يدا لا يستحق قطعها والجواب عن الشبهة هو أن الفعل قد يكون صلاحا إذا فعلناه ونحن على حالة مخصوصة ولا يمتنع أن يكون متى ظننا صدق الراوي أو كنا ممن يجوز أن يظن صدقه لأمارة صحيحة فمصلحتنا أن نفعل ما اقتضاه الخبر صدق الراوي أو كذب كما نقوله في الحكم عند البينة وإذا لم يمتنع ذلك لم يجب ما قالوه من أن تجويز

كذب الراوي يلزمه تجويز كون الفعل الذي رواه مفسدة كما لا يلزمه مثله في البينة فان قالوا ليس يخلوا ظنكم صدق الراوي إما أن يكون طريقا إلى المصلحة أو شرطا في كون فعلكم مصلحة فان كان طريقا وقلتم لا يجوز أن يخطىء فقد جعلتم الظن علما ولزمكم قبول خبر الواحد في الاعتقادات وإن جوزتم أن يخطىء الظن لم يجز كونه طريقا إلى القطع على أن ما فعلتموه مصلحة ولئن جاز أن يكون طريقا إلى ذلك مع جواز كونه خطأ جاز أن يكون طريقا إلى الاعتقادات وجاز ورود التعبد به فيها وإن جعلتموه شرطا يصير الفعل عنده مصلحة فلم لا يجوز كون الفعل مصلحة إذا ظننا كذب الراوي له وإذا اشتهينا فعله وإذا اخترناه وأن يرد التعبد بذلك قيل قد أجاب قاضي القضاة رحمه الله فقال يجوز كون هذه الأشياء أسبابا يجب عندها الفعل على ما ذكروه ونحن نجيب عن ذلك بأنا إنما جوزنا أن يكون الفعل مصلحة عند حالة من حالاتنا ثم بينا إن ظننا صدق الراوي مما يشهد العقل بجواز كونه شرطا في المصلحة بما ذكرناه من التصرف في الأسفار والحكم بالبينات وكما أن العقل بذلك شاهد فهو شاهد بأن ما ذكرتموه لا يكون شرطا في وجوب الفعل ألا ترى أن المسافر إذا خاف في سفره فخبره بعض من يظن صدقه بسلامة بعض الطرق وفساد غيره فانه يجب عليه أن يعمل على ما ظنه صلاحا دون ما ظن فيه الفساد ولو ظن كذب المخبر بأمارة لم يجز أن يعمل على خبره ولا يجوز له مع اشتباه الطرق عليه وخوفه أن يعمل على شهوته واختياره من غير أمارة على أن القول بأنه ينبغي أن يعمل الإنسان بما يشتهيه ويختاره إسقاط للتكليف لأنه كأنه قيل له افعل ما تختاره دون ما لا تختاره ونحن إنما نتكلم في تكليف على صفة هل يحسن أم لا وقصد السائل أن يلزمنا على هذا التكليف تكليفا آخر على صفة أخرى وليس غرضه إلزامنا إسقاط التكليف فقد بان أنه لم يلزمنا ما قصد إلزامنا فان قالوا يجوز أن يقال للإنسان إذا اخترت الفعل أو اشتهيته فلم يصرفك صارف فقد وجب عليك فعله ما دمت مريدا له وإن لم تكن مختارا

له قاصدا إليه لم يجب عليك فعله قيل لا يجوز ذلك لأنه والحال هذه لا بد من كونه فاعلا فايجاب ذلك لا يصح
ومنها قولهم إن أخبار الآحاد قد تتعارض ولا يمكن العمل بها فلو جاز التعبد بها لجاز التعبد بما لا يمكن العمل به الجواب أنه ليس كل تعارض يمنع من العمل بالخبر بل قد يعمل مع التعارض على ما يترجح من أحد الخبرين على الآخر كما يعمل المسافر في طريقه على ما يترجح من إحدى الأمارتين ويمكن أن يعمل بالخبرين إما على الجمع وإما على التخيير فان لم يمكن ذلك ففقد إمكانه يمنع من التعبد بها فيه هذا التعارض المانع من العمل غير مانع من التعبد بما يمكن العمل به مما لا تعارض فيه وما ذكروه منتقض بالعمل بالبينات والأمارات للمسافر لأنها قد تتعارض
باب في التعبد بخبر الواحد اختلف مجيزو ورود التعبد بأخبار الآحاد في الشرعيات فمنهم من قال قد ورد التعبد بها ومنهم من قال لم يرد بها واختلف هؤلاء فمنهم من قرن إلى قوله لم يرد التعبد بها أن قال قد ورد التعبد بأن لا يعمل بها ومنهم من اقتصر على أن التعبد لم يرد بها واختلف من قال بورود التعبد بها فقال قوم العقل يدل على التعبد بها ومنهم من قال العقل لا يدل على ذلك
والدليل على وجوب العمل بأخبار الآحاد هو أن العقلاء يعملون بعقولهم وجوب العمل على خبر الواحد في العقليات ولا يجوز أن يعلموا وجوب ذلك أو حسنه بعقولهم إلا وقد علموا العلة التي لها وجب ذلك أو حسن ولا علة لذلك إلا أنهم قد ظنوا بخبر الواحد تفصيل جملة معلومة بالعقل وهذا موجود في خبر الواحد الوارد في الشرعيات فوجب العمل به يبين ما ذكرناه أنه معلوم بالعقل وجوب التحرز من المضار وحسن اجتلاب المنافع فاذا ظننا

صدق من أخبرنا بمضرة إن لم نفصد أو لم نشرب الدواء أو إن سلكنا في سفرنا طريقا مخصوصا أو لم نقم من تحت الحائط فقد ظننا تفصيلا لما علمناه في الجملة من وجوب التحرز من المضار وقد علمنا في الجملة وجوب الانقياد للنبي صلى الله عليه و سلم فيما يخبرنا به من مصالحنا ووجوب التحرز من المضرة في تجنب المصالح فاذا ظننا بخبر الواحد أن النبي عليه السلام قد دعانا إلى الانقياد له في فعل أخبر أنه مصلحة وخلافه مفسدة مضرة فقد ظننا تفصيلا لما علمناه في الجملة وإنما قلنا إن العلة ما ذكرناه لأن الحكم يحصل عنده وينتفي عند انتفائه لأنا إذا علمناه في الجملة وجوب التحرز من المضرة وظننا بالخبر أن علينا في الفعل مضرة ولم يمكن العلم وجب علينا تجنبه وإن ازلنا عن أنفسنا اعتقاد ما عدا ذلك وإذا رجعنا إلى عقولنا وجدناها تتبع تجنب هذا الفعل لهذه الجملة التي ذكرناها ولو لم يحصل لنا العلم بوجوب دفع المضار في الجملة أو حصل ذلك ولم نظن أن علينا في الفعل مضرة لم يجب علينا تجنبه وكذلك لو ظننا ذلك وأمكننا تحصيل العلم فعلمنا أن العلة ما ذكرناه
إن قيل بل العلة في الأصل ظننا المضرة في امور الدنيا وليس كذلك خبر الواحد في الشرعيات قيل إن ما ذكرتموه وإن كان من أمور الدنيا فهو من امور الدين لأن التحرز من المضار واجب في العقل وما وجب في العقل فهو من الدين فان قالوا إن خبر الواحد في أمور الدنيا وارد فيما نعلم جملته عقلا وليس كذلك خبر الواحد في الشرعيات قيل لا فرق بينهما لأن خبر الواحد في الشرعيات وارد بتفصيل الانقياد للنبي صلى الله عليه و سلم والتزام أمره والتحرز من مضار المخالفة وهذا معلوم بالعقل والشرع كما يعلم التحرز من مضار الدنيا بالعقل والشرع وأيضا فلو ثبت أن وجوب التحرز من مضار الدنيا معلوم بالعقل فقط والتحرز من مضار الشرعيات معلوم بالشرع فقط لكان ذلك اختلافا في طريق العلم بالوجوب وذلك غير مؤثر فيما يقبل من أخبار الآحاد وإنما الذي يجوز أن يؤثر في ذلك هو أن يقال إن الشرعيات مصالح والمخبر الواحد يجوز أن يكون كذابا فلا نأمن أن يكون ما نقله

مفسدة وسنتكلم في ذلك إن شاء الله
إن قيل إنما وجب قبول خبر الواحد في العقليات لأنه لا يغلب على الظن وصول المضرة إذا قبلناه بل يغلب على الظن وصولها إذا لم نقبله وليس كذلك الشرعيات لأنه ليس يغلب على ظننا وصول المضرة إذا لم نقبل خبر الواحد بل لا نأمن أن يؤاخذنا المتعبد لنا إذا قبلنا خبر الواحد والجواب ان كلامنا في خبر من نظن صدقه لدينه وأمانته وقد بينا أن خبر من هذه سبيله في الشرعيات يساوي خبره في العقليات وذلك يقتضي أن يغلب على ظننا وصول المضرة إلينا إن لم نقبل خبره ويؤمننا من مؤاخذة المتعبد إذا قبلناه ويقضينا القطع على مؤاخذته إذا لم نقبله
إن قيل إنما قبلنا خبر الواحد في العقليات لأن العادة قد جرت بنزول المضار والمنافع فاذا غلب على الظن وصول المضرة لزمنا التحرز منها قيل وقد جرت عادة الشرع بالزام العبادات ولا يمتنع في العقل إيداع ذلك الواحد وأن تكون المصلحة أن يرد التعبد به كما لا يمتنع أن يرد التحرز من المضرة من جهة واحد فاذا لم يمتنع ذلك جرى خبر الواحد في الشرعيات مجراه في العقليات
فان قيل الفرق بين الشرعيات والعقليات أن الشرعيات يمكن فيها طريقة تقتضي العلم نحو الرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام والإجماع والبقاء على حكم العقل فلم يجز الرجوع إلى الظن وليس كذلك الامور العقلية من أمور الدنيا لأنه يتعذر فيها طريقة معلومة فجاز الرجوع إلى الظن قيل إنه إذا كان في المسألة كتاب أو سنة مقطوع بها أو إجماع بخلاف خبر الواحد ولم يكن الخبر مخصصا فانا لا نعدل إليه عن هذه الأدلة ومسألتنا مفروضة في خبر واحد تخالف ما ذكرتموه وأما البقاء فممكن في العقليات وفي الشرعيات لأن الأصل في العقل أن لا يجب علينا إيلام أنفسنا بفصد وشرب دواء ومسير في طريق مخصوص فاذا لم يجز البقاء على حكم العقل في هذه

الأشياء إذا أخبرنا بالمضرة في تركها من نظن صدقه علمنا أن البقاء على حكم العقل ليس بدليل قاطع مع الظن لصدق المخبر فبطل قول المخالف إن ذلك دليل قاطع مع خبر الواحد
وقد أجاب قاضي القضاة رحمه الله عن قياس خبر الواحد في الشرعيات على قبوله في العقليات والمعاملات بأن المعاملات مبنية على غالب الظن والشرعيات مبنية على المصالح فاذا لم نأمن كذب المخبر لم نأمن أن يكون فعلنا ما أخبرنا به مفسدة والجواب أن قوله إن المعاملات مبنية على غالب الظن هو الحكم الذي طلبنا علته وقسنا بها خبر الواحد في الشرعيات على المعاملات فلا ينبغي أن يفرق بينهما بذلك لأنا نكون قد فرقنا بين المسألتين بنفس الحكم والمصالح وإن كانت معتبرة في الشرعيات فالمضار والمنافع هما المعتبران في العقليات والمعاملات لأنا إنما ننحو بما نفعله نحو المنافع والخلاص من المضار كما أنا ننحو بالشرائع تحصيل المصالح ولأجلها وجبت فاذا قام غالب الظن في المنافع والمضار العقلية مقام العلم مع تجويز كذب المخبر فكذلك غالب الظن بصدق المخبر في الشرعيات ولو جاز أن لا يقبل خبر الواحد في الشرعيات لجواز كذب المخبر فيكون ما أخبر به مفسدة جاز أن لا يقبل خبر الواحد في العقليات لجواز كذب المخبر فيلحقنا المضرة في اتباعه ونخلص منها بمخالفته على أن قوله لا نأمن أن يكون المخبر كاذبا فنكون باتباعه فاعلين للمفسدة يبيح المنع من ورود التعبد بقبول خبره لأن فعل ما لا نؤمن من كونه مفسدة قبيح فان قال قيام الدلالة على التعبد به دلالة على أن المصلحة هي اتباع ما ظنناه من صدقه لا غير قيل فاذن يجوز أن تكون المصلحة هي فعلنا ما ظنناه من صدق المخبر فلم قطعتم على أن المصلحة قد تكون غير ما فعلناه فان قالوا نحن وإن جوزنا أن نكون علمنا بحسب ما ظننا من صدق الراوي هو المصلحة فانا لا نعلم ذلك إلا بتعبد شرعي قيل فكأنكم فصلتم بين خبر الواحد في الشرعيات وبينه في العقليات بأن العقليات يعمل فيها على الظن من غير تعبد شرعي والشرعيات لا يعمل فيها على الظن

إلا بتعبد وهذا هو نفس المسألة فقد فصلتم بين المسالتين بنفس الحكم لا بالعلة المفرقة بينهما على انه جاز أن يقال إن قيام الدلالة الشرعية على قبول خبر الواحد يدلنا على ان المصلحة ليست إلا العمل بما ظنناه من صدق الراوي جاز أن يقال قياس الذي ذكرنا هو دليلنا على أن المصلحة ليست إلا العمل بما ظنناه من صدق الراوي
وأجاب أيضا بأن العمل على غالب الظن في دفع المضار في الدنيا هو الأصل للعمل على العلم بدفع المضار لأن امور الدنيا المستقبلة غير معلومة وإنما هي مظنونة وليس يمكن أن يقال إن أمور الدين المظنونة هي الأصل لامور الدين المعلومة وهذا لا يصح لأنه فرق لا يؤثر في وجه الجمع الذي ذكرناه لأنه ليس يجب إذا أشبه الظن لامور الدين الظن لامور الدنيا في وجوب العمل عليها أن يشتبها في كل وجه بل لا يمتنع أن يجب العمل عليهما ويكون العمل على غالب الظن أصلا للعمل على العلم في امور الدنيا وللعمل على الظن في أمور الدين أصلا بنفسه
دليل قال الله سبحانه فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون فتعبدنا بقبول خبر كل طائفة خرجت للتفقه ثم أنذرت قومها وهذه صفة خبر الواحد يبين ذلك أنه سبحانه أوجب على كل فرقة أن تخرج منها طائفة والثلاثة فرقة فوجب أن تخرج منها طائفة والطائفة من الثلاثة واحد أو اثنان فاذا خرجا لسماع الأخبار وتدبرها فقد خرجا للتفقه في الدين فاذا رجع من هذه سبيله فأخبر قومه بوجوب عبادة وحذرهم من تركها فقد أنذر قومه فاذا كنا متعبدين بالرجوع إلى قوله كنا متعبدين بذلك وإن لم نخرج لهذا الغرض لأن أحدا لم يفصل بين الموضعين

إن قيل لم قلتم إن الآية تدل على التعبد بالرجوع إلى قول الطائفة قيل إنما تعبدها بانذار قومها لكي يحذر فتعبد قومها بالحذر وليس يخلو إذا أخبرتم الطائفة بوجوب فعل أو تحريمه إما أن يلزمها المصير إلى قول الطائفة أو يلزمها الإمساك عما كانت عليه من فعل أو ترك أو أن يخرج جماعتها أو من يقوم بالحجة بنقله إلى الآفاق لاستبانة الخبر والقسم الأول هو قولنا والثاني يرجع إليه لأنا إن كنا نشرب النبيذ فخبرنا الطائفة بتحريمه فإيجاب إمساكنا عن شربه هو تحريم شربه وإن كنا تاركين لبعض الصلوات فأخبرونا بوجوبها فوجوب إمساكنا عن الإخلال بها هو إيجاب فعلنا فبان رجوع هذا القسم إلى القسم الأول بخلاف ما ظنه بعضهم وإن وجب على جماعتنا أو على أكثرنا الخروج من الأوطان إلى الآفاق ليعلموا صحيح الحديث من باطله لم يصح بالإجماع لأن أحدا من الأمة لم يوجب على اهل القرى في عصر النبي صلى الله عليه و سلم وعصر من بعده أن يخرجوا أو أكثرهم إذا لم تقم الحجة بنقل الطائفة إليهم ويتركوا بلادهم كلما سمعوا بخبر يتضمن فعلا شرعيا وذلك يؤدي إلى أن لا يستقروا في بلادهم قبل استقرار السنن
إن قيل قولكم إن المذكور في الآية هو خبر الواحد باطل من وجوه
منها أنه عز و جل تعبد من كل فرقة طائفة بالتفقه والإنذار لقومهم وهم مجموع الفرق لأن مجموع الطوائف هم قوم الفرق فلا يمتنع أن يكون مجموع الطوائف من يتواتر الخبر بنقلهم الجواب أنه لا يجوز أن يكون أراد مجموع الطوائف ينذر كل فرقة لأنها لم يكن عند كل طائفة فرقة فتكون راجعة إليها وقوله ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم يدل على أنهم كانوا عندهم وهذا إنما يتم في كل فرقة مع طائفتها
ومنها أن قوله ليتفقهوا في الدين ولينذروا يدل على أنه أراد

الإنذار بالفتوى دون الخبر الجواب إن كثيرا ممن يمنع من العمل بخبر الواحد يمنع العامي من الأخذ بالفتوى وأيضا فان التفقه يكون بسماع الأخبار والتدبر لها وقد كان التفقه هكذا في الزمن الأول وهذه الحال يتم معها الإنذار بالفتوى وبالإخبار فاذا لم يفصل الله سبحانه الإنذارين كان محمولا على كل واحد منهما كما أنه لو قال ولتضربوا كان شائعا في الضرب بكل خشبة وعلى كل وجه من الشدة واللين على أنه لم يفصل بين أن يكون قومهم مجتهدين أو غير مجتهدين والإنذار بالفتوى إنما يلزم قبوله غير المجتهد فوجب صرف الكلام إلى الإخبار لأنه الذي لا يختلف فيه المجتهد وغير المجتهد إن قيل قوله ليتفقهوا في الدين يدل على انه ليس في الطائفة مجتهد إذ لو كان فيها مجتهد لما كان ليجب على بعضها أن ينفر للتفقه الجواب إن العبادات في عصر النبي عليه السلام كانت تتجدد حالا فحالا ويرد نسخها بعد ثبوتها فحصول المجتهد في الطائفة لا يغني عن أن ينفر منها من يسمع ما يتجدد من السنن المبتدأة والناسخة وكذلك الأعصار المقاربة لعصر النبي عليه السلام قبل استقرار السنن وانتشارها لجواز أن تكون في غيرها من الطوائف من السنن ما لم تبلغها
ومنها أن قوله ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم يحتمل التفقه في الأصول وإنذار قومهم ليحذروا وليس هذا من خبر الواحد في الشرعيات بسبيل الجواب إن المستفاد من التفقه في العادة التفقه في الفروع على أنه إن كان المراد بالأصول ها هنا التوحيد والعدل فالخاطر يجوز من ترك النظر فيهما وليس يحتاج في الحذر من تركهما إلى السفر وإن كان المراد بها أصول الشريعة كالصلوات الخمس فذلك عندنا لازم بالآحاد في ابتداء الشريعة لأن الواحد إذا أخبر أهل اليمن بأن الصلوات قد أوجبها النبي عليه السلام لزمتهم

وتكون من الفروع حتى يتواتر نقلها وعلى هذا جرى الأمر في تحول أهل قبا عن القبلة
إن قيل لو كان المراد بالآية خبر الواحد لما دلت على وجوب العمل به من وجهين
أحدهما أنه لا يمتنع أن يجب الإنذار على من خرج للتفقه ولا يجب على المنذر القبول كما يجب على الشاهد أن يشهد ولا يجب على الحاكم أن يحكم بشهادته ويجب على كل واحد من المتواترين أن يخبره ولا يجب على السامع أن يقول على خبره وحده فيما طريقة العلم ويجب على من خوف بالقتل إن لم يدفع ماله أن يدفعه ويقبح من المخوف أخذه قيل إنا لم نستدل على وجوب المصير إلى الإنذار بوجوب الإنذار وإنما استدللنا يقوله عز و جل لعلهم يحذرون وذلك إما أن يكون تعبدا بالحذر أو إباحة له وأي الأمرين كان فقد بطل مذهب الخصم إذ قد بينا أن الحذر لا يكون إلا بالرجوع إلى موجب الخبر
والوجه الآخر قولهم يجوز أن يكون أوجب على من نفر الإنذار لكي يحذر من سمعه إذا انضاف إلى المنذر غيره حتى يتواتر إنذارهم وإخبارهم قيل فاذن إنما يحذرون عند تواتر الخبر لا عند إنذار من نفر منهم للتفقه والآية تقتضي أن يحذروا عند إنذاره ولأجله كما أن الإنسان إذا قال لغيره جالس الصالحين لعلك تصلح أفاد ذلك كون مجالستهم سببا لصلاحه لا غير لأنه ما علق صلاحه إلا به فكذلك قوله ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون
دليل أجمعت الصحابة على العمل بخبر لا يقطع على مغيبه لأنه لما اشتبه

عليهم الغسل من التقاء الختانين رجعوا إلى أزواج النبي عليه السلام وطلب أبو بكر عليه السلام الحكم في الجدة ورجع في توريثها إلى خبر المغيرة ونقض قضية قضاها بخبر رواه بلال وقال عمر وما أدري ما القول في أمر المجوس وكثرت مسألته عن ذلك فلما روى له عبدالرحمن بن عوف عن النبي عليه السلام سنوا بهم سنة أهل الكتاب صار إلى ذلك وكان يرى أن لا شيء في الجنين إذا خرج ميتا وفيه الدية إذا خرج حيا ثم ترك ذلك لخبر حمل بن مالك بعد أن ناشد الصحابة وكان لا يؤرث الإمرأة من دية زوجها ثم ترك ذلك لخبر الضحاك بن سفيان وكان يجعل في الأصابع نصف الدية ويفصل بينها فيجعل في الابهام خمس عشرة من الإبل وفي البنصر تسعة وفي الخنصر ستة ثم يجعل في الباقية عشرا عشرا فلما روي له من كتاب النبي عليه السلام إلى عمرو بن حزم أن في كل إصبع عشرا من الإبل رجع عن رأيه وترك رأيه في بلاد الطاعون لخبر عبد الرحمن بن عوف وقال علي عليه السلام كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثا نفعني الله به بما شاء أن ينفعني فاذا حدثني به غيره استحلفته فاذا حلف صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر ورجع في خطأ الإمام إلى ما رواه عمر وسأل المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه و سلم عن المذى ثم أخبره عن النبي عليه السلام بالجواب فعمل عليه ورجعوا في الربا إلى خبر أبي سعيد الخدري وكل واحد من هذه الأخبار وإن كان خبر واحد فجملتهما متواترة لا يجوز مع كثرتها أن تكون كذبا كما أن الأخبار عن سخاء حاتم متواترة في الجملة وإن كان كل واحد منها خبر واحد وإنما قلنا إنهم عملوا على هذه الأخبار لأجلها لأنهم لو لم يكونوا عملوا لأجلها بل لأمر آخر إما لاجتهاد تجدد لهم أو ذكروا شيئا سمعوه من النبي عليه السلام لوجب من جهة العادة والدين أن ينقلوا ذلك أما العادة فلأن الجماعة إذا اشتد اهتمامها بامر قد التبس عليها ثم زال اللبس عنها لشيء سمعته أو رأي حدث لها فانه لا بد من إظهارها الاستبشار والسرور بما ظفرت به والتعجب من ذهاب ذلك عليها فان جاز أن لا يظهر ذلك الواحد

لم يجز في كل واحد وأما الدين فلأن سكوتهم عن ذلك وعملهم عند الخبر بموجبه يوهم أنهم عملوا لأجله كما يدل عملهم بموجب آية عند سماعها على أنهم عملوا لأجلها والإيهام لذلك قبيح كما أنه لو قال لهم قائل احكموا في هذه الحوادث لشهوتي فذكروا عند هذا القول شيئا سمعوه من رسول الله صلى الله عليه و سلم فانه لا يحسن من جهة الدين أن لا تبين أنها حكمت لما ذكرته لا للشهوة وأيضا فبعيد في العادة مع كثرة هذه الأخبار أن يتفق ذكرهم لشيء سمعوه من النبي عليه السلام وآله أو يتجدد لهم اجتهاد وأيضا فطلب أبي بكر عليه السلام من المغيرة شاهدا معه في إرث الجدة دليل على أنه كان يرى أن الحكم يتعلق بهما لأنه لم يكن يعلم أنه سيذكر عند الشاهد الآخر شيئا سمعه من النبي عليه السلام وأيضا فقد كانوا يتركون آرائهم عند سماع الخبر كما روي عن عمر أنه قال في الخبر كدنا نقضي فيه بآرائنا فدل على أنه لم يعمل برأيه عند سماع الخبر
إن قيل ومن أين أنهم بأجمعهم عملوا بأخبار الآحادإنهم كانوا بين عامل بها وساكت عن النكير فدل على رضاهم بالعمل بها فان قيل فلعل بعضهم كان ناظرا متوقفا عن العمل فلا يكونون متفقين على ذلك قيل لو كان كذلك وكان العمل بها منكرا لكان إنكاره واجبا فيكونوا قد اتفقوا على ترك الواجب لأنهم بأجمعهم قد تركوا إنكاره إن قيل أليس قد رد أبو بكر خبر الواحد ولم يعمل إلا على خبر اثنين قيل هذا لا ينقض ما قصدناه من العمل بخبر من لا يقطع على مغيبة والكلام في اشتراط اثنين سيأتي
إن قيل فقد ردوا في بعض الحوادث خبر الواحد كقول عمر في خبر فاطمة بنت قيس لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت ولستم بأن تقولوا إنما ردوه لعلة لا نعرفها لا لأنه خبر واحد بأولى من أن تقولوا بل قبلوا ما قبلوه لعلة لا نعرفها لا لأنه خبر واحد والجواب أن عمر رد خبر فاطمة بنت قيس في نسخ الآية أو في

تخصيصها وكثير ممن يقبل خبر الواحد لا يقبله في التخصيص فليس ينقص ذلك العمل بخبر الواحد في الجملة على أن قوله لا ندع كتاب ربنا يقتضي ترك الكتاب أصلا وذلك نسخ ونحن نمنع نسخ الكتاب بخبر الواحد على أن قوله لقول امرأة لعلها صدقت أم كذبت يفيد أنه اعتقد فيها أنها غير ضابطة لما تسمعه وهذه العلة غير موجودة فيمن يضبط وبهذا يبطل قول من يقول إن عمر رضي الله عنه علل رد حديثها لعلة موجودة في كل مخبر
إن قيل فقد قبلوا خبر الواحد في نسخ حكم معلوم نحو قبول أهل قبا نسخ القبلة قيل ذلك جائز في العقل وفي صدر الإسلام قال اصحابنا ولولا إجماع الصحابة على المنع من ذلك لجوزناه وقد قال أبو علي إن النبي صلى الله عليه و سلم قد كان أخبرهم بنسخ القبلة وأنه ينفذ إليهم بنسخها فلانا وأعلمهم صدقه فكانوا قاطعين على صدقه فلم ينسخوا القبلة إلا بخبر معلوم
وقد استدل في المسألة بأشياء لا تدل
منها قول الله عز و جل يآيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين قالوا فعلق وجوب التبين على مجيء الفاسق فكان مجيء غير الفاسق بخلافه وهذا لا يصح إلا مع القول بدليل الخطاب وقالوا أيضا قوله إن جاءكم فاسق شرط في إيجاب التثبيت فوجب إن لم يجيء فاسق أن لا يجب التثبت وأن يكون التسرع مباحا سواء جاءنا عدل أو لم يجئنا أحد لأنه في كلا الحالين لم يجيء الفاسق وقد وقع الاتفاق على المنع من التسرع إذا لم يجيء أحد أصلا فبقي القسم الآخر وهو أن يجيء مخبر غير فاسق ولقائل أن يقول إن الشرط في هذه الآية يقتضي نفي وجوب التثبت على نفي مجيء الفاسق وأحد لا يقول بذلك والمستدل يجعل نفي وجوب التثبت وإباحة التسرع واقفا على مجيء

عدل ويمكن أن يستدل بالآية من وجه آخر وهو أن سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط ساعيا فعاد فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن الذين بعثه إليهم أرادوا قتله فأجمع النبي صلى الله عليه و سلم على غزوهم وقتلهم وهذا حكم شرعي قد كان النبي صلى الله عليه و سلم أراد العمل فيه على خبر الواحد فلو كان ذلك محظورا لأنكره الله تعالى ولما علق حظره بالفسق لأن ذلك يوهم أنه إنما لم يجز ذلك التسرع لأجل فسق المخبر لا غير يبين ذلك أن النبي عليه السلام إنما عمل على غزوهم لأجل خبر الوليد مع ظنه أنه عدل ولهذه الآية ولاه الصدقة ولقائل أن يقول نزول هذه الآية في الوليد بن عقبة منقول بالآحاد فلم يجز بنا الاحتجاج عليه وقد روى عمر بن شبة في كتاب الكوفة في أخبار الوليد باسناده عن قتادة في قول الله سبحانه يآيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ قال هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه النبي عليه السلام إلى بني المصطلق مصدقا فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم فرجع إلى النبي عليه السلام فأخبر أنهم ارتدوا عن الإسلام فبعث نبي الله خالد بن الوليد وأمره أن يثبت ولا يعجل فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه فلما جاءوه خبروه أنهم متمسكون بالإسلام وسمعوا أذانهم وصلاتهم فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى ما يعجبه فرجع إلى النبي عليه السلام فأخبره الخبر وذكر رواية أخرى أنه رجع الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال قد منعوا فأنزل الله سبحانه الآية وليس في ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم هم بقتالهم من غير تثبت وتبين
ومنها قول الله عز و جل وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس والمخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم بلزوم العبادة علينا شاهد على الناس وليس يجوز أن يجعله الله عدلا ليشهد إلا وقد تعبد بالرجوع إلى خبره الجواب إن قوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا خطاب لكافة الأمة دون آحادها فان أريد به شهادة جميعهم علينا من جهة الخبر فذلك تواتر ولا

يكون في اشتراط كونهم وسطا فائدة لأن المتواترين نعلم صدقهم وإن لم يكونوا مؤمنين وإن أريد به شهادتهم علينا من جهة الرأي فذلك هو الإجماع وعلى كلا القسمين يخرج منه خبر الواحد وليس المراد بالآية كل واحد منهم لأنه ليس كل واحد منهم مقطوعا على عدالته فلهذا لا يقطع على موجب خبر الواحد
ومنها قول الله عز و جل إن الذين يكتمون ما انزلنا من البينات والهدى الآية فحظر كتمان الهدى وأوجب إظهاره وما سمعه الإنسان من النبي عليه السلام فهو من الهدى فيجب على سامعه إظهاره وإن لم يسمعه غيره ممن يتواتر الخبر بنقله ولو لم يجب علينا قبول خبر الواحد لم يجب على المخبر إظهاره لأنه يكون وجود الإظهار كعدمه والجواب إن قول الله عز و جل إن الذين يكتمون ما انزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب يدل على أنه أراد ما أنزله الله في الكتاب وأخبار الآحاد عن النبي صلى الله عليه و سلم بمعزل عن ذلك وقد أجيب عن ذلك بأن الشيء إنما يوصف بأنه مكتوم إذا لم يظهر وكانت العادة أو التعبد يدعوان إلى إظهاره فيجب أن يبين المستدل أن التعبد قد ورد بأخبار الآحاد حتى يتم له هذا الاستدلال وإذا بين ذلك فقد بين ما رام أن يبينه بهذه الآية ولقائل أن يقول إن العادة تدعو إلى إظهار ما سمعه الإنسان من النبي عليه السلام فيما يرجع إلى الشريعة
ومنها قول الله عز و جل فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ولم يفرق بين أن يكون من هو من أهل الذكر مجتهدا أو غير مجتهد ومعلوم أن غير المجتهد إنما يسأل ليخبر لا ليفتي عن نفسه وليس يجوز أن يجب السؤال

ولا يجب القبول الجواب إنه ليس في الاية أنه يجب سؤالهم ليعلم ما أخبروا به ليعمل ما أخبروا به وإذا لم يمتنع أن يكون اراد سؤالهم ليعلم السائل لم يكن المراد إلا سؤال من يتواتر الخبر بنقله وقوله عز و جل وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا اهل الذكر إن كنتم لا تعلمون يدل على أنه عز و جل أراد سؤالهم ليعلم ما يخبرون به من أنه أرسل الله عز و جل إلا رجالا يوحي إليهم وهذا علم دون عمل
ومنها قوله عز و جل يآيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله فأوجب الشهادة لله والقيام بالقسط ولا يوجب ذلك إلا وقد ألزم قبول شهادتهم ومن أخبر بما سمعه من النبي عليه السلام فقد قام بالقسط وشهد لله والجواب إنما يكون شاهدا لله تعالى وقائما بالقسط إذا شهد بما يلزم قبوله دون ما لا يحل قبوله كالشهادة بأمور الدنيا ويحتمل أن يكون سبحانه أوجب الشهادة بما سمع من النبي صلى الله عليه و سلم ليرويه غيره فيتواتر نقله فان قيل الاية لا تفرق بين أن يكون الخبر قد سمعته جماعة من النبي عليه السلام وبين أن يكون قد سمعه واحد في وجوب الشهادة به قيل إن من ينكر العمل بأخبار الآحاد يمتنع من أن يخص النبي عليه السلام بالعبادة من لا يتواتر الخبر بنقله إلا أن يكون التعبد يخصه وحده
ومنها قوله عز و جل يآيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وقوله لتبين للناس ما نزل إليهم وظاهره يقتضي بيان جميع ما أنزل إليه لجميع من عاصره ولمن يأتي بعده فلو وجب عليه أن يبين كل ذلك لمن يتواتر الخبر بنقله لكانت الأخبار كلها منقولة عنه بالتواتر إلا أن يقال إن بعض السامعين للخبر نقله دون بعض وذلك يوجب تهمة السلف وجواز

كون شرائع معهم لم ينقلوها ولا يجوز أن يكون كل ما نقل بأخبار الآحاد لم يقله النبي صلى الله عليه و سلم لأنه يستحيل في العادة أن تكون هذه الأخبار على كثرتها كاذبة ولا يجوز أن تتضمن عبادات تختص من عاصر النبي عليه السلام لأن أكثرها خطاب لأهل عصره ولمن يأتي بعده فثبت أنه إنما وجب عليه أن يبين بعض شرعه لمن لا يتواتر الخبر بنقله وإن كان بيانا لمن بعده وفي ذلك وجوب العمل به على من بعدهم الجواب إن المخالف يقول إنه لا يمتنع أن يكون بعض أخبار الآحاد كذبا وبعضها عبادات تختص أهل ذلك العصر وبعضها قد أداها النبي صلى الله عليه و سلم إلى من يتواتر الخبر بنقله لكن بعضهم نقله دون بعض وأخطأ بعضهم وذلك غير ممتنع ويكون لزوم ذلك لنا مشروطا بتواتر الخبر إلينا وقولهم إن جواز ذلك يقتضي جواز كتمانهم شرائع كثيرة فذلك لا يلزم من لم يقل بأخبار الآحاد لأن عندهم أن النبي صلى الله عليه و سلم قد بين العبادات للجماعة الكثيرة والعادة تمنع من كتمان أجمعهم مع ما علمناه من توفر دواعي الأمة إلى نقل السنن والأخبار على أنه لا بد من أن يبلغ ذلك جميع أهل العصر فاجتماعهم على كتمانه اجتماع من الأمة على الخطأ وذلك لا يجوز
ومنها أنه قد تواتر النقل بانفاذ رسول الله صلى الله عليه و سلم سعاته إلى القبائل والمدن لأخذ الزكوات وتعليم الأحكام كإنقاذه ! معاذا إلى اليمن ليفقههم في دينهم ويقبض زكواتهم وقد وجب عليهم المصير إلى روايته في نصب الزكاة وفي فروعها وقد كان يرد على رسول الله الواحد والاثنان يخبران باسلامهما وإسلام قومهما ويسألان أن ينفذ من يعلمهم شرائع الإسلام وكان ينفذ النبي صلى الله عليه و سلم معهم الرجل الواحد كانفاذه أبا عبيدة وغيره والعلم بذلك ظاهر لمن قرأ الأخبار والسير ولا يمكن دفعه ولم يكن النبي عليه السلام ينفذ إليهم الجماعات الكثيرة ولو فعل ذلك لم يكن أهل المدينة ليفوا بمن أسلم من القبائل ولا أوجب النبي صلى الله عليه و سلم على أهل القبلة أن تصير بأجمعها إليه أو أكثرها لتعرف شرعه بل أوجب عليهم المصير إلى ما يؤديه رسوله فان قيل أليس كانوا يعرفون التوحيد والنبوة وذلك لا يعمل فيه بأخبار الآحاد قيل أما التوحيد فالمرجع

فيه إلى أدلة العقول فمن أظهره وجب علينا إحسان الظن به وأنه قد اعتقده من وجهه ومن رام أن يعرف التوحيد أمكنه ذلك بالاستدلال بأدلته العقلية وليس طريقة الاخبار فيقال إنهم اقتصروا فيه على الآحاد أو التواتر وأما النبوة فطريقها المعجز والتحدي بالقرآن وغيره من المعجزات وقد كان اشتهر ذلك في القبائل ولم يكن نقله بالآحاد فان قيل أليس لم يجز لهم أن يعملوا بأخبار الآحاد إلا وقد دلت الدلالة عندهم على ذلك فان كان قد تواتر عندهم التعبد بذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فما يؤمنكم أن شرعه قد كان تواتر إليهم عنه صلى الله عليه قيل إن كان وجوب العمل بأخبار الآحاد معلوما بالعقل فلا يمتنع أن يكونوا عملوا على ذلك وإلا فانهم عملوا على ما تواتر عندهم من أن النبي عليه السلام كان ينفذ آحاد الناس إلى القبائل يعلمونهم الشرع لأنه إذا تواتر ذلك عندنا كان تواتره عندهم أولى وليس كذلك جميع شرعه لأنهم لو علموا جميعه لما احتاجوا إلى إنفاذ من يعلمهم فان قيل فأول من أنفذ النبي صلى الله عليه و سلم إليهم من اين علموا أن ذلك من دينهم قيل لا يمتنع أن يكون أول من أنفذ النبي صلى الله عليه و سلم إليهم علموا ذلك باخبار قومهم الذين نفذوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فلا يمتنع أن يكون أولئك كانوا أكثر من أربعة فوقع لقومهم العلم باخبارهم ان النبي صلى الله عليه و سلم تعبدهم بالرجوع إلى إخبار من أنفذه إليهم ليعلمهم شرعه فان قيل أليس قد كان رسل النبي صلى الله عليه و سلم يعلمون الناس القرآن الذي يتلونه في الصلاة وأعداد ركعات الصلوات وطريق ذلك يجب كونه معلوما دون أخبار الآحاد قيل إنما كان يجب أن يكون طريق ذلك معلوما بعد انتشار الشريعة وتواتر نقلها فأما في ابتداء الشريعة فطريق ذلك لمن بعد عن النبي صلى الله عليه و سلم أخبار الآحاد وهي في تلك الحال من الفروع لا من الاصول وللمخالف أن يقول إني إنما أمنع المجتهد من أن يعدل عن حكم العقل إلى خبر الواحد ولا أمنع من رجوع العامي إلى المفتي في فروع الشرع فهل تواتر عندكم النقل بأن الذين ارسل إليهم النبي صلى الله عليه و سلم كانوا من أهل الاجتهاد وأن الرسل كانوا يخبرونهم عن رسول الله ويكلونهم فيما أخبروهم إلى الاجتهاد

ليس معكم ذلك بل الظاهر ممن تجدد إسلامه أنه لم يكن من أهل الاجتهاد وأن رسل النبي عليه السلام إنما كانوا يعلمونهم كما يعلم الفقيه العامي والأب ولده كيفية الصلاة فان قلتم فبماذا علموا وجوب قبول فتوى ذلك الرسول قيل لكم بما تواتر عن النبي صلى الله عليه و سلم من إنفاذ رسله ليعلمهم الأحكام كما ذكرتموه أنتم حين قيل لكم بماذا علموا وجوب المصير إلى أخبار الآحاد فان قلتم إذا لزم المصير إلى قول المفتي لزم المصير إلى خبر الواحد إذ لا فرق بينهما كنتم قائسين بخبر الواحد على الفتوى وذلك انتقال من هذه الدلالة إلى دلالة أخرى لأن هذه الدلالة غير مبنية على القياس بل على أن النبي صلى الله عليه و سلم قد أنفذ المخبرين بالآحاد وأوجب على غير من ذكرتم فهذه الدلالة تلزم من منع من قبل خبر الواحد ومنع العامي من قبول الفتوى
ومنها قولهم إذا وجب على العامي الرجوع إلى العالم المخبر عن اجتهاده مع إمكان بقاء العامي على حكم العقل فبأن يجب على العالم أن يرجع إلى الخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم أولى ومنها قولهم إذا وجب على العامي الرجوع إلى فتوى العالم وإن حكاه عن أبي حنيفة لما غلب على الظن صدقه فبأن يجب على المجتهد الرجوع إلى الحكاية عن النبي عليه السلام أولى ومنها قولهم إذا وجب على العامي الرجوع إلى رسول المفتي فبأن يجب على المجتهد الرجوع إلى الحكاية عن النبي عليه السلام أولى ومنها قولهم إذا وجب على العامي الرجوع إلى رسول المفتي فبأن يجب على المجتهد الرجوع إلى المخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم أولى ومنها قولهم قد وجب الحكم بما شهد به الشاهدان لما كانا عدلين وكان ما شهدا به مما لو علم لوجب الحكم به وهذا موجود في المخبر العدل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الجواب انهم إن حمعوا هذه المسائل وردوها إلى العمل على الأخبار عن المعاملات والمنافع والمضار في الدنيا فهو الدليل المذكور في أول الباب وإن جعلوا هذه الأصول اصولا شرعية وردوا إليها هذه الفروع وجب أن يعللوها بعلل معلومة حتى يردوا بها هذه الفروع إليها ولم يفعلوا ذلك ولا

يمتنع أن يكون إنما وجب على العامي الرجوع إلى الفتوى وإلى من يخبر عن أبي حنيفة وإلى رسول المفتي لكونه غير مجتهد ألا ترى أنه يجب عليه الرجوع إلى الفتوى ولا يجب ذلك على العالم ألا ترى أنه لا يمتنع أن تكون مصلحة العامي الرجوع إلى إخبار المجتهد عن نفسه وإلى إخبار من يخبر عنه ويكون رجوع المجتهد إلى المخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا لم يعلم صدقه مفسدة وكثير من الناس يمنع من الفتوى على سبيل الحكاية عن الغير فلا يلزم قياس المسألة على هذا الأصل وأما العمل على الشهادة فانهم إن جعلوه أصلا شرعيا فيجب أن يعللوا ذلك بعلة شرعية معلومة ولم يفعلوا ذلك فمن أين أن العلة ما ذكروه مع أنه ليس يمتنع أن تكون مصلحتنا أن لا تثبت حكما شرعيا في الجملة بطريق غير معلوم ويجوز أن تكون مصلحتنا إذا ثبت الحكم في جملة الشريعة بطريقة معلومة أن تثبت ذلك الحكم في الأعيان بطريق مظنونة وإذا جاز ذلك فمن أين أن العلة ما ذكروه ألا ترى أن شهادة الواحد وخبر الواحد وإن اشتركا في العلة التي ذكروها فقد افترقا في وجوب القبول فقد بطل أن تكون العلة ماذكروه
ومنها لا بد للاحكام الشرعية من طريق وقد يحدث من المسائل ما ليس في الكتاب والسنة المتواترة والإجماع والقياس دليل عليه فلم يبق إلا خبر الواحد الجواب انه إن لم يوجد في شيء مما ذكروه حكم الحادثة كان للمخالف أن يوجب البقاء على حكم العقل فلا تكون الضرورة داعية إلى أخبار الآحاد
واحتج المخالف بأشياء
منها أن العقل يمنع من قبول خبر الواحد من حيث لم يؤمن كونه كاذبا فنكون عاملين بالمفسدة والجواب أنه لا يمتنع أن تكون المصلحة العمل بما ظننا صدقه من الأخبار عن النبي صلى الله عليه و سلم إذا اختص بشرائط صدق الراوي أم كذب على ما بيناه من قبل وبينا أن العقل يجوز ويوجب العمل بخبر الواحد

وما ذكروه منتقض بالشهادات على أحكام الفروج والدماء لأنا لا نأمن كذبها ويلزمنا العمل بها ولا يلزم من ذلك جواز عملنا بالمفسدة والظلم
ومنها أن التعبد السمعي لم يرد بقبول خبر الواحد والجواب أنا قد بينا أنه قد ورد بذلك ولو لم يرد به لكفى دليل العقل في التعبد به
ومنها قول الله عز و جل وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وقوله ولا تقف ما ليس لك به علم وقوله إلا من شهد بالحق وهم يعلمون والعمل بخبر الواحد اقتفاء لما ليس لنا به علم وشهادة وقول بما لا نعلم لأن العمل به موقوف على الظن الجواب أنه ليس في العمل بخبر الواحد شيء مما ذكروه لأن عند خبر الواحد نعمل بموجبه ونخبر بوجوب ذلك علينا ونعلمه ونخبر بأن النبي صلى الله عليه و سلم قال ذلك إن لم يكن الراوي تعمد الكذب ولا سها ولا غلط أما العمل بموجبه فليس نقول فيقال إنه قول ما ظنناه أو بما علمناه وهو اقتفاء لما كنا به عالمين وهو الدليل القاطع الدال على وجوب العمل بخبر الواحد وهذا الدليل هو الذي اتبعناه في العمل وفي الإخبار بوجوب العمل علينا فلم نقل على الله عز و جل ما لا نعلمه واعتقادنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ذلك إن لم يكن الراوي غلط أو تعمد الكذب وهو علم وإخبارنا بذلك شهادة بما نعلمه لأن كل مخبر إذا لم يتعمد الكذب و لم يفعله سهوا أو غلطا فهو صادق
ومنها قول الله عز و جل إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا قدم من اتبع الظن وبين أنه لا غناء له في الحق فكان على عمومه الجواب انا بعلمنا على خبر الواحد متبعون الدليل القاطع الدال على اتباع خبر الواحد إن قيل أليس لا بد أن تظنوا صدق الراوي حتى تعلموا

بالخبر قيل بلى ولكن الاتباع هو الدليل فان قيل فقد جعلتم للظن حظا في الاتباع لأنكم لو لم تظنوا صدق الراوي لم تعلموا بالخبر الجواب ان الله تعالى إنما ذم من لم يتبع إلا الظن بقوله إن يتبعون إلا الظن فلم يدخل في ذلك من اتبع الدليل عند الظن وقوله عقيب ذلك إن الظن لا يغني من الحق شيئا يفيد أن ما فعلوه من أنهم ما يتبعون إلا الظن لا يغني من الحق شيئا فكأن الظن وحده لا يغني من الحق شيئا ويفيد أيضا أن الظن للشيء لا يفيد أن المظنون حق لا محالة وكذلك نقول لأنا إذا ظننا صدق الراوي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال كذا وكذا لم يجب أن يكون ذلك حقا لأنا ظنناه على أنا إذا علمنا وجوب العمل بخبر الواحد عند ظننا صدقه فالذي أغنى في الحق هو إما الدليل الدال على موجب خبر الواحد وإما مجموع الدليل مع الظن ومجموع الأمرين ليس هو الظن
ومنها قول الله تعالى يآيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين قالوا والحكم بخبر العدل عمل على جهالة لتجويزنا كذبه فقد تساوى من هذه الجهة العمل بخبر الفاسق فحرم العمل به الجواب ان العمل بالجهالة عمل بالشيء من غير طريق يسوغ العمل به ولهذا لم يكن المسافر عاملا بجهالة إذا سافر بعد الفحص والمساءلة وإن جوز أن يكون الأمر بخلاف ما أخبر به فان ادعى المستدل أن العمل بخبر الواحد عمل بغير طريق يسوغ ذلك فقد بني أحكامه على نفس المسألة
ومنها قوله عز و جل ثم يحكم الله آياته فلو كان خبر الواحد دلالة وكان من آيات الله لكان الله قد أحكمه ولو أحكمه لم يجز كونه كذبا الجواب ان ذلك وارد عقيب قول الله عز و جل وما أرسلنا من

قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته فبين أنه يحكم آياته بعد نسخ ما يلقيه الشيطان لأن ثم للترتيب والذي يقف أحكامه على نسخ ما القاه الشيطان هو القرآن لأنه هو الذي له تعلق بما ألقاه الشيطان وأيضا فخبر الواحد امارة وليس بدلالة فلم يطلق عليه القول بأنه من آيات الله عز و جل وإن كان العمل يجب عنده لأن الآية دلالة كما لا تكون الشهادات من آيات الله عز و جل حتى يقطع على صدقها وإن وجب العمل عندها
ومنها قول الله عز و جل وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا فأخبر أنه مرسل إلى كافة الناس فوجب عليه أن يخاطب بشرعه جميعهم وذلك يقتضي نقل جميعهم أو من يتواتر الخبر بنقله فما روي بالآحاد ليس من شرعه الجواب يقال لهم ولم لا يكون مرسلا إلى كافة الناس وإن بين شرعه لبعضها بالآحاد فان قالوا لجواز أن لا يصل إليهم شرعه إذا أودعه آحاد الناس قيل ولم لا يجوز أن يلزمهم شرعه بشرط أن يبلغهم كما يلزم شرعه من بعد عنه من أهل عصره إذا بلغهم ولا يلزمهم قبل أن يبلغهم
باب فيما يرد له الخبر وما لا يرد له مما فيه اشتباه اعلم أو ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال سيكذب علي يدل على أنه قد كذب عليه أو سيكذب فيما بعد عليه لأنه إن كان هذا الخبر كذبا عليه فقد كذب عليه وإن لم يكن كذبا عليه فقد كذب عليه أو سيكذب عليه بعد هذا الوقت وإذا جوزنا أن يكون قد تقدم الكذب عليه فلا بد من اعتبار الأخبار المروية ولو لم يرو هذا الخبر لكان تجويز الكذب عليه يقتضي اعتبار الأخبار فكيف وقد روي هذا الخبر

والأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه و سلم ضربان أحدهما يعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم قالها والآخر لا يعلم أنه قالها فالمعلوم أنه قاله إما أن لا تتعارض وإما أن تتعارض فان لم تتعارض وجب العمل بها إن تضمنت عملا وإن تعارضت وأمكن تأويل بعضها على موافقة بعض فعل ذلك بأن يحمل أحدهما على المجاز إما بنسخ أو تخصيص أو غير ذلك وإن لم يمكن تأويل بعضها على موافقة بعض حملا على التخيير إذ ليس العمل على أحدهما أولى من الآخر ووقوع العلم بالخبر يمنع من رده من غير تأويل
وأما الأخبار التي لا يعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم قالها فضربان أحدهما يتضمن عملا والآخر لا يتضمن عملا فما لا يتضمن عملا لا يجوز الاحتجاج به وما يتضمن عملا فقد يجب العمل به على شرائط وقد يرد لفقد تلك الشرائط وقد يحصل في بعض ذلك اشتباه وقد لا يحصل فيه اشتباه فكل ذلك يجب رجوعه إما إلى الخبر أو إلى ما للخبر به تعلق وهو الراوي وكيفية نقله والمخبر عنه أما الراجع إلى الخبر فبأن يكون فيه زيادة لم تذكر في رواية اخرى فان ذلك قد يقدح في الحديث في بعض الحالات ومما يشتبه الحال فيه أن يخالف حفاظ أهل النقل في ألفاظ الحديث وأما ما يرجع إلى الراوي فضربان أحدهما يرجع إلى العدد والآخر يرجع إلى الأحوال أما الراجع إلى الأحوال فهو كل ما قدح في الظن لصدقه أن لا يكون عدلا ويدخل في ذلك الكذب والتساهل وقله التحفظ فيما يسمعه ويرويه ووجوه الفسق كلها ونحو ما سخف من المعاصي والمباحات ونحو أن لا يكون ضابطا ونحو أن يعتريه السهو بعد ضبط الحديث على تفصيل سنذكره ونحو أن يكون مجهولا غير معروف العدالة ولا يرد حديثه إذا كان له اسم يعرف به واسم لا يعرف به وإذا لم يكثر من رواية الحديث ولا كاثر مجالسة أهل العلم أو رواه ثم ذكر به فلم يذكره او كان واحدا لم يروه معه غيره وهذا القسم يرجع إلى العدد واما كيفية النقل فأشياء منها رواية الحديث على المعنى ومنها روايته من كتاب وهو لا يذكره ومنها التدليس ومنها الإرسال ومنها إرسال الحديث تارة

وإسناده اخرى وروايته تارة موقوفا وتارة موصولا وأما حال المخبر عنه فبأن يثبت بالدليل القاطع خلاف ما اقتضاه الخبر كدليل العقل والكتاب والسنة المعلومة ولا فرق بين أن يكون الخبر دافعا للكتاب والسنة المعلومة على كل حال أو على وجه النسخ واختلفوا إذا كان الخبر مخصصا لهما واختلفوا إذا كان المخبر عنه يعم البلوى به هل يرد له خبر الواحد أم لا ولا يرد إذا عمل النبي صلى الله عليه و سلم بخلافه أو عمل أكثر الصحابة بخلافه وكذلك إذا عاب أكثرهم على الراوي على اختلاف فيه ولا يرد إذا خالف قياس الأصول
ونحن نذكر أولا ما يرجع إلى الخبر ثم ما يرجع إلى المخبر ثم ما يرجع إلى كيفية نقله ثم ما يرجع إلى المخبر عنه إن شاء الله
باب في الخبر إذا تضمن زيادة لم تذكر في رواية أخرى اعلم أنه إذا روي الراوي زيادة فاما أن يكون لم يروها غيره أو لم يروها هو مرة أخرى والأول ضربان احدهما أن يكون من لم يروها لا يقبل حديثه والآخر أن يقبل حديثه فالأول لا يمنع من قبول الزيادة لأن راويها ممن يقبل روايته ولم يعارضها رواية مثلها يبين ذلك أن الذي لا يقبل روايته لو روى نفي تلك الزيادة لم يمنع ذلك من قبول الزيادة فبأن لا يمنع تركه لذكرها أولى وإن كان الذي لم يروها يقبل روايته فأما أن يعلم انهما أسندا الخبرين إلى مجلسين أو إلى مجلس واحد أو لا يعلم ذلك من حالهما فان علمنا أنهما أسنداه إلى مجلسين قبلت الزيادة لأنه لا معارض لها لجواز أن يقيد النبي عليه السلام كلامه في بعض الحالات دون بعض ثم هل تلك الزيادة نسخ أو تخصيص قد بين فيما سلف وإن علمنا أنهما أسنداه إلى مجلس واحد فاما أن يكون الذي لم يرو الزيادة عددا لا يجوز أن يغفلوا عن تلك الزيادة التي رواها الواحد وإما أن يكون الراوي لها عددا لا يجوز عليهم توهم ما لم يكن وإما أن يجوز على كلا

الفريقين ذلك ويجوز خلافه فالأول يمنع من قبول الزيادة لأن من لم يروها إنما لم يروها لأنها لم تكن ويكون الراوي لها قد سمعها من غير النبي صلى الله عليه و سلم فظن أنه سمعها منه عليه السلام وإن كان الراوي للزيادة عددا كثيرا لا يجوز عليهم توهم ما لم يكن قبلت الزيادة لأنهم ما رووها إلا لأنها كانت وإن لم يكن الراوي لها ولا التارك لها عددا كثيرا فإما أن تكون الزيادة مغيرة الإعراب وبناء الكلام أو غير مغيرة لذلك بل منفصلة فالأول كقوله أو نصف صاع من بر وكقوله أو صاعا من بر فكل واحد من الراويين قد روى ما ينفي رواية الآخر لأن أحدهما روى النصب والآخر روى الجر فروايتهما متناقضة فان تفاضلا في الضبط عمل على رواية الأضبط لأن مع تعارض الروايتين وكون كل واحد من الراويين يقبل حديثه يجب الترجيح وقوة الضبط والعدالة مما يرجح به الخبر وإن تساويا في الضبط واشتبه علينا الأمر في تفاضلهما فيه لم تكن رواية أحدهما بالقبول أولى من الأخرى فيجب الرجوع إلى ترجيح آخر وإن كانت الزيادة لا تغير بناء لفظ الحديث وإعرابه كما روي من قوله أو صاعا من بر وما روي من قوله أو صاعا من بر بين اثنين فكل واحد منهما قد روى أو صاعا من بر على صورة واحدة وزاد أحدهما بين اثنين فهذه الزيادة تقبل
فصارت الزيادة إنما تقبل على شروط منها أن لا يكثر عدد من لم يروها ومنها أن لاتكون مؤثرة في لفظ المزيد عليه وإعرابه أو اثرت كان راويها أضبط والشيخ أبو عبد الله يقبل الزيادة سواء أثرت في اللفظ أو لم تؤثر إذا أثرت في المعنى وقبلها قاضي القضاة إذا أثرت في المعنى دون اللفظ ولم يقبلها إذا اثرت في إعراب اللغظ وحكى أن اصحاب الحديث لا يقبلون الزيادة
والدلالة على قبولها إذا اختصت بالشرائط المذكورة أن الراوي للزيادة ممن يجب قبول خبره ولا معارض لروايته فوجب قبولها كما لو انفرد برواية

الحديث ولم يروه غيره وإنما قلنا إنه ممن يقبل لأنه مختص بالعدالة والضبط وجميع الصفات المطلوبة وإنما قلنا إنه لا معارض لروايته لأن التارك لرواية الزيادة لم ينفها لفظا ولا معنى أما أنه لم ينفها لفظا فبين واما أنه لم ينفها في المعنى فلأنه لا يمكن أن يقال إنه نفاها في المعنى إلا من حيث كان الراوي الآخر لما ساق الحديث وكان قصد استيفاؤه ثم لم يذكر الزيادة علم أنه قد نفاها وجرى مجرى أن ينفيها لفظا ويمكن أن يكون هذا الكلام دليلا له مبتدأ والجواب إنه ليس يجب أن يكون إنما لم يروها التارك لها لأنه نفاها لكن يجوز أن يكون إنما لم يروها لأنه لم يسمعها لسهو اعتراه حين تكلم بها النبي صلى الله عليه و سلم أو لشغل قلب اعتراه أو تشاغل بعطاس أو إصغاء إلى كلام آخر فاذا جاز كل ذلك بطل القول بأن التارك للزيادة قد نفاها في المعنى
فان قيل فلم ما حملتم ترك الرواية للزيادة على أحد هذه الوجوه بأولى من أن يحملوا رواية من رواها على أنه تصور أنه سمع تلك الزيادة من النبي عليه السلام ولم يكن سمعها منه قيل لأن سهو الإنسان عما سمعه وتشاغله عن سماع ما جرى بمشهد منه يكثر ولا يكثر توهم الإنسان أنه سمع ما لم يسمع ولأنه لا سبب لذلك إلا أنه سمع الزيادة من الغير فظن أنه سمعها من النبي صلى الله عليه و سلم أو سمع من النبي عليه السلام شيئا فظن أنه سمع منه ايضا ما له به ولترك رواية ما جرى اسباب كثيرة قد ذكرناها فلذلك كان ترك الإنسان رواية ما جرى أكثر من روايته ما لم يجر إذا لم يتعمد الكذب
فان قيل فيجب أن يكون رواية من روى أو نصف صاع من بر أولى من رواية من روى أو صاعا من بر لأن فيها زيادة نصف يجوز أن يكون التارك لها لم يسمعها قيل لو لم يكن إلا هذا لكانت الزيادة أولى لكن لما تعارضا في رواية إعرابين متنافيين لم تكن إحدى الروايتين أولى من الأخرى يبين ذلك أنه لا يمكن أن يقال لعل الذي روى أو صاع من بر لم يسمع لفظه نصف وسمع لفظ صاع لأنه لو كان كذلك لسمعها مجرورة

إن قيل فيلزم على ما ذكرتم أن الذي لم يرو الزيادة لو نفاها لم يعارض نفيه رواية من رواها قيل إن قال أعلم أنه لم تكن هذه الزيادة وأنني ما سمعتها ولم يقطعني قاطع عن سماعها فانه يكون ناقلا للنفي ولارتفاع الموانع كما نقل الآخر الزيادة فتتعارض الروايتان وإن قال لم تكن هذه الزيادة فانه يحتمل أن يكون ذلك موضع اجتهاد ويحتمل أن يقال رواية المثبت أولى لأنه يحتمل أن يكون النافي إنما نفى الزيادة بحسب ظنه ويحتمل أن يقال يرجع إلى رواية النافي إذا كان أضبط
واحتج الدافعون للزيادة بأشياء
منها أن ضبط الراوي إنما يعرف بموافقة المعروفين بالضبط فاذا لم يوافقه في الرواية لم يعرف ضبطه والجواب إنه لو لم يثبت ضبط الإنسان إلا بموافقة ضابط آخر له أدى إلى ما لا نهاية له ولم يعرف ضبط أحد فعلمنا قد يعرف ضبط الإنسان لغير ذلك مما هو موجود فيمن روى الزيادة وأيضا فانما يعرف اختلال ضبط الانسان إذا خالفه من يضبط مرارا كثيرة فأما المرة والمرتان فلا يمتنع أن يضبط هو فيها ويسهو من هو أضبط منه
ومنها قولهم إن جماعة لو كانوا في مجلس فنقلوا عن صاحبه كلاما وانفرد واحد منهم بزيادة غير الباقين مع كثرتهم وشدة عنايتهم بما سمعوه ورووه لأطرح السامعون تلك الزيادة الجواب إن ذلك ليس مما نحن بسبيله لأنا قد قلنا إن الجماعة إذا تركت الزيادة كانت روايتها أولى وكذلك إذا كان التارك للزيادة أضبط إذا غيرت الزيادة اللفظ
ومنها قولهم إذا كان الضابط لو وافق هذا الراوي للزيادة لقوي بموافقته خبره فيجب إذا خالفه أن يضعف والجواب إنه بامساكه عن الزيادة غير مخالف له كما أنه بامساكه عن رواية خبر آخر لا يكون مخالفا له وأيضا فانه إذا وجب قول الزيادة بمشاركة غيره من الرواة له وجب إذا لم

يشاركوه أن تنقص تلك القوة وليس إذا نقصت يجب أن تبلغ حدا في الضعف لا يقبل الخبر معه ألا ترى أنه لو شارك الراوي جماعة في خبر فقوي الخبر بذلك فانه إذا لم يشاركوه في الرواية بل رواه وحده لا يجب أن ينتهي في الضعف إلى حد لا يجوز أن يقبل معه
فأما إذا لم يعلم هل اسند المخبران الخبرين إلى مجلس واحد أو مجلسين وكانت الزيادة تغير إعراب المزيد عليه ولم يكن الراوي له ولا التارك لها كثرة فانه يقتضي التوقف والرجوع إلى الترجيح لأنا لا نأمن أن يكونا قد اسنداه إلى مجلس واحد فيتمانعا والصحيح أن يقال يجب حمل الخبرين على أنهما جريا في مجلسين لأنهما لو كانا في مجلس واحد لجرى على لفظ واحد ولو كان اللفظ واحدا لكان الظاهر من عدالتهما وضبطهما أن لا يختلف روايتهما
فأما إذا روى الراوي زيادة لم يروها هو مرة أخرى متقدمة أو متأخرة وأنه إن أسند الروايتين إلى مجلسين قبل ذلك وكذلك إذا لم يعلم أنه اسندهما إلى مجلسين حمل أنهما كانا في مجلسين وإن علمنا أنه لم يسندهما إلى مجلسين وكان قد روى الخبر دفعات كثيرة من غير زيادة ورواه مرة واحدة بالزيادة فالأغلب انه سها في إثبات الزيادة لأن سهو الإنسان مرة واحدة أغلب وأكثر من سهوه مرارا كثيرة فان قال قد كنت أنسيت هذه الزيادة والآن ذكرتها قبلت الزيادة وحمل أمره على الأقل النادر لمكان قوله وكذلك إن كان له كتاب يرجع إليه وإن كان إنما رواها مرة وأخل بروايتها مرة وكانت الزيادة تغير إعراب الكلام تعارضت الروايتان وإن كانت الزيادة لا تغير اللفظ احتمل أن يتعارضا لأنه على كل حال قد وهم وهما باطلا إما زيادة لا اصل لها وإما نسيانا لما كان له اصل فليس بأن يقال ضبطه يمنع من أن يكون قد وهم عند سماعه للحديث زيادة لا اصل لها وأنه نسي فلم يروها في بعض الحالات وذكرها مرة أخرى بأولى من ان يقال إن ضبطه

يمنع من نسيانه لها والأولى أن يقال أظنه من روايته لما لم يسمعه توهما منه أنه سمعه الأقرب أن يكون نسيها حين لم يروها لأن نسيان الضابط لما سمع عند تطاول الزمان أكثر وأغلب من ذهابه عن سماع ما حضره فوجب لذلك قبول الزيادة
وإذا روى الراوي الحديث تارة مع زيادة وتارة بغير زيادة استهانة وقلة تحفظ سقطت عدالته ولم يقبل حديثه وإذا كان في الخبر لفظ لا يفيد إلا التأكيد لم يجز إسقاطه لأن النبي صلى الله عليه و سلم ما ذكره إلا لفائدة
فأما إذا خالف في لفظ الحديث حفاظ أهل النقل فقد ذكر ذلك في جملة ما يرد له الحديث وهو داخل في الزيادة وقد ذكرناه الآن لأن الخلاف ليس يقع بينهم إلا بأن يزيد أحدهم في الحديث ما لا يرويه الآخر او يروي أحدهما اللفظ على إعراب يروي الآخر خلافه وقد تقدم بيان ذلك كله
باب في ذكر فصول أحوال الراوي
فصل اعلم أنه لما وجب رد الخبر إذا كان الراوي غير عدل وجب أن نذكر ما العدل وما العدالة ثم نذكر الدلالة على اشتراط العدالة في الأخبار
أما العدل والعدلة فهما في اللغة مصدر مقابل الجور وهو إيضاف الغير بفعل ما يجب له ويستحق عليه وترك ما لا يجب عليه ولهذا وصف العقاب بأنه عدل لما كان مستحقا على المعاقب ويوصف ترك الزيادة عليه بأنه عدل ويوصف الثواب بأنه عدل لما كان واجبا للمثاب فان قيل فيجب إذا لم يجب على الإنسان حق لغيره وكان ما يستحقه على غيره لا يستوفيه أن يوصف بأنه غير عدل قيل لا يجوز ذلك لأن قولنا غير عدل يطلق على الجائر وإطلاق هذا الوصف على ما ذكره السائل يوهم أنه جائر

وذكر قاضي القضاة أن العدل هو فعل حسن يتعدى الفاعل إلى غيره بنفعه أو بضرره وقد التزم على ذلك أن يكون الابتداء بالتفضل عدلا قال ولذلك يقال إن الله سبحانه عدل بابتداء الخلق في الدنيا وقد تعورف استعمال العدل في المستكثر من فعل العدل ولذلك يوصف الله سبحانه بأنه عدل وتعورف استعماله أيضا فيمن أهل لقبول شهادته ويدخل في ذلك الحرية وغيرها وتعورف أيضا فيما تقبل روايته عن النبي عليه السلام وهو من اجتنب الكبائر والكذب والمسخفات من المعاصي والمباحات ولا خلاف في اعتبار هذه الأمور فيمن يروي الخبر لأن خلاف ذلك يقدح في الثقة لقوله لأن من تقدم على الكذب لا يؤمن منه الكذب في كل ما يخبر به ومن تقدم على الفسق وهو يعتقد انه فسق لا يؤمن منه الإقدام على الكذب في حديثه ومن تقدم على المسخفات كالتطفيف وكالأكل على الطريق وإن اثمر النقص لا يؤمن منه الكذب وإن أثمر عنده النقص والمشارطة على أخذ الاجرة على الحديث فهو ابلغ في الدناءة من الأكل على الطريق وهو جار مجرى اشتراط الاجرة على صلاة النافلة
وأما الفسق في الاعتقادات إذا كان صاحبه متحرجا في افعاله فعند الشيخين ابي على وابي هاشم أنه يمنع من قبول الحديث لأن الفسق في أفعال الجوارح يمنع من قبول الحديث لكونه فسقا لا لأنه من افعال الجوارح لأن المباحات من أفعال الجوارح لا تمنع من قبول الحديث وهذه العلة قائمة في الاعتقالات إذا كانت فسقا والجواب إن الفسق من أفعال الجوارح إنما منع من قبول الحديث لأن فاعله فعله وهو يعلم أنه فسق فقدح ذلك في الظن لصدقه ولم يؤمن أن يقدم على الكذب وإن علم أنه محظور وليس كذلك إذا اعتقد اعتقادا هو فسق وقد اشتبه عليه وهو متحرج في أفعاله
إن قيل أليس لو فسق وهو يعلم أنه فسق لم يقبل حديثه فكيف يقبل إذا ضم إلى فسقه خطيئة أخرى وهي اعتقاده أن ذلك غير فسق قيل إنه إذا

لم يعتقد أنه فسق لم يقدح ذلك تحريجه وتنزهه عن الكذب وليس كذلك إذا اعتقد أنه فسق
وعند جل الفقهاء أن الفسق في الاعتقاد لا يمنع من قبول الحديث لأن من تقدم قد قبل بعضهم حديث بعض بعد الفرقة وقبل التابعون رواية الفريقين من السلف ولأن الظن يقوى بصدق من هذه سبيله إذا كان متحرجا فأما الكفر الذي يخرج به الإسلام من جملة الإسلام وأهل القبلة كاليهودية والنصرانية فانه يمنع من قبول الخبر للاجماع على ذلك ولأن الخارج من الإسلام يدعوه اعتقاده فيه إلى التحريف فيه ولا يقوى الظن لصدقه وأما الكفر بتأويل فذكر قاضي القضاة أنه يمنع من قبول الحديث قال لاتفاق الأمة على المنع من قبول خبر الكافر قال والفقهاء إنما قبلوا أخبار من هو كافر عندنا لأنهم لم يعتقدوا فيه أنه كافر والأولى أن يقبل خبر من فسق أو كفر بتأويل إذا لم يخرج من أهل القبلة وكان متحرجا لأن الظن لصدقه غير زائل وادعاؤه الإجماع على نفي قبول خبر الكافر على الإطلاق لا يصح لأن كثيرا من أصحاب الحديث يقبلون كثيرا من أخبار سلفنا رحمهم الله كالحسن وقتادة وعمرو مع علمهم بمذهبهم وإكفارهم من يقول بقولهم وقد نصوا على ذلك فأما من يظهر منه العناد في مذهبه مع ظهوره عنده فانه لا يقبل حديثه كما لا يقبل حديث الفاسق بأفعال الجوارح لما كان يعلمها فسقا فأما من تدين بالكذب لينصر مقالته فالظن لا يحصل بصدقه وكذلك التساهل في الحديث وترك التحفظ من الزيادة فيه والنقصان منه
وأما كون الراوي غير ضابط لما يسمعه أو يعتريه السهو فيما يسمعه بعد سماعه له فله أحوال ثلاثة
أحدها أن يكون سهوه واختلال ضبطه أكثر فيقدح ذلك في الظن لما نقله إلا أن يكون ما نقله مما يبعد أن لا يضبطه الإنسان وليس لأحد أن يقول الظاهر من العقل الضبط وقلة السهو لأن العقلاء يختلفون في الضبط

وليس له أن يقول الظاهر من العدل أنه لا يروي الحديث وهو يتهم ضبط نفسه وحفظه لأن من لا يضبط يظن أنه قد ضبط ومن سها يظن أنه ما سها فيروي حسب ظنه
والثاني أن يتساوى ضبطه واختلاله فلا يحصل الظن أيضا لصحة ما رواه لتعادل الأمرين فلا يقبل حديثه إن قيل أليس قد أنكرت الصحابة رضي الله عنها على أبي هريرة رحمه الله كثرة الرواية ثم قبلت أخباره قيل إنها لم تنكر عليه لقلة ضبطه لكن لأن الكثرة يعرض فيها الاختلال والسهو فاحتاطت بالإنكار عليه وإن كان أهلا لقبول أخباره وذكر قاضي القضاة في الشرح أنه إذا تساوى غفلته وذكره قبل خبره لأن الخبر أمارة فالأصل فيه الصحة ولقائل أن يقول إن الخبر أمارة إذا تكاملت شرائطه ولا تتكامل شرائطه إلا أن يترجح ذكر الراوي على سهوه
والثالث إن كان الأكثر منه الذكر وجودة الضبط قوي الظن لصحة روايته فقبل خبره فيما لا يعلم أنه سها فيه
واعلم أنه إذا ثبت اعتبار العدالة وغيرها من الشرائط التي ذكرناها وجب إن كان لها ظاهر أن يعتمد عليه وإلا لزم اختيارها ولا شبهة أن في بعض الأزمان كزمن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قد كانت العدالة منوطة بالإسلام فكان الظاهر من المسلم كونه عدلا ولهذا اقتصر النبي صلى الله عليه و سلم في قبول خبر الأعرابي عن رؤية الهلال على ظاهر الاسلام واقتصرت الصحابة على إسلام من كان يروي الأخبار من الأعراب فأما الأزمان التي كثرت فيها الجنايات ممن يعتقد الإسلام فليس الظاهر من إسلام الإنسان كونه عدلا فلا بد من اختباره وقد ذكر الفقهاء هذا التفصيل
ولا يرد حديث من لا يعرف معنى ما ينقله كالأعجمي لأن جهله بمعنى الكلام لا يمنع من ضبطه الحديث ولهذا يمكن للأعجمي ان يحفظ القرآن وإن لم يعرف معناه وقد قبلت الصحابة أخبار الأعراب وإن لم يعرفوا كثيرا من معاني

الكلام مما يفتقر إلى الاستدلال فأما الصبي فالأغلب أن النفس لا تثق بروايته فان جاز في بعض الحالات أن يغلب الظن لصدقه فالشرع منه من قبول خبره إذا رواه وهو صبي فان سمع الحديث وهو صبي ورواه وهو بالغ قبل خبره وقد قبلت الصحابة رضي الله عنها رواية ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم وإن كان حين سمعها من النبي صلى الله عليه و سلم غير بالغ لما كان حين رواها بالغا ويقبل رواية المرأة والعبد والأعمى من حفظه لأنه قد يظن صدقهم في روايتهم ولم تمنع الشريعة من قبولها بل قد قبلت الصحابة رواية ابن عباس وكان ضريرا ورواية النساء ويقبل رواية من لم يرو إلا خبرا واحدا ولم يكاثر أهل العلم ولا أطال مجالسة أهل النقل لأن كل خصلة لا تقدح في غالب الظن لصحة الرواية ولم يرد الشرع باعتبار نفيها فانها لا تمنع من قبول الحديث وكون الراوي غير مجالس لأهل العلم لا يقدح في ظننا صدقه
ويفارق ذلك استفتاء من لم يجالس أهل العلم لأن جواز الاستفتاء موقوف على كون المفتي من أهل الاجتهاد ولن يكون الإنسان كذلك إلا بالتعلم ومجالسة العلماء إلا أنه إذا تعارض خبران أحدهما يرويه من لم يجالس اهل النقل والآخر يرويه من جالسهم كانت رواية من جالسهم أولى لأن المكثر من مجالسة أهل الصنعة أخبر بها وأعرف بتفاصيلها
ويقبل حديث الإنسان وإن اختلف في اسمه متى عرفت عدالته إما بظاهر الإسلام وإما بطريقة زائدة وإذا روى زيد عن عمرو خبرا فقال عمرو لا أذكر أني رويت هذا الحديث فعند أبي الحسن رحمه الله لا يقبل الحديث لأنه الأصل في الرواية فاذا أنكرها لم يقبل وكذلك رد حديث ربيعة عن الزهري أيما امراة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل لأن الزهري أنكر أن يكون رواه وعند الشافعي وغيره أنه يقبل لأن ثقة الراوي تقتضي قبول حديثه ما أمكن ويمكن أن يكون صادقا وإن لم يذكر المروي عنه لأنه يجوز أن ينسى أنه رواه فقد يحدث الإنسان بحديث من أمر الدنيا ثم يسهو عنه ويذكر به فلا

يذكره إلا بعد زمان طويل وربما لم يذكره أصلا فاذا كان كذلك جاز للمروي عنه أن يرويه عن الراوي كما قال الزهري حدثني ربيعة عني فان قال المروي عنه ما رويت هذا الحديث جاز أن يكون قال ذلك بحسب ظنه فلا يرد الحديث فان قال أعلم أني ما رويته فانه تعارض ذلك رواية من روى عنه لأن كل واحد منهما ثقة فيحتمل أن يكون المروي عنه قد رواه ثم نسيه ويحتمل أن يكون الراوي سمعه من غيره ممن ليس بثقة وأسنده إلى من أسنده إليه سهوا
فصل في أن الخبر لا يرد إذا كان راويه واحدا ذهب جل القائلين بأخبار الآحاد إلى قبول الخبر وإن رواه واحد وقال أبو علي إذا روى العدلان خبرا وجب العمل به وإن رواه واحد فقط لم يجز العمل به إلا بأحد شروط منها أن يعضده ظاهر أو عمل بعض الصحابة أو اجتهاد أو يكون منتشرا وحكى عنه قاضي القضاة في الشرح أنه لم يقبل في الزنا إلا خبر اربعة كالشهادة عليه ولم تقبل شهادة القابلة الواحدة
والدليل على القول الاول قياسه على أخبار المعاملات على ما ذكرناه في الباب المتقدم ويدل عليه إجماع السلف عمل أبو بكر رضي الله عنه على خبر رواه بلال وعمل عمر على خبر حمل بن مالك وعملت الصحابة على خبر أبي سعيد في الربا وعملت على خبر أبي رافع في المخابرة وكان علي عليه السلام يستحلف ويقبل خبر ابي بكر بغير استحلاف وليس يجوز أن يقال لعلهم قبلوا ما قبلوه لأن اجتهادا عضده لأنهم كانوا يتركون اجتهادهم لبعض هذه الأخبار وكانوا لا يرون بالمخابرة بأسا حتى روي لهم عن النبي صلى الله عليه و سلم النهي عنها
وحجة أبي علي رحمه الله هي المرجع في قبول خبر الواحد إلى الشرع وقد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يعمل على خبر ذي اليدين حتى سأل ابا بكر وعمر وقد اعتبرت الصحابة العدد في الأخبار فان ابا بكر لم يقبل خبر المغيرة في الجدة حتى رواه معه محمد بن مسلمة ولم يعمل عمر على خبر أبي موسى في الاستئذان

حتى رواه معه غيره ولا عمل على خبر فاطمة بنت قيس ولم يقبلا خبر عثمان في رد الحكم وقالا إنك شاهد واحد قال فعلمت أن ذلك إجماع لأنه لم ينكر عليهم
الجواب أما رجوع النبي صلى الله عليه و سلم إلى خبر ابي بكر وعمر رضي الله عنهما في خبر ذي اليدين فان دل فانما يدل على اعتبار ثلاثة ابي بكر وعمر وذي اليدين على أن الإنسان قد يخبر عن أمور الدنيا بما يظن خلافه فيرجع في تحقيق ذلك إلى جماعة استظهارا وطلبا لقوة الظن فلا يدل على أنه لا يعول في أمور الدنيا إلا على خبر جماعة وأما طلب الصحابة لراو آخر فانه لا يدل على أنهم اعتقدوا أنه لا يعمل على الواحد لو انفرد لأن الحاكم قد يطلب شاهدا ثالثا ليقوي ظنه وإن كان لو لم يشهد الثالث عمل على شهادة الاثنين وقد يعمل الانسان في امور الدنيا على خبر الواحد ويطلب في بعض الأشياء مخبرا ثانيا ليقوي ظنه وقد يضعف الظن لصدق الراوي مرة ولا يضعف لصدقه أخرى وقد ينفرد العدل بالرواية لأمر مستبعد في العادة أو لأمر تقتضي العادة أن لا ينفرد بروايته الواحد ولا يظن تعمده به الكذب لكن يظن به السهو والغلط ولا يظن به ذلك مرة اخرى إذا انتفت هذه الأمور فاذا كان طريق قبول خبر الواحد والاجتهاد في عدالة الراوي وضبطه واختلفت الاحوال في ذلك ووجدنا الذين طلبوا راويا آخر هم الذين لم يطلبوه في حالة اخرى علمنا أنهم إنما طلبوا مخبرا ثانيا لتقوية الظن أو لأنه اعتراضهم بعض ما ذكرناه لا لأنهم اعتقدوا حظر العمل على خبر الواحد على أنه روي عن عمر أنه قال لأبي موسى ما اتهمتك ولكني خفت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد بينا أن ردة خبر فاطمة بنت قيس إنما كان لأنه نسخ لكتاب الله عز و جل وإنما لم يعمل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على خبر عثمان رضي الله عنه في رد الحكم لأن ذلك شهادة لأنه إثبات حكم في عين لا يتعداها ألا ترى أنهما سميا ذلك شهادة فدل ذلك على أنه كان شهادة عندهما

وقاس أبو علي رحمه الله الخبر على الشاهدة لعلة أن كل واحد منهما إخبار عن الغير يجب عنده العمل فكان من شرطه العدد وهذه علة غير معلومة فلا يجوز الاعتماد عليها فيما يجب فيه العلم وليس يمتنع أن تكون الشهادة إنما شرط فيها العدد لكونها شهادة ولهذا قبل فتوى الفقيه الواحد لما لم يكن شهادة ولهذا لم يعتبر في المخبر ما اعتبر في الشاهد من الحرية
فصل في الخبر إذا أسنده من أرسل غيره من الأحاديث هل يقبل أم لا أما من يقبل المراسيل فلا شبهة في قبوله واما من لم يقبل المراسيل فكثير منهم قبله ايضا قال لأن إرساله يختص ذلك المرسل دون هذا المسند وليس إرساله لذلك الخبر بأكثر من تركه روايته فوجب قبول مسنده إلا أن يوهم فيما أرسله أنه سمعه ممن أسنده إليه وأتى بلفظ يوهم ذلك فجرى ذلك مجرى كذبه فيقدح في أمانته فأما إذا قال قال فلان فان ذلك لا يوهم أنه سمعه ممن أسنده إليه فلا يقدح في امانته
ومنهم من لم يقبل ما اسنده قال إن إرساله يدل على أنه إنما لم يذكر الراوي لضعفه في نفسه فستره له والحال هذه خيانة فلم يقبل حديثه
واختلف من قبل من حديث المرسل ما اسنده كيف يقبله فقال الشافعي لا يقبل من حديثه إلا ما قال فيه حدثني أو سمعت ولا يقبل إذا أتى بلفظ موهم وقال بعض أصحاب الحديث لا يقبل حتى يقول سمعت فلانا وأصحاب الحديث يفرقون بين أن يقول الإنسان حدثني فلان أو أخبرني فلان فيجعلون الأول دالا على أنه شافهه بالحديث ويجعلون الثاني مترددا بين المشافهة بالحديث وبين أن يكون قد أجازه أو كتب به إليه وهذه عادة لهم وإلا فظاهر قوله أخبرني يفيد أنه تولى إخباره بالحديث وذلك لا يكون إلا بالمشافهة


باب في فصول كيفية النقل فصل في رواية الحديث بغير لفظ النبي صلى الله عليه و سلم هل يرد له الحديث أم لا
إذا روي الحديث بلفظ غير لفظ النبي صلى الله عليه و سلم فان لم يسند مسنده بل زاد أو نقص أو كان أوضح منه أو أخفي منه فانه لا يجوز ذلك لأن ما زاد على كلام النبي صلى الله عليه و سلم فهو كذب عليه لا يجوز قبوله وما نقص عنه فانه إما أن ينبىء عن أنه رفع حكما قد اثبته فلا يجوز قبوله أو يكون فيه كتمان لحكم قد أثبته والكذب والكتمان محظوران ولا يجوز العدول إلى لفظ أظهر من لفظ النبي صلى الله عليه و سلم ولا أخفى منه لأنه لا يمتنع ان يتعلق المصلحة باللفظ الذي ذكره النبي عليه السلام الخفي أو الظاهر ألا ترى أنه قد يجوز أن يكون من المصلحة أن يعرف الحكم باللفظ الجلي تارة وبالخفي أو بالقياس تارة وإن سد اللفظ مسد لفظ النبي صلى الله عليه و سلم فان اشتبهت الحال فيه حتى يكون موضع اجتهاد لم يجز ذلك لأنه لا يمتنع ان يكون لو نقل لفظ النبي عليه السلام إلى غيره أن يكون اجتهاد غيره فيه خلاف اجتهاده وإن لم تشتبه الحال فيه نحو قول القائل جلس وقعد فانه يجوز العدول عن أحدهما إلى الآخر ويقبل الخبر وهو مذهب الحسن البصري وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله لأنه إن وجب نقل الحديث لأجل اللفظ فقط دفعه الإجماع وإن وجب لأجل اللفظ والمعنى وجب تلاوة اللفظ ولا دليل في العقل ولا في الشرع يقتضي كوننا متعبدين بتلاوة لفظ النبي عليه السلام فبقي أنه يجب نقل حديثه لأجل المعنى وهذا الغرض حاصل وإن عدل الراوي إلى لفظ يقوم مقام لفظ النبي صلى الله عليه و سلم
وفارق الأذان والتشهد لأن الشرع اقتضى كوننا متعبدين بتلاوة ألفاظها فان قاسوا خطاب النبي صلى الله عليه و سلم على التشهد أعوزتهم على صحيحة تجمع بينهما ولم يكن ذلك بأولى من قياسه على الشهادة وقول النبي صلى الله عليه و سلم نصر الله امرء سمع مقالتي فأداها كما سمعها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب

حامل فقه ليس بفقيه لا يمنع من نقل حديثه على المعنى لأن من نقل المعنى يقال إنه قد أدى كما سمع لأنه يقال للمترجم من لغة إلى لغة قد أدى كما سمع على أنه لو منع الخبر من نقل الحديث على المعنى لكان قد منع من ذلك فيما يشتبه ويجوز أن يختلف الاجتهاد فيه ولهذا قال ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه وما لا يشتبه من الألفاظ ولا يختلف اجتهاد الناس في قيام بعضه مقام بعض يستوي فيه الناقص الفقه والكامل الفقه والفقيه وغير الفقيه ولهذا يجب أن يكون الناقل للحديث على المعنى من أهل العلم ليعلم ما يشتبه الحال فيه مما لا يشتبه فيه
فصل في الرواية من كتاب إذا روى الراوي الحديث من كتابه فله أحوال
منها أن يعلم أنه قرأه على شيخه أو حدثه به ويذكر ألفاظ قراءته ووقت ذلك فلا شبهة في جواز روايته والأخذ بها وكذلك إذا علم الراوي أنه قرأ جميع ما في الكتاب أو حدثه به الراوي ولم يذكر الفاظ القراءة ولا وقت القراءة لأنه عالم في الحال بأنه قرأ جميع ما في الكتاب أو سمعه ممن حدثه
ومنها أن يعلم أنه ما سمع ما في الكتاب أو يظن ذلك أو يجوز سماعه ويجوز نفيه على سواء وفي ذلك كله لا يجوز له أن يحدث به ولا يؤخذ بروايته لأنه ليس له أن يخبر بما يعلم أنه كاذب فيه أو ظان أو شاك
ومنها أن لا يذكر سماعه لما في الكتاب ولا قراءته له ولكنه يغلب على ظنه سماعه له أو قراءته لما يراه من خطه فهذا هو الذي ينبغي أن يكون الناس قد اختلفوا فيه فعند أبي حنيفه رحمه الله لا يجوز له أن يرويه ولا يجوز العمل على روايته لأنه لا يجوز أن يقول حدثني فلان وهو لا يعلم أنه حدثه إذا كان ذلك حكما عليه بأنه قد حدثه كما لا يجوز مثله في الشهادة وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي يجوز له الرواية ويجب العمل عليها لأن الصحابة

كانت تعمل على كتب النبي صلى الله عليه و سلم نحو عملها على كتابه إلى عمرو بن حزم من غير أن يرويه لها راو بل عملوا لأجل الخط وأنه منسوب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فان ثبت أنها عملت عليه من غير رواية جاز أن يروي الإنسان من كتابه إذا غلب على ظنه سماعه ويكون إخباره إخبارا عن ظنه ويجوز العمل عليه
باب القول في المراسيل الخبر المرسل هو أن يسمع الرجل الحديث من زيد عن عمرو فاذا رواه قال قال عمرو وأضرب عن ذكر زيد واختلف الناس في الراوي إذا فعل ذلك وكان ممن يقبل مسنده يقبل مرسله أبو حنيفة ومالك وابو هاشم على كل حال وقال قاضي القضاة في الشرح عنيت بالمتكلمين الذين قبلوا المراسيل ابا هاشم دون من لم يقبل إلا خبر اثنين وقال في الدرس إن أبا علي يقول إذا روى الحديث اثنان رواه أحدهما عن رجل بصري لم يسمه ورواه الآخر عن كوفي لم يسمه فانه يقبل ولم يقبل أهل الظاهر وطائفة من أصحاب الحديث المراسيل على كل حال وقبل قوم مراسيل من يقبل مسنده في حال دون حال وهي إذا اختص بشروط والشافعي اعتبر أحد شروط
منها أن يكون ذلك الخبر قد أسنده غير مرسله قال قاضي القضاة هذا إذا لم تقم الحجة باسناد ذلك من المسند فأما إن قامت الحجة باسناده فالمعتبر به دون المرسل
ومنها أن يكون قد أرسله راو آخر يروي عن غير شيوخ الأول
ومنها أن يعضده قول صحابي
ومنها أن يعضده قول أكثر أهل العلم

ومنها أن يكون المرسل ممن لا يرسل عمن فيه علة من جهالة وغيرها ثم قال ومن هذه حاله أحب أن يقبل مرسله ولا أستطيع أن اقول إن الحجة تثبت به كثبوتها بالمتصل وشرط عيسى بن ابان في قبول المراسيل أن يرسله صحابي أو تابعي أو تابعي التابعين أو من أئمة أهل النقل دون من سوى هؤلاء
واحتج من قبل المراسيل باشياء منها إرسال المرسل مع عدالته يجري مجرى ذكره من أرسل عنه وقوله هو عدل عندي في الدلالة على أنه قد عدله ولو قال ذلك لقبل حديثه فكذلك إذا أرسل وإنما قلنا إن إرساله يجري مجرى ذكره وتعديله لأنه مع عدالته لا يستجيز أن يخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم إلا وله الإخبار عنه ولا يكون له الإخبار بذلك إلا وهو عالم أو ظان لأن الخبر بما يجوز كونه ونفيه على سواء قبيح ولأنه ليس له إلزام الناس عبادة أو إطراح عبادة عنهم من غير أن يعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم أوجب ذلك أو يظنه فبان أن عدالته تقتضي ما ذكرنا وأما أن الراوي إذا ذكر من روي عنه وقال هو ثقة عندي لزم قبول خبره وإن لم يذكر أسباب ثقته فهو متفق عليه بين اصحاب أبي حنيفة والشافهي وإنما اختلفوا في الجرح فعند أصحاب ابي حنيفة لا يجب أن يذكر الإنسان سبب الجرح وقال الشافعي لا يصير المجروح مجروحا إلا بذكر اسباب الجرح والأمر في التزكية ظاهر فان اصحاب الحديث يزكون الرجل من غير أن يذكروا أسباب عدالته ولأن الإنسان إنما يكون ثقة زكيا إذا اجتنب الكبائر ولم يخل بالواجبات فلو وجب ذكر أعيان ذلك في طول الزمان مخافة أن يكون فيها ما لا تسلم معه عدالة الإنسان عند السامع وجب ما يشق احصاؤه بل يتعذر إن قيل إنما لم يجب على المزكي ذكر اسباب العدالة لهذه المشقة التي ذكرتموها وذلك غير قائم في ذكر المخبر قيل هذه المشقة إن ثبت معها الظن لعدالة من زكاه المزكي فهو غرضنا وليس سبب هذا الظن هذه المشقة وإنما سببه عدالة المزكي وهذا هو الذي قلناه ولو لم تثبت معها عدالته لم يجز الحكم بتزكيته لأجل المشقة إذ كان الظن لعدالته غير حاصل فان قيل إنما لم يجب على المزكي ذكر أسباب عدالة من زكاة

لأنه يخبر عن ظنه وأما المخبر فانما يخبر عن غيره فوجب ذكره قيل وقد يكون الإنسان عدلا عند المزكي بأن يخبره غيره عن عدالته فهو كالمخبر وأيضا فان هذا فرق لا يؤثر في موضع الجمع وذلك أن المخبر إنما أخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم وطريقه إلى ذلك غيره كما أن ظن المزكي لعدالة من زكاة طريقة معرفته بأسباب عدالته فكما لم يجب ذكر ذلك لم يجب ذكر المخبر فان قيل يلزمكم على ما ذكرتم أن يجري إضراب شهود الفرع مع عدالتهم عن ذكر شهود الاصل مجرى أن يذكروهم ويعدلوهم وأن يلزم الحاكم الحكم بشهادتهم وإن لم يذكروا شهود الأصل كما يلزمه إذا ذكروهم وعدلوهم الجواب إن إضرابهم عن ذكر شهود الأصل يجري مجرى ما ذكرتم ولو تركنا وهذا الأصل لحكمنا بشهادتهم وإن لم يذكروا شهود الأصل لكن الدلالة منعت من ذلك وليس يجب إذا منعت الدلالة من ذلك أن يمتنع أن يحكم بأخبار المراسيل كما أن الدلالة قد دلت على أن من شرط الحكم بشهادة شهود الفرع أن يحملهم شهود الأصل الشهادة فاعتبرنا قيام الدلالة على ذلك ولم نعتبره في غير هذا الموضع لأنه لو لم تقم الدلالة على ذلك لأجرينا الشهادة على الشهادة مجرى الشهادة على الإقرار ولا يشرط فيه أن يحملهم الشهود الشهادة كما لا يشرط أن يحملهم المقر الشهادة على إقراره إن قيل أليس لو ثبت عدالة الشهود عند الحاكم لم يسقط النظر في عدالتهم عن حاكم آخر فهلا كان ثبوت عدالة من أرسله المخبر عنده لا يسقط عن غيره النظر في عدالته قيل فيجب لو ذكر المخبر من أخبر عنه وعدله أن لا يسقط عن السامع للخبر النظر في عدالته كما لم يسقط عن القاضي الثاني النظر في عدالة الشهود وإن ذكروا عنده فلما لم يجز ذلك علمنا مفارقة الشهادة للخبر
ومنها إجماع الصحابة حكي عن البراء بن عازب أنه قال ليس كل ما حدثناكم به عن رسول الله صلى الله عليه و سلم سمعناه منه غير أنا لا نكذب وروي أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من أصبح جنبا فلا صوم له فلما سئل عن ذلك ذكر أن الفضل بن عباس أخبره بذلك وروي ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم

أنه قال لا ربا إلا في النسيئة ثم أسنده إلى أسامة وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم ما زال يلبي حتى رمي جمرة العقبة ثم اسند ذلك إلى الفضل بن عباس فلو لم يجز العمل على المراسيل لكان المرسل إذا لم يبين أنه قد أرسل الحديث جرى مجرى أن يروي عن فاسق أو كافر على وجه يوهم أنه عدل ولا يبين أنه كافر في أن ذلك منكر ولو كان منكرا لأنكروه ولما اجتمعوا على ترك إنكاره ومعلوم أن من أرسل ومن لم يرسل لم ينكر ذلك إن قيل أليس قد كان علي ابن أبي طالب عليه السلام يستحلف من يخبره عن النبي صلى الله عليه و سلم أو سمعه من غيره عنه ويجوز أن يكون حلفه هل سمع الحديث في الجملة أم لا على أن استحلافه إنما كان استظهارا لأن أحدا لا يشرط ذلك في حديث الثقة ولهذا لم يستحلف أبا بكر عليه السلام على أن ذلك لا يعترض دليلنا لأن دليلنا هو أنهم لما عرفوا أن بعضهم أرسل لم ينكروا عليه ولم يرو أن عليا عليه السلام أنكر عليهم إن قيل ما ذكرتموه من الأخبار الدالة على أنهم أرسلوا هي أخبار آحاد غير مؤدية إلى العلم فالجواب ان كل واحد منها وإن كان خبر واحد فان مجموعها متواتر ولقائل أن يقول إن ما ذكرتموه أخبار يسيرة ولا يصير معناها متواتر بهذا القدر ألا ترى أن الخبر الواحد لو رواه ثلاثة أو أربعة لم يكن متواترا فالأخبار الثلاثة والأربعة أولى أن لا يكون معناها متواترا فلا يصح الاحتجاج بها إلا ان يقال إنه يجوز أن يحتج بأخبار الآحاد في إثبات ما يتوصل به إلى العمل دون العلم
ومنها أنه لو لم يقبل الخبر المرسل لما قبل إذا جوزنا كونه مرسلا حتى إذا قال الراوي عن فلان لم يقبل حديثه لجواز أن يكون ما سمع منه لكنه أخبر عنه ولقائل أن يقول لا يقبل الحديث إلا أن يظن أنه غير مرسل نحو أن يقول حدثنا فلان أو سمعت فلانا أو عن فلان ويكون قد أطال صحبته لأن ذلك أمارة تدل على أنه قد سمعه منه ومتى لم يعلم أنه صحبه لم يكن قوله عن فلان أمارة على أنه سمعه منه فلا يقبل حديثه
واحتج من لم يقبل أخبار المراسيل بأشياء

منها أن ترك الراوي لذكر من حدثه يتضمن جهالة عينه وصفته فاذا كان لو ذكر اسمه فعرف السامع عينه ولم يعرف عدالته لم يجز له العمل بحديثه فأولى أن لا يجوز له قبوله إذا لم يعرف عينه ولا عدالته والدليل على أن ترك ذكره للراوي يتضمن جهالة عدالته أن عدالته إن عرفناها بذكره فالمرسل ما ذكره وإن عرفناها بأن الثقة لا يرسل إلا عن ثقة فهذا لا يصح لأن كثيرا من الثقات قد أرسلوا عمن ليس بثقة ولأن الإنسان قد يكون ثقة عند إنسان ولا يكون ثقة عند إنسان آخر فلا يمتنع لو عرفنا من لم يذكره المرسل لما كان ثقة عندنا والجواب إن إرسال المرسل لا يتضمن جهالة صفة من لم يذكره لأن نفيه يشهد بعدالة من أرسل عنه وقولهم إن العدل قد يرسل عمن ليس بثقة لا يقدح فيما قلناه لأن من أرسل عمن ليس بثقة إن كان قد عرف أنه غير ثقة فذلك يقدح في عدالته كما أنه إذا ذكره وقال هو ثقة عندي وعلمنا أنه لم يكن عنده ثقة فانه يقدح في عدالته ولا يقدح ذلك في أن الظاهر والغالب ممن ظاهره العدالة أنه لا يزكى من يعتقد أنه غير زكي كذلك الغالب ممن هو ثقة في الظاهر أنه لا يرسل إلا عمن هو ثقة عنده والغالب لا يزول بالنادر وإن كان قد ارسل عنه وهو ثقة عنده وبان لنا انه ليس بثقة فذلك لا يقدح أيضا في أن الظاهر من كونه ثقة عنده أن يكون ثقة في نفسه وإن جاز خلافه لأن الغالب لا يبطل بتجويز خلافه كما أنه لو قال هو عدل عندي جاز لو فحصنا نحن عنه أن لا يكون عدلا عندنا ولا يمتنع ذلك من أن الظاهر من تزكيته أنه زكي في نفسه وأنه لا يجب علينا الفحس عنه وقولهم إذا لم يجز قبول الخبر إذا سمى المخبر من سمع منه متى لم يعرف عدالته فبأن لا يجوز ذلك إذا لم يعرف عينه ولا عدالته أولى فالجواب عنه أن ممن يقبل المراسيل من يقول إذا سمى الراوي من روى عنه ولم يقل هو عدل عندي فقد زكاه ويجب قبول حديثه وهذا يلزم عليه أن يسقط النظر في المحدثين مع كثرة الفساد في الناس إذا ذكر المحدث من روى عنه لأن عدالته تقتضي ثقة من سمع منه وثقة من سمع منه تقتضي عدالة من سمع

منه هكذا إلى النبي صلى الله عليه و سلم ومنهم من قال إنه إذا ذكر اسمه لم يسقط عنا النظر في عدالته وإذا لم يذكر اسمه سقط النظر في عدالته لأنه إذا لم يذكر عينه فقال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد حكم بأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ذلك وألزمنا تلك العبادة وليس له أن يحكم على النبي صلى الله عليه و سلم بشيء إلا وهو عالم أو ظان له ولا يظن ذلك إلا والراوي ثقة عنده ولأنه لما لم يذكر الراوي لم يمكنا من النظر في عدالته وإذا ذكر الراوي الذي سمع منه الحديث فانه لم يحكم به على النبي صلى الله عليه و سلم ولا منعنا من النظر في عدالته بل قد مكننا من النظر في ذلك إذ كان قد ذكره
ومنها أن الشاهدين إذا كانا عدلين لم يجز أن يشهدا على شهادة شاهدين يخفيان ذكرهما وهما غير عدلين عندهما ومع ذلك لم يجر إضرابهما عن ذكر شهود الأصل مجرى ذكرهما وتزكيتهما والجواب إن عدالة الشاهدين تقتضي غلبة الظن بثقة من شهدا على شهادته إذا لم يذكراه فقد التزمنا في الشهادة مثل ما قلناه في الخبر ولو تركنا وهذا الأصل لحكمنا بالشهادة على الشهادة من غير أن نذكر شهود الأصل على ما تقدم بيانه فان قيل فيلزمكم أن لا تحكموا بالخبر المرسل وإن كان غلب على ظنكم عدالة من أخبر عنه المخبر كما لم تحكموا بشهادة شهود في الفرع وإن غلب على ظنكم عدالة شهود الأصل والعلة الجامعة بينهما أن كل واحد من الشهود والمخبرين يسندون إلى غيرهم ما يلزمون به حكما للغير فلم يلزم الحكم إلا بذكر من يسندون إليه قيل لسنا نعلم أن العلة ما ذكرتم وليس يجوز أن يتوصل إلى العلم بعلة غير معلومة ولا يمتنع أن يكون قد اعتبر في الشهادة ضرب من الاحتياط فلم يقنع فيها إلا بذكر شهود الأصل كما اعتبر فيها الحرية والعدد وأن يحمل شهود الأصل الشهادة شهود الفرع وقد قال الشيخ ابو عبد الله رحمه الله إن القياس يمنع من الحكم بالشهادة فلم يجز قياس المراسيل على ذلك لأنه لا يجوز القياس على المخصوص من جملة القياس والمخالف لا يسلم قوله إن الحكم بالشهادة على الشهادة بخلاف قياس الاصول ويسلم أنه لا يجوز القياس على المخصوص

من جملة القياس على أن من يقيس المراسيل على الشهادة على الشهادة إنما يقيس عليها في المنع لا في جواز الحكم فلم يكن قائسا عليها من الوجه الذي منع منه القياس وقد فرق بين المراسيل وبين الشهادة على الشهادة فقيل إن الحاكم إنما يحكم بشهادة شهود الأصل فلهذا وجب ذكرهم ولمخالفهم أن يقول والحكم بلزوم العبادة إنما يقع بخبر الأول فيجب ذكره فان قالوا كيف نقول ذلك وعندنا أنه لا يجب ذكر المخبر الأول قيل إنكم تعلقون لزوم العبادة بالمخبر الأول ولهذا تعتبرون عدالته وتستدلون عليهما بارسال المخبر الثاني مع عدالته على أنه إن كان لزوم العبادة لا يتعلق بالمخبر الأول لأنه لا يجب ذكره فقد صار ذلك تابعا لكونه غير واجب ذكره فقد فرقتم بين المسألتين بما هو مبني على موضع الخلاف لأن موضع الخلاف هو أنه لا يجب ذكر المخبر الأول وكون المخبر الأول لا يتعلق به الحكم والعبادة تابع لذلك وبه فرقتم بين الشهادة والخبر وقد فرق بين المسألتين أيضا بأن شهود الفرع وكلاء شهود الأصل لأنه لا يجوز لهم أن يشهدوا على شهادتهم إذا سمعوهم يشهدون حتى يحملوهم الشهادة كما لا يجوز للوكيل التصرف إلا بعد أن يؤكله المؤكل وهذا فرق غير مؤثر لأن المحتج جمع بين الشهادة والخبر بالعلة التي ذكرها خصمه في المراسيل وهي أن عدالة الراوي تقتضي أنه ما أرسل الحديث إلا وهو على غاية الثقة بعدالة من أخبر عنه وهذه العدالة قائمة في الشهود على ما بيناه
ومنها أنه لو جاز العمل على المراسيل لم يكن لذكر أسماء الرواة والفحص عن عدالتهم معنى والجواب أن له معنى من وجهين أحدهما أنه إذا ذكرهم الراوي أمكن السامع الفحص عن عدالتهم فيكون لظنه لعدالتهم آكد من ظنه لعدالتهم لأجل إرسال المرسل لأن طمأنينة الإنسان إلى فحصه وخبرته أقوى من طمأنينته إلى خبر غيره وهذا الجواب يقتضي ترجيح المسند على المرسل والآخر أن الراوي للحديث قد يشتبه عليه حال من أخبره فلا يقدم على تزكيته ولا على جرحه فيذكر ليفحص غيره عنه

ومنها قولهم لو وجب العمل بالمراسيل للزمنا في عصرنا هذا أن نعمل على قول الإنسان قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا وكذا وإن لم يذكر الرواة الجواب إن ذكر الخبر إن كان معروفا في جملة الأحاديث فقد عرفت رواته وإن لم يكن معروفا لم يقبل لا لأنه مرسل بل لأن الأحاديث قد ضبطت وجمعت فما لا يعرفه أصحاب الحديث منها في وقتنا هو كذب فان كان العصر الذي أرسل فيه الراوي عصرا لم يضبط فيه السنن قبل مرسله
فأما قول الشافعي رحمه الله إن المرسل يقبل إذا أسنده المرسل أو أسنده غيره فان أراد أنه يقبل والحجة هو الخبر المسند فصحيح على أصله ولا تأثير للمرسل وإن أراد أنه يصير المرسل حجة فليس بصحيح لأن ما ليس بحجة لا يصير حجة إذا اقترنت به حجة كما أن خبر الواحد لا يصير طريقا إلى العلم وإن عضدته آية أو خبر متواتر وأما قوله إنه يعمل على خبر المرسل إذا أرسله غيره ممن يروي عن غير مشائخه فغير صحيح لأنه ليس يجوز أن ينضم ما ليس بحجة إلى ما ليس بحجة فيصير حجة إذ كل واحدة من الروايتين مرسلة وكذلك قوله إذا عضد المرسل قول بعض الصحابة أو فتوى أكثر أهل العلم لأن ذلك غير حجة ولا يصير المرسل به حجة فان جعل قول بعض الصحابة حجة فالكلام عليه ما تقدم
وقد حكى بعض أصحاب الشافعي عنه أنه خص مراسيل الصحابة بالقبول وحكى قاضي القضاة عنه أنه قال إذا قال الصحابي قال النبي صلى الله عليه و سلم كذا وكذا قبلت ذلك إلا أن أعلم أنه أرسله والدليل على بطلان تخصيص الصحابة بذلك أن ما دل على قبول المراسيل يشتمل من كان عدلا من الرواة صحابيا كان أو غيره وقول النبي صلى الله عليه و سلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم لا يدل على أن غيرهم لا يقبل مرسله كما لا يدل على أن غيرهم لا يقبل مسنده وقولهم إن الصحابي لا يطلق القول بأن النبي صلى الله عليه و سلم قال كذا وكذا إلا وقد سمعه أو حدثه عنه الثقة فانه يقال لهم ولم وجب ذلك فيهم

فان قالوا لعدالتهم قيل فهذه العلة حاصلة في غيرهم من العدول فان قال الظاهر من قول الصحابي قال النبي صلى الله عليه و سلم كذا وكذا أنه سمعه منه قيل فقد قبلتموه على أنه مسند لا على أنه مرسل على أنه يمكن أن يقول الصحابي بلغني أن النبي صلى الله عليه و سلم قال كذا وكذا أو سمعت أنه قال كذا فيتصور المسألة في هذا الموضع
فصل في الحديث إذا أرسل مرة وأسند مرة اخرى أو ألحق بالنبي مرة وجعل موقوفا على صحابي مرة
إذا أسند الراوي الحديث وأرسله غيره فلا شبهة في قبول من يقبل المراسيل له ومن لا يقبلها أيضا بجعله مسندا لأن عدالة المسند تقتضي ذلك إذا لم يعارضها معارض وليس في إرسال المرسل ما يعارض إسناده لأنه يجوز أن يكون إنما أرسل غيره الخبر لأنه سمعه مرسلا وسمعه هذا مسندا أو لأنه سمعه المرسل مسندا ثم نسي راويه بعينه وعلم ثقته في الجملة فأرسله لهذا الوجه أو أرسله لمعرفته بثقة من رواه بعينه وأما إذا أرسله هو في وقت آخر فان ذلك لا يمنع من جعله مسندا أيضا لأنه يجوز أن يرسله في وقت آخر لهذه الأمور
وأما إذا وصل الراوي الحديث بالنبي صلى الله عليه و سلم ووقفه الآخر على صحابي فانه يجعل متصلا بالنبي صلى الله عليه و سلم لجواز أن يكون بعض الصحابة سمع ذلك الخبر من النبي صلى الله عليه و سلم فرواه مرة عنه وذكره مرة اخرى عن نفسه على سبيل الفتوى فسمعه بعض الناس يسنده إلى النبي صلى الله عليه و سلم وسمعه الآخر يفتي به عن نفسه فرواه كل واحد منهما على ما سمع ويجوز أن يكون أحد الراويين سمع الصحابي يسند الخبر إلى النبي صلى الله عليه و سلم ثم نسي أنه أسنده إليه وتوهم أنه ذكره عن نفسه فجعله موقوفا عليه
فأما إذا وصل الراوي الحديث بالنبي مرة وجعله هو موقوفا على بعض

الصحابة مرة فانه يجعل أيضا متصلا بالنبي صلى الله عليه و سلم لجواز أن يكون سمعه من الصحابي تارة عن نفسه وتارة عن النبي صلى الله عليه و سلم ويجوز أن يكون سمعه متصلا بالنبي صلى الله عليه و سلم ثم نسي أنه سمعه متصلا فرواه موقوفا فان كان الراوي وقفه وأرسله زمانا طويلا ثم أسنده أو وصله بالنبي صلى الله عليه و سلم فانه يبعد أن ينساه هذا الزمان الطويل ثم يذكره إلا أن يكون عنده كتاب يرجع إليه فيذكر به ما ينسيه الزمان الطويل
فصل في التدليس إذا روى الراوي الخبر عن رجل يعرف باسم فلم يذكره بذلك الاسم وذكره باسم لا يعرف به فان كان فعل ذلك لضعفه ولأنه ليس بأهل أن يقبل حديثه فقد غش الناس وخانهم وذلك قادح في الظن لأمانته فيما يرويه ولا يقبل حديثه وإن كان فعل ذلك لصغر سن من روى عنه لا لأنه غير ثقة فان من يقول ظاهر الإسلام العدالة يقبل هذا الحديث ومن يقول لا بد من فحص عن العدالة بعد المعرفة باسلام الراوي فمن لم يقبل المراسيل من هؤلاء يجب أن لا يقبل ذلك لأنه لا يتمكن من جهله بعينه أن يفحص عن عدالته كما لا يتمكن ذلك في المرسل ومن يقبل المراسيل يلزمه قبوله لأن عدالة الراوي تقتضي أنه ما ترك ذكره بالاسم المعروف ومنع بذلك من الفحص عن عدالته إلا وهو عدل ثقة فجرى مجرى تعديله بالتصريح
باب في فصول ما يرجع إلى المخبر عنه مما يؤثر في الخبر
فصل في الخبر إذا كان مقتضاه بخلاف مقتضى العقل اعلم أن العقل إذا منع من الشيء فإما أن يمنع منه بشرط أو بغير شرط فان منع منه بشرط نحو إيلام الحيوان إذا كان محضا لا نفع فيه فانه يقبل

خبر الواحد باباحته ويعلم أنه غير محض وأنه فيه منفعة وإن منع العقل من الشيء بغير شرط نحو منعه من حسن تكليف ما لا يطاق فمتى ورد خبر بخلاف ذلك فإن أمكن تأويله من غير تعسف جوزنا أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قاله وعنى التأويل الصحيح وإن لم يمكن تأويله إلا بتعسف لم يجز أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قاله على ذلك الوجه لأنه لو جاز التأويل مع التعسف بطل التناقض من الكلام كله ويجب فيما لا يمكن تأويله القطع على ان النبي صلى الله عليه و سلم لم يقله وإن كان قاله فإنما قال حكاية عن الغير أو مع زيادة أو نقصان يخرج بهما من الإحالة
وإنما لم يقبل ظاهر الخبر في مخالفة مقتضى العقل لأنا قد علمنا بالعقل على الإطلاق أن الله عز و جل لا يكلف ما لا يطاق وأن ذلك قبيح فلو قبلنا الخبر في خلافه لم يخل إما أن نعتقد صدق النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك فيجتمع لنا صدق النقيضين أو لا نصدقه فنعدل عن مدلول المعجز وذلك محال
فصل في خبر الواحد إذا رفع مقتضى الكتاب أو سنة متواترة اعلم أن خبر الواحد إنما يكون رافعا للكتاب إذا نفى أحدهما ما اثبته الآخر على الحد الذي أثبته أو أثبت أحدهما ضد ما أثبته الآخر على الحد الذي أثبته فالأول نحو أن يقول في أحدهما ليصل فلان في الوقت الفلاني في المكان الفلاني على الوجه الفلاني وينهى في الآخر عن هذه الصلاة على هذا الحد والثاني أن يامر بتلك الصلاة في مكان آخر في ذلك الوقت بعينه فان كان الخبر ينافي الكتاب من غير نسخ لم يجز قبوله لأنا قد علمنا أن الله تعالى قد تكلم بالآية وأن النبي صلى الله عليه و سلم قد تكلم بما تواتر من نقله عنه فلو أخذنا بخبر الواحد لكنا قد تركنا بالجملة ما قد علمنا أن الله عز و جل قاله وعدلنا إلى ما لا نعلم أنه صدق
إن قيل هلا قلتم إن الله سبحانه أراد بالآية مقتضاها بشرط أن لا يعارضها خبر واحد قيل فهو عالم بمعارضة خبر الواحد له فلا يجوز هذا

الإشراط لأنه لا يجوز أن يأمر بشرط ويجب القطع على أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقل ذلك الخبر أو قاله على سبيل الحكاية عن الغير أو مع زيادة أو نقصان ينفيان المعارضة وكذلك إذا عارض الإجماع خبر واحد فان أمكن تأويل الخبر مع الآية على وجه النسخ فالعقل يجوز النسخ كالتخصيص وعند أصحابنا أن الشرع منع من النسخ به وذكر قاضي القضاة في الشرح أنه يظن أن بين عيسى بن أبان وبين الشافعي رحمهما الله خلافا في قبول أخبار الآحاد إذا خالفت ظاهر الكتاب وقال ويشبه أن يكون الخلاف بينهما في عرض خبر الواحد على الكتاب إذا تكاملت شرائطه فعند الشافعي أنه لا يعرض عليه لأنه لا يكمل شرائطه إلا وهو غير مخالف للكتاب وعند عيسى بن أبان أنه يجب عرضه عليه حتى يعمل عليه لأنه أمارة فيجوز أن يخطىء ويجوز أن يصيب فلا يمتنع أن يخالف الكتاب فلا يعلم إذن تكامله شرائطه إلا إذا علم أنه لا يعارض الكتاب والكلام فيما يكون نسخا وما لا يكون نسخا وفي الزيادة هل هي نسخ أم لا قد مضى في الناسخ والمنسوخ ولا شبهة في أن الناسخ من حقه أن يكون غير مقارن فان علم أن خبر الواحد الرافع لبعض حكم الآية إما بالزيادة أو بغيرها مقارن لم يكن نسخا وإن علم أنه غير مقارن لم يقبل وإن شك فيه قبل عند قاضي القضاة لأن الصحابة رضي الله عنها رفعت بعض أحكام القرآن لأخبار الآحاد ولم تسأل هل كانت مقارنة أم لا فأما معارضة أقاويل أكثر الصحابة فلا يمنع من قبوله لأن قول أكثرهم ليس بحجة
فصل في الحكم إذا اقتضى عموم الكتاب فيه خلاف ما يقتضيه خبر الواحد اختلف مثبتو التعبد بخبر الواحد في جواز تخصيص القرآن والسنة المتواترة فمنع قوم من ذلك على كل حال وأجازه معظم الفقهاء على كل حال ومنع منه قوم في حال دون حال فقال عيسى بن أبان إذا دخلهما التخصيص من

وجه جاز تخصيصهما بخبر الواحد لأنهما يصيران مجملين ومجازين بالتخصيص الأول وإذا لم يدخلهما التخصيص من وجه آخر لم يجز تخصيصهما وشرط قوم في جواز تخصيصهما بأخبار الآحاد أن يكون التخصيص قد دخلهما بدليل منفصل
والدليل على تخصيص القرآن بذلك أن خبر الواحد يقتضي الظن والعقل يقتضي العمل على الظن في المنافع والمضار فوجب المصير إليه وإن خص العموم
إن قيل الظن لصدق الراوي لا يحصل مع عموم الكتاب قيل إذا كان الظن لصدقه يحصل إذا لم يعارضه عموم الكتاب وجب حصوله مع عموم الكتاب لأنه لا وجه يحيل وقوع الظن لصحة الخبر مع معارضة عموم الكتاب
فان قيل الوجه المحيل لذلك هو أن عموم الكتاب إذا انفرد اقتضى العلم بشموله وخبر الواحد إذا انفرد اقتضى الظن لصحته فلم يجز التعبد به إذا عارضه عموم الكتاب وإذا لم يجز ذلك لم يحصل الظن بأن النبي صلى الله عليه و سلم قاله الجواب إن خبر الواحد وإن اقتضى الظن إذا انفرد فان وجوب الحكم به معلوم غير مظنون والتعارض إنما وقع بين حكمه وبين حكم العموم فاذا كان كل واحد منهما معلوما لو انفرد لم يجز المنع من التعبد بالخبر مع عموم الكتاب فلم يمنع من وقوع الظن لصحته بل وجب التعبد به لأنه أخص
فان قيل الدليل الذي دل على وجوب العمل بخبر الواحد إنما دل بشرط أن يظن صدق الراوي ومع معارضة العموم لا يظن صدقه فالشرط لم يوجد والدليل لم يحصل فالجواب عنه أن عدالة الراوي لا ينفيها العموم فالظن لصدقه حاصل وقول النبي صلى الله عليه و سلم بيان فثبت به التخصيص في الأصل بياض مقدار أربع كلمات ووجوب العمل بمقتضى العموم معلوم فقد صار المصير إليه أولى لأن نقله معلوم ووجوب العمل به معلوم هذا الدليل

يعارضه أن العموم معلوم يتناوله الأشخاص والعقل يقتضي أن لا يترك العمل على ما يغلب الظن فوجب العمل عليه وإن عارضه خبر واحد لأنه من لم يترك ما يعلم لما يظن فقد تحرز من المضار ولأن العموم لو أفاد الظن لقائل خبر الواحد وتعارضا ووجب المصير إلى دليل العقل أو دليل غيرهما ولأن خبر الواحد لو قدح في العموم لوجب استعماله ولو رفع جميع ما يتناوله العموم وجوزنا في كل واحد من الأخبار المخصصة أنه صحيح والآخر فاسد فكان يبقى من العموم ثلاثة أشخاص لا بأعيانها أو شخص واحد لا بعينه لأن كل خبر يكسب الظن والظن يقتضي العقل والعمل عليه ويجوز في التناهي إلى الواحد من العموم أن يكون الخبر الوارد به مع ذلك الواحد صحيحا وغيره مما تقدم كذب فيجيء من ذلك أن يرفع جميع ما تناوله العموم بخبر الواحد وذلك محال فان قيل من العجب أن يجتمع علم وظن متعارضين فيقدح الظن في العلم ولا يبطل الظن بالعلم قيل قد كنا نجوز أن يكون هناك دليل يقتضي تخصيص العام قبل العلم بخبر الواحد ولو كان العموم مقطوعا أنه لا يجوز تخصيصه لم يخصه بخبر الواحد وكان العلم لا يرتفع بالظن
إن قيل العقل يمنع من العدول عن المعلوم إلى المظنون وعموم الكتاب معلوم شموله وخبر الواحد مظنون صحته فلم يجز العمل عليه مع عموم الكتاب قيل إن أريد أن خبر الواحد مظنون لو انفرد فقد تكلمنا في ذلك وإن أريد أن مظنون صحته مع معارضة العموم فذلك يمنع من العلم بشمول العموم لأنا إذا ظننا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ما رواه الراوي فقد جوزنا ثبوت حكم الخبر ومع تجويز ذلك لا يحصل العلم بما اقتضاه العموم من الحكم المخالف لحكم الخبر ويدل عليه إجماع الصحابة لأنهم خصوا قول الله عز و جل يوصيكم الله في أولادكم بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لا نورث ما تركنا فهو صدقة ولما روي أن القاتل لا يرث والصحيح أن

فاطمة عليها السلام طالبت بعد ذلك بالنحلة لا بالميراث وخصوا الآية أيضا بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه جعل للجدة السدس وهذا يغير فرض ما تضمنته الآية فكانت مخصصة لها وخصوا قول الله عز و جل وأحل لكم ما وراء ذلك بما روى أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها وخصوا قوله سبحانه أحل الله البيع بخبر أبي سعيد في المنع من بيع درهم بدرهمين وخصوا قوله اقتلوا المشركين بما روي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في المجوس سنوا بهم سنة أهل الكتاب وكل هذه أخبار آحاد وتخصيص الصحابة رضي الله عنها ظواهر القرآن بها ظاهر لا يمكن دفعه ولا يمكن أن يقال خصوها بغير ذلك لأنه لا يجوز أن يروى ما خصوها به ويروى ما لم يجر له ذكر وما ذكرناه يقتضي أن يحمل قول عمر رضي الله عنه لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت أم كذبت على أنه لا يدعه نسخا ليجمع بين هذا الخبر وبين الأخبار التي ذكرناها ولأن قوله لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا يفيد النسخ دون التخصيص ولهذا لا يقال فيمن خص آية من القرآن قد ترك القرآن
فان قيل هلا قبلوا خبرها في نفسها خاصة وأخرجوها وحدها من الآية وهي قوله أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم قيل إن حكمها قد كان يقضي وإنما روت الخبر ليعمل به في غيرها فلو قبلوا خبرها لقبلوه في غيرها على أنهم لو قبلوا خبرها في نفسها لقبلوه فيمن هو بمثل صفتها على ما جرت به عادتهم في إجراء الخبر في كل من كانت صفته صفة من ورد فيه الخبر

وقد قال بعضهم إن قول عمر لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت أم كذبت يدل على أنه ترك قولها لهذه العلة لا لما ذكرتموه في أنه لو قبل خبرها في نفسها لقبله في غيرها الجواب أنهم لو قبلوا خبرها لدل على إخراجها وإخراج غيرها وكانوا تاركين للكتاب لأنهم لا يكونون تاركين للكتاب إلا باخراجها وإخراج غيرها فصح أنهم إنما يتركون الكتاب لأجل قولها وروايتها هو الدال على تخصيصها وتخصيص غيرها
إن قيل قد قبل أهل قبا خبر الواحد في نسخ القبلة أفيتجوزون نسخ القرآن بأخبار الآحاد قيل ذلك جائز في العقل وقد كان معمولا في صدر الإسلام بدلالة حديث أهل قبا ثم نسخ ذلك ودل على نسخه خبر عمر رضي الله عنه وإجماع السلف عليه وقال الشيخ أبو على رحمه الله لا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قال لهم إني أنفذ اليكم فلانا بنسخ القبلة فاقبلوا خبره فانه صادق وذلك دلالة قاطعة على صدقه
وحكى قاضي القضاة رحمه الله في الشرح عن الشافعي رضي الله عنه أنه منع من نسخ القرآن بأخبار الآحاد في الجملة دون التفصيل ومعنى ذلك أنه منع من نسخه بخبر غير مقطوع به وجوز أن يصل نسخه إلى بعض المكلفين بخبر واحد فيلزمه العمل به دليل العمل بخبر الواحد واجب إذا اختص بشرائط وهذه الشرائط حاصلة فيه إذا عارضه عموم الكتاب فوجب العمل به
فان قيل من شرط العمل بخبر الواحد أن لا يعارضه عموم الكتاب قيل قد أجيب عن ذلك بأن إجماع الصحابة على وجوب العمل بخبر الواحد يوجب العمل به ولا يجوز أن يشترط في العمل به شرط إلا بدليل وليس على ما اشترط السائل دليل ولقائل أن يقول إنما يجب ذلك لو أجمعوا على العمل بخبر الواحد بلفظ عام يتناول حال معارضة العموم حت لا يخرج منه حالة من الحالات إلا لدلالة وما اجمعوا كذا بل اجمعوا على العمل به في موضع

فينبغي أن ينظر في الموضع الذي أجمعوا عليه فيه فان تناول هذه المسألة قضى به ولا ينقل منه إلى موضع آخر إلا لدلالة فان قلتم قد عملوا به مع معارضة عموم الكتاب كان رجوعا إلى دليل آخر
فان قيل إجماع الصحابة على العمل به يكفي في وجوب العمل به في كل موضع من الدلالة ألا ترى أنهم لو أجمعوا على قبوله في الصلاة لدل ذلك على قبوله في فرع من فروع الصيام قيل إنما يدل قبولهم له في فرع من فروع الصلاة على قبوله في غير ذلك من الفروع لأنه لا فرق بين الموضعين وليس يمكن أن يقال لا فرق بين العمل به مع معارضة عموم الكتاب له ومع فقد ذلك وإن الحال في خبر الواحد مع معارضة دليل شرعي كالحال فيه إذا لم يعارضه ذلك ألا ترى أن كثيرا من العلماء قد فرق بينهما
فان قيل إنا نستدل باجماع الصحابة على ان العمل بخبر الواحد معلوم إذا انفرد كما أن العمل باستغراق العموم معلوم إذا انفرد ثم نقول فاذا اجتمعا لم يجز إطراح أحدهما والعمل بهما لا يمكن إلا مع التخصيص قيل إذا كان العمل بكل واحد منهما معلوما إذا انفرد جاز أن يكون العمل بكل واحد منهما معلوما مع التعارض وجاز أن يكون العمل بخبر الواحد معلوما بشرط أن لا يعارضه العموم وإذا جاز كلا الأمرين وجب التوقف فمن أين قطعتم على وجوب العمل بهما وأنتم المستدلون وأيضا فان عموم الكتاب معلوم وجوب الحكم باستغراقه إلا أن يعارضه ما يكون حكمه معلوما عند معارضة العموم فاذا لم يثبت لكم ذلك في خبر الواحد لأنكم لم تثبتوا أن الصحابة أجمعت على العمل في هذا الموضع وجب القضاء باستغراق العموم
واحتج المخالف فقال إن خبر الواحد يقتضي الظن وعموم الكتاب يقتضي القطع ولا يجوز العمل بما يقتضي الظن والعدول إليه عما يقتضي القطع الجواب يقال له أتريد أن عموم الكتاب يقتضي العلم بشمول حكمه وأن خبر الواحد يقتضي الظن بثبوت حكمه أو تريد أن عموم الكتاب معلوم

أنه كلام الله سبحانه وخبر الواحد يظن أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله فان قال بالأول قيل له أتعني ذلك لو انفرد كل واحد منهما عن صاحبه أو إذا اجتمعا فان قال إذا اجتمعا أو انفرد كل واحد منهما عن صاحبه قيل لا نسلم ذلك لأن عندنا أن العمل على خبر الواحد معلوم سواء عارضه عموم كتاب أو لم يعارضه فما ذكرته هو نفس المسألة وإن قال أريد الوجه الثاني قيل ولم إذا علمنا أن الله سبحانه تكلم بالعموم وغلب على ظننا أن النبي عليه السلام تكلم بالخبر ولم نعلمه لا يجوز أن نعلم عنده وجوب العمل فان قال لأن الخبر إذا كان مظنونا أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله لم يجز أن يعلم عنده وجوب العمل قيل فيجب أن لا نعلم عنده وجوب العمل مع فقد الكتاب لأن الظن لا يكون طريقا إلى العلم على كل حال وايضا فان طريقنا إلى العلم بوجوب العمل بخبر الواحد هو الإجماع وشرط ذلك ظننا صدق الراوي والإجماع معلوم وظننا صدق الراوي معلوم فان قال عموم الكتاب ليس يقف على شرط مظنون فالخبر مظنون صدقه فقد وقف العمل به على أمر مظنون فلم يجز العدول إليه عن عموم الكتاب قيل إنما كان يمنع ما ذكرت لو كان طريقنا إلى الحكم هو قول النبي صلى الله عليه و سلم فكنا إذا لم نأمن أن يكون لم يقل ذلك القول لا يجوز لنا الحكم به وليس الأمر كذلك لأنه لو كان الأمر كذلك لما جاز العمل على خبر الواحد وإن لم يعارضه عموم الكتاب وإنما طريقنا إلى ذلك هو ظننا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ذلك القول مع قيام الدلالة على العمل بما يغلب على ظننا من ذلك وكلا هذين معلوم لأنا نعلم أنا ظانون صدق الراوي ونعلم الدلالة على وجوب العمل بما ظنناه فثبت مساواة طريقنا إلى العلم بحكم الخبر لطريقنا إلى العلم لشمول الآية في أن كل واحد منهما طريق معلوم وبطل إحالتهم قيام الدلالة على العمل بخبر الواحد مع عموم الكتاب
فان قيل العموم معلوم ومعلوم أنه قول الله سبحانه وقد دل على وجوب العمل به دليل قاطع وهذا لا يتغير وخبر الواحد قد يزول الظن فيه بالبحث عن الراوي والظن في حاله فيزول الذي دل على وجوب العمل به

فكيف يزول ما لا يتغير بحال ما يتغير وقد نقضت الشبهة بانتقالنا عن مقتضى العقل بخبر الواحد وهذا لا يلزم لأن عموم الكتاب دل لفظه على شمول الحكم على طريق القطع لو انفرد ألا ترى أنه يتناول لفظه كل واحد من أشخاص النوع والجنس فلو عدلنا عن بعضه بخبر الواحد كنا قد عدلنا عن موجب دليل قاطع وأما العقل فانه لا يقتضي قبح ذبح الحيوان إلا من حيث أنه ألم محض وليس يدل العقل على انه محض وإنما يعلم العاقل أنه محض لأنه ليس في العقل ولا في السمع ما يدل عليه فاذا ورد الخبر باباحته علمنا أن فيه منفعة موفية فزال الشرط الذي معه قضى العقل بقبحه ولم نكن تاركين لموجب العقل بخبر الواحد لأن العقل لم يدل على أنه ليس فيه نفع موف وخبر الواحد دل على ذلك فلم نكن بتاركين لدلالة معلومة إلى شيء مظنون
واجيب عن الشبهة أيضا بأن خبر الواحد وعموم الكتاب طريقهما الاجتهاد فهما يتساويان وهذا لا يصح لأنه إن أريد أن طريقهما الاجتهاد الذي هو بذل الجهد في الاستدلال فصحيح لأن أحدهما مظنون أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله والآخر معلوم أن الله عز و جل قاله وإن أريد أن كل واحد منهما مظنون فلا يصح
وقد قاس المخالف المنع من تخصيص الكتاب بخبر الواحد على المنع من نسخه بخبر الواحد بعلة أن كل واحد منهما عدول إلى مظنون عن معلوم الجواب إنهم إن قاسوا أحدهما على الآخر في المنع من التعبد بهما من جهة العقول لم نسلم الحكم في الأصل لأنا نجوز من جهة العقل نسخ القرآن بخبر الواحد وإن قاسوا أحدهما على الآخر في المنع من التعبد شرعا فما ذكروه من العلة غير معلومة فلم يجز القياس بها في هذا الموضع وأما من منع تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد إذا لم يتقدمه تخصيص فقد أبطل لأن العموم المخصوص كالذي ليس بمخصوص في أنه معلوم صدوره من حكيم وتناوله من جهة الحقيقة لما لم يتناوله التخصيص فاذا خصت الصحابة بخبر الواحد

العموم المخصوص دل ذلك على جواز تخصيصه عموما لم يدخله التخصيص إذ أحدهما في معنى الآخر كما أن إجماعها على تخصيص بعض الآيات بخبر الواحد دليل على تخصيص آية أخرى بخبر الواحد لأن أحدهما في معنى الآخر
وقلوهم ! إن العموم المخصوص قد صار مجازا أو مجملا فجاز تخصيصه وليس كذلك العموم إذا لم يخص فباطل لأن العموم المخصوص ليس بمجاز من حيث يتناول ما لم يدخله التخصيص فصار من هذه الجهة كالذي لم يتقدمه تخصيص وإنما هو مجاز من حيث لم يرد به بعض ما يتناوله وقولهم إنه مجمل لا نسلمه وقولهم إن عمر عليه السلام امتنع من تخصيص قوله عز و جل أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم بخبر فاطمة بنت قيس بقوله لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت أم كذبت لا يصح لأنا قد بينا أن ذلك ينصرف إلى النسخ على أن هذه الآية مخصوصة بخروج المرتدة منها وقول من فرق بين العموم المخصوص بالاستثناء وبين المخصوص بالدلالة المنفصلة بأن العموم المخصوص بالاستثناء حقيقة فيما عدا المستثنى لأن العموم مع الاستثناء يجري مجرى لفظ العدد مع الاستثناء في أنه يتناول ما عدا المستثنى من الأعداد وأما العموم المخصوص بدليل منفصل فهو مجاز فباطل بما ذكرناه الآن
فصل في الحكم إذا اقتضى قياس الاصول فيه خلاف ما اقتضاه خبر الواحد اعلم أن القياس على أصل من الاصول إذا عارض خبر واحد فانما يعارضه إذا اقتضى الخبر إيجاب أشياء واقتضى القياس حظر جميعها على الحد الذي اقتضى الخبر إيجابها أو بان يكون الخبر مخصصا لعلة القياس فان اقتضى تخصيصها فيمن يجيز تخصيص العلة يجمع بينهما ومن لا يرى تخصيص العلة

يجرى هذا القسم مجرى القسم الأول وليس تخلو علة القياس الذي هذه حاله إما أن تكون منصوصا عليها أو مستنبطة فان كانت منصوصة لم يخل النص عليها إما أن يكون مقطوعا به أو غير مقطوع به فان كان مقطوعا به وكان خبر الواحد ينفي موجبها ولم يكن إضمار زيادة فيها تخرج معه العلة من ان يعارضها خبر الواحد فانه يجب العدول إليها عن خبر الواحد لأن النص على العلة كالنص على حكمها فكما لا يجوز قبول خبر الواحد إذا رفع موجب النص المقطوع به فكذلك في هذا الموضع ولأن خبر الواحد في هذا المكان يخرج العلة المنصوصة من كونها علة والنص قد اقتضى كونها علة فصار خبر الواحد رافعا موجب النص المقطوع به وإن لم يكن النص على العلة مقطوعا به ولا كان حكمها في الأصل ثابتا بدليل مقطوع به فانه يكون معارضا لخبر الواحد لأنهما خبرا واحد ويكون الرجوع إلى الخبر في إثبات الحكم أولى من الخبر الدال على العلة لأن دال بصريحه على الحكم والخبر الدال على العلة ليس بدال على الحكم بصريحه ونفسه بل بواسطة وإن كان حكمها في الأصل ثابتا بدليل مقطوع به فهو موضع اجتهاد على ما سنبينه الآن في العلة المستنبطة
فأما إن كانت علة القياس مستنبطة فلا يخلو أصل القياس إما أن يكون حكمه ثابتا بخبر واحد أو بنص مقطوع به فاذا كان ثابتا بخبر واحد لم يكن القياس أولى من الخبر المعارض له بل الأخذ بالخبر أولى فأما إذا كان الحكم في أصل القياس ثابتا بدليل مقطوع به والخبر المعارض للقياس خبر واحد فينبغي أن يكون الناس إنما اختلفوا في هذا الموضع وإن كان الاصوليون ذكروا الخلاف فيه مطلقا فعند الشافعي رضي الله عنه أن الأخذ بالخبر أولى وهو قول أبي الحسن وقال عيسى بن أبان إن كان راوي الخبر ضابطا عالما غير متساهل فيما يرويه وجب قبول خبره وترك القياس وإن كان الراوي بخلاف ذلك كان موضع الاجتهاد وذكر أن في الصحابة عليهم السلام من رد حديث أبي هريرة بالاجتهاد وحكي عن مالك أنه رجح القياس على الخبر ومنهم من قال طريقه الاجتهاد

واحتج المرجحون للخبر بأشياء
منها إجماع الصحاب لأن أبا بكر رضي الله عنه نقض حكما حكم به برأيه لحديث سمعه من بلال وترك عمر رضي الله عنه رأيه في الجنين وفي التسوية بين الأصابع للحديث فان قيل إن ابن عباس قد خالف في ذلك لأنه لم يقبل خبر أبي هريرة إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا وقال ما نصنع بمهراسنا والمهراس حجر عظيم كانوا يجعلون فيه الماء ويتوضؤن منه فأشار بذلك إلى أنه لا يمكن غسل اليد منه قبل إدخالها فيه فقال له أبو هريرة يا بن أخي إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثا فلا تضرب له الأمثال قيل إن ابن عباس ترك هذا الحديث لأنه لا يمكن الأخذ به إذ كان لا يمكن قلب المهراس على اليد وذلك خارج عن قياس علته مظنونة فان قيل ليس في ذك تكليف ما لا يطاق لأنه كان يمكنهم غسل أيديهم من إناء آخر غير المهراس ثم يدخلوا أيديهم في المهراس فعلمنا أنه رد الخبر لأنه مخالف لقياس الأصول لا لأنه لا يمكن الأخذ به قيل فاذا أمكن الأخذ به فمن أين أن قياس الاصول كان يبيح غسل اليد من ذلك الإناء حتى يكون قد رد الخبر لذلك القياس وإذا صح ذلك لم يثبت لهم أن ابن عباس رجح قياس الاصول على الخبر حتى يكون قادحا في الإجماع
ومنها أن خبرالواحد أصل للقياس ولا يجوز أن يترك الأصل بالفرع ولقائل أن يقول إن أردتم بقولكم إن خبر الواحد أصل للقياس أنه هو الدليل على صحة العمل بالقياس فليس كذلك لأن العمل بالقياس لا يصار إليه إلا بدليل مقطوع به وإن أردتم أن خبر الواحد هو أصل القياس الذي وقعت المعارضة به وأن القياس هو قياس على حكمه فليس كذلك لأن أصل القياس هو غير هذا الخبر فان قالوا نريد بذلك أن خبر الواحد في الجملة هو أصل القياس ألا ترى أن أصل القياس هو خبر واحد مثل هذا الخبر المعارض قيل إنما يلزم هذا من قال إن القياس على حكم خبر الواحد أولى

من خبر واحد يعارض القياس فأما من قال إن القياس أولى من خبر الواحد إذا كان القياس قياسا على دليل قاطع فلا يلزمه هذا الكلام
ومنها قولهم إن خبر الواحد يجري مجرى ما سمع من النبي صلى الله عليه و سلم فكان أولى من القياس ولقائل أن يقول إن خبر الواحد يجري مجرى ما سمع من النبي صلى الله عليه و سلم في وجوب العمل وهكذا القياس وأيضا فليس يجب إذا جرى خبر الواحد مجرى ما سمع من النبي صلى الله عليه و سلم في بعض الأمور أن يجري مجراه في أمور أخر ألا ترى انه لا يجري مجراه في نسخ القرآن
ومنها قولهم إن إثبات الحكم بخبر الواحد يستند إلى قول النبي صلى الله عليه و سلم بغير واسطة وإثباته بالقياس يستند إلى قوله بواسطة فكان إثباته بالخبر أولى ولقائل أن يقول إنه كان لإثبات الحكم بالخبر هذه المزية فان لإثبات الحكم بهذا القياس مزية أخرى وهي استناده إلى أصل معلوم وإن كان بواسطة الاجتهاد في الأمارة فكما أن العمل بخبر الواحد يستند إلى أصل معلوم وهو ما دل على وجوب العمل بخبر الواحد فكذلك الحكم بالقياس يستند إلى ما دل على العمل بالقياس وهو معلوم وكما أن العمل بالقياس يفتقر إلى الاجتهاد في الأمارة فالحكم بخبر الواحد يفتقر إلى الاجتهاد في أحوال المخبرين فهما يتساويان من هذه الوجوه وهذا من أقوى ما يحتج به من رد الأمر فيها إلى الاجتهاد
ومنها أن عموم الكتاب يدل تصريحه على ما تناوله لفظه ويدل على حكم الفروع بواسطة القياس ودلالته على ما تناوله لفظه أقوى لأنه يتناوله بنفسه من غير واسطة وليس كذلك دلالته على حكم الفروع فاذا جاز أن يخرج منه بعض ما تناوله لفظه بخبر الواحد مع قوة دلالته عليه كان بأن يخرج منه مدلوله الأخفى وهو ما دل عليه بواسطة القياس لأجل خبر الواحد أولى إذ كان إخراج ما دل عليه بواسطة القياس يجري مجرى التخصيص لأنه إخراج بعض ما دل عليه إذ كان يدل على أشياء بواسطة وبغير واسطة

وللخصم أن يقول إن عموم الكتاب لا يدل على حكم الفروع لأنه لا يتناولها فلا يدل على امارة القياس فصار حكم الفروع هو مدلول دليل آخر وهو القياس فليس بأن يتركوه بخبر الواحد لأن خبر الواحد يخص به عموم الكتاب مع قوة عموم الكتاب بأولى من أن يتركوا العمل بخبر الواحد لأجل القياس إذ كان القياس يخص به عموم الكتاب
واحتج من قدم القياس على الاصول على خبر الواحد بأن القياس لا يحتمل ولا يجوز تخصيصه وليس كذلك الخبر فكان القياس أولى الجواب أن ذلك يقتضي تقديمه على نص الكتاب والسنة المتواترة وأيضا فانه إن اختص القياس بهذه المزية فالخبر مختص بمزية اخرى وهي أن دلالة الألفاظ لا تستنبط من غيرها والقياس مستنبط من الألفاظ فكانت الألفاظ أقوى من الدلالة
واحتجوا أيضا بأن القياس أثبت من الخبر لتجويز الخطأ والكذب على المخبر والجواب أن جواز ذلك كجواز كون الحكم غير متعلق بالأمارة في القياس وإن كان الأغلب صدق الراوي وتعلق الحكم بالأمارة
ومنها قولهم إذا كان القياس يخص به عموم الكتاب فبأن يترك لأجله خبر الواحد أولى إذ هو أضعف من العموم الجواب أنا إذا خصصنا العموم بالقياس لم نكن تاركين له أصلا بالقياس وليس كذلك إذا تركنا الخبر أصلا بالقياس والأولى أن يكون طريق ترجيح أحدهما على الآخر الاجتهاد لتساويهما من الوجوه التي ذكرناها فان قوي عند المجتهد امارة القياس وكانت تزيد عنده في القوة على عدالة الراوي وضبطه وجب المصير إليه وإن كان ضبط الراوي وثقته يزيد عند المجتهد على أمارة القياس وجب عليه المصير إلى الخبر


فصل في فائدة خبر الواحد إذا كان البلوى به عاما هل يرد له خبر الواحد الوارد فيه أم لا
الخبر المروي بالآحاد لا يخلو إما أن يتضمن إيجاب العلم أو يتضمن إيجاب العمل فقط والأول إما أن يكون في الأدلة القاطعة ما يدل على ذلك العلم وإما أن لا يكون فيها ما يدل على ذلك فان لم يكن فيها ما يدل على ذلك لم يقبل الخبر سواء تضمن مع العلم عملا أو لم يتضمن عملا لأنه لو كان صحيحا لأشاعه النبي صلى الله عليه و سلم على وجه يجب في العادة التواتر بنقله ولأوجب نقله على وجه تقوم الحجة به إذ كان لا يجوز أن يوجب علينا العلم ولا يجعل لنا طريقا إليه وخبر الواحد ليس بطريق إلى العلم
إن قيل هلا قبلتم الخبر وحكمتم بأن النبي صلى الله عليه و سلم أوجب العلم على ما شافهه بذلك قيل ليس يستحيل ذلك إذا كان الخبر خطابا لمن حضر النبي صلى الله عليه و سلم وإنما رددنا الخبر إذا كان إيجابا على من شافهه ومن لم يشافهه
إن قيل جوزوا أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم أظهر الخبر وأمر بتواتر نقله وألزم كل أحد العلم بشرط أن يبلغه الخبر على حد التواتر فيكون من شافهه به قد وجب عليه العلم ومن لم يشافهه لم يجب عليه إذا لم ينقل بالتواتر قيل لو كان النبي صلى الله عليه و سلم قد اشاع الحديث وأظهره على هذا الحد وأوجب تواتر نقله لقويت دواعي الدين والعادة إلى نقله متواترا ولما جاز أن يخفى لأن جواز خفاء ذلك يقتضي تجويز حدوث أمور في الدين والدنيا عظيمة لم يبلغنا خبرها ولذلك قلنا إن النبي صلى الله عليه و سلم لو كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم كما كان يجهر بالفاتحة لكان النقل لأحدهما كالنقل للآخر فلما اختلف النقل علمنا أنه كان يجهر مرة ببسم الله الرحمن الرحيم ويخفي أخرى فنقل بعض الناس أنه جهر ونقل غيره أنه أسر
فأما إن كان في الأدلة ما يدل على العلم لم يمنع أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قد

اقتصر بذلك الخبر على آحاد واقتصر بمن سواهم على الدليل الآخر في وجوب العلم فأما إن كان الخبر يتمضن العمل دون العلم فإما أن يعم البلوى بما تضمنه أو لا يعم البلوى به فان لم يعم البلوى به قبل وإن عم البلوى فقد اختلف القائلون بأخبار الآحاد في قبوله
فلم يقبله الشيخ أبو الحسن رحمه الله ويقول إن فروع الصلاة مخالفة لذلك فلا يمتنع أن يختص بها العلماء ويقول كل شرط يفسد الصلاة وهو ركن فيها إنه يجب ظهور نقله كالقبلة التي ظهر نقلها ظهور نقل الصلاة وما يعرض فيها وليس بشرط نحو تحريم الكلام في الصلاة لا يجب نقله عاما ويقول ليس يجب شياع نقل صفة المنقول كوجوب الوتر ولا يوجب شياع نقل الوضوء من الرعاف ولا التوضي من القهقهة لأن ذلك ليس يعم به البلوى
وعند الشيخ أبي علي أن الأخبار التي لا تتضمن العلم لا يجب شياع نقلها في الخاصة والعامة بل لا يمتنع أن لا يكون العامة مكلفة لما تضمنته كالحدود أو مكلفة بالرجوع إلى العلماء وهو مذهب قاضي القضاة والدليل على قوله إن إجماع الصحابة على العمل بأخبار الآحاد يقتضي العمل بها اجمع ما لم يمنع منه مانع ألا ترى أنه دل على جواز العمل بأخبار لم ترو فيهم لما كانت في معنى ما أجمعوا عليه ورجعت الصحابة رضي الله عنها إلى أزواج النبي صلى الله عليه و سلم في التقاء الختانين
وأيضا فمن لم يقبل خبر الواحد فيما يعم به البلوى فإما أن لا يقبله لأن الشريعة منعت من قبوله أو لأنه ليس في الشريعة ما يدل على قبوله أو لأنه لو كان صحيحا لأشاعه النبي صلى الله عليه و سلم وأمر بتواتر نقله ليصل إلى من بعد بفائدته فيتمكن مما كلف من العمل به ولو كان كذلك لقويت دواعي الدين والعادة إلى إشاعة نقله

وهذه الأقسام كلها باطلة لأنه لو كان في الشرع نص يمنع من قبوله لعرفناه مع الفحص الشديد إن قيل أليس قد رد عمر خبر أبي موسى في الاستئذان ورد أبو بكر خبر المغيرة في الجدة قيل إنما يدل هذا على ما ذكرتم لو لم يقبلوا في ذلك إلا خبرا قد تواتر نقله فأما وقد قبلوه إذا انضم إلى الراوي راو آخر فلا دليل لكم في ذلك وإجماع الصحابة على العمل بأخبار الآحاد يتضمن في المعنى هذه المسألة على ما سنبينه فبطل قولكم ليس في الشرع ما دل على قبوله وقولهم إذا عم البلوى بالحكم وجب في الحكمة إشاعته فباطل لأنه إنما يجب ذلك لو لزم المكلفين العلم مع العمل إو لزمهم العمل على كل حال فأما إذا لزم العمل به بشرط أن يبلغهم الخبر وإلا لم يلزمهم فليس في ذلك تكليف ما لا طريق إليه ولو وجب ما ذكروه فيما يعم البلوى به لوجب فيما لا يعم به البلوى لأن ما لا يعم به البلوى يعلم وقوعه وإن كان وقوعه نادرا وفي آحاد الناس كالرعاف في الصلاة فيجب في الحكمة إشاعة حكمه خوفا من أن لا يصل إلى من ابتلي به فيضيع الغرض
فان قالوا لا يلزم القول بوجوب إشاعته لأنه إنما يكلف المرء ذلك الحكم بشرط وصوله إليه وإن لم يصل إليه لم يكن مكلفا قيل إن جاز ذلك في آحاد من الناس جاز في جماعتهم على أن وجوب الوتر يعم البلوى به ولم يتواتر النقل بوجوبه وقولهم قد تواتر النقل بالوتر لا يعصمهم من التناقض لأن الوجوب يعم به البلوى والنقل له لم يتواتر فأما القي والرعاف في الصلاة فالبلوى بهما عام وليس يبطل عمومه كون مس الذكر أعم منه
فصل في خبر الواحد إذا فعل النبي صلى الله عليه و سلم خلاف مقتضاه
اعلم ان الراوي إذا روى شيئا فعل النبي صلى الله عليه و سلم خلافه فلا يخلو الخبر الذي رواه إما أن يتناول النبي صلى الله عليه و سلم وإما لا يتناوله فان لم يتناوله نحو أن يكون خبرا عن وجوب الفعل على غيره أو يكون أمرا أو نهيا لغيره عن فعل ويكون النبي صلى الله عليه و سلم قد فعل ما نهي عنه أو لم يفعل ما أمر به فانه إن لم تدل

دلالة من إجماع أو غيره على أن حكم النبي صلى الله عليه و سلم حكم غيره في ذلك الفعل فانه لا تعارض بين ذلك الخبر وبين فعله وإن دلت على ان حكم النبي صلى الله عليه و سلم حكم غيره في ذلك فالكلام فيه كالكلام في القسم الذي سنذكره الآن وإن كان الخبر يتناول النبي صلى الله عليه و سلم بأن يكون خبرا عن الوجوب عليه وعلى غيره أو حكاية عن الله تعالى يتناوله ويتناول غيره فانه يكون معرضا له فان أمكن أن يخص أحدهما بالآخر فعل ذلك وإن لم يمكن وكان أحد الخبرين متواترا دون الآخر قضي بالتواتر وإن كانا منقولين بالآحاد رجع فيهما إلى الترجيح وليس يجوز مع هذا التنافي أن يكونا منقولين بالتواتر
فصل في الرواية بحسب سماع الراوي إذا قال الراوي حدثني فلان أو أخبرني فلان أو سمعت فلانا وقد حدث بذلك من سمعه يقول هذا القول فلمن سمعه أن يقول حدثني وأخبرني وسمعت منه وإذا قريء على الإنسان الأحاديث ثم قال عند الفراغ من القراءة الأمر كما قريء علي أو قال قد سمعت ما قريء علي فانه يكون بهذا القول محدثا على الجملة فلمن سمع القراءة عليه وسمع الشيخ يقول ذلك أن يقول حدثني وأخبرني وسمعت من فلان ألا ترى أنه لا فرق في جواز الشهادة على البيع بين أن يلفظ البائع عند الشاهد بلفظ البيع وبين أن يقرأ عليه كتاب البيع فيقول الأمر كما قريء علي فأما إذا قريء عليه فلم ينكر ولم يقل الأمر على ما قريء علي أو قد سمعت ما قريء فللسامعين أن يعملوا على تلك الأحاديث لأن ترك النكير يدل على سماعه الأحاديث وليس لمن سمع القراءة أن يقول حدثني أو أخبرني أو سمعت لأن الشيخ لم يلفظ بشيء سمعه منه ولا فصل بين التحدث والإخبار
فان قيل إمساكه عن النكير يجري مجرى إباحته أن يتحدث عنه قيل لو أباحهم أن يتحدثوا عنه لم يجز لهم التحدث عنه إذا لم يحدثهم لأن الكذب لا

يصير مباحا باباحته إن قيل العادة قد أجرت سكوت الشيخ عن الإنكار مجرى قوله قد سمعت ما قريء علي فكان لهم أن يتحدثوا عنه قيل إمساكه يجري مجرى قوله سمعت ذلك في الدلالة على انه قد سمعه وليس يخرج من ان يكون الشيخ لم يتلفظ بالأخبار والتحدث وله أن يقول قرأت على فلان أو قريء عليه وأنا أسمع
وأما المناولة فهي أن يشير الإنسان إلى كتاب يعرف ما فيه من الأحاديث فيقول لغيره قد سمعت ما في هذا الكتاب فيكون بذلك محدثا لأنه سمعه ويجوز لذلك الغير أن يرويه عنه فيقول حدثني فلان أو أخبرني فلان وسواء قال اروه عني أو لم يقل فأما إذا قال له حدث عني بما في هذا الجزء ولم يقل سمعته فانه لا يكون محدثا له به وإنما أجاز له التحدث به عنه فليس له أن يحدث عنه لأنه يكون بالتحدث عنه كاذبا وليس يصير ذلك مباحا باباحته له
وإذا سمع الشيخ نسخة من كتاب مشهور لم يجز له أن يشير إلى غير تلك النسخة من ذلك الكتاب فيقول قد سمعته لأن النسخ من الكتاب الواحد قد تختلف إلا أن يعلم أن النسختين تتفقان
وأما الكتابة فهي أن يكتب الشيخ إلى غيره أنه سمع الكتاب الفلاني أو النسخة الفلانية فان اضطر المكتوب إليه أنه خطه جاز أن يروي عنه وإن لم يضطر إلى ذلك لكنه ظنه جاز أن يروي بحسب ظنه
وأما الإجازة فهي أن يقول الإنسان لغيره قد أجزت لك أن تروي عني ما صح من أحاديثي وأصحاب الحديث يجيزون ذلك ويسوغون لمن اجيز له أن يقول أخبرني فلان ولا يجيزون له أن يقول حدثني قالوا لأن قوله قد أجزت لك أن تروي ما صح عني من أحاديثي يجري في العادة مجرى قوله ما صح عني من أحاديثي قد سمعته فاروه عني واعلم أن ظاهر الإجازة هي إباحة الشيخ التحديث عنه والإخبار عنه من غير أن يخبره ويحدثه وهذا

إباحة الكذب وليس له ذلك ولا لغيره أن يستبيح الكذب إذا أبيح فان ثبت أن قوله قد أجزت لك أن تروي عني إقرار من جهة العادة أنه سمع ما صح عنه فحكمه حكم المناولة والله أعلم
باب في قول الصحابي أمرنا بكذا ما حكمه ينبغي أن نذكر من الصحابي وما طريق كونه صحابيا ثم نتكلم في قول الصحابي أمرنا أن نفعل كذا ما الذي يفيده
أما الصحابي فينبغي أن يجتمع فيه أمران حتى يكون صحابيا أحدهما أن يطيل مجالسة النبي صلى الله عليه و سلم لأن من رآه من الوافدين عليه وغيرهم ولكم يطل المكث لا يسمى صحابيا والآخر أن يطيل المكث معه على طريق التبع له والأخذ عنه والاتباع له ولهذا لا نصف من أطال مجالسة العالم ولم يقصد المتابعة له بأنه من أصحابه
وأما طريقنا إلى كون الصحابي صحابيا فطريقان أحدهما يقتضي العلم وهو الخبر المتواتر بأنه صحب النبي صلى الله عليه و سلم ليتبعه والآخر يقتضي الظن وهو إخبار الثقة بذلك إما هو وإما غيره
فاذا قد عرفنا من الصحابة فلنتكلم في مسائل
منها قول الصحابي امرنا بكذا أو نهينا عن كذا أو أوجب علينا كذا أو أبيح لنا كذا أو حظر علينا كذا أو من السنة كذا
ومنها أن يقول الصحابي قلت هذا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
ومنها قول الصحابي كنا نفعل كذا وكذا

ومنها قول الصحابي كانوا يفعلون كذا وكذا
ومنها أن يقول الصحابي قولا لا مجال للاجتهاد فيه
أما قول الصحابي أمرنا أن نفعل كذا أو نهينا عن كذا فذهب الشافعي والشيخ أبو عبد الله وقاضي القضاة أنه يفيد أن الآمر هو رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال الشيخ أبو الحسن ليس ذلك هو الظاهر بل يجوز أن يكون الآمر غيره وحمل على ذلك قول الراوي أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة والدليل على القول الأول أن من التزم طاعة رئيس فانه إذا قال أمرنا بكذا وكذا فانه يفهم منه ما يلتزم طاعته ويؤثر أمره ألا ترى أن الرجل من أولياء السلطان إذا قال في دار السلطان أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا فهم منه أن السلطان الذي يلتزم طاعته هو الذي أمر وأيضا فغرض الصحابي أن يعلمنا الشرع ويفيدنا الحكم فيجب حمل ذلك على من يصدر الشرع عنه دون الأئمة والولاة لأن امرهم لا يؤثر في الشرع ولا هم المتبعون فيه ولا يحمل هذا القول على أمر الله عز و جل لأن أمر الله عز و جل ظاهر للكل لا نستفيده من كلام الصحابي ولا نحمله على جماعة الأمة لأن قول الصحابي أمرنا إن أفاد ذلك أفاد أن جميع الامة أمرت بذلك وهي لا تأمر نفسها
فاما قول الصحابي أوجب علينا كذا أو حظر علينا كذا أو ابيح لنا كذا فانه يفهم منه أن الموجب المبيح الحاظر هو النبي صلى الله عليه و سلم لأن الإباحة والحظر والإيجاب على الحقيقة لا تحصل من بشر سواه
وإذا قال الإنسان من السنة كذا لم يعقل منه إلا سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم كما أن قولنا هذا الفعل طاعة يفيد أنه طاعة لله تعالى ولرسوله
إن قيل يجوز أن يكون الصحابي إنما قال اوجب علينا كذا لأنه سمع من النبي صلى الله عليه و سلم الأمر بذلك الشيء فحمله على الإيجاب فلا يلزم ذلك من لم يقل إن الأمر ليس على الوجوب الجواب أن من يقول إن الأمر على

الوجوب يلزمه أن يأخذ بقول الصحابي أوجب علينا كذا ولا يسقط عنه الوجوب لما قاله السائل ومن لم يقل إن الأمر على الوجوب يلزمه ذلك أيضا لأن الظاهر من الصحابي أنه لم يقل ذلك إلا مع زول الإشكال والخلاف وذلك يقتضي أن يكون قد سمع من النبي صلى الله عليه و سلم لفظة الوجوب أو اضطر إلى ذلك من قصده
إن قيل أليس قد قال النبي صلى الله عليه و سلم من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها وعني بذلك سنة غيره قلنا لسنا نمنع من ذلك مع التقييد وإنما نمنع من أن يفهم من إطلاق السنة سنة غير النبي صلى الله عليه و سلم
وأما قول الصحابي عن النبي صلى الله عليه و سلم فقد قال قوم إنه يحتمل أن يكون أخبره غيره عن النبي صلى الله عليه و سلم ولم يسمعه منه وقال قوم الظاهر أنه سمعه منه وهكذا ذكر قاضي القضاة في الشرح
فأما إذا قال الصحابي كنا نفعل كذا وكذا فالظاهر منه أنه قصد أن يعلمنا بهذا الكلام حكما ويفيدنا شرعا ولا يكون كذلك إلا وقد كانوا يفعلونه على عهد النبي صلى الله عليه و سلم على وجه يظهر له فلا ينكره ولهذا كان الظاهر من قول الراوي كانوا يفعلون كذا وكذا أن جماعة الامة كانوا يفعلون ذلك أو يفعل البعض فلا ينكر أو يفعل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فيعلم به ولا ينكره وذلك كقول عائشة رضي الله عنها كانوا لا يقطعون اليد في الشيء التافه
فأما إذا قال الصحابي قولا لا مجال للاجتهاد فيه فحسن الظن به يقتضي أن يكون قاله عن طريق فاذا لم يكن الاجتهاد فليس إلا أنه سمعه عن النبي صلى الله عليه و سلم


باب في مذهب الراوي إذا كان بخلاف روايته ما المعقول منه وهل يختص به روايته أم لا
حكي عن بعض أصحاب أبي حنيفة وغيرهم أن الراوي للحديث العام إذا خصه أو تأوله وجب المصير إلى تأويله وتخصيصه لأن بمشاهدته النبي صلى الله عليه و سلم أعرف بمقاصده ولذلك حملوا رواية أبي هريرة في غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا على الندب لأن أبا هريرة كان يقتصر على الثلاث وقال أبو الحسن المصير إلى ظاهر الخبر أولى ومنهم من جعل التمسك بظاهر الخبر أولى من تأويل الراوي إذا كان تأويله بخلاف ظاهر الخبر قال فان كان تأويله هو أحد محتملي الظاهر حملت الرواية عليه وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه حمل ما رواه ابن عمر من حديث الافتراق على افتراق الأبدان لأنه مذهب ابن عمر رضي الله عنه وقال قاضي القضاة إن لم يكن لمذهب الراوي وتأويله وجه إلا أنه علم قصد النبي صلى الله عليه و سلم إلى ذلك التأويل ضرورة وجب المصير إلى تأويله وإن لم يعلم ذلك بل جوز أن يكون صار إلى ذلك التأويل لنص أو قياس وجب النظر في ذلك الوجه فان اقتضى ذلك ما ذهب إليه الراوي وجب المصير إليه وإلا لم يصر إليه وهذا صحيح وكذلك إذا علم انه صار إلى ذلك التأويل لنص جلي لا مساغ للاجتهاد في خلافه وتأويله فأنه يلزم المصير إلى تأويله كما لو صرح بالرواية عن النبي صلى الله عليه و سلم لذلك التأويل قال قاضي القضاة فان كان الخبر الذي رواه مجملا وبينه الراوي فان بيانه اولى
ودليل الشيخ ابي الحسن رحمه الله هو أن مذهب الراوي ليس بحجة وقول النبي عليه السلام حجة فلم يجز العدول عنه إلى ما ليس بحجة ودليلنا أن نخص العموم لتخصيص النبي عليه السلام وإنما نستدل بمذهب الراوي على تخصيص النبي صلى الله عليه و سلم له ويجري مذهبهم مجرى روايتهم عن النبي صلى الله عليه و سلم ووجه الاستدلال بذلك هو انه إذا لم يكن فيما يعرفه من النصوص ووجوه الاجتهاد ما يقتضي

ذلك التخصيص فلا يخلو الراوي إما أن يكون قال ما قال لشهوة أو لأنه اضطر إلى قصد النبي صلى الله عليه و سلم إلى التخصيص أو لأنه سمع من النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك نصا جليا لا يسوغ الاجتهاد في خلافه او سمع نصا محتملا والظاهر من دينه يمنع من تخصيص العموم بالتشهي ويمنع من أن لا ينقل الحديث المحتمل لأنه لا يأمن أن يكون اجتهاد غيره فيه خلاف اجتهاده فيثبت القسمان الآخران وأيهما كان وجب التخصيص كما لو أظهر الرواية بذلك
فان قيل لم لم ينقل قصد النبي صلى الله عليه و سلم أو النص الجلي قيل لأن تخصيصه العموم مع دينه يجري مجرى نقله النص من الوجه الذي ذكرناه فان قيل أفما تجوزون أن يكون قد وهم فظن من قصد النبي صلى الله عليه و سلم ما لا أصل له وتوهم أنه عالم بذلك قيل الظاهر من دينه أنه ما خص العموم إلا وقد اضطر إلى قصد النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك كما أن الظاهر من رواية الضابط المتيقظ أنه لم يخطيء سمعه وإن جاز خلاف ذلك بأن يتوهم خلاف ما قاله النبي صلى الله عليه و سلم
باب في الاخبار المعارضة اعلم أن الخبرين المتعارضين إما أن يكونا معلومين أو غير معلومين أو أحدهما معلوم والآخر غير معلوم فان كانا معلومين فإما ان يكونا خاصين او عامين او أحدهما خاص والآخر عام فان كانا عامين فاما أن يكونا عامين من كل وجه أو كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه فان كان احدهما عاما والآخر خاصا قضي بالخاص على العام وإن كانا خاصين على الإطلاق أو عامين على الإطلاق وعرف التأريخ فيهما قضينا بنسخ المتأخر منهما للمتقدم فان لم يعرف التأريخ فيهما فإن أمكن التخيير فيهما فعل ذلك وإن لم يمكن التخيير فيهما أو أمكن ذلك لكن الأمة منعت منه حكمنا بان التعبد فيهما بالنسخ عند من عرف التأريخ وأن التعبد علينا هو بالرجوع إلى

مقتضى العقل لأنه ليس أحدهما أولى من الآخر ولا يجوز ترجيح أحدهما على الآخر بما يرجع إلى إسناده لأن الترجيح بذلك يقتضي قوة الظن لثبوت احدهما وليس واحد منهما مظنونا فيقوى ظننا له ويجوز ان يقال إن التعبد علينا بأحدهما يقوي بما يرجع إلى صفة الحكم نحو الحظر والوجوب لأن ذلك ليس يقتضي قوة الظن لثبوت الخبر وإنما يقتضي التعبد والتعبد عند التعارض قد يدخل الظن في شرائطه وإن كان كل واحد منهما خاصا من وجه عاما من وجه فليس تخصيص أحدهما بالآخر أولى من العكس فيجوز أن يرجح كون أحدهما مخصصا للآخر بما يرجع إلى الحكم من كونه محظورا أو غير ذلك ومثال ذلك من القرآن قوله تعالى وان تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف وقوله وأحل لكم ما وراء ذلكم وإن كان أحد الخبرين معلوما والآخر مظنونا وكان أحدهما خاصا فانه يقع التخصيص به معلوما كان الخاص أو مظنونا وإن لم يكن أحدهما خاصا حكم بالمعلوم لأنه لا يجوز إطراحه إلى المظنون وإن كانا مظنونين قضي بالخاص منهما إن كان فيهما خاص وإن لم يكن رجح أحدهما على الآخر وعمل على الأرجح
ويقال أيضا في قسمة الأخبار المتعارضة أن الخبرين إذا تعارضا فإما أن يمكن الجمع بينهما او لا يمكن فان أمكن فإما ان يمكن الجمع بينهما في وقت واحد أو في وقتين أما في وقت واحد فبأن يحمل أحدهما لمكان الآخر على مجاز إما بالتخصيص وإما بغيره وأما في وقتين فبأن يعلم تقدم أحدهما بعينه على الآخر فيكون منسوخا بما تاخر عنه وأما ما لا يمكن الجمع بينهما فإما أن لا يمكن لأنفسهما أو لأمر اقتران بهما فما لا يمكن لأمر اقترن بهما فهو أن يمكن تاويل أحدهما بالآخر لكن الأمة منعت من ذلك كرواية ابن عباس رضي الله عنه لا ربا إلا في النسيئة يمكن تخصيصه في الجنسين المختلفين بخبر أبي سعيد لكن السلف على قولين أكثرهم تركه وصار إلى رواية أبي

سعيد والأقل أخذ به وأما الذي لا يمكن ذلك فيه لأنفسهما فله شروط
منها أن يكون حكم أحدهما نفيا لحم الآخر أو حكم أحدهما ضدا لحكم الآخر
ومنها أن يتعلق كل واحد منهما بما تعلق به الآخر على الحد الذي تعلق به الآخر في الوقت الذي تعلق به الآخر ولا يكون أحدهما خاصا والآخر عاما بل يكونان خاصين أو عامين أو كل واحد منهما خاصا من وجه عاما من وجه فلا يكون أحدهما بأن يكون مخصوصا بالآخر بأولى من العكس
ومنها أن لا يعلم تقدم أحدهما على الآخر ومتى تعارضا هذا التعارض رجح بينهما وعمل على الترجيح وإن تساويا في الترجيح فسنذكر حكمه إن شاء الله
إن قيل كيف يثبت التنافي في الأخبار وليس في الألفلظ إلا ما يمكن تأويله على موافقة غيره قيل قد يكون في الألفاظ ما لا يمكن ذلك فيه إلا بالتعسف الشديد في التأويل ومثل ذلك لا يوجد في كلام حكيم
باب فيما يترجح به أحد الخبرين على الآخر اعلم أن الخبر يرجح على الخبر بما يرجع إلى سنده وبما يرجع إلى متنه والراجع إلى سنده ضربان أحدهما كثرة الرواة والآخر أحوالهم وكثرة الرواة ضربان أحدهما تكون الكثرة مسماة والآخر لا تكون مسماة فالأول أن يروي أحد الخبرين صحابي مذكور والآخر يرويه صحابيان مذكوران والثاني أن يروي كل واحد من الخبرين صحابي مذكور ويروي أيضا أحدهما تابعي ثقة عن النبي صلى الله عليه و سلم والمعلوم أنه ما أخذ العلم ذلك عن الصحابي المذكور الذي رواه ولا عمن أخذ العلم عنه فيعلم أنه قد رواه صحابي آخر

وأما الترجيح بأحوال الرواة فانه يقع بقوة الأحوال المراعاة في قبول الخبر وهي ضربان أحدهما الدين والورع والتحري والآخر العلم والبصيرة بما يرويه أما الأول فبأن يكون راوي أحد الخبرين أشد تحريا وأكثر ورعا وأما الثاني فضربان أحدهما أن تكون قوة علم الراوي وشدة بصيرته لا تختص بذلك الخبر وما يتعلق به والآخر يختص بذلك الخبر وما يتعلق به أما الأول فبأن يكون أحدهما أضبط وقد يكون أضبط لأنه أشد تيقظا وأوفر عقلا وأغزر فقها وقد يستدل على أنه أضبط بكونه أكثر اشتغالا بالحديث وأشد انقطاعا إليه بقلة ما يقع في حديثه إليه من الخلل في المعنى واللفظ وأما ما يختص الخبر وما يتعلق به فراجع إلى قوة طريق الراوي نحو أن يروي زيد أنه شاهد عمرا ببغداد في اليوم الفلاني في وقت السحر ويروي الآخر أنه شاهده في ذلك اليوم بالبصرة الظهر فان طريق هذا أظهر ودخول اللبس على الراوي والآخر أكثر ونحو أن يرسل أحدهما الحديث ويسنده الآخر على قول بعضهم لأن الثقة لا يرسل الحديث فيقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا وقد اشتدت ثقته بقول النبي صلى الله عليه و سلم لذلك ونحو أن يكون أحد الراويين أشد ملابسة بما رواه فيكون طريقه إليه أظهر فكذلك رجعت الصحابة إلى أزواج النبي صلى الله عليه و سلم في أحكام الجنابة ورجح الشافعي رواية أبي رافع في تزويج ميمونة على رواية ابن عباس لأنا أبا رافع السفير في ذلك فكان أعرف بالقصة ونحن نذكر الآن الأدلة على ذلك إن شاء الله
أما كثرة الرواة فقد رجح بها الشافعي والشيخ أبو الحسن ولم يرجح بها قوم والدليل على الترجيح به أن أحد الخبرين إنما يرتجح على صاحبه بقوة يتميز بها وكثرة العدد قوة أما اعتبار القوة في الأخبار فقد رجع إليه القائلون بأخبار الآحاد وأجمعوا على الاحتياط في الإخبار وأما أن كثرة الرواة تحصل بها قوة الخبر فلأن الرواة إذا بلغوا حدا من الكثرة وقع العلم بخبرهم فكلما قاربوا تلك الكثرة قوي الظن لصدقهم ولأن السهو والغلط مع الكثرة أقل وكذلك الكذب لأن الإنسان يستحي أن يطلع غيره على كذبه ولا يستحي إذا

لم يشعر به غيره
وقاس المخالف الخبر على الشهادة بعلة أن كل واحد منهما خبر عما يتعلق به حكم فلم يترجح بكثرة المخبرين الجواب إن قاضي القضاة رحمه الله حكى في الدرس أن مالكا رحمه الله رجح إحدى الشهادتين بكثرة الشهود وغيره لم يرجحها بالكثرة قال لأن الشهادة أصل في نفسه ألا ترى أنه اعتبر فيها لفظ مخصوص وليس يجب إذا لم يجز الشهادة على موجب القياس في ذلك من الترجيح بقوة الظن أن لا يجري الخبر على ذلك لأن الأصل هو الترجيح بقوة الظن إذ الظن القوي مع ظن أضعف منه كالعلم مع الظن لأن في كل واحد منهما زيادة ليست في الآخر فاذا كان الأصل ثبوت الترجيح بذلك فما خرج عن هذا الأصل لا يجوز قياس ما عداه عليه بل يجب تبقيه ما عداه على حكم الأصل وقاس المخالف أيضا الخبر على الفتوى في أنه لا يترجح إحدى الفتويين على الأخرى بكثرة المفتين والجواب ما ذكرناه من أن خروج البعض من هذه المسائل عن موجب القياس لا يقتضي خروج البعض الآخر منه وقال قاضي القضاة في الشرح إنه لو رجح إحدى الفتويين بكثرة المفتين جاز
وأما الترجيح بزيادة الورع والتحري فانما وجب لأن الكذب والتساهل معها أبعد فالظن لصدق الراوي أقوى والخطأ مع قوة الضبط أبعد فالظن لصدق الخبر معه يكون أقوى والخطأ مع كون الراوي أفقه ابعد إذا كان يروي على المعنى فأما رواية اللفظ فانه يستوي فيه الفقيه وغيره والغلط مع الأشياء التي لا تلتبس الحال فيها أبعد وكون أحد الراويين أشد ملابسة لما ورد الخبر فيه يبعد معه الالتباس والاشتباه
وأما ترجيح المرسل على المسند فلم يذهب إليه أكثر الناس وذهب عيسى ابن ابان إلى الترجيح به لأن الثقة لا يرسل الحديث ويقول قال النبي صلى الله عليه و سلم إلا وقد وثق أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله قال قاضي القضاة هذا الكلام يتوجه إذا قال الراوي قال النبي فأما إذا قال عن النبي فانه لا يتوجه إليه هذا

الكلام وأيضا فان قول الراوي قال النبي عليه السلام يحسن معه الظن لكونه قائلا لذلك كما يحسن مع العلم فمن اين أنه لم يقل قال النبي إلا وظنه آكد من الظن الحاصل برواية المسند المعارض له فان قال المرسل للحديث إذا أرسلت فقد حدثت عن جماعة من الثقات فحينئذ يكون مرسله اقوى ممن أسند حديثه إلى واحد لأجل الكثرة
وقد رجح قوم الخبر بكون الراوي من أكابر السلف وكونه أقدم هجرة وهذا إنما يقع به الترجيح من حيث كان من هذه سبيله أعرف بأحوال النبي عليه السلام واشد خبرة به ورجح قوم الخبر بالحرية والذكورية أما الحرية فلا تأثير لها في قوة الظن وأما الذكورية فان كان الضبط معها أشد وقع بها الترجيح وكل ذلك قد دخل فيما تقدم
وأما الترجيح بما يرجع إلى متن الخبر فضربان أحدهما راجع إلى لفظ الخبر والآخر لا يرجع إلى لفظه اما الراجع إلى لفظه فبأن يكون في أحدهما اختلال في اللفظ أو في المعنى والآخر سليما من ذلك فيقوى الظن لبعده عن الخطأ والسهو فان قيل فما كان اضطراب لفظه بغير المعنى ينبغي أن لا يقبل فلا معنى للترجيح عليه قيل قد يقبل إذا أمكن تأويل ذلك الاضطراب على بعض الوجوه وأما ما لا يرجع إلى اللفظ فضربان أحدهما صفة حكمه والآخر طريق يشهد بحكمه فأما ما يشد بالحكم فضربان أحدهما يكفي نفسه في ثبوت الحكم والآخر لا يكفي وما يكفي نفسه في ذلك ضربان احدهما دليل والآخر أمارة فالدليل هو الكتاب والسنة المقطوع بها لأنه إذا وقع الترجيح بما لا يكفي نفسه في ثبوت الحكم فالترجيح بما لا يكفي نفسه أولى وهذا مفروض في كتاب يدل على الحكم على ضرب من الاشتباه ويكون خبر الواحد تدل عليه دلالة ظاهرة فحينئذ يرجح بالكتاب وإلا فإن دل الكتاب دلالة ظاهرة فلا معنى لأن يقع الترجيح به بل هو الأصل في الدلالة وعلى هذا قد يعضد الإجماع الخبر فيرجح به وإن انعقد الإجماع عن غيره ومن ذلك أن

يكون من عمل بأحد الخبرين قد عمل بالآخر وإن لم يعلم أي عمليه هو المتأخر فيكون الخبر الذي عمل به الفريقان أولى قال قاضي القضاة لأنا إذا لم نعلم أي العملين هو المتأخر كان إجماعا وليس لنا أن ندفعه بالمحتمل
ولقائل أن يقول سواء كان العمل بذلك الخبر متقدما أو متأخرا فانه يكون إجماعا لأنه إن كان متقدما فقد وافقوا رواية الخبر الآخر وكذلك إن كان متأخرا لأن رواة الخبر الآخر عاملون به على كل حال
وأما الأمارة المرجحة للخبر فقياس الأصول إذا شهد بما دل عليه الخبر
فأما ما لا يكفي في ثبوت الحكم فضربان
أحدهما أن يوافق أحد الخبرين حكم العقل الذي يجوز الانتقال عنه وذلك أن العقل ليس يكفي في قبح المضرة إلا بشرط أن لا يوجد دليل شرعي يدل على أن فيه مصلحة ومنفعة موفية فان وافق حكم العقل أحد الخبرين لم يرجح بذلك على الخبر الآخر فلذلك أخرنا الكلام في هذا القسم
والضرب الآخر أن يعمل أكثر السلف بأحد الخبرين ويعيبوا على من خالفه كخبر الربا وقد رجح بذلك عيس بن أبان لأن الأغلب أن الصواب يكون مع الأكثر ويمنع منه قاضي القضاة لأن عمل الأكثر ليس بحجة ويجوز الغلط عليهم كجوازه على الأقل
وأما الترجيح بصفة حكم الخبر فوجوه
منها أن يكون جكم أحد الخبرين مطابقا للأصل ويكون الآخر ناقلا عن الأصل نفيا كان أو إثباتا
ومنها أن يكون لأحد الخبرين حكم باق باتفاق وليس كذلك للخبر الآخر

ومنها أن يكون حكم أحدهما أحوط
ومنها أن يكون آكد
ومنها أن يكون حكم أحدهما قد ندبنا إلى إسقاطه
أما إذا كان حكم احدهما هو الأصل فضربان أحدهما أن يكون الأصل من حال المروي عنه والآخر أن يكون هو الأصل في العقل
فالأول نحو ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يصل في الكعبة وأنه لم يقبل وهو صائم وأنه تزوج ميمونة وهو حلال لأن الأصل هو عدم الصلاة في الكعبة وعدم القبلة وعدم التزويج فالخبر المروي أنه صلى في الكعبة أولى لأن ثقة من روى أنه صلى فيها تقتضي أن تحمل رواية من روى أنه لم يصل فيها على حسب اعتقاده وأنه خفي عليه بعض احوال النبي صلى الله عليه و سلم وأما رواية أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقبلها وهو صائم فانما هي رواية عن حالها معه لا تعارض رواية عائشة أنه قبلها وهو صائم فلا يمنع من الأخذ بها وعدالة راوي تزويج النبي صلى الله عليه و سلم ميمونة وهو حرام تقتضي أن ينسب راوي تزويجه إياها وهو حلال إلى أنه استدام الأصل فكانت أولى من هذه الرواية
والضرب الثاني كرواية من روى حكما يقتضيه العقل نحو إسقاط عبادة ويروي الآخر التعبد بها فرواية الإثبات أولى لأن الظاهر ان النبي صلى الله عليه و سلم إنما يعلمنا ما لا نعلمه من دونه وهذا الظاهر مطابق لرواية من روى الحكم الشرعي فكانت أولى ولأن الظاهر مما يطابق حكم العقل أنه هو الأصل المتقدم والرواية الأخرى متأخره فكانت أشبه بالناسخ والأخذ بالناسخ أولى والوجه الأول أقوى
إن قيل هلا عملتم بما يوافق أصل العقل لأنه قد عضده دليل وليس كذلك الحكم الناقل قيل إن العقل إنما لا يوجب العبادة بشرط أن لا ينقل

شرع فاذا روى شرع ناقل صار كأن العقل ما اقتضى نفي تلك العبادة لأن شرط اقتضائه لنفيها قد زال والترجيح واقع بهذا القبيل وإن كان الخبران معلومين إذا احتججنا بما ذكرناه أخيرا من أن الخبر الناقل كالناسخ لأن الناسخ يقدم على المنسوخ وإن كانا معلومين وذكر قاضي القضاة رحمه الله أن الخبرين إذا كان أحدهما نفيا والآخر إثباتا وكانا شرعيين فانهما سواء
ولقائل أن يقول لا بد أن يكون أحدهما مطابقا لحكم العقل لأنه لا فعل من الأفعال إلا وله في العقل حكم إما القبح أو الحسن أو ما زاد على الحسن وليس يكون أحد الخبرين نفيا والآخر إثباتا إلا والنفي منهما نفي لواحد من هذه الأحكام والإثبات منهما إثبات لبعضها فإذن أحد هذين الخبرين واجب أن يكون مطابقا لحكم العقل
وقد مثل قاضي القضاة ذلك بما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى في الكعبة وما روي أنه لم يصل فيها وبما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قبلها وهو صائم وما روت أم سلمة أنه ما كان يقبلها وهو صائم وليس هذا بمثال المسألة لأن القبلة ونفيها والصلاة ونفيها هي أفعال وليست بأحكام فيقال إنها عقلية او شرعية وإنما الأحكام جواز الصلاة ونفي جوازها والعقل لو تجرد لكان مطابقا لنفي جوازها وأنها غير مصلحة وكون القبلة غير مفسدة للصوم هو مقتضى العقل وكذلك تزويج النبي صلى الله عليه و سلم ميمونة وهو حلال أو حرام هو إيقاع فعل في أحوال وليس ذلك بحكم وإنما الحكم هو حسن ذلك مع الإحرام أو قبحه ومقتضى العقل هو حسنه فبان أن أحكام هذه الأفعال ليس يخلو أن تطابق العقل إما النفي منها وإما الإثبات فان مثل ذلك بأن يقتضي العقل قبح الفعل ويروي خبر في إباحته وخبر في وجوبه فيقال إن وجوبه وإباحته شرعيان والإباحة نفي الوجوب فالجواب إن ما تضمن الإباحة لا يتضمن نفي الوجوب فقط ولو تضمن ذلك كان قد تضمن حكما عقليا لأن القبح قد اقتضاه العقل والقبيح غير واجب فما اقتضى كونه غير واجب قد

طابق مقتضى العقل لكن ما تضمن الإباحة قد تضمن نفيا وإثباتا أما النفي فنفي الوجوب وأما الإثبات فهو كون الفعل حسنا وهو زيادة نفي الوجوب وهو حكم شرعي والخبر الدال على الوجوب أولى لأنه لا يعارض خبر الإباحة في اقتضائه نفي القبح لأن الواجب غير قبيح ولا يعارضه في اقتضائه الحسن لأن الواجب حسن وإنما يعارضه في نفي الإيجاب وهذا هو حكم العقل والإيجاب هو الحكم المنقول فكان أولى
فأما إذا كان أحد الخبرين يقتضي إثبات حد والآخر يقتضي نفيه فقوم رجحوا الخبر المسقط للحد لأن الحد يسقط بالشبه وبتعارض البينتين فوجب إسقاطه بتعارض الخبرين ويكون ذلك كالشبه في إسقاطه وقاضي القضاة يقول هما سواء لأن الحد إنما يسقط عن الأعيان بالشبه فأما إثباته في الجملة في الشريعة فمفارق لإثباته وإسقاطه في أعيان الأشخاص ولقائل أن يقول إن تعارض البينتين في الحد إذا كان شبهه في إسقاطه الأعيان مع ثبوته في أصل الشريعة فبأن يجب إسقاطه في الجملة إذا تعارض خبران ولم يقدم له حالة ثبوت أولى
وأما إذا تضمن أحد الخبرين الحرية وتضمن الآخر الرق فذكر قاضي القضاة في الشرح أنهما سيان وقال غيره المثبت للحرية أولى لأن الحرية لا يعترضها من الأسباب المبطلة لها ما يعترض الرق ولا يبطل الحرية بعد ثبوتها كما يبطل الرق بعد ثبوته فكانت الحرية آكد
فأما إذا اقتضى أحد الخبرين الحظر واقتضى الآخر الإباحة فان أحدهما لا بد من كونه مطابقا لمقتضى العقل فيكون الناقل عنه أولى ولكن لا يمتنع أن ينظر هل للحظر وجه ترجيح كما أن النقل عن أصل العقل وجه ترجيح فان قيل قد يكون الحظر والإباحة شرعيين إذا كان حكم العقل الوجوب قيل ليس كذلك لأن الخبر الحاظر هو الناقل عن موجب العقل الذي هو الوجوب والخبر المبيح لا يعارض حكم العقل من حيث اقتضى الحسن وإنما يعارضه من

حيث ينفي الوجوب ولا معارضة بينه وبين الخبر الحاظر من هذه الجهة والقول في الحظر هل هو وجه ترجيح يجري هكذا لا يخلوا الخبران اللذان أحدهما حاظر والآخر مبيح إما أن يكون لأحدهما حكم باق أو لا يكون لأحدهما حكم باق فان كان له ذلك فإما أن يكون ذلك الحكم يعلم بقاؤه بذلك الخبر أو بغيره فان لم يعلم إلا بذلك الخبر نحو أن يكون حكما شرعيا أجمع المسلمون عليه لأجل ذلك الخبر فانه يدل ذلك على ثبوت الخبر وبقائه لأنه لو لم يكن كذلك لم يثبت حكمه وإن كان ذلك الحكم الباقي يعلم بغير ذلك الخبر لم يثبت حكمه وإن كان ذلك الحكم الباقي يعلم بغير ذلك الخبر فانه لا يدل على ثبوت الحكم وصحته فلا يكون ذلك الخبر أولى من غيره نحو ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن مس الذكر هل فيه وضوء فقال لا هل هو إلا بضعة منك فان كون الذكر بضعة من الإنسان وإن كان باقيا فليس بقاؤه لأجل هذا الخبر فيدل على بقاء الخبر فأما إن لم يكن لأحد الخبرين حكم باق فان الشيخ ابا الحسن قال الحاظر أولى وقال الشيخ ابو هاشم وعيسى ابن أبان رحمهما الله يطرحان ويرجع المجتهد إلى غيرهما من الأدلة الشرعية أو البقاء على حكم العقل ووجه قولهما هو أنا إذا علمنا تقدم أحد هذين الخبرين ولم يعلم ايهما هو المتقدم جاز كون كل واحد منهما هو المتأخر الذي يجب العمل به بدلا من صاحبه وليس يجوز استعمالهما لأنا فرضنا الكلام في خبرين متنافيين ولذلك احتجنا إلى الترجيح ولا يجوز العمل على أحدهما لأنه ليس العمل على أحدهما أولى من العمل على الآخر فلم يبق إلا إطراحهما وجريا مجرى عقدتي وليين على امرأة ولا يعلم تقدم أحدهما على الآخر فانهما تبطلان لأنه ليس أحدهما أولى من الآخر وجرى مجرى الغرقى في أنه إذا لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر بطل حكم الإرث بينهم
فان قيل فيجب أن لا يعملوا على حكم العقل لجواز أن يكون هو المفسدة قيل إنما يلزم ذلك بدليل شرعي ناقل ولا دليل في الشرع مع التعارض لأن التعارض والتمانع يصير الشرع كأنه لم يكن فينفرد حكم العقل

والجواب عن الشهبة هو أن قولهم إذا جاز أن يكون كل واحد من الخبرين هو المتأخر فلم يكن العمل بأحدهما أولى من الآخر هو نفس الخلاف لأن المخالف يقول بل العمل على الحاظر أولى وإن جوزنا تقدمه ولا يشبه ذلك عقدتي الوليين على المراة لأنه ليس أحد العقدين حاظرا والآخر مبيحا وكذلك الغرقى لما ترافع موتهم لأنه ليس فيهم جهة مختصة للحظر وجهة مختصة للاباحة
وقد نصر القول الأول بوجوه
منها أن الحظر أدخل في التعبد من الإباحة لأنه أشق فكان أولى والجواب إن الفعل قد يتعبدنا الله بحظره وقد يتعبدنا الله باعتقاد إباحته وقد يرد الشرع باباحته ما لم يكن في الفعل مباحا كما يرد بحظر ما لم يكن محظورا فليس أحدهما أدخل في التعبد من الآخر
ومنها أنه إذا تعارض خبرا حظر وإباحة فقد حصلت جهة حظر وجهة إباحة وهاتان الجهتان متى اجتمعتا كان الحظر أولى ألا ترى أن الأمة بين شريكين لما اجتمع فيها ملك هذا الشريك فهو مبيح له الوطيء وملك الآخر وهو حاظر كان الحظر أولى الجواب إن ملك أحد الشريكين لبعض الأمة ليس بجهة مبيحة للوطيء با الجهة المبيحة للوطيء ملك جميعها فلم يحصل في هذه الأمة جهتان إحداهما لو انفردت أباحت والأخرى لو انفردت حظرت والخبران كل واحد منهما لو انفرد لثبت حكمه
ومنها لو غرق جماعة من الأقارب وخفي علينا تقدم بعضهم على بعض جعلناهم كأنهم غرقوا معا ولم نؤرث بعضهم من بعض وغلبنا حظر التوارث بينهم الجواب إن ذلك حجة لمخالفهم لأنهم قد نزلوا منزلة من لم يموتوا وفرق بينهما قاضي القضاة بأن الغرقى يجوز أن يكونوا غرقوا معا فجاز أن نجريهم هذا المجرى أما الخبر الحاظر والمبيح فلا يجوز كونهما واردين معا فلم

يصح تقديرهما هذا التقدير
ومنها أن العمل على الحظر أحوط لأنه إن كان الفعل محظورا فقد تجنبه المكلف وإن كان مباحا لم يضره تركه وليس كذلك إذا استباحه وفعله لأنه لا يمتنع أن يكون محظورا فيكون بفعله له فاعلا لمحظور
إن قيل وهو معذر إذا عمله على الحظر لأنه قد اعتقد قبحه ولا يأمن كونه مسنا فيكون مقدما على اعتقاد لا يأمن كونه جهلا فالجواب إن الفعل إذا كان محظورا فاستباحه الإنسان كان بفعله وباعتقاد إباحته مقدما على قبيحين وإذا كان مباحا فتجنبه معتقدا لحظره كان مقبحا باعتقاد حظره فصار التعزير في ذلك أكثر وكان العدول إلى تجنبه أولى لأنه ليس الغرض إلا الترجيح بوجه له ضرب من القوة وأيضا فانه إذا ثبت أن تجنب الفعل أولى من الإقدام عليه وهو الذي تعارض فيه الخبران قطعنا على أن اعتقاد تجنبه وحظره ليس بجهل ولا قبيح ولا نكون مقدمين على اعتقاد لا يؤمن كونه جهلا فهذا الوجه أولى في الاحتجاج من كل ما سلف
فان قيل أليس إذا تعارضت البينتان في الملك لم تسقطا وعملا عليهما فهلا وجب مثله في الخبرين قيل أحد لم يقل في الخبرين المتنافيين كذلك فان قيل فهلا اطرحتم البينتين جميعا كما اطرحتم الخبرين قيل لأنه يمكن العمل عليهما بأن يجعل الدار ملكا بين المتداعيين وأجاب قاضي القضاة بأن البينتين يجوز صدقهما بأن يشهد كل واحد منهما بما شهد به لمكان اليد والتصرف ويجوز أن يكون المتداعيان متصرفين في الملك فيثبت لكل واحد منهما الملك بحكم اليد وليس يجوز ورود الإباحة والحظر معا فينقلا معا


الكلام في القياس والاجتهاد فصل في ذكر أبواب القياس
اعلم أن الغرض بالكلام في القياس أن نبين أنه متعبد به ونبين شروطه والكلام في ورود التعبد به ينبغي أن يتقدمه جواز التعبد به وكلا الأمرين يبتنى على الكلام في ماهية القياس ولما كان القياس الشرعي أمارة وجب أن نبين أول ما الأمارات وما أقسامها ثم نذكر ما القياس وما يتصل به ثم نذكر جواز التعبد به ونفي جواز ذلك وذلك يتضمن أبوابا منها جواز التعبد به في الجملة ومنها جواز تعبد النبي صلى الله عليه و سلم به ومنها جواز تعبد من عاصره به ومنها أنه لا يجوز التعبد به في جميع الشرعيات وأما ورود التعبد فيتضمن أيضا أبوابا منها ورود التعبد به في الجملة ومنها هل النص على علة الحكم يكفي في التعبد بالقياس أم لا ومنها هل يفقتر التعبد بالقياس إلى أن ينص لنا على الأصل المقيس عليه وإلى إجماع الامة على تعليل الأصل أم لا ومنها هل تعبد النبي عليه السلام بالقياس ومنها هل تعبد به من عاصره ومنها هل يوصف القياس المتعبد به بأنه دين ومأمور به وبعد ذلك نتكلم في شروط القياس وذلك يشتمل على أبواب سنذكرها إن شاء الله
باب في الأمارات وأحكامها اعلم أن الأمارة هي التي النظر الصحيح فيها يؤدي إلى الظن وبذلك نتميز من الدلالة والمتكلمون يسمون كل ما هذه سبيله أمارة عقليا كان أو

شرعيا والفقهاء يسمون الأمارات الشرعية كالقياس وخبر الواحد أدلة ولا يسمون الأمارات العقلية أدلة كالأمارة على القبلة وعلى قيم المتلفات والكلام في ذلك كلام في عبارة لا طائل في الإكثار منه
وأما قسمة الأمارات فقد ذكر فيها عدة وجوه منها المحكى عن الشيخ أبي الحسن رحمه الله وهي أن أدلة الشرع التي ليست بنص ولا ظاهر منها ما يسمى قياسا ومنها ما يسمى دليلا على صحة العلة ومنها ما يسمى دليلا على موضع الحكم ومنها ما يسمى دليلا على المراد بالعبارة المشتركة هذا ما له اصل معين فأما ما لا أصل له معين فنحو ما يتوصل به إلى قيم المتلفات وليس يعني بالأصل ها هنا ما يقع الرد إليه لأن كثيرا من هذه الأقسام لا يقع الرد إليه وإنما أراد بالأصل ها هنا طريقة يشار إليها
ونحن نقسم ما ذكره فنقول ادلة الشرع إما ظاهر ونص وإما غير ظاهر وغير نص وما ليس بظاهر منه ما لا يحصل فيه طريقة معينة مثل ما يتوصل به إلى قيم المتلفات ومنه ما له طريقة معينة يشار إليها ولما كان كل دليل فله مدلول وجب فيما له طريقة معينة أن يدل على مدلول ولا يخلو مدلوله إما أن يكون حكما وإما دليلا على حكم فما يدل على حكم مما له طريقة يشار إليها فهو القياس وما يدل على دليل حكم فمنه ما يدل على علة حكم لأن علة الحكم دليل على الحكم وذلك نحو ما كان يستدل به على أن الكيل أولى من الطعم في كونه علة الربا ومنه ما يدل على مراد الله سبحانه بخطابه المشترك نحو ما يدل على أن المراد بآية الأقراء الحيض ومنه ما يدل على أن الله سبحانه أراد بالكفارة المعلقة بالجماع في الصوم هو أن يعلقها بهتك صوم شهر رمضان مع ضرب من المأثم وهذا هو الاستدلال على موضع الحكم
قال قاضي القضاة كان ينبغي أن يذكر فيها الاستحسان وأجاب عن

ذلك بأن الاستحسان إما أن يكون عدولا إلى قياس أولى من قياس فقد ذكر الشيخ أبو الحسن القياس في جملة أقسامه وإما أن يكون عدولا إلى نص وليس غرضه قسمة النصوص فيدخله في جملته وقال أيضا كان ينبغي أن يذكر ما يحتج به أصحاب أبي حنيفة من قولهم إن العبادة إذا لم تفسد لعدم صفة من صفاتها فبأن لا تفسد بوقوع تلك الصفة على وجه الفساد أولى وللشيخ أبي الحسن أن يجيب على ذلك بأن هذا داخل في جملة القياس وذلك أن العبادة التي قد انتفت عنها الصفة والتي قد حصلت فيها الصفة على وجه الفساد قد اشتركا في أنهما لم يختصا بالصفة على وجه الصحة وقال أيضا كان ينبغي أن يذكر في ذلك استدلالهم على أن انكشاف ربع الساق في الصلاة يفسدها وهو قولهم إن انكشاف جميعه يفسدها لأن المواجه له يرى ربعه ولأبي الحسن ان يقول إن هذا داخل في جملة القياس لأني قد علمت أن العلة المفسدة للصلاة إذا انكشف جميعه هو إمكان رؤية ربعه وهذه العلة قائمة في انكشاف ربعه فالجمع بينهما قياس
وقسمة أخرى محكية عن الشافعي رحمه الله وهي أن أدلة الشرع مستنبطة وغير مستنبطة والتي ليست مستنبطة يدخل فيها خطاب الله عز و جل وخطاب رسوله وأفعاله وخطاب الامة وافعالها والمستنبطة ضربان احدهما تحقق فيه العلة والآخر لا تحقق فيه العلة أما الذي تحقق فيه العلة فضربان أحدهما لا يقوى شبه الفرع فيه إلا بأصل واحد ويسميه قياس علة وقياس معنى كرد العبد إلا الأمة في تنصيف الحد والآخر يقوي شبهة باصول مختلفة وأن يرجح شبهه بأحدهما نحو شبه العبد المتلف بالمملوكات وبالحر الذي ديته مقدرة ويسمى ذلك قياس غلبة الأشباه وما لا تحقق فيه العلة هو إيجابه على من هو خارج المصر حضور الجمعة ونحو اشتراك الأخ والجد في الميراث وهذا المثال خارج من هذا القسم لأن العلة فيه محققة وهو الإدلاء بالميت ويبعد أن يستدل على الأحكام بطريقة مستنبطة لا تحقق فيها العلة لأن العلة هي الطريق إلى الحكم فما لم تحقق لم يمكن التوصل إلى الحكم

وكان الشافعي يسمي القياس استدلالا لأنه فحص ونظر ويسمي الاستدلال قياسا لوجود التعليل فيه
وقسم قاضي القضاة رحمه الله في العمد الأمارات قسمة هذا معناها الأمارات التي ليست بأخبار آحاد إما أن يكون لها أصل يقع الرد إليه وهو القياس وإما أن لا يكون لها أصل يقع إليه الرد وهو ضربان
أحدهما لا يتلخص الامارة فيه كالأمارة التي يفصل بها بين العمل القليل والكثير في الصلاة إذ المرجع بذلك إلى ما يغلب في الظن من غير أمارة يمكن تعيينها ولا يمكن أن يجعل أمارة العمل القليل في الصلاة أن لا يغلب على ظن المشاهد لفاعله أنه ليس في الصلاة لأن من يشاهد غيره يقتل الحية والعقرب يظن أنه ليس في الصلاة ومع ذلك فهو من العمل القليل
والضرب الآخر يمكن تلخيص الأمارة فيه وهو ضربان أحدهما أمارة عقلية والآخر أمارة سمعية والأمارة العقلية هي التي لا يحتاج في كونها أمارة إلى سمع وهي ضربان احدهما الحكم المتعلق بها عقلي والآخر سمعي أما الأول فقيم المتلفات الحكم فيه عقلي وهو قدر القيمة والأمارة عقلية وهي اختبار عادات الناس في البيع ويمكن تلخيص الأمارة في ذلك لأن من قوم الثوب بعشرة دراهم لو قيل له لم قومته لقال إن عادة الناس أن يبيعوا مثله بعشرة دراهم
إن قيل هلا أوجبتم من جهة العقل إذا خرق زيد ثوب عمرو أن يخرق عمرو ثوب زيد قيل إن زيدا لو أمكنه أن لا يخرق ما خرقه من ثوب عمرو وجب عليه أن لا يخرقه ولم يوجد معنى لذلك فاذا لم يمكنه ذلك وجب عليه ما يجري هذا المجرى وهو سد الثلمة التي أحدثها بدفع المثل أو القيمة حتى يصير كأنه لم يحدث ما أحدث
فان قيل إنه إذا خرج من القيمة فقد نفى شفاء الغيظ قيل إن غيظ

المجني عليه يزول بخروج الجاني من القيمة أو المثل مع الاعتذار أو مع إلزام الحاكم إياه ذلك
وأجاب قاضي القضاة رحمه الله عن السؤال بأن زيدا إذا خرق ثوب من خرق ثوبه فقد أضر بنفسه حين لم يتعوض من ماله التالف بمال غيره والإضرار بالنفس من غير فائدة قبيح وسأل نفسه فقال هلا كانت الفائدة في ذلك التشفي فقال التشفي إنما يحسن تبعا لحسن تخريق ثوب الجاني فاذا لم يحسن ذلك لم يحسن التشفي ولقائل أن يقول إنما يقبح تخريق ثوب الجاني إذا بينتم أنه لا يحسن التشفي فقبحه تابع لبطلان كون التشفي وجها في حسنه بخلاف قولكم إن التشفي تابع لحسن التخريق
وأما الأمارة العقلية التي حكمها سمعي فنحو الأمارات العقلية التي يتوصل بها إلى جهة القبلة وحكمها السمعي وجوب التوجه في تلك الجهة وعلى التحقيق حكمها هو كون القبلة في تلك الجهة ووجوب التوجه إلى تلك الجهة هو تابع لحكمها إلا أن ذلك لا يخرج وجوب التوجه إلى تلك الجهة من أن يكون من أحكام هذه الأمارة على بعض الوجوه
وأما الأمارة السمعية فهي التي يفتقر في كونها أمارة إلى سمع ولا يخلو حكمها إما أن يكون سمعيا أو عقليا إلا أنه لا يجوز أن يكون حكمها عقليا لأن العقل أسبق من السمع وطريق الشيء لا يجوز أن يتأخر عنه وأما التي حكمها سمعي فنحو جعل المسجد أمارة فاصلة بين الحالة التي يجوز للامام إذا أحدث أن يستخلف فيها وبين الحالة التي لا يجوز له ذلك من حيث بني المسجد للصلاة الواحدة فكان كالصف الواحد فهذا الاعتبار بالشرع علم كونه أمارة والحكم المتعلق به سمعي وكذلك وجوب مصير أهل القرى إلى صلاة الجمعة إذا سمعو الأذان هو حكم سمعي وكون سماع الأذان أمارة لذلك معلوم بالسمع

فان قيل ولم قلتم إن ما لا يتلخص فيه طريقة معينة لا بد فيه من أمارة قيل لأن الله سبحانه كلفنا في ذلك الاجتهاد والنظر ولا بد من أن نجتهد في طريق إما دلالة وإما أمارة فإذا لم يكن دلالة فلا بد من أمارة وإن لم يتلخص العبارة عنها ولهذا يجد الإنسان في نفسه أمرا يتوصل به إلى الظن فان ما عمله في الصلاة عمل قليل وإن لم يتلخص العبارة عنه
واعلم أن الأمارة لا بد من أن يكون بينها وبين ما هي أمارة فيه تعلق لولا ذلك لم يكن بأن يكون أمارة عليه أولى من أن لا يكون أمارة عليه أو أمارة على غيره وذلك التعلق ضربان أحدهما أن تكون الأمارة كالمؤثرة في مدلولها على الأكثر والأغلب والآخر أن تكون لولا مدلولها لما كانت الأمارة على الأمر الأكثر ويكون مدلولها كالمؤثر فيها ويجوز حصول الأمارة على الندرة من دون مدلولها مثال الأول من العقليات الغيم الرطب في زمن الشتاء لأنه كالمؤثر في نزول المطر وهو أمارة عليه ومثاله أيضا دين الإنسان فانه مؤثر في تجنبه الكذب وهو أمارة عليه ومثاله في الشرعيات وجود علة الأصل في الفرع فانها أمارة لثبوت حكمه وهي طريقنا إلى ثبوت الحكم فيه إذا دل الدليل على وجوب القياس ومثال القسم الثاني من العقليات أن نعلم أن في بعض المنازل مريضا قد شفي ثم يسمع الصراخ من داره فذلك أمارة على موته وموته هو المؤثر في الصراخ ولولاه لم يكن الصراخ في الأكثر وإن جاز أن يكون سبب حدوثه غير موته ومثاله من الشرعيات ثبوت الحكم في الأصل مع وصف وانتفاؤه في الأصل عند انتفائه فذلك أمارة لكون ذلك الوصف علة للحكم في الأصل لأن حصول الحكم بحصول الوصف وانتفاؤه بانتفائه طريق إلى كون ذلك علة فاذا لم يكن دلالة فهو إذا أمارة على ذلك ولولا أن ذلك الوصف هو علة الحكم لم تحصل هذه الأمارة أعني ثبوت الحكم بثبوت الوصف وانتفاؤه بانتفائه وإذا ثبت أن ذلك الوصف هو علة الحكم في الأصل ثبت كونه أمارة على وجوب الحكم في الفرع وليس يمتنع كون الحكم على كيفية مخصوصة أمارة على أن بعض أوصاف الأصل هو علة حكمه

وتكون العلة أمارة على وجوب الحكم في الفرع
باب في القياس ما هو اختلف الناس في حد القياس فحده بعضهم بأنه استخراج الحق وهذا يلزم عليه أن يكون استخراج الحق بالاستدلال بالنصوص والظواهر قياسا ويلزم ذلك أيضا من حده بأنه استدلال وحده بعضهم بأنه التشبيه وهذا يلزم عليه أن يكون من قال إن الارز يشبه البر في الصلابة قائسا وأن يوصف الله سبحانه بانه قائس إذا شبه بين الشيئين وحده الشيخ أبو هاشم بأنه حمل الشيء على غيره وإجراء حكمه عليه فان أراد إجراء حكمه عليه لأجل الشبه فصحيح وكان يجب التصريح بذلك وإن لم يرد ذلك لم يصح لأن إثبات الحكم في الشيء من غير تشبيه بينه وبين غيره يكون مبتدأ ومن ابتدأ فأثبت في الشيء حكما لا يكون قائسا وإن اتفق أن يكون ذلك الحكم ثابتا في غيره وحده قاضي القضاة رحمه الله بأنه حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه لضرب من الشبه
وأبين من هذا أن يحد بأنه تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد وقد دخل في ذلك الجمع بين الشيئين في الإثبات وفي النفي وإنما قلنا الشبه عند المجتهد لأن المجتهد قد يظن أن بين الشيئين شبها وإن لم يكن بينهما شبه فيكون رده إليه قياسا وإنما حددنا القياس بما ذكرنا لأن المعقول من القياس أن يكون قياس شيء على شيء ألا ترى أن الإنسان إذا قال قست هذا الشيء قيل له على ماذا قسته ولو أثبت الإنسان حكم الشيء في غيره لا لشبه بينهما لكان مبتدئا بالحكم فيه غير مراع لحكم الأصل ولم يشرط اعتبار الشبه في الحد لأنه داخل في المعقول من القياس لا لأن القياس لا يصح من دونه

إن قيل أليس الفقهاء يسمون قياس العكس قياسا وليس هو تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم بل هو تحصيل نقيض حكم الأصل في الفرع لافتراقهما في علة الحكم مثاله قول القائل لو لم يكن الصوم من شرط الاعتكاف لما كان من شرطه وإن نذر أن يعتكف بالصوم كالصلاة لما لم تكن من شرط الاعتكاف لم تكن من شرطه وإن نذر أن يعتكف بالصلاة فالأصل هو الصلاة والحكم هو نفي كونها شرطا في الاعتكاف وليس يثبت هذا الحكم في الفرع الذي هو الصوم فإنما يثبت نقيضه ولم يجتمعا في العلة بل افترقا فيها لأن العلة التي لها لم تكن الصلاة شرطا في الاعتكاف هي كونها غير شرط فيه مع النذر وهذا المعنى غير موجود في الصوم لأنه شرط مع النذر الجواب انه إذا كان المعقول من القياس أن يكون قياس شيء على شيء ولا يكون قياسا عليه إلا وقد اعتبر حكمه ولا يكون القياس معتبرا بحكمه إلا وقد اعتبر الشبه بينهما إذا كان ذلك لا يتم في قياس العكس وجب تسميته قياسا مجازا من حيث كان الفرع معتبرا بغيره على بعض الوجوه فلا يجب إذن دخوله في الحد
ويجوز أن نحد القياس بحد يشتمل قياس الطرد والعكس فنقول القياس هو تحصيل الحكم في الشيء باعتبار تعليل غيره وهذا الحد يشتمل على كلا القياسين أما قياس الطرد فقد حصل الحكم في فرعه باعتبار تعليل الأصل وأما قياس العكس فانه قد اعتبر تعليل الأصل لنفي حكمه من الفرع لافتراقهما في العلة
وإذا حددنا القياس بذلك قسمناه إلى قياس الطرد والعكس وقياس الطرد هو ما ذكرناه أولا وقياس العكس هو تحصيل نقيض حكم الشيء في غيره لافتراقهما في علة الحكم
فأما حكم القياس الشرعي فهو المنقسم إلى كون الفعل قبيحا وحسنا ويكون فعله أولى من تركه أو يكون تركه أولى من فعله وكونه واجبا
وأما الأصل فقد ذكر قاضي القضاة أنه مستعمل في أربعة أشياء أحدها

الطريق إلى الشيء كالكتاب هو أصل الأحكام وأحدها الحكم المقيس عليه وهو أصل القياس واحدها الشيء الذي لا يصح العلم بغيره إلا مع العلم به كالموصوف والصفة وأحدها الحكم الذي لا يقاس عليه غيره كدخول الحمام بغير عوض مقدر فإنه يقال إن هذا أصل في نفسه ويمكن أن يقال إن قولنا أصل يستعمل على الحقيقة وعلى المجاز فالمستعمل على الحقيقة هو ما يتفرع عليه غيره ويستند إليه وهو ضربان أحدهما يتفرع عليه صحته كالعلم بصفة الشيء يتفرع على العلم بالشيء وقد يوصف الشيء أيضا بأنه أصل الصفة والضرب الآخر يتفرع عليه العلم بالشيء بأن يكون طريقا إليه وهو ضربان أحدهما يكون طريقا إليه بطريق التشبيه وهو أصل القياس والآخر بغير طريق التشبية وهو النصوص وغيرها وأما المسمى اصلا على المجاز فهو دخول الحمام باجرة غير مقدرة وإنما تجوزنا بتسميته ذلك اصلا لأنه أشبه الأصول المتقدم ذكرها من حيث لم يستفد حكمه من غيره
فاما أصل القياس فقد اختلف الناس فيه فقال المتكلمون الأصل الذي يقاس عليه الارز هو الخبر الدال على ثبوت الربا في البر وقال الفقهاء بل هو الشيء يثبت حكم القياس فيه بالنص كالبر أو يقول هو الشيء الذي يسبق العلم بحصول حكم القياس فيه وقال بعضهم بل هو حكم القياس من حيث هو ثابت بالنص نحو كون البر حراما والكلام في ذلك من وجهين أحدهما ما الذي يقع النظر فيه حتى يعلم حصول الحكم في الارز والآخر قولنا هل فائدة قولنا أصل ثابتة في كل واحد من هذه الأشياء أم لا وأنه أحرى أن يوصف بأنه أصل أما الكلام في الأول فهو أن القائس ينظر أي الأوصاف يؤثر في قبح بيع البر متفاضلا فنظره يتعلق بالحكم وبالعلة ثم ينظر هل العلة موجودة في الأرز أم لا فان كانت موجودة تبعها الحكم ولو علم قبح بيع البر متفاضلا ضرورة أمكنه قياس الارز عليه وإنما يحتج الارز إلى الاستدلال بالخبر على ثبوت الربا في البر لأنه ليس يعلم ذلك ضرورة ولا

بدليل عقل وهذه الجملة لا بد منها ولا خلاف فيها فان خالف فيها أحد فيما ذكرناه يفسد قوله والكلام في الوجه الثاني هو أن وصف الخبر الثاني على قبح بيع البر متفاضلا بأنه أصل لقبح بيع الأرز صحيح لأنه عليه يتفرع قبح بيع الارز متفاضلا من حيث كان الخبر دالا على ما إذا نظرنا فيه فعلمنا علة القبح أو ظنناها أثبتنا القبح في الارز وأما وصف البر بأنه أصل ففائدته أن العلم بحكمه بسبق العلم بحكم الارز وأن حكم الارز يتفرع على حكم البر والبر نفسه أصل لحكمه لأن الشيء اصل لصفته يبين أن حكم الارز يتفرع على حكم البر هو أنا إذا نظرنا في حكم البر وظننا علته أمكننا قياس الارز عليه فصار حكم الارز متفرعا على حكم البر من هذه الجهة وليس يلزم على هذا أن يوصف البر قبل الشرع بأنه اصل لأنه إنما كان اصلا إذا ثبت فيه الحكم الذي إذا نظرنا فيه وفي صفاته يوصلنا إلى حكم غيره ومعلوم أن الربا لم يكن ثابتا في البر قبل الشرع فلم يكن إذ ذاك اصلا وإذا كان لوصف البر بأنه أصل وجه صحيح لم نلم الفقهاء على الاصطلاح على وصف ذلك بأنه اصل فأما وصف حكم البر بأنه أصل لحكم الارز فله وجه صحيح ايضا لأن حكم الارز يتفرع على حكم البر من الوجه الذي ذكرناه
إن قيل ليس يخلو كون البر حراما إما أن يكون فعلنا أو اعتقادنا قبح بيع بعضه ببعض متفاضلا وإن كان هو فعلنا فكان ينبغي أن لا يصح القياس لو لم يوجد فعلنا لبيعه متفاضلا وإن كان هو اعتقادنا كون ذلك حراما فاعتقادنا لذلك ليس بحرام فيقاس عليه بيع الارز فإذن الأصل هو الخبر الجواب ان من جعل حكم البر هو الأصل يقول إن الحكم هو قبح بيعه متفاضلا وليس هو مجرد الفعل ولا اعتقادنا كما أنا نقيس الكذب الذي فيه نفع على الكذب العاري عن نفع ودفع ضرر ولا نقيسه على مجرد كونه فعلا ولا على علمنا بقبحه لأن علمنا ليس بقبح وليس قبحه معلوما بدليل فيقال إن القياس يقع على دليله وليس يقف صحة القياس على وجود بيع البر متفاضلا لانه لو لم يوجد ذلك أمكننا أن نقول لو وجد لكان قبيحا لأنه

مكيل جنس وهذا قائم في الارز فوجب قبح بيعه معه متفاضلا كما أنه لو لم يوجد كذب أمكننا أن نقول لو وجد الكذب العاري من دفع مضرة ونفع لكان قبيحا لأنه كذب وهذا حاصل في الكذب الذي فيه نفع على أن القائل إن كون بيع البر متفاضلا حراما إما أن يكون بيعنا له متفاضلا وإما أن يكون اعتقادنا كونه حراما قد جعل كونه حراما معتقدا لاعتقاد ومعتقد الاعتقاد غير الاعتقاد وهو أيضا أمر زائد على كون الفعل فعلا لأن كون الفعل حراما أمر زائد على كونه فعلا ولهذا كان اعتقاد أحدهما مفارقا لاعتقاد الآخر والفقهاء يقولون تحريم الفعل ويعنون بذلك كونه حراما فصح أن لكل واحد من الأقاويل المذكورة في معنى الأصل وجها صحيحا وإن كان الأول أن يكون الحكم هو الأصل
وأما الفرع في القياس فهو عند المتكلمين الحكم المطلوب إثباته بالتعليل كقبح بيع الارز متفاضلا لأنه هو المتفرع على غيره دون نفس الارز وعند الفقهاء ان الفرع هو الذي يطلب حكمه بالقياس وهو أيضا الذي يتعدى إليه حكم غيره أو الذي يتأخر العلم بحكمه كالارز وإنما سموا ذلك فرعا لأن حكمه يتفرع على غيره وما ذكره المتكلمون أولى لأن نفس الارز ليس يتفرع على غيره وإنما المتفرع حكمه
وأما الشبه فهو ما يشترك فيه الشيئان من الصفات سواء كانت صفة ذاتية أو غير ذاتية كاشتراك الجسمين في السواد وقد يكون صفة تفيد حكما عقليا أو سمعيا وغرض الفقهاء من ذلك ما اقتضى الحكم السمعي
وأما التشبيه فقد قيل هو في الأصل ما به يكون الشيء مشبها لغيره كالتحريك هو ما به يكون الشيء محركا لغيره فقد استعمل في الاعتقاد والظن والخبر فيقال لمن أخبر أو اعتقد أن الله عز و جل يشبه الأشياء إنه مشبه وان خبره تشبيه
فأما قولنا علة فمستعمل في عرف اللغة وفي عرف الفقهاء وفي عرف

المتكلمين أما في عرف اللغة فمستعمل فيما أثر في أمر من الامور سواء كان صفة أو كان ذاتا وسواء آثر في الفعل أو في الترك فيقال مجيء زيد علة في خروج عمرو وفي أن لا يخرج عمرو ويسمون المرض علة لأنه يؤثر في فقد التصرف وأما العلة في عرف الفقهاء فهي ما أثرث حكما شرعيا وإنما يكون الحكم شرعيا إذا كان مستفادا من الشرع وأما في عرف المتكلمين فتستعمل على المجاز وعلى الحقيقة أما على الحقيقة فتستعمل في كل ذات أوجبت حالا لغيرها كقول بعضهم إن الحركة علة موجبة كون المتحرك متحركا وأما استعماله على المجاز فمنه أن تكون العلة مؤثرة في الاسم كقولنا السواد علة في كون الأسود أسود أي هو علة في تسميته أسود ومنه ما يؤثر في المعنى وهذا منه ما يؤثر في النفي كتأثير البياض في انتفاء السواد ومنه ما يؤثر في الإثبات وهذا منه ذات كتأثير السبب في المسبب ومنه صفة تقتضي صفة كاقتضاء صفة الجوهر كونه متحيزا هذا على قول شيوخنا وإنما سموا كل واحد من ذلك علة لأن لها تأثيرا في الإيجاب إلا أنهم لا يسمون هذه الأقسام عللا إلا نادرا وسموا القسم الأول علة على الحقيقة لأنها موجبة على كل حال من غير شرط وليس كذلك الأقسام الأخر
وأما المعلل فهو ما طلبت علته فعلل بها وهذا هو الحكم الثابت في الأصل لأنه الذي يعلم أولا ثم يطلب علته فيعلل بها
وأما المعلول فهو الذي أثرته العلة وأنتجته وهذا هو الحكم من حيث هو ثابت في الفرع لا من حيث هو ثابت في الأصل
باب في أن العقل لا يقبح التعبد بالقياس الشرعي اعلم أن من نفاة القياس من قال إن العقل يقبح التعبد بالعمل على القياس الشرعي ومنهم من قال إن العقل لا يقبح ذلك والدليل على ذلك أن العقل

يجوز تكامل شروط حسن التعبد بذلك ولا يجوز أن يقبحه مع تجويزه اختصاصه بما يوجب حسنه
وشرائط حسن التعبد بالفعل إما أن ترجع إلى الفعل نحو كونه ندبا وواجبا وإما أن ترجع إلى الفاعل نحو كونه مزاح العلة بالأقدار والآلات وإعلام وجوب الفعل وكونه ندبا أو التمكن من علم ذلك بنصب الدلالة وإما أن ترجع إلى التعبد نحو أن يكون الأمر مفسدة وإما أن ترجع إلى المكلف نحو علمه من حال الفعل والفاعل بما ذكرناه وأنه سيثيب المكلف إن أطاع وكل ذلك يجوز العقل حصوله في هذا التعبد
وأما ما يرجع إلى العمل بالقياس فهو أن العقل يجوز أن يكون فعلنا بحسب ما ظنناه من الأمارة لطفا وإذا لم نعمل بحسبها فاتنا اللطف وذلك إن ظننا الأمارة حالة نحن عليها وقد تختلف المصالح بحسب أحوالنا ألا ترى أن مصلحة المسافر في صلاته خلاف مصلحة المقيم وكذلك الطاهر والحائض ويختلف الواجب على الإنسان بحسب ظنه المخالفة في سفره وأما أن الإنسان قادر على الفعل حاضر الآلات فبين وأما أنه يجوز كون المكلف متمكنا من العلم بوجوب العمل على القياس فهو لأنه إذا قال الله عز و جل للمكلف إذا ظننت بأمارة أن علة تحريم الخمر هي الشدة فقد وجب عليك قياس النبيذ عليه ولزمك اجتناب شربه فقد تمكن من العلم بقبح شرب النبيذ لأنه قد وقف علمه بقبحه على ظنه الأمارة وهو يعرف هذا الظن من نفسه كما أنه يكون ممكنا له من العلم إذا قال له الخمر حرام لأنها شديدة وقس عليها النبيذ وكما لو قال له النبيذ حرام وإذا كان المكلف متمكنا من العلم فلو قال الله سبحانه له ذلك وجاز في العقل ان يقول له هذا القول فقد جاز في العقل أن يكون متمكنا من العلم بوجوب العمل على القياس
وأما أن العقل يجوز أن لا يكون التعبد بالقياس مفسدة فلانه إن جوز كونه مفسدة فانه يجوز غير مفسدة إذ ليس في العقل ما يوجب كونه مفسدة

وأيضا فاذا جاز أن يكون العمل بالقياس مصلحة جاز أن يكون التعبد بذلك مصلحة لأنه لا يجوز أن يكون العمل بالشيء مصلحة ويكون التعبد به مفسدة
وأما أن المكلف عالم من حال الفعل والفاعل بما ذكرناه وأنه سيثيب المكلف إن أطاع فلأنه عالم بكل ما يصح أن يعلم وهذه الأشياء يصح أن تعلم في نفسها فقد جاز تكامل الشرائط لحسن هذا التكليف
ويمكن اختصار هذه الدلالة ويقتصر على ما يخالف فيه الخصم فنقول إنه قد حسن في العقل تكليف العمل بموجب القياس المعلومة علته ولو قبح تكليف العمل إذا كان القياس مظنون العلة لكان إنما يقبح لأجل ما به افترق التكليفان والذي افترقا فيه هو بيان هذا التكليف للعمل بحسب الظن دون التكليف الآخر ولو كان هذا وجها بقبح التكليف لما ورد به التعبد العقلي والسمعي أما العقلي فوجوب القيام من تحت حائط مائل يخشى سقوطه لفرط ميله وإن جوز السلامة في القعود والهلاك في النهوض وقبح السفر للريح مع ظن الخسران وقبح سلوك طريق بظن الأمارة وجود اللصوص فيه وإن جوزنا خلاف ما ظننا وأما السمعي فالحكم بشهادة من يظن صدقه وتولية القضاة والأمراء عند ظن سدادهم والتوجه إلى جهة عند ظن كون القبلة فيها والحكم بقدر من النفقة بحسب الظن إلى غير ذلك وأيضا فالحكم بحسب الظن لا يمتنع أن يكون مصلحة من الوجه الذي ذكرناه فلم يمتنع ورود التعبد به
واحتج المخالف بأشياء
منها قوله لو جاز التعبد في الفروع بالقياس مع أنها مصالح جاز مثله في الأصول الشرعية مع أنها مصالح الجواب ان المستدل إن ألزمنا جواز التعبد بقياس البر في الربا على أصل قد نص على ثبوت الربا فيه فانا نلتزم ذلك ويكون قبح بيع البر متفاضلا فرعا والحال هذه لأنه لم ينص على ثبوت الربا==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

وصف جنات النعيم والطريق الموصل اليها للشيخ عبد الله بن جار الله

وصف جنات النعيم والطريق الموصل اليها للشيخ عبد الله بن جار الله بن إبراهيم آل جار الله غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين بسم الله...