العاقية يا ربي والعتق في الدارين

اللَّهُمَّ عافني في جَسَدِي، وَعافني في سمعي وعافني في بَصَرِي، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنِّي، لا إِلهَ إِلَّا أنْتَ الحَلِيمُ الكَرِيمُ، سُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ العَظِيمِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ

اللهم! فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين !.

.

Translate

الثلاثاء، 25 أبريل 2023

ج1وج2.كتاب المعتمد في أصول الفقه محمد بن علي بن الطيب البصري

 

ج1وج2.كتاب المعتمد في أصول الفقه محمد بن علي بن الطيب البصري
المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي

بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الجليل الامام أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري رحمه الله
أحمده على آلائه وأشكره على نعمائه وأستعين به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله الأبرار وسلم
ثم الذي دعاني إلى تأليف هذا الكتاب في أصول الفقه بعد شرحي كتاب العمد واستقصاء القول فيه أني سلكت في الشرح مسلك الكتاب في ترتيب أبوابه وتكرار كثير من مسائله وشرح أبواب لا تليق بأصول الفقه من دقيق الكلام نحو القول في أقسام العلوم وحد الضروري منها والمكتسب وتولد النظر العلم ونفي توليده النظر إلى غير ذلك فطال الكتاب بذلك وبذكر ألفاظ العمد على وجهها وتأويل كثير منها فأحببت أن أؤلف كتابا مرتبة ابوابه غير مكررة وأعدل فيه عن ذكر ما لا يليق بأصول الفقه من دقيق الكلام إذ كان ذلك من علم آخر لا يجوز خلطه بهذا العلم وإن يعلق به من وجه بعيد فإنه إذا لم يجز أن يذكر في كتب الفقه التوحيد والعدل وأصول الفقه مع كون الفقه مبنيا على ذلك مع شدة اتصاله به فبأن لا يجوز ذكر هذه الأبواب في أصول الفقه على بعد تعلقها بها ومع أنه لا يقف عليها فهم الغرض بالكتاب أولى وأيضا فإن القارىء لهذه الأبواب في أصول الفقه إن كان عارفا بالكلام فقد عرفها على أتم استقصاء وليس يستفيد من هذه الأبواب شيئا وإن كان غير عارف بالكلام صعب عليه فهمها وإن شرحت له فيعظم ضجره وملله إذ كان قد صرف عنايته وشغل زمانه بما يصعب عليه فهمه وليس بمدرك منه غرضه فكان الأولى حذف هذه الأبواب من أصول الفقه

فحذاني إلى تأليف هذا الكتاب ما ذكرته وأن يقدم هذا الكتاب أيضا زيادات لا توجد في الشرح وأنا إن شاء الله أذكر الغرض بهذا الكتاب ثم أذكر أقسامه وعدد أبوابه وترتيبها ثم أشرع في الكلام فيها بمعونة الله وحسن توفيقه
باب ذكر الغرض من هذا الكتاب أعلم أن الغرض بهذا هو النظر في أصول الفقه فإن قيل قولكم أصول الفقه يشتمل على الأصول وعلى الفقه فما الفقه وما الأصول ثم ما أصول الفقه فيل أما قولنا فقه فإنه يستعمل في اللغة وفي عرف الفقهاء أما في اللغة فهو المعرفة بقصد المتكلم يقول فقهت كلامك أي عرفت قصدك به وأما في عرف الفقهاء فهو جملة من العلوم بأحكام شرعية فإن قيل فما الأحكام ها هنا قيل هي المنقسمة إلى كون الفعل حسنا مباحا ومندوبا إليه وواجبا وقبيحا محرما محظورا ومكروها وليست الأحكام هي الأفعال لأن الأحكام مضافة إلى الأفعال لقول أحكام الأفعال والشيء لا يضاف إلى نفسه فإن قيل ما الحسن وما المندوب إليه والواجب والمحرم والمحظور والقبيح والمكروه لأنكم إن لم تبينوا ذلك لم تكونوا قد بينتم الأحكام فلا تكونوا قد بينتم الفقه ولا يمكن أيضا أن تستدلوا على ان الأمر على الوجوب أو الندب إلا بعد أن تعقلوا ذلك قيل له أما الحسن فهو فعل إذا فعله القادر عليه لم يستحق الذم على وجه وأما المندوب إليه في عرف الفقهاء فهو فعل بعث المكلف من غير إيجاب وإذا أطلق أفاد لأن الله عز و جل ندب إليه وأما الواجب فهو فعل للإخلال به مدخل في استحقاق الذم أو للإخلال به تأثير في استحقاق الذم وأما القبيح فهو فعل له تأثير في استحقاق الذم واما المحرم والمحظور فهو ما منع من فعله بالزجر وإذا أطلق أفاد أن الله سبحانه حرمه وحظره ولك أن تقول إنه ما حرم فعله وحظر ومعنى تحريم الله إياه

وحظره أنه دل المكلف على قبحه أو أعلمه ذلك واما المكروه في عرف الفقهاء ما الأولى أن لا يفعل وسيجيء شرح ذلك في موضع آخر وإنما ذكرنا من الآن ما تمس الحاجة إليه فإن قيل فما معنى قولكم في الأحكام إنها شرعية قيل معنى ذلك أنها مستفادة إما بنقل الشريعة لها عن حكم الأصل وإما بامساك الشريعة عن نقلها عن حكم الأصل وهذا الأخير إنما يتم لنا بأن يعرف الحظر والاباحة في الأصل ويعرف إمساك الشريعة عن نقلهما وذلك يقتضي أن يذكر الحظر والاباحة في طرق الفقه لأنه لا بد منهما وإن شرطنا فيهما إمساك الشريعة عن نقلهما
فأما قولنا أصول فإنه يفيد في اللغة ما يبتني عليه غيره ويتفرع عليه وأما قولنا أصول الفقه فإنه يفيد على موجب اللغة ما يتفرع عليه الفقه كالتوحيد والعدل وأدلة الفقه ويفيد في عرف الفقهاء النظر في طرق الفقه على طريق الاجمال وكيفية الاستدلال بها وما يتبع كيفية الاستدلال بها فإن قيل ولم قلتم إنه يفيد في عرفهم ما ذكرتموه فقط دون غيره مما ينبني عليه الفقه قيل أما أنه يفيد في عرفهم ما ذكرناه من الطرق المجملة وكيفية الاستدلال بها فلا شك فيه وأما أنه لا يفيد غيره مما يبتني الفقه عليه فلأنهم لا يسمون غيره أصولا للفقه وإن يفرع عليه كالتوحيد والعدل والنبوات وأدلة الفقه المفصلة ألا ترى أنهم لا يسمون الكتب المصنفة في هذه الأدلة كتبا في أصول الفقه فإن قيل فما طرق الفقه قيل هي ما النظر الصحيح فيها يفضي إلى الفقه فإن قيل وإلى كم ينقسم قيل إلى قسمين دلالة وأمارة والدلالة هي ما النظر الصحيح فيها يفضي إلى العلم والإمارة هي ما النظر الصحيح فيها يفضي إلى غالب الظن فإن قيل بينوا ما العلم وما الظن الصحيح كما بينتم ما الدلالة وما الأمارة لأن جميع ذلك قد دخل في تفسير طرق الفقه ولأن معرفة الفرق بين الدلالة والأمارة مفتقر إليها في أصول الفقه لأن بعضها أدلة وبعضها أمارة قيل أما العلم فهو الاعتقاد المقتضي لسكون النفس إلى أن معتقده على ما اعتقده عليه

وأما الظن فهو تغليب بالقلب لأحد مجوزين ظاهري التجويز وأما النظر فهو الفكر ولك أن تقول هو الاستدلال والاستدلال هو ترتيب اعتقادات أو ظنون ليتوصل بها إلى الوقوف على الشيء باعتقاد أو ظن واما النظر الصحيح فهو ترتيب للعلوم أو للظنون بحسب العقل ليتوصل بها إلى علم أو ظن والفرق بين كامل العقل ومن ليس بكامل العقل ظاهر في الجملة وليس هذا موضع تفصيله فإن قيل فما معنى وصفكم أصول الفقه بأنها طرق الفقه على جهة الاجمال قيل معنى ذلك أنها غير معينة ألا ترى أنا إذا تكلمنا في أن الأمر على الوجوب لم نشر إلى أمر معين وكذلك النهي والاجماع والقياس وليس كذلك أدلة الفقه لأنها معينة نحو قول النبي صلى الله عليه و سلم الأعمال بالنيات ولهذا كان القول بأن أصول الفقه كلام في أدلة الفقه يلزم عليه أن يكون كلام الفقهاء في أدلة الفقه المعينة كلاما في أصول الفقه فإن قيل فماذا عنيتم بقولكم كيفية الاستدلال ها هنا قيل الشروط والمقدمات وترتيبها الذي معه يستدل بالطرق على الفقه فإن قيل فما مرادكم بقولكم وما يتبع كيفية الاستدلال ها هنا قيل هو القول في إصابة المجتهدين لأنه يتبع كيفية استدلالهم أن يقال هل أصابوا أم لا
باب في قسمة أصول الفقه أعلم أنه لما كانت أصول الفقه طرقا إلى الأحكام الشرعية وكيفية الاستدلال بها وما يتبع ذلك وكانت الأحكام الشرعية تلزم المجتهد وغير المجتهد وجب أن يكون لهذا طريق ولذاك طريق وطريق الذي ليس بمجتهد فتوى المجتهد وطريق المجتهد ضربان
احدهما البقاء على حكم العقل إذا لم ينقل عنه شرع وذلك يقتضي ذكر الحظر والاباحة ليعلم ما يجوز أن ينتقل بالشرع عن حكم العقل وما لا يجوز أن ينتقل

والآخر ما يرد من حكيم أو ما هو طريق إلى ورود ذلك من حكيم كالاجتهاد وما يرد من حكيم ضربان أحدهما مستنبط كالقياس والآخر غير مستنبط وما ليس بمستنبط ضربان أحدهما أقوال والآخر أفعال والحكيم الصادر عنه الأقوال إما أن يكون حكيما لذاته وهو الله سبحانه وإما أن يكون حكيما لأنه معصوم من الخطأ وهو ضربان أحدهما آحاد الأنبياء والآخر جماعة الأمة والأقوال إما أن تكون أصلا في الافادة وإما أن تكون تابعة لغيرها في الافادة كالحروف التي إنما تغير فوائد الأسماء والأفعال فتحصل فوائدها متراخية أو متعقبة وما يكون أصلا في الافادة إما أن يفيد معنى مقترنا بزمان وهو الأفعال وإما أن يفيد معنى غير مقترن بزمان وهو الأسماء ويدخل في الأفعال الأمر والنهي والأسماء إما أن تكون شاملة وإما أن تكون خاصة وإما أن تدل على طريق الإجمال أو لا على طريق الإجمال وهو المجمل والمبين ولا يخلو الكلام إما أن لا يفيد رفع حكم دليل شرعي أو يفيد ذلك وهو الناسخ وهذه الأفعال والأقوال نتكلم فيها على وجهين أحدهما كلام في غاية الاجمال من غير تعيين أصلا نحو أن نبين فوائدها وما ضعت له والآخر كلام أقل إجمالا من ذلك نحو أن ننظر هل الأقوال التي عرفنا فوائدها هي التي في القرآن والسنة فقط أو يضم إلى ذلك ما في كتب المتقدمين من الأنبياء ويدخل في ذلك أبواب سنذكرها
وأما كيفية الاستدلال بالأدلة على الأحكام فالمرجع به إلى كيفية ترتيب الشروط والمقدمات التي معها يستدل بالأدلة على الاحكام الشرعية ويصح أن يحمل معها خطاب الحكيم إذا تجرد على حقيقته دون مجازه وعلى مجازه مع القرينة وذلك يوجب أن نتكلم في الحقيقة والمجاز ليصح أن نعلم ما حقيقة الأمر والنهي والعموم فيصح حمل ذلك على حقائقه وذلك يقتضي أن نقسم الكلام قسمة تنتهي إلى الحقيقة والمجاز ونتكلم في إثباتهما وحدهما ونذكر ما يفصل به بينهما ونذكر أحكامهما ونتبع الكلام في كيفية الاستدلال على الأحكام النظر في المستدلين على الأحكام هل هم مصيبون على اختلافهم أم

لا فحصلت أبواب أصول الفقه هذه أقسام الكلام وذكر الحقيقة والمجاز وفوائد الحروف والأمر والنهي والعموم والخصوص والمجمل والمبين والأفعال والناسخ والمنسوخ والإجماع والأخبار والقياس والحظر والإباحة وطرق الأحكام وكيفية الاستدلال بالأدلة وصفة المفتي والمستفتي وإصابة المجتهدين
باب ترتيب أبواب أصول الفقه أعلم أنه لما كانت أصول الفقه هي طرق الفقه وكيفية الاستدلال بها وما يتبع كيفية الاستدلال بها وكان الأمر والنهي والعموم من طرق الفقه وكان الفصل بين الحقيقة والمجاز تفتقر إليه معرفتنا بأن الأمر والنهي والعموم ما الذي يفيد على الحقيقة وعلى المجاز وجب تقديم أقسام الكلام وذكر الحقيقة منه والمجاز وأحكامهما وما يفصل به بينهما على الأوامر والنواهي ليصح أن نتكلم في أن الأمر إذا استعمل في الوجوب كان حقيقة ثم الحروف لأنه قد يجري ذكر بعضها في أبواب الأمر فلذلك قدمت عليها ثم نقدم الأوامر والنواهي على باقي الخطاب لأنه ينبغي أن يعرف فائدة الخطاب في نفسه ثم نتكلم في شمول تلك الفائدة وخصوصها وفي إجمالها وتفصيلها ونقدم الأمر على النهي لتقديم الإثبات على النفي ثم نقدم الخصوص والعموم على المجمل والمبين لأن الكلام في الظاهر اولى بالتقديم من الخفي ثم نقدم المجمل والمبين على الأفعال لأنهما من قبيل الخطاب ولأن المجمل كالعموم في أنه يدل على ضرب من الإجمال فجعل معه وتقدم الأفعال على الناسخ والمنسوخ لأن النسخ يدخل الأفعال ويقع بها كما يدخل الخطاب ونقدم النسخ على الإجماع لأن النسخ يدخل في خطاب الله سبحانه وخطاب رسوله صلى الله عليه دون الاجماع ونقدم الأفعال على الاجماع لأنها متقدمة على النسخ والنسخ متقدم على الاجماع ولأن الأفعال كالأقوال في انها صادرة عن النبي صلى الله عليه و سلم وإنما

قدمنا جملة أبواب الخطاب على الاجماع لأن الخطاب طريقنا الى صحته ولأن تقديم كلام الله سبحانه وكلام نبيه أولى ثم نقدم الإجماع على الأخبار لأن الأخبار منها آحاد ومنها تواتر أما الآحاد فالإجماع أحد ما يعلم به وجوب قبولها وهي أيضا أمارات فجاورنا بينها وبين القياس وأما المتواتر فإنها وإن كانت طريقا إلى معرفة الإجماع فانه يجب تأخيرها عنه كما أخرناها عن الخطاب لما وجب أن نعرف الأدلة ثم نتكلم في طريق ثبوتها وإنما اخرنا القياس عن الإجماع لأن الإجماع طريق إلى صحة القياس وأما الحظر والاباحة فلتقدمه على الخطاب وجه غير أنه لما كان أكثر الغرض بهذا الكتاب الأدلة الشرعية المحضة قدمت على الحظر والاباحة على الكلام في طريق الأحكام الذي هو أقل إجمالا لأنا تكلمنا قي الحظر والاباحة على ضرب من الاجمال كما تكلمنا في الأمر والنهي فجعلنا الحظر والاباحة في هذه الجملة ثم انتقلنا إلى الكلام في الطرق التي هي اقل إجمالا وقدمناه على كيفية الاستدلال بها لأن كيفية الاستدلال بها فرع عليها ثم تكلمنا في كيفية الاستدلال بطرق الأحكام وقدمنا جملة هذه الأبواب على صفة المفتي والمستفتي لأن المفتي إنما يجوز له أن يفتي إذا عرف جميع ما ذكرناه من الأدلة وكيفية الاستدلال بها والمستفتي إنما يجوز له أن يستفتي إذا لم يعرف ذلك فصار الكلام في المفتي والمستفتي فرعا عى المعرفة بجملة ما تقدم وبعد ذلك ننظر في إصابة المجتهد إذا اجتهد لنفسه أو ليفتي غيره
فقد أتينا على ذكر الغرض بالكتاب وقسمة أبوابه وترتيبها ونحن نشرع في أبواب الكتاب ونذكر كل باب في موضعه الذي يليق به إن شاء الله عز و جل
باب في حقيقة الكلام وقسمته اعلم أن الكلام هو ما انتظم من الحروف المسموعة المتميزة وقد دخل في

ذلك كل ما هو كلام كالحرفين فصاعدا لأن الحرفين موصوفان بأنهما من الحروف وبهذا الحد ينفصل الكلام مما ليس بكلام لأنه ينفصل مما ليس بحروف ومن حروف الكتابة لأنها غير مسموعة ومن أصوات كثيرة من البهائم لأنها ليست بحروف متميزة ومن الحروف الواحد نحو الزاي من زيد لأنه ليس يوجد في الحرف الواحد انتظام ومن حد الكلام بانه المفيد يلزمه أن تكون الاشارة والعقد كلامين ومن شرط في كونه كلاما وقوع المواضعة عليه يلزمه أن لا يكون الحروف المؤلفة كلاما إذا لم يقع عليها الاصطلاح مع أن أهل اللغة قسموا الكلام إلى المهمل والمستعمل فوصفوا المهمل بأنه كلام وإن لم يوضع لشيء وليس يبعد أن يشترط في كون الحروف كلاما وقوع الاصطلاح عليها وأن يوصف المهمل بأنه كلام على سبيل المجاز لأن ما سمعناه يصل بين حرفين نحو التاء مع التاء والألف مع الألف لا يوصف بأنه متكلم فإن علم أن ذلك مصطلح عليه وصف بأنه متكلم فإذا ثبت ذلك قلنا الكلام هو ما انتظم من الحروف المسموعة المتميزة المتواضع على استعمالها في المعاني وإذا حددنا الكلام بهذا كان الكلام كله مستعملا وقسمناه هكذا الكلام منه ما يفيد صفة فيما استعمل فيه ومنه ما لا يفيد صفة فيما استعمل فيه وإن حددناه بالحد الأول قلنا في قسمته الكلام ضربان مهمل ومستعمل فالمهمل لم يوضع في اللغة لشيء والمستعمل هو ما وضع ليستعمل في المعاني وهو ضربان أحدهما يفيد صفة فيما استعمل فيه والاخر لا يفيد صفة فيما استعمل فالأول كقولنا أسود وطويل والثاني ضربان أحدهما فيه معنى الشمول والآخر ليس فيه معنى الشمول أما الأول فكقولنا شيء فإنه وضع لكل ما يصح أن يعلم والآخر أسماء الأعلام كقولنا زيد وذلك أن من سمى ابنه زيدا فإنه لا يجب أن يشارك بينه وبين غيره في الاسم والألقاب تجري مجرى الاشارة لأن اللقب لا يفيد فيه صفة مخصوصة ولا مجموع صفاته ألا ترى أنه ينقص بعض صفاته وأعضائه ويزيد له صفة أخرى من طول وسمن ولا يتغير اسمه ويجوز أن تتغير الألقاب على الشخص مع أن

اللغة باقية وإنما جاز ذلك لأن تسمية هذا الشخص زيدا لم تكن توضع من واضعي اللغة حتى إذا سلبناه عنه كنا قد خالفنا لغتهم وليس كذلك إذا سلبنا اسم الطويل عن الطويل وعوضناه منه اسم القصير لأن ذلك تغيير لوضعهم فلم يجز ذلك مع أننا متكلمون بلغتهم
فصار الكلام على ضربين أحدهما مستعمل بوضع اهل اللغة وليس بلقب والآخر لقب فاللقب لا يدخله الحقيقة والمجازعلى ما سنذكره وما ليس بلقب يدخله الحقيقة والمجاز
فقد أتينا على حد الكلام وقسمته حتى انتهينا إلى ذكر الحقيقة والمجاز ونحن نذكر معنى الحقيقة والمجاز وتقسيمهما ونذكر احكامهما وما ينفصل به أحدهما من الآخر إن شاء الله
باب في إثبات الحقيقة والمجاز وفي حدها أما إثباتهما في اللغة فظاهر في الجملة لقول أهل اللغة هذا الاسم حقيقة وهذا الاسم مجاز وإذا عرفنا ماهيتهما تكلمنا في إثباتهما على التفصيل فأما حدهما فهو أن الحقيقة ما أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به وقد دخل في هذا الحد الحقيقة اللغوية والعرفية والشرعية والمجاز هو ما أفيد به معنى مصطلحا عليه غير ما اصطلح عليه في أصل تلك المواضعة التي وقع التخاطب فيها
فان قيل فيجب إذا قال الواضع سموا هذا حائطا أو قال قد سميت هذا حائطا أن لا يكون قوله حائط في تلك الحال حقيقة للحائط قيل كذلك نقول لأنه لم يتقدم ذلك مواضعة فيكون قد أفاد بقوله حائط ما اقتضته تلك المواضعة ولا يكون أيضا مجازا لأنه لم يتقدمه

مواضعة بخلاف ما أفاد به الآن فيكون مجازا فا قيل فيجب إذا أفاد المتكلم بكلامه معناه العرفي أو الشرعي أن يكون مجازا لأنه غير المواضعة الأصلية قيل هو مجاز بالاضافة إلى المواضعة ألأصلية وليس بمجاز بالاضافة إلى المواضعة العرفية لأنه لم يفد به في الاصطلاح معنى غير ما وضع له وكذلك القول في الاسم الشرعي
وقد حد الشيخ أبو عبد الله أخيرا الحقيقة بأنها ما أفيد بها ما وضعت له وحد المجاز بأ نه ما أفيد به غير ما وضع له وهذا يلزم عليه أن يكون من استعمل اسم السماء في الأرض قد يجوز به لأنه قد أفاد به غير ما وضع له فان قيل من استعمل اسم السماء في الأرض لا يكون قد أفاد به الأرض لأنها لا تعقل منه قيل وكذلك من استعمل اسم الأسد في الشجاع لا يفهم منه الرجل الشجاع فان قلتم يفهم ذلك إذا دلنا على أنه أراد به الرجل الشجاع قيل لهم وكذلك يفهم من قوله السماء الأرض إذا دلنا على أنه أراد ذلك فان قال إنما أردنا بقولنا ما أفيد به غير ما وضع له أنه إذا أطلق المتكلم الاسم جوز السامع أن يكون المتكلم قد استعمله في المجاز وهذا غير قائم فيمن استعمل السماء في الأرض قيل هذا يلزمكم عليه أن يكون الاسم مجازا وإن استعمله المتكلم في حقيقته لأن السامع له يجوز أن يكون عني به مجازا وفي ذلك كون الأسماء كلها مجازا وأيضا فما يجوز من قصد المتكلم باللفظة لا يقال إنه مستفاد منها فان قيل أردنا بقولنا ما أفيد به غير ما وضع له أنه إذا دل المتكلم على أنه ما أراد بكلامه الحقيقة علم أنه أراد المجاز ولا يلزم على ذلك أن يكون اسم السماء مجازا في الأرض وإن عناها المتكلم بقوله سماء لأن المتكلم إذا دل على أنه لم يرد الحقيقة ولم يستفد منه أنه أراد الأرض قيل أليس لو دل على أنه أراد الأرض عقل منه الأرض كما لو دل على أنه أراد به المجاز عقل منه المجاز وإنما لم يعقل الأرض من كلامه إذا قرن بكلامه دلالة مخصوصة وأنتم

لم تذكروا في حد المجاز ما أفيد به غير ما وضع له بدلالة مخصوصة حتى لا يبطل بما ذكرناه
وقد حد الشيخ أبو عبد الله رحمه الله أولا الحقيقة بأنه ما انتظم لفظها معناها من غير زيادة ولا نقصان ولا نقل وحد المجاز بأنه ما لا ينتظم لفظه معناه إما لزيادة أو لنقصان أو لنقل عن موضعه فالذي لا ينتظم لفظه مناه لأجل زيادة هو الذي ينتظم المعنى إذا أسقطت الزيادة نحو قوله سبحانه ليس كمثله شيء فان الكاف زائدة فمتى أسقطناها صار ليس مثله شيء وأما الذي لا ينتظم المعنى لأجل النقصان فهو الذي ينتظمه إذا زدنا في الكلام ما نقص منه نحو قوله عز و جل وسئل القرية لأنه قد اسقط من الكلام أهل القرية ومثال نقل من موضعه قول القائل رأيت الأسد وهو يعني الرجل الشجاع
ولقائل أن يقول إن المجاز لأجل الزيادة والنقصان قد نقل عن موضعه إلى موضع آخر فلا معنى لجعله قسمين آخرين لأن المجاز لأجل الزيادة ليس ينتظم لفظه ومعناه لأجل النقل أيضا لأن قوله ليس كمثله شيء يفيد أن لا شيء مثل مثله وقد نقل عن هذا المعنى إلى نفي المثل عن الله سبحانه وكذلك قوله الله سبحانه وسئل القرية موضع لسؤال القرية وقد نقل إلى أهلها
وقاضي القضاة رحمه الله يذهب إلى تصحيح الحد الذي ذكره أبو عبد الله أخيرا ويقول إن ما ذكره أولا هو صفة الحقيقة والمجاز وليس بحد قال لأن الاسم إذا كان تارة حقيقة أو أفيد به غير ما وضع له فيكون مجازا ولقائل أن يقول بل الغير الذي به يكون حقيقة هو أن ينتظم لفظه معناه من

غير زيادة ولا نقصان ولا نقل والذي به يكون مجازا ضد ذلك والذي ينصر به الحد هو أن المجاز مقابل للحقيقة فحد أحدهما يجب كونه مقابلا لو الآخر والمفهوم من قولنا مجاز هو أنه قد يجوز به ونقل عن موضعه الذي هو ألحق به وهذا هو معنى ما حددنا به المجاز فيجب أن يكون حد الحقيقة ما لم ينقل عن موضعه وهذا معنى ما حددنا به الحقيقة
باب قسمة الحقيقة والمجاز اعلم أن الحقيقة تنقسم بحسب المواضع التي تكون حقيقة فيها وبحسب إطلاق فائدتها وكونها مشروطة وبحسب كيفية دلالتها فأما الأول فهو أن الحقيقة إما أن تكون لغوية وإما عرفية وإما شرعية لأن اللفظ إذا أفاد المعنى على سبيل الحقيقة فإما أن يفيده بمواضعة شرعية أو غير شرعية بل لغوية واللغوية ضربان إما اصلية أو طارئة وهي العرفية والمجاز أيضا قد يكون مجازا في اللغة أو في العرف أو في الشرع
وأما القسمة الثانية فهي أن اللفظة إذا أفادت فائدة على الحقيقة فإما أن تفيدها على الإطلاق وإما بشرط فالأول كقولنا طويل يفيد ما اختص بالطول في أي جسم كان وهذا ضربان أحدهما يفيد فائدة واحدة والآخر يفيد أكثر من فائدة واحدة والثاني نحو قولنا أبلق يفيد اجتماع البياض والسواد بشرط أن يكون في الخيل
وأما القسمة الثالثة فهي أن الحقيقة إما أن تكون اسما أو فعلا أو حرفا
وذلك أنها إما أن تستقل إفادتها بنفسها ولا تفيد على طريق التبع وإما أن تفيد على طريق التبع ولا تستقل بنفسها كالحرف فانه يفيد فائدة ما دخل عليه نحو الفاء المفيدة للتعقيب بين شيئين والواو المفيدة للجمع والأول ضربان أحدهما يفيد ما يفيده مع زمان وهو الفعل والآخر يفيد بلا زمان

وهو الاسم واعلم أنا قد نصف الكلام بأنه مفيد ونعني أنه موضوع لفائدة وانه مستعمل فيها وهذا حاصل في اللفظ المفرد وقد نعني بذلك أنه يفيد اتصال المعاني بعضها ببعض وهذا لا يكون في اللفظ المفرد لأنه لا يفيد اتصال بعض المعاني ببعض ولا يفيد تصوره معناه لأن معناه متصور لنا قبل اللفظ والكلام المفيد إيصال بعض المعاني ببعض وتعلق بعضها ببعض إما أن يكون اسما مع اسم وإما أن يكون إسما مع فعل أما الأسماء فانه لا يمتنع أن يكون فوائد بعضها صفاتا لبعض فيفهم من اتصالها فوائدها بعضها ببعض كقولنا زيد أحول وزيد طويل وأما الفعل مع الاسم فانه لا يمتنع أن يكون فائدة الفعل مستندة إلى فائدة الاسم فيستفاد من اتصال الفعل الاسم إسناد الفعل المسمى بذلك الاسم تقدم الاسم أم تأخر كقولك زيد يضرب أو يضرب زيد وليس الفعل يلتئم مع الحرف بفائدة ولا به بالاسم لأن الحرف إنما ينبىء عن كيفية إيصال فائدة بفائدة نحو الواو المفيدة للاشراك والفاء المفيدة للتعقيب وليس يدخل تحت الاسم الواحد ولا تحت الفعل الواحد فائدتان فيكون الحرف مفيدا لكيفية إيصال أحدهما بالأخرى فأما قولنا يا زيد ففيه إضمار أمره بشيء أو نهيه عن شيء أو إخباره عن شيء معناه يا زيد أقبل او لا تفعل أو هل في الدار عمرو والمنادى يجد من نفسه أنه يضمر ذلك وربما أظهره ولهذا إذا سمعه المنادي قال ما الذي تريد فدل على أنه قد عقل منه إضمار ما ذكرناه وقد قيل إن قول القائل يا زيد معناه انادي زيدا ولو كان هذا كما قالوا لكان قد أفاد الاسم مع الحرف هذه الفائدة وفي ذلك نقض قولهم وأما الفعل فانه لما كان حدثا لم يصح أن يسند إليه حدث آخر ولا أن ينعت وإنما يجوز أن ينعت من حيث كان صورة ولهذا كان قولنا لزيد انظر حسنا معناه انظر نظرا حسنا والاسم إذا نعت بالاسم فانعقدت به الفائدة كان خبرا والفعل إذا قرن بالاسم فإما أن يقرن به على سبيل النعت فيكون خبرا وما في معناه كقولك زيد يضرب وإما أن يقرن به على سبيل الحدث إما على الفعل فيكون أمرا وإما

على تركه فيكون نهيا فبان أن الخطاب المفيد إما أن يكون أمرا وما في معناه أو خبرا أو ما في معناه وأيضا فان من خاطب غيره فإما أن يكون في حكم من يعطيه شيئا أو يأخذ منه شيئا فالأول هو الباعث إما على الفعل أو على الترك وأما المعطي فهو المخبر وما في معناه كالمتمني فأما الاستفهام والاستخبار فهما طلب الفهم والخبر فهما في معنى الأمر والباعث على الفعل أو على الترك إما أن يكون أعلى رتبة من المبعوث فيكون بعثه أمرا وإما أن يكون دونه فيكون سؤالا وإما أن يكون مساويا فيكون طلبا ويبعد أن يكون سؤالا لما في السؤال من انخفاض الرتبة ويبعد أن يكون أمرا لما في الأمر من علو الرتبة وقد ذكر أكثر هذه القسمة الأخيرة من تقدم
فأما قاضي القضاة رحمه الله فانه قسم الكلام المفيد إلى الأمر والنهي وما في معناهما وإلى الخبر فقال المخاطب لغيره إما أن يفيد حال نفسه فيدخل فيه الأمر والنهي لأن الأمر ينبىءعن إرادة الآمر والنهي ينبىء عن كراهته واما أن ينبىء عن حال غيره فيكون الخبر وإذا علم أن كل واحد منهما قد يدخل في الآخر لأن الانسان قد ينبىء عن حال نفسه بالخبر وينبىء عن حال غيره بالأمر والنهي لأنهما يدلان على وجوب الفعل وقبحه وإذا كان كذلك لم يكن ما ذكره قسمة متقابلة لأن الأقسام المتقابلة يجب أن يكون بعضها غير بعض وذلك يمنع من دخول بعضها في بعض
فقد أتينا على أقسام الحقيقة ونحن نبين أن في اللغة الحقيقة المفردة والمشتركة ليصح أن ننظر هل الأمر من الألفاظ المشتركة كما قاله قوم أم لا ونبين أن في اللغة المجاز ليصح أن ننظر في الأمر هل هو حقيقة في الوجوب أو مجاز ونبين أنه يحسن أن يكون في القرآن مجاز ليصح أن نحمل كثيرا من الآيات التي يستدل بها خصومنا في كثير من مسائل هذا الكتاب على المجاز ونبين ثبوت الحقائق الشرعية والعرفية لدخولهما في القسمة التي ذكرناها وليصح أن ننظر هل الأمر وغيره منقولان إلى الواجب بالشرع أم لا ثم نذكر ما ينفصل به

الحقيقة من المجاز ونذكر أحكام الحقيقة وأحكام المجاز ونؤخر الكلام في هل يصح أن يراد بالعبارة الواحدة الحقيقتان إلى المجمل لأن ذلك لم يصح فاللفظ المفيد لهما مجمل محتاج إلى بيان ولو صح أن يراد بها كان ذلك من قبيل العموم فأما ما يريده الحكيم بخطابه إذا أفاد في اللغة والعرف والشرع فوائد مختلفة فنذكره عند كيفية الاستدلال بخطاب الحكيم لأن هناك نذكر الشروط التي معها يجب أن يريد المتكلم ما يريد الحكيم وهناك نذكر ما يريد الحكيم من هذه الوجوه
باب إثبات الحقائق المفردة والمشتركه اعلم أن في اللغة الفاظا مفيدة للشيء الواحد على الحقيقة وألفاظا مفيدة للشيء ولخلافه وضده حقيقة على طريق الاشتراك أما الأول فلا شبهة فيه ولو لم يكن في اللغة حقيقة لم يكن فيها مجاز لأن المجاز هو ما أفيد به غير ما وضع له وفي ذلك كونه موضوعا لشيء لو عبر به عنه لكان حقيقة فيه ولو لم يكن في اللغة حقيقة ولا مجاز لكان الكلام قد خلا منهما وذلك محال وأما الثاني فقد ذهب إليه أكثر الناس ومنع منه قوم قالوا لأن الغرض بالمواضعة تمييز المعاني بالأسماء ليقع به الإفهام فلو وضعوا لفظة واحدة لشيء ولخلافه على البدل لم يفهم بها أحدهما وفي ذلك نقض الغرض بالمواضعة ودليل جواز ذلك أنه لا يمتنع أن تضع قبيلة اسم القرء للحيض وتضعه أخرى للطهر ويشيع ذلك ويخفي كون الاسم موضوعا لهما من جهة قبيلتين فيفهم من إطلاقه الحيض والطهر على البدل وأيضا فإن المواضعة تابعة للأغراض وقد يكون للانسان غرض في تعريف غيره شيئا مفصلا وقد يكون غرضه بأنه يعرفه مجملا مثال الاول أن يشاهد زيدا سوادا ويريد أن يعرف عمرا أنه شاهد

سوادا ومثال الثاني أنه يريد تعريفه أنه شاهد لونا ولا يفصله له فجاز أن يضعوا اسما تطابق كل واحد من الغرضين وهذا الوجه والذي قبله جواب عما تعلق به المخالف وقول أهل اللغة شفق وقرء من أسماء الأضداد وأنه مشترك يدل على ثبوت الأسماء المشتركة في اللغة وليس لأحد أن يتعسف التأويل فيجعل قولنا قرء مفيدا للطهر والحيض فائدة واحدة لأن ذلك إنما يسوغ لو امتنع كون ذلك في اللغة
باب الحقائق الشرعية ذهب شيوخنا والفقهاء إلى أن الاسم اللغوي يجوز أن ينقله الشرع إلى معنى آخر ونفى قوم من المرجئة ذلك وبعض عللهم تدل على أنهم أحالوا ذلك وبعضها تدل على أنهم قبحوه ونحن نذكر ما الاسم الشرعي ثم نبين إمكان نقل الاسم بالشرع عن معناه اللغوي ثم نبين حسن ذلك ثم نبين أن من الأسماء ما قد انتقل بالشرع
أما الاسم الشرعي فذكر قاضي القضاة أنه ينبغي أن يجمع شرطين أحدهما أن يكون معناه ثابتا بالشرع والآخر أن يكون الاسم موضوعا له بالشرع وينبغي أن يقال الاسم الشرعي هو ما استفيد بالشرع وضعه للمعنى وقد دخل تحت ذلك أن يكون المعنى والاسم لا يعرفهما أهل اللغة وأن يكونوا يعرفونهما غير أنهم لم يضعوا الاسم لذلك المعنى وأن يكونوا عرفوا المعنى ولم يعرفوا الاسم كل هذه الأقسام داخل فيما ذكرناه
فأما الدلالة على إمكان نقل الأسماء فهي أن كون الاسم اسما للمعنى غير واجب له وإنما هو تابع للاختيار بدلالة انتفاء الاسم عن المعنى قبل المواضعة وأنه كان يجوز أن يسمى المعنى بغير ما سمي به نحو أن يسمى البياض سوادا إلى غير ذلك فاذا كان كذلك جاز أن يختار مختار سلب الاسم عن معناه

ونقله إلى غيره إذ كان ذلك تابعا للاختيار فان قالوا لو سلب الاسم عن المعنى وعوض غيره انقلبت الحقائق قيل إنما يلزم ذلك لو استحال انفكاك الاسم عن المعنى وقد بينا أن الأمر بخلاف ذلك
فأما الدلالة على حسن نقل الاسم عن معناه إلى معنى آخر بالشرع فهي أنه لا يمتنع تعلق مصلحة بذلك كما لا يمتنع ثبوتها في جميع العبادات ولا يكون فيه وجه قبح وإذا لم يمتنع ذلك لم يمتنع حسنه إذ المصلحة وجه حسن وأيضا فقد جاءت الشريعة بعبادات لم تكن معروفة في اللغة فلم يكن بد من وضع اسم لها لتتميز به من غيرها كما يجب ذلك في مولود يولد للإنسان وفي آله يستحدثها بعض الصناع ولا فرق بين أن يوضع لتلك العبادة اسما مبتدأوبين أن ينقل إليهما اسم من أسماء اللغة مستعمل في معنى له شبه بالمعنى الشرعي بل نقل اسم لغوي إليه أولى لأنه أدخل في أن يكون الخطاب لغويا فان قالوا إنما قبح نقل الاسم عن معناه إلى معنى آخر لأنه يقتضي بغير الأحكام المتعلقة به نحو أن يأمرنا الله سبحانه بالصلاة ونعني به الدعاء فإذا نقل الاسم إلى هذه الأركان بغير الغرض قيل هذا يمنع من نقل اسم عن معناه إذا كان قد تعلق به فرض ولا يمنع من نقل اسم لم يتعلق به فرض وأيضا فلو نقل الله سبحانه اسم الصلاة عن الدعاء لم يسقط فرض الدعاء عن المكلفين ولو أوجب ذلك سقوط الدعاء عنهم لأمكن أن يدلنا الله على بقاء الفرض بأن يقول ما كنت أوجبته عليكم فوجوبه باق عليكم
فأما الدلالة على أن الشرع قد نقل بعض الأسماء فهي أن قولنا صلاة لم يكن مستعملا في اللفة لمجموع هذه الأفعال الشرعية ثم صار اسما لمجموعها حتى لا يعقل من إطلاقه سواها إن قيل قولنا صلاةموضوع في اللغة للاتباع ألا تراهم يسمون الطائر مصلياإذا اتبع السابق وهو واقع على الصلاة لأنها اتباع للإمام فقد افاد في اللغة ما أفاده في الشرع قيل هذا يقتضي أن لا تسمى صلاة الإمام والمنفرد صلاة وأن يكون من أطلق اسم

الصلاة في الشريعة فإنما نعني به ونفهم منه الاتباع ومعلوم أنه لا يخطر ببال السامع والمتكلم إلا جملة هذه الأفعال دون الاتباع فان قالوا اسم الصلاة كان في اللغة للدعاء وسميت الصلاة الشرعية بذلك لأن فيها دعاء فلم تختلف فائدته قيل إن عنيتم أن اسم الصلاة واقع على جملة هذه الأفعال لأن فيها دعاء فقد سلمتم ما نريده من إفاده الاسم لما لم يكن يفيده في اللغة ولا يضرنا أن تعللوا وقوع الاسم على هذه الأفعال بما ذكرتم وإن أردتم أن اسم الصلاة واقع على الدعاء من جملة هذه الأفعال دون مجموعها فذلك باطل لأن المفهوم من قولنا صلاة جملة الأفعال والمفهوم من قولنا فلان في الصلاة أنه في جزء من هذه الأفعال دعاء كان أو غيره والمفهوم من قولنا فلان قد خرج من الصلاة أنه قد فارق جملة الأفعال ولو كان الأمر كما ذكروه لوجب إذا قلنا إنه قد خرج من الصلاة أفاد أنه قد خرج من الدعاء وإذا عاد إلى الدعاء جاز أن يقال قد عاد الآن إلى الصلاة
دليل آخر هو أن قولنا صوم كان يفيد في اللغة الامساك وهو مفيد في الشريعة إمساكا مخصوصا وقولنا زكاة يفيد الطهرة والنماء ويفيد في الشرع طهرة مخصوصة وما يؤدي إلى النماء إن قالوا لو كان قولنا صلاة منقولا إلى معنى شرعي لوجب كونه محصلا مفهوما وليس الأمر كذلك وليس لكم أن تقولوا إنه يفيد التحريم والقراءة والركوع والسجود لأن صلاة الأخرس لا قراءة فيها وصلاة الجنازة وصلاة المريض المومىء لا ركوع فيها ولا سجود وإذا لم يكن ذلك معقولا علمنا أن الاسم ما انتقل والجواب أنه يبطل بما ذكروه أن يكون قولنا صلاة نقل إلى معان مختلفة وليس يمتنع ذلك كما لا يمتنع كون الاسم اللغوي مشتركا بين اشياء مختلفة وإنما يتخصص ما وضع له قولنا صلاة بالاضافة إما إلى الوقت وإما إلى أحوال المصلي وأحواله إما إغراضه وإما غير ذلك أما الوقت فنحو قولنا صلاة عيد وصلاة جمعة وصلاة كسوف وصلاة ظهر وعصر وغير ذلك فإن كل واحد من ذلك يفيد غير ما يفيده الآخر إما بزيادة وإما بنقصان وأما أغراض المصلي

فنحو صلاة الجنازة فان غرض المصلي أن يفعلها لأجل الميت وأما أحواله التي هي الأعراض فضربان أحدهما حال عذر والآخر حال سلامة أما حال السلامة فصلاة الصحيح المقيم الآمن وأما حال العذر فضربان أحدهما حال تعذر كصلاة الأخرس والمريض والمومىء والآخر حال مشقة كصلاة المسافر والخائف والله أعلم
باب في الحقائق العرفية ينبغي أن نذكر ما الاسم العرفي ثم نبين إمكان نقل الاسم بالعرف ثم نبين حسنه ثم نبين ثوبته ثم كيفية الانتقال ثم أمارة الانتقال ثم نقسم الأسماء العرفية
أما الاسم العرفي فهو ما انتقل عن بابه بعرف الاستعمال وغلبته عليه لا من جهة الشرع أو نقول ما أفاد ظاهره لاستعمال طارىء من أهل اللغة ما لم يكن يفيده من قبل إن قيل أليس قولنا دابة يفيد في العرف الفرس وهو يفيد في اللغة أيضا لأنه يفيد في اللغة ما يدب والفرس مما يدب فلم يفد في العرف ما لم يكن يفيده في اللغة وهو من الأسماء العرفية والجواب أنه إن كان يفيد في اللغة الاشتقاق من الدبيب وكان يقع على كل شخص يدب على البدل وهو مفيد في العرف شخصا مخصوصا من الحيوان فلم يفد ما كان يفيده في اللغة من الاشتقاق من الدبيب والوقوع على الفرس وعلى غيره
وأما إمكان نقل الاسم بالعرف فقد بان بما بان به إمكان نقله بالشرع
وأما حسن ذلك فالذي يبينه أنه قد يحصل في انتقال الاسم غرض صحيح وما يحصل فيه ذلك فهو حسن لأنه لو قبح ما قبح إلا لأنه لا غرض فيه ومعلوم أنه قد تنفر الطباع عن بعض المعاني وتتجافى النس التصريح بذلك

فيكنون عنه باسم ما انتقل عنه وذلك كقضاء الحاجة المكنى عنه باسم المكان المطمئن من الأرض الذي تقضى فيه الحاجة وقد سموا ما يدب دابة فلما كان الدبيب في بعض الحيوان أشد واسرع أو كانوا له أكثر مشاهدة وكان اهتمامهم به لشرفه عندهم أشد كثر استعمال قولهم دابة فيه فيصير هو المفهوم عندإطلاقه لكثرة استعمالهم الاسم فيه وذلك هو الفرس
وأما انتقال الاسم بالعرف فبيانه هو أن قولنا دابة كان يفيد كل ما دب ثم خص بالعرف بالفرس وقولنا راوية كان للجمل ثم صار بالعرف للمزادة وقولنا غائط كان للمكان المطمئن من الأرض ثم صار لقضاء الحاجة
وأما كيفية انتقال الاسم بالعرف فهو أنه يتعذر مع كثرة أهل اللغة أن بتواطئوا على ذلك ولكنه لا يمتنع أن ينقل الاسم طائفة من الطوائف ويستفيض فيها ويتعدى إلى غيرها فيشيع في الكل على طول الزمان ثم ينشأ القرن الثاني فلا يعرفون من إطلاق ذلك الاسم إلا ذلك المعنى الذي نقل إليه
فأما أمارة انتقال الاسم فهو أن يسبق إلى الأفهام عند سماعه معنى غير ما وضع له في الأصل فإن كان السامع للاسم يتردد في فهمه المعنى العرفي واللغوي معا كان الاسم مشتركا فيهما على سبيل الحقيقة
فأما قسمة الأسماء العرفية فهي أن العرف إما أن يجعل الاسم مستعملا في غير ما كان مستعملا فيه في اللغة وإما أن لا يجعله مستعملا في غيره وهذا الأخير لا يكون إلا بأن يستعمله في بعض ما كان يفيده في اللغة كقولنا دابة وأما ما استعمل في غير ما كان يفيده في اللغة فضربان أحدهما أن يكون الاسم قد صار مجازا فيما كان حقيقة فيه في اللغة والآخر أن تبقى حقيقته فيه حتى يكون مشتركا بين المعنى اللغوي والعرفي فالأول كاسم الغائط والثاني كقولنا كلام زيد فانه حقيقة في كلامه الذي هو فعله وفيما هو حكاية عن كلامه والله أعلم


باب إثبات المجاز في اللغة وذهب أكثر الناس إلى ذلك وحكي عن قوم المنع منه وليس يخلو خلافهم في ذلك إما أن يكون خلافا في معنى أو في عبارة والخلاف في المعنى ضربان احدهما أن يقولوا إن اهل اللغة لم يستعملوا الأسماء فيما تقول إنها مجاز فيه نحو اسم الحمار في البليد وهذا مكابرة لا يرتكبها أحد والآخر أن يقولوا إن أهل اللغة وضعوا في الأصل اسم الحمار للرجل البليد كما وضعوه للبهيمة وهذا باطل لأ نا كما نعلم باضطرار أنهم يستعملون ذلك في البليد فإنا نعلم أنهم استعملوا ذلك على طريق التبع والتشبيه للبهيمة وأن استحقاق البليد لذلك ليس كاستحقاق البهيمة ولذلك يسبق إلى الأفهام من قول القائل رأيت الحمار البهيمة دون البليد ولو كان موضوعا لهما على سواء لم يسبق إلى الأفهام أحدهما فإن قيل فإذا كان الحقائق تعم المسميات فلماذا تجوز بالأسماء عن ما وضعت له قيل لأن في المجاز من المبالغة والحذف ما ليس في الحقيقة ولهذا إذا وصفنا البليد بانه حمار كان أبلغ في الإبانة عن بلادته من قولنا بليد وقد يحصل الكلام مجازا بضرب من الحذف فيستعمل ذلك طلبا للتخفيف
وأما الخلاف في الاسم فبأن يسلم المخالف أن استعمال اسم الحمار في البليد ليس بموضوع له في الأصل وأنه بالبهيمة أخص لكنه يقول لا أسميه مجازا إذا عني به البليد لأن أهل اللغة لم يسموه بذلك بل أسميه مع قرينته حقيقة فيقال له إن أردت أن العرب لم تسمه بذلك فصحيحي وإن أردت أن الناقلين عنهم لم يسموه بذلك فباطل بتلقيبهم كتبهم بالمجاز وبأنهم يقولون في كتبهم هذا الاسم مجاز وهذا الاسم حقيقة وليس إذا لم تسمه العرب بذلك يمتنع أن يضع الناقلون عنهم له هذا الاسم ليكون آلة وأداة في صنائعهم لأن أهل الصنائع يفعلون ذلك ولهذا سمى النحاة الضمة المخصوصة

رفعا والفتحة نصبا ولم يلحقهم بذلك عيب وأما تسمية الخصم مجموع الاسم والقرينة حقيقة فانه لو صح ذلك لم يقدح في تسمية أهل اللغة الاسم بانفراد مجازا على ما حكيناه عنهم على أن الوصف بالمجاز وبالحقيقة يرجح إلى اللفاظ لأنها هي المستعملة في المعاني دون القرائن لأن القرائن قد تكون شاهد حال وغير ذلك مما ليس من فعل المتكلم
باب في حسن دخول المجاز في خطاب الله وفي أنه قد خاطب به ذهب الجمهور إلى أن الله سبحانه فد خاطبنا في القرآن بالمجاز ونفى بعض أهل الظاهر ذلك والدليل على حسن ذلك أن إنزال الله عز و جل القرآن بلغة العرب يقتضي حسن خطابة إياها فيه بلغتها ما لم يكن فيه تنفير كالكلام السخيف المنسوب قائله إلى العي وليس هذه سبيل المجاز لأن أكثر الفصاحة إنما تظهر بالمجاز والاستعارة وأما الدلالة على ان في القرآن مجازا فقول الله عز و جل جدارا يريد ان ينقض فاقامه وقوله وجاء ربك وقوله إلى ربها ناظرة وليس يخلو المخالف إما أن يقول إن هذه الألفاظ وضعت في الأصل للمعاني التي أرادها الله وهذا قد أفسدناه من قبل وإما أن يقول إن هذا الكلام كان مجازا في اللغة لهذه المعاني ثم نقل إليها بالشرع فصار من الحقائق الشرعية وهذا باطل لأنه لو كان كذلك لسبق إلى أفهام أهل الشرع معانيها التي أرادها الله كما سبق إلى أفهامهم الصلاة الشرعية عند سماعهم اسم الصلاة ومعلوم أنه لا يسبق إلى الأفهام عند سماع قول الله عز و جل إلى ربها ناظرة إلى ثواب ربها ناظرة
احتج المخالف بأشياء

منها أن المجاز لا ينبىء عن معناه بنفسه فورود القرآن به يقتضي الإلباس والجواب أنه لا إلباس مع القرينة الدالة على المراد
ومنها قولهم إن العدول إلى المجاز يقتضي العجز عن الحقيقة وذلك مستحيل على الله والجواب أن ذلك إنما يقتضي العجز عن الحقيقة لو لم يحسن العدول إلى المجاز مع التمكن من الحقيقة ومعلوم أن العدول إلى المجاز يحسن لما فيه من زيادة فصاحة واختصار ومبالغة في التشبيه ولو لم تكن في المجاز هذه الوجوه لجاز ان يكون فيه مصلحة لا نعلمها ولجاز أن يكون المجاز مع قرينته يساوي في الطول كثرة ألفاظ فيجري العدول إليه مجرى العدول من حقيقة إلى حقيقة
ومنها قولهم لو خاطب الله بالمجاز والاستعارة لصح وصفه بأنه متجوز في خطابه وبأنه مستعيرا والجواب أن إطلاق وصفه بالتجويز يوهم التسمح بالقبيح ولهذا إذا قيل فلان متجوز في أفعاله أفاد أنه متسمح بالقبيح فيها وأما قولنا مستعير فإنه يفهم من إطلاقه أنه استأذن غيره في التصرف في ملكه لينتفع به وكل ذلك يستحيل على الله عز و جل
باب ذكر ما يفصل به بين الحقيقة والمجاز اعلم أن الفصل بينهما إنما يكون من جهة اللغة إما بنص من اهل اللغة وإما باستدلال بعاداتهم والأسبق إلى أفهامهم وبما يجب للحقيقة والمجاز
أما الأول فنحو أن يقولوا هذه حقيقة وهذا مجاز أو يقولوا هذا الكلام إذا عني به كذا فقد عني به ما وضع له وإذا عني به كذا لم يكن قد عني به ما وضع له أو يقولوا إذا عني به كذا لم ينتظم لفظه معناه إما بزيادة او نقصان أو بنقل وإذا عني به كذا ينتظم لفظه معناه من غير زيادة ولا نقصان ولا نقل

وأما الاستدلال فبأن يسبق إلى إفهام أهل اللغة عند سماع اللفظة من دون قرينة معنى من المعاني دون آخر فيعلموا أنها حقيقة فيما سبق إلى الفهم لأنه لولا أنه قد اضطر السامع من قصد الواضعين إلى أنهم وضعوا اللفظة لذلك المعنى ما سبق إلى فهمه ذلك المعنى دون غيره ووجه آخر أن يكون أهل اللغة إذا أرادوا إفهام غيرهم معنى من المعاني اقتصروا على عبارة مخصوصة وإذا عبروا عنه بغيرها لم يقتصروا عليها فيعلموا أن العبارة التي اقتصروا عليها هي حقيقة في ذلك المعنى لأنه لولا ما استقر في أنفسهم من استحقاق ذلك المعنى لتلك اللفظة وانها تفيده وحده ما اقتصروا عليها
وقد فرق بينهما بالاطراد ونفيه فمتى اطرد الاسم في معنى على الحد الذي استعمل فيه من غير منع شرعي كان حقيقة فيه ومتى لم يطرد فيه من غير منع كان مجازا لأن المجاز لا يطرد ألا ترى أن وصفنا للرجل الطويل بأنه نخلة لما كان مجازا لم يطرد في كل طويل والصحيح أن نفي الاطراد من غير منع دليل على أن الاسم مجاز لأنه قد ثبت وجوب اطراد الاسم في حقيقته واطراده لأنه يدل على أنه حقيقة لأن المجاز وإن لم يجب اطراده فلا مانع يمنع من اطراد بعضه وما ذكروه من التمثيل بالنخلة فهو مثال واحد ولا يمكن أن يدعى انه قد استقرئت الألفاظ كلها فلم يوجد فيها مجاز مطرد ولو كان ذلك قد علم لكان قد علمت ألفاظ المجاز وعلم أن ما عداها حقيقة قبل العلم بنفي اطرادها وذلك يقتضي أن يكون الفصل بينهما قد علم قبله
وقد فرق بينهما بأن اللفظة إذا افادت الشيء على الحقيقة يصرف فيها بجمع وتثنية واشتقاق وتعلق بالغير نحو اسم الأمر إذا وقع على القول فإنه يتعلق بالمأمور به فيقال هو أمر بكذا وإذا لم يجمع الاسم ولم يثن ولم يشتق منه لم يكن حقيقة ولهذا لم يكن استعمال اسم الأمر في الفعل حقيقة لأنه لا يقال فيه إنه أمر بكذا وذلك أنه إذا تصرف في اللفظة علم أنها متمكنة في معناها وهذا تقريب لأن اسم الحمار إذا وقع على البليد ثني وجمع فقيل في جماعة

البلد حمير وقولنا رائحة تقع على الرائحة حقيقة ولا يشتق منه وقيل أيضا إذا علمنا استعمال أهل اللغة اللفظة في شيء ولم يدل دلالة على أنها مجاز فيه كانت حقيقة فيه ولقائل أن يقول إنما علمنا أنها حقيقة لعلمنا أنها غير مجاز وإنما علمنا أنها غير مجاز لنفي ادلة المجاز عنها وعن تلك الأدلة يسئلون فما هي وقيل أيضا إن الشيء إذا سمي باسم ما هو جزاء عنه كقول الله عز و جل وجزاء سيئة سيئة مثلها أو باسم ما يؤدي إليه كالنكاح أو باسم ما يشبهه كتسمية البليد حمارا كان مجازا ولقائل أن يقول إن للتشبيه والجزاء وغير ذلك وجوها لأجلها تجوزوا وليست أمارات للمجاز لأنه لا يمتنع أن يستعملوا الاسم في الشيء وفيما يشبهه وفيما هو جزاء عنه وفيما يؤدي إليه أصل الوضع فينبغي أن يعلم أن الاسم مجاز فيها هو جزاء عنه ثم يعلم أنهم إنما تجوزوا فيه لأجل ذلك وقيل إذا علقت الكلمة بما يستحيل تعلقها به علم أنها مجاز فيه نحو قول الله عز و جل وسئل القرية وهذا الوجه لا يصح لأنا إنما علمنا بالعقول أن القرية لم ترد فأما أن اسم القرية مجاز في أهلها فيحتاج إلى دلالة لأنه لا يجب إذا لم يرد المتكلم معنى من المعاني بكلامه وأراد غيره أن يكون الكلام مجازا في ذلك الغير ألا ترى أن الكلمة لو كانت مشتركة بين حقيقتين وعلمنا استحالة إرادة الحكيم لأحدهما وأنه قد أراد الأخرى لم تكن الكلمة مجازا فيه
باب ذكر أحكام الحقيقة والمجاز اعلم أن من أحكام الحقيقة والمجاز أنهما لا يدخلان أسماء الألقاب لأن الحقيقة هي ما أفيد بها ما وضعت له والمجاز هو ما أفيد به معنى غير ما وضع له على ما تقدم ونعني بقولنا ما وضعت له وضع أهل اللغة وكون اللفظ

حقيقة ومجازا تبعا لكونها موضوعة لشيء قبل استعمال المستعمل حتى إن استعملها المستعمل فيما وضعت له كانت حقيقة وإن استعملها في معنى آخر كانت مجازا وأسماء الألقاب لم تقع على مسمياتها المعينة بوضع من اهل اللغة ولا من الشرع حتى يكون من اتبعهم فيها في اصل موضوعهم كان قد استعملها على الحقيقة ومن استعملها فيه على طريق التبع كان متجوزا بها
ومن احكام الحقيقة والمجاز أن لا يخلو منهما كلام وضعه أهل اللغة لشيء واستعمله المستعمل فيما استعملوه لأن المتكلم به إذا عني به ما عناه اهل اللغة فإما أن يعني به ما عنوه في الأصل فيكون حقيقة أو على سبيل التبع فيكون مجازا
ومن احكام الحقيقة والمجاز أنه لا يجوز أن يكون اللفظ مجازا في شيء ولا يكون حقيقة في غيره ويجوز أن يكون حقيقة في شيء ولا يكون مجازا في غيره أما الأول فلأن المجاز هو ما أفيد به معنى في المواضعة غير ما وضع في أصلها وهذا تصريح بأنه قد وضع في الأصل لشيء آهر فاللفظة متى استعملت فيه كانت حقيقة وأما الثاني فلأن الحقيقة هي ما افيد بها ما وضعت له وليس يوجب كونها موضوعة لشيء أن تكون مستعملة في غيره على طريق التبع
ومن حكم اللفظ أن يحمل على حقيقتة إذا تجرد ولا يحمل على مجازه إلا لدلالة لأن واضع الكلام للمعنى إنما يضعه ليكتفي به في الدلالة عليه وليستعمله فيه فكأنه قال إذا سمعمتوني أتكلم بهذا الكلام فاعلموا أنني أعني به هذا المعنى وإذا تكلم به متكلم بلغتي فليعن به هذا فكل من تكلم بلغته فيجب أن يعني به ذلك المعنى ولهذا يسبق إلى أفهام السامعين ذلك المعنى دون ما هو مجاز فيه ولو قالوا لنا في المجاز مثل ذلك لكان حقيقة ولم يكن مجازا
والحقيقة قد يجوز أن تصير بالشرع او بالعرف مجازا فيما كانت حقيقة فيه ويجوز أن يصير بهما المجاز حقيقة فيما كان مجازا فيه

ومن حكم الحقيقة أن تطرد في فائدتها على الحد الذي يفيدها إما مشروطة أو مطلقة إلا أن يمنع من ذلك مانع مثال المطلقة قولنا طويل يفيد ما اختص بالطول فإذا علمنا أن أهل اللغة سموا الجسم طويلا عند اختصاصه بالطول ولولا ذلك ما سموه طويلا علمنا أنهم سموه بذلك لأجل طوله فسمينا كا جسم فيه طول بأنه طويل ومثال المشروطة تسميتهم ما وجد فيه السواد والبياض من الخيل بانه ابلق فانا نطرد ذلك في كل فرس وجدا فيه دون سائر الأجسام وهذا هو معنى قولنا إن القياس مستعمل في الحقائق
والمخالف في ذلك إما أن يخالف في الاسم أو في المعنى فإن وافق في المعنى وخالف في الاسم فقوله من جهة العبارة باطل لأنه قد أعطى معنى القياس وهو إثبات حكم الشيء في غيره بالرد إليه لعلة من العلل وإن خالف في المعنى فمن وجهين أحدهما أن يمنع من تعدى الاسم إلى غير ما شاهده أهل اللغة وإن وقعت المساواة في فائدة الاسم وهذا إن قاله ففيه انقطاع اللغة وليس كذلك إذا لم يطرد المجاز لأن الحقائق مستوعبة للمسميات وليس يمنع من اطراد الحقائق قول الله سبحانه وعلم آدم الأسماء كلها لأن ذلك إنما يقتضي تعليمه أسماء ما حضره دون ما يحدث ولأن نص الله سبحانه له على الأسماء لا يمنع من لم ينص له أن يقيس على أنه إذا لم يجز أن تكون الأسماء كلها توقيفا وجب تخصيص قول الله عز و جل وعلم آدم الأسماء كلها
والوجه الآخر أن يطرد المخالف الاسم في معناه إلا أن يقول إنما فعلت ذلك لعلمي باضطرار من قصد واضعي اللغة أنهم سموا بقولهم طويل كل ما اختص بالطول مما حدث ومما سيحدث ويمكن أن يقال اه في ذلك إنما علمت ذلك لعلمك أنهم سموا الطويل طويلا لاختصاصه بالطول وأنه إذا

كان هذا غرضهم وجب طرده ويقال له فهب أنك علمت ذلك ضرورة أليس لو لم تعلم ذلك ضرورة وعلمت أنهم سموا الطويل طويلا لاختصاصه بالطول لا غير لكنت تعلم أن كل ما حصل ذلك فيه فيجب أن يسمى طويلا فلا بد من يلي فيقال له فقد تم غرضنا من وجوب اطراد الحقائق
فأما المانع من اطراد الحقيقة فضربان
أحدهما أن يكثر استعمالها في المجاز كثرة توهم المجاز ولا يجوز إطلاقها في موضع لا يحسن إيهام ذلك المجاز فيه نحو وصف الله عز و جل بأنه دليل عند من يقول إن قولنا الدليل حقيقة في فاعل الدلالة لأنه قد كثر استعماله في الدلالة فصار إطلاق ذلك يوهم
والضرب الاخر السمع فإنه منع من تسمية الله بأنه فاضل وإن أفاد المدح
وأما المجاز فينبغي أن يقر في كل نوع ما استعمل فيه ولا يعدى عنه إلى غيره نحو تسميتهم الرجل الطويل بأنه نخلة فإنه يجوز أن يسمى كل رجل طويل بذلك ولا يجب أن يسمى غير الرجال بذلك والحقيقة تتعدى النوع ولهذا لما سموا الرجل الأسود بأنه أسود جرى ذلك على غيره من الأجسام السود ولو اطرد المجاز كاطراد الحقيقة لما كان بينهما فصل فإن قيل الفصل بينهما أن الحقيقة أصلية والمجاز طارىء قيل قد أجيب عن ذلك بأن الحقيقة قد تطرأ أيضا على الحقيقة فإن قيل الفصل بينهما أن المجاز يحتاج في حمله على ما هو مجاز فيه إلى دلالة وليس كذلك الحقيقة قيل بل قد تحتاج الحقيقة إلى دليل إذا كان اللفظ مشتركا بين حقيقتين ولقائل أن يقول الفصل بينهما أن المجاز لا يسبق إلى الفهم ما هو مجاز فيه ويسبق إلى الفهم ما اللفظ حقيقة فيه سواء كان حقيقة في معنى واحد أو اكثر
ويمكن أن يحتج لنفي اطراد المجاز بأن المتجوز بالاسم في غير ما وضع له إنما يرخص فيه لغرض لا يجب أن يوجد في غيره نحو أن يكون قد اهتم بذلك

الشيء فدعاه بشدة اهتمامه به إلى أن يبالغ في وصفه فيشبهه بغيره نحو تسميتهم الرجل الطويل بأنه نخلة ولا يجب حصول هذا الغرض في غير الناس ولكنه قائم في كل رجل وقع الاهتمام به فإن قيل فقد طردتم المجاز في نوعه قيل إن أريد باطراده هذا فذلك لا نأباه فإن قيل فلعلهم تجوزوا بالنخلة في الطويل بشرط كونه من الرجال فيطرد الاسم فيما وجد فيه شرطه دون ما عدم فيه شرطه فيتساوى الحقيقة والمجاز في ذلك قيل هذا تسليم لما نريده من أن المجاز لا يتعدى نوعه وإن عللتموه بما ذكرتم ولقائل أن يقول إذا كانوا قد تجوزوا باسم النخلة في الرجل الطويل على طريق المبالغة في وصفه بالطول لاهتمامهم فيجب إذا حصل هذا الغرض في غيره من الأجسام أن يتجوزوا بهذا الاسم فيه وفي ذلك اطراد الاسم والجواب أنه إذا كان الغرض قد لا يحصل في كل موضع
فقد تم ما أردناه من نفي وجوب اطراد المجاز
باب القول في الحروف اعلم أن الكلام لما انقسم إلى الاسم والفعل والحرف وكان الخطاب تتغير فوائده بالحروف الداخلة عليه وكان أكثر الغرض بهذا الكتاب ذكر الخطاب الذي يستدل به على الأحكام وجب أن نذكر فيه الحروف أيضا
فنقول إن من الكلم ما يدخل في الكلام فيغير فائدته وينبىء عن حال بعضه عند بعض وقد يكون ذلك اسما وقد يكون حرفا وذلك ينبىء عن تعلق بعض معاني الكلام ببعض إما على سبيل المشاركة أو لا على سبيل المشاركة
فالاول إما أن ينبىء عن مشاركة على البدل أو على الجمع فالأول لفظ أو تقول جالس زيدا أو عمرا فتكون قد شركت بينهما في الجلوس على البدل وقد يكون أو بمعنى الشك تقول سلمت على زيد أو عمرو

وأما الثاني وهو الذي ينبىء عن المشاركة على الجمع فإنه إما أن ينبىء عن المشاركة فقط وغما أن ينبىء عن وقت المشاركة فالمنبىء عن المشاركة فقط هو الواو كقولك رأيت زيدا وعمرا فيفيد أنهما اشتركا في الرؤية وقد تكون الواو بمعنى الاستئناف كقول الله سبحانه وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم إذا وقع الابتداء بقوله والراسخون في العلم وقيل إنها بمعنى أو كقول الله سبحانه أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع قيل إن المراد به أو ثلاث أو رباع ويمكن أن يقال إنما وضعت جملة الملائكة بذلك فاقتضى أن بعضهم على الصفة الأولى وبعضهم على الصفة الثانية وبعضهم على الصفة الثالثة فيكون المراد بالواو الجمع أي أن ذلك اجتمع لجملة الملائكة وأما المنبىء عن وقت المشاركة فإما أن يفيد أن المشاركة حصلت في وقت واحد كقولك رأيت زيدا مع عمرو وإما أن يفيد التقديم كقولك قبل أو التاخر وهذا إما أن لا يفيد تقدير التأخير بزمان أو يفيد ذلك فالأول نحو بعد والثاني إما أن لا يفيد تقدير التأخر بزمان طويل وإما بزمان قصير فالأول ثم فإنها تفيد الترتيب والتراخي وقيل إنها يتجوز بها فيستعمل بمعنى الواو كقول الله سبحانه فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد لأنه لا يجوز أن يكون شاهدا بعد أن لم يكن شاهدا والثاني الفاء وذلك انها تفيد التعقيب الممكن بين الفعلين كقولك دخلت البصرة فالكوفة يفيد أن دخولك الكوفة كان بعد دخولك البصرة بزمان يسير جرت العادة بمثله وليس يجب أن يكون بينهما من الزمان اليسير مثل ما يكون بين لقاء زيد وعمرو إذا قلت لقيت زيدا فعمرا لأنه يمكن في هذا من الزمان اليسير ما لا يمكن في ذلك
وأما ما ينبيء عن تعلق بعض المعاني ببعض لا من جهة المشاركة فإنه إما أن

يكون ظرفا أو ابتداء من الظرف أو انتهاء إليه فالأول ضربان أحدهما أن يفيد ذلك بلفظ الباء والآخر بلفظ في أما الأول فقول الله سبحانه وامسحوا برءوسكم قال قاضي القضاة إن اللغة تفيد تعميم الرأس لأن المسح معلق بما يسمى رأسا وجملة الرأس تسمى رأسا دون أبعاضه والعرف يقتضي إلحاق المسح بالرأس إما جميعه وإما بعضه لأن المعقول من قولنا مسحت يدي بالمنديل في العرف ما ذكرناه وعند الشيخ أبي عبد الله أن قول الله برءوسكم مجمل يحتاج إلى بيان لأنه قد ترد هذه اللفظة ويراد بها الكل وقد ترد ويراد بها البعض والأول ما ذكره قاضي القضاة وأما لفظه في فقولنا زيد في الدارفيكون الدار ظرفا له وقد يقال زيد في الصلاة تشبيها بالظرف لأنه لما انقطع إلى الصلاة عن غيرها جرى مجرى من انقطع إلى مكان دون غيره
وأما الابتداء فلفظه من تقول خرجت من البصرة إلى الكوفة وقد تكون صلة في الكلام كقول الله سبحانه يغفر لكم من ذنوبكم المراد يغفر لكم ذنوبكم وقيل إنها تكون للتبعيض كقول القائل أكلت من هذا الخبز وقولنا باب من حديد والصحيح أن قولنا باب من حديد يفيد الجنس دون التبعيض لأنه لو لم يكن في الوجود حديد إلا ذلك الباب لقيل باب من حديد
وأما الانتهاء فلفظه إلى تقول سرت من البصرة إلى بغداد والغاية والحد قد يدخلان في الخطاب وقد لا يدخلان فيه وقال أبو عبد الله إن الغاية لما دخلت مرة ولم تدخل أخرى كانت مجملة والصحيح أنها لا تفيد الدخول في الخطاب لأن قول الله سبحانه فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق يفيد إيجاب غسل اليد بكون نهايته المرافق ومن غسل يده إلى أول

المرافق صدق عليه القول بأن غسله ليديه كان نهايته المرافق فيكون بذلك فاعلا لما اقتضاه الظاهر فسقط عنه الأمر وإنما يعلم وجوب غسل المرافق بدليل زائد كما أن من قيل له ادخل الدار ففعل ما يقع عليه اسم دخول إلى الدار يسقط عنه الأمر إذ الأمر يسقط بوجود أول الاسم وكذلك من خرج من البصرة إلى بغداد يقال قد انتهى إلى بغداد فبان أنه ليس من شرط الغاية أن يدخل في الخطاب
فأما الواو العاطفة فإنها لا تقتضي الترتيب وقال بعض الشافعية إنها تقتضي الترتيب ودليلنا أن الإنسان إذا قال رأيت زيدا وعمرا لم يسبق إلى الفهم أنه رأى زيدا قبل عمرو ولهذا لو قال رأيت زيدا وعمرا بعده أفاد فائدة محددة وأيضا فانها لو أفادت الترتيب لكان قول القائل رأيت زيدا وعمرا معا أو قبله إما مناقضة أو مجازاكما أن قول القائل رأيت زيدا ثم عمرا معا أو قال ثم عمرا قبله مناقضة وأهل اللغة لم يجعلوا ما ذكرنا مناقضة ولا مجازا فان قيل أليس لفظة ثم تفيد التراخي ويجوز أن يقول القائل جاءني زيد ثم جاءني عمرو عقيبه ولا يجوز أن يقال تراخى مجيء عمرو عن مجيء زيد غير أنه جاء عقيبه فهلا كانت الواو تجري مجرى ثم في الترتيب ويتجوز بها في الجمع ولا يتجوز بلفظة ثم في ذلك قيل إنا لا نمنع أن تقوم لفظة مقام لفظة فيتجوز باحداهما في شيء ولا يتجوز بالأخرى فيه وإنما الذي احتججنا به هو أن أهل اللغة لم يجعلوا هذا الكلام مناقضة ولا مجازا على أنه لا يحسن أن يقال جاءني زيد ثم عمرو عقيبه
دليل قال أهل اللغة إن واو العطف في الأسماء المختلفة تجري مجرى واو الجمع وياء التثنية في الأسماء المتماثلة وإنهم لم يتمكنوا من جمع الأسماء المختلفة بواو الجمع استعملوا فيها واو العطف ولما كان قول القائل رأيت الزيدين وجاءني الزيدون يفيد اشتراكهم في المجيء والرؤية ولا يفيد الترتيب فكذلك إذا قال جاءني زيد وعمرو وخالد فان قيل لا يمتنع أن تكون

واو العطف تقوم مقام واو الجمع في إفادة الاشتراك وتختص بافادة الترتيب كما أن ثم والفاء تجمعان بين الشيئين في العطف وتجريان في ذلك مجرى واو الجمع وتختصان بافادة الترتيب والجواب أن أهل اللغة لو أرادوا أن واو العطف تجري مجرى واو الجمع في إفادة الاشتراك فقط وأفادت الترتيب لقالوا أيضا إن لفظة ثم والفاء قد أجريتا مجرى واو الجمع وياء التثنية أيضا فلما لم يقولوا ذلك في ثم والفاء وقالوا ذلك في الواو علمنا أن واو العطف تقوم مقام واو الجمع في إفادة الجمع فقط
دليل قال أهل اللغة إن الواو لا تفيد الترتيب وقولهم بأجمعهم حجة في اللغة فان قالوا قد حدكي عن الفراء أنه قال الواو لا تفيد الترتيب إلا حيث يستحيل الجمع نحو قول الله سبحانه يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا قيل هذا يدل على أنه جعلها للترتيب لأجل دلالة وهو تعذر الجمع وفي هذا موافقة أهل اللغة وإذا ثبت أن ظاهرها لا يقتضي الترتيب لم يكن تعذر الجمع دليلا على وجوب الترتيب لأنه يمكن أن يتقدم السجود على الركوع ولو أفادت الترتيب بظاهرها إذا تعذر الجمع لأفادته إذا صح الجمع وصح الترتيب
وقد استدل على أن الواو لا تفيد الترتيب بأنها لو افادته لدخلت في جواب الشرط كالفاء ومعلوم أنه لا يحسن أن يقول القائل إذا دخل زيد الدار وأعطه درهما ولقائل أن ينقض ذلك بلفظة ثم ولفظة بعد وأيضا فإن الواو وإن اقتضت عندهم الترتيب فانها تفيد العطف ولا يمكن العطف فيما ذكروه لأنه لم يتقدم ما تكون الواو عاطفة عليه
واستدل على ذلك أيضا بأن الجمع من غير ترتيب معقول فلم يكن بد من لفظة تفيده في اللغة وليس في الألفاظ ما تفيده إلا الواو وليس يجوز أن

تكون لفظة مع هي التي تفيد ذلك لأن لفظة مع تفيد الاشراك في زمان واحد والذي يجب أن يكون في اللغة هو لفظة لا تفيد إلا الاشراك فقط ولقائل أن يقول في اللغة ما يفيد ذلك غير الواو وهو قول القائل رأيت زيدا رأيت عمرا وإن احتج الذاهبون إلى الترتيب بأن الانسان إذا قال رأيت زيدا وعمرا علمنا أنه لولا أنه راى زيدا قبله لما بدأ به قيل له فاذا الترتيب استفيد من البداية بزيد لا من أجل الواو ويلزم على ذلك أن يستفاد التنرتيب من قول القائل رايت زيدا رأيت عمرا وعلى أنه يجوز أن يكون إنما بدأ بزيد لأنه أراد الإخبار عنه فقط ثم بدا له في الإخبار عن عمرو ويجوز أن يكون بدأ به بمحبته له أو لأن اهتمامه بالإخبار عنه أشد من الاهتمام بالاخبار عن عمرو أو لأن غرضه في الإخبار عن كل واحد منهما على السواء فكان البداية بأحدهما كالبداية بالآخر فبدأ بما اتفق منهما


الكلام في الأوامر
باب فصول الأمر اعلم أن صيغة الأمر لما وضع لها اسم يفيدها ووضعت هي لفائدة ويجوز أن تكون مطلقة ويجوز أن تكون مقيدة بشرط أو صفة ولها أمثال يجوز أن تتكرر وهي أيضا من جملة الأفعال يجوز أن تحسن وتقبح وجب لذلك أن يقع الكلام في الأمر من هذه الوجوه
أما الأول فبأن ننظر هل اسم الأمر يفيد على طريق الحقيقة صيغة الأمر فقط أو يفيد غيرها أيضا على طريق الحقيقة ونبين أن اسم الأمر إذا وقع على الصيغة ما الذي يفيد فيهما
وأما الوجه الثاني وهو فائدة الأمر فانه لما كان الأمر هو بعث من آمر لمأمور على إيقاع فعل في زمان وجب أن ننظر في فائدته في هذه الأشياء كلها فننظر في فائدته في الفعل الذي هو بعث عليه وفيما يتبع ذلك الفعل
أما نظرنا في فائدته من الفعل فمن وجوه منها أن ننظر هل فائدته في الفعل واحدة أو أكثر وإن كانت واحدة فهل هي وجوب الفعل أم لا وإن أفاد وجوب الفعل فهل يفيد وجوبه وإن تقدمه حظر الفعل ام لا ولما كان الأمر قد يتعلق بالفعل وبالأفعال الكثيرة على التخيير نظرنا هل إذا تعلق بأفعال على البدل أفاد الوجوب فيها على البدل أم لا وليس يليق هذا

الباب بأبواب العموم لأن أحدا لا يقول إن الأمر يقتضي وجوب جميع تلك الأفعال على الجمع وننظر أيضا هل يقتضي الأمر إجراء الفعل أم لا
وأما النظر في فائدته فيما يتبع الفعل فبأن ننظر هل يقتضي وجوب ما لا يتم المأمور به إلا معه أم لا وهل يقتضي قبح أضداد المأمور به أم لا
وأما النظر في فائدته في الوقت فان الأمر إما أن يكون مقيدا بوقت محدود وإما أن لا يكون مقيدا بوقت فيجب أن ننظر فييما ليس بمقيد هل يقتضي التكرار أم لا وفيما هو مشروط بشرط يتكرر هل يقتضي التكرار بتكرار الشرط أم لا وإن لم يفد مطلقة التكرار هل يجب تقديم فعل المرة أم لا وهل إذا لم يقدمها المكلف اقتضى الأمر فعلها فيما بعد أم لا وإن كان الأمر مقيدا بوقت محدود له أول وآخر نظرنا هل يوجب الأمر الفعل في جميعه على البدل أو يوجب تقديمه في أوله أو يوجب تأخيره إلى آخره وهل إذا عصى المكلف المأمور به اقتضى الأمر فعله بعده أم لا
وأما النظر في فائدته الملتحقة بالآمر فبأن ننظر هل يدخل فاعل الأمر في الأمر أم لا
وأما النظر في فائدته فيما يرجع إلى المأمور فبأن ننظر هل يدخل الكافر والمرأة والعبد والصبي في مطلقه أم لا وإذا تناول جماعة وكان بعضهم يقوم مقام بعض في ذلك الفعل هل يفيد الإيجاب على جميعهم على البدل أم لا غير أن الكلام في دخول الكافر والمرأة والعبد والصبي يليق بأبواب العموم والخصوص لأنه كلام في شمول الخطاب لهم ونفي شموله لهم ومن يقول إنهم يدخلون تحت الخطاب يقول ذلك لأن لفظ العموم يشملهم ومن قال لا يدخلون فيه أو بعضهم يقول إن فقد تمكنهم من الفعل يخرجهم عن الخطاب
وأما الكلام في الوجه الثالث وهو الأمر المفيد بشرط وصفة فننظر فيه هل

يجوز أن يؤمر الانسان بشرط زوال المنع وننظر أيضا هل إذا كان الايجاب معلقا بشرط أو صفة أو غاية فما عدا ذلك ينتفى عنه الايجاب أم لا يلزم ذلك
وأما الكلام في الوجه الرابع وهو تكرار الأمر فبأن ننظر إذا تكرر بحرف عطف أو بغير حرف عطف هل تتكرر فائدته أم لا
وأما الوجه الخامس فإنا ننظر في شرائط حسن الأمر
ونحن بمعونة الله نأتي على الكلام في هذه الأبواب على النسق إن شاء الله عز و جل
باب فيما يقع عليه قولنا أمر على سبيل الحقيقة اعلم أنه لا شبهة في أن قولنا أمر يقع على جهة الحقيقة على القول المخصوص وذلك غير مفتقر إلى دلالة واختلفوا في وقوعه على الفعل فقال أكثر الناس إنه يقع عليه على سبيل المجاز وقالت طائفة من أصحاب الشافعي إنه يقع عليه على سبيل الحقيقة وقالت لذلك إن أفعال النبي عليه السلام على الوجوب لأنها داخلة تحت قول الله سبحانه فليحذر الذين يخالفون عن أمره وأنا أذهب إلى أن قول القائل أمر مشترك بين الشيء والصفة وبين جملة الشأن والطرائق وبين القول المخصوص يبين ذلك أن الانسان إذا قال هذا أمر لم يدر السامع أي هذه الأمور أراد كما أنه إذا قال إدراك لم يدر ما الذي أراد من الرؤية واللحوق فاذا قال هذا أمر بالفعل أو قال أمر فلان مستقيم أو قال قد تحرك هذا الجسم لأمر من الأمور وجاءنا زيد لأمر من الامور عقل السامع من الأول القول

المخصوص ومن الثاني الشأن ومن الثالث أن الجسم تحرك لصفة من الصفات وشيء من الأشياء وأن زيدا جاءنا لشيء من الأشياء أو غرض من الأغراض فبان أن قبولنا أمر مشترك بين هذه الأشياء وأنه يتخصص بواحد واحد منها بحسب ما يقترن به والدلالة على أن قولنا أمر ليس بحقيقة في الفعل أنه لو كان حقيقة فيه والدلالة على أن قولنا أمر ليس بحقيقة في الفعل أنه لو كان حقيقة فيه لاطرد فكان يسمى الأكل أمرا والشرب أمرا كما تقدم فو قولنا أسود
فان قالوا أليس قد يقال في الأكل الكثير هذا أمر عظيم قيل إنما يقال فيه ذلك من حيث هو شيء ألا ترى أنه لا يقال في الفعل القليل إنه أمر ونعني به الفعل وإنما نعني به أنه لا شيء من الأشياء ألا ترى أنه يقال فيه أمر من الامور على حد ما يقال ذلك فيما ليس بفعل
فان قالوا إن اسم الامر يقع على جملة ما وجد من الأفعال ولا يلزمنا أن يطرد في آحادها لأنا لم نجعله عبارة عن آحادها والجواب إنا وإنما تكلمنا على من جعل اسم الأمر عبارة عن آحاد الأفعال وهو مذهبكم ولهذا استدللتم بقول الله سبحانه وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر والمراد بذلك عندكم كل فعل من أفعاله فأما من قال هو عبارة عن جملة الأفعال فقد أبعد أن اسم الأمر يتناول جملة شأن الانسان أفعاله وغير أفعاله ولا طريق إلى العلم بان جملة الافعال وحدها يقع عليها هذا الاسم ألا ترى أن قول القائل أمر فلان مستقيم وهذا يدخل فيه شأنه وطرائقه أفعاله وغير أفعاله
ومما احتج به على أن اسم الأمر لا يتناول الفعل حقيقة هو أنه لو تناوله على الحقيقة لوجب أن يشتق لفاعله منه اسم آمر وهذا لا يصح لأنه قد

بينا أنه لا يجب الاشتقاق من الحقائق ألا ترى أن قولنا رائحة يقع على الرائحة حقيقة ولا يشتق منه وكذلك قولنا لون وكذلك طعم فانه ليس من أمارة الحقيقة التثنية والجمع لأن اسم الحمار إذا وقع على البليد ثني وجمع مع أنه مجاز فيه ولا يلزمنا نحن من وجه آخر لأنا إذا جعلناه عبارة عن شأن الانسان وذلك يدخل فيه فعله وغير فعله لم يجز أن يشتق منه اسم آمر لأن ذلك ينبىء عن الفعلية يعني الاشتقاق
ومنها أنه كان يجب أن يقال في فاعل الفعل أمر بكذا وأن يلزم الفعل الطاعة والمعصية كالقول وهذا لا يصح لان للقوم أن يقولوا نحن نجعله مشتركا بين القول الذي يتعدى فيقال فيه إنه أمر بكذا وبين الفعل الذي لا يتعلق بغيره ويتعدى إليه ولا يقال فيه أمر بكذا ولا يلزمه الطاعة والمعصية وهكذا الجواب إن استدل به علينا في وقوعه على الشأن
واحتج من جعله واقعا على الفعل حقيقة بوجوه
منها قول الله سبحانه وما أمر فرعون برشيد والجواب أنه لا يمتنع أن يكون أراد قوله ولهذا قال فاتبعوا أمر فرعون والاتباع إنما يكون في القول
ومنها قوله سبحانه وتعالى وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر والجواب أنه ليس المراد بذلك أن فعله كلمح بالبصر وإنما المراد بذلك أن من صنعته وشأنه أنه إذا أراد شيئا وقع كلمح البصر في السرعة
ومنها قولهم قد خولف بين جمع الأمر إذا أفاد القول وبين جمعه إذا أفاد الفعل فقيل في الأول أوامر وفي الثاني امور فدل على أنه حقيقة فيهما والجواب أنه قد حكي عن أهل اللغة أن الأمر لا يجمع

أوامر لا في القول ولا في الفعل وأن أوامر جمع آمرة وأيضا فان أمر وامور يقع كل واحد منهما موقع الآخر إن استعمل في الفعل على ما ذكروه وليس أحدهما جمعا للآخر ألا ترى أنه يقال أمر مستقيم فيفهم منه ما يفهم من قولنا اموره مستقيمة وعلى أن اختلاف جمعيهما ليس بأن يدل على أنه حقيقة فيهما بأولى من أن يدل على أنه مجاز في أحدهما وحقيقة في الآخر فان قيل الجمع أحد أدلة الحقيقة وقد جمع الأمر أمورا إذا استعمل في الفعل كان لمن يسلم لهم استعمال اسم الأمر في الفعل أن يجيب بالوجهين الأولين فأما نحن فلا نسلم ذلك وإنما نقول إنه مستعمل في جملة شأن الانسان وأحواله أفعاله وغير أفعاله
ومنها قولهم لو وقع قولنا أمر على الفعل على سبيل المجاز لكان لها مجازا إما بالزيادة وإما بالنقصان وإما بالنقل والتشبيه وليس بين القول والفعل شبه فعلمنا أنه ليس بمجاز فيه وجوابنا أن اسم الأمر ليس يقع على الفعل من حيث هو فعل لا على سبيل المجاز ولا على سبيل الحقيقة وإنما يقع على جملة الشأن حقيقة وهو المراد بقول الناس امور فلان مستقيمة فأما أصحابنا فانهم سلموا وقوع ذلك على الفعل وقالوا إنه مجاز فيه بزيادة معنوية لأن جملة أفعال الانسان لما دخل فيها القول سميت الجملة باسم جزئها وهذا لا يصح لأن الانسان قد يقول أمر فلان في تجارته أو صحته مستقيم ولا يدخل في ذلك أمره الذي هو القول وقيل ايضا إن الأفعال تشبه الأوامر في أن كل واحد منهما يدل على سداد أغراض الانسان ولا يلزم أن يسموا النهي والخبر أمرين لأن المجاز لا يجب اطراده وهذا لا يصح لأن القول المخصوص إنما وقع عليه اسم من حيث كان نعتا مخصوصا على الفعل فكان يجب أن يقع الشبه بينه وبين الفعل من هذه الجهة وإن لم يشتبها في فائدة الاسم من كل وجه يجب أن يكون المتلفظ باسم الأمر إذا عنى به الفعل أن يعني به ما ذكروه من الشبه ومعلوم أن ذلك لا يخطر بباله ألا ترى أن الرجل إنما يجوز اسم الأسد فيه من حيث أشبهه في الشجاعة التي هي

معظم فائدة قولنا أسد ومن يسمي الشجاع أسدا فانه يعني شجاعته
باب في أن قولنا أمر إذا وقع على القول ما الذي يفيد اعلم أنه يفيد امورا ثلاثة أحدها يرجع إلى القول فقط وهو أن يكون على صيغة الاستدعاء والطلب للفعل نحو قولك لغيرك افعل وليفعل والآخران يتعلقان بفاعل الأمر أحدهما أن يكون قائلا لغيره افعل على طريق العلو لا على طريق التذلل والخضوع والآخر أن يكون غرضه بقوله افعل أن يفعل المقول له ذلك الفعل وذلك بأنه يريد منه الفعل أو بأن يكون الداعي له إلى قوله افعل أن يفعل المقول له الفعل وليس يليق الفصل بين الموضعين باصول الفقه
أما الشرط الأول فلا شبهة في أن اسم الأمر يقع حقيقة على ما هو من القول بصيغة افعل أو ليفعل فانه لا يقع على سبيل الحقيقة على الخبر والنهي والتمني ولذلك لا يقال لفاعل ذلك آمر
وأما الشرط الثاني فبين أيضا وهو أولى من ذكر علو الرتبة لأن من قال لغيره افعل على سبيل التضرع إليه والتذلل لا يقال إنه يأمره وإن كان أعلى رتبة من المقول له ومن قال لغيره افعل على سبيل الاستعلاء عليه لا على سبيل التذلل له يقال إنه أمر له وإن كان أدنى رتبة منه ولهذا يصفون من هذه سبيله بالجهل والحمق من حيث أمر من هو أعلى رتبة منه
وأما الشرط الثالث وهو الارادة فمختلف فيه بالخبر به لا بشرطه لقولها إن الله يأمر بالطاعة ولا يريدها ومن الفقهاء من يقول إن الأمر أمر لصيغته وذلك يوهم أنهم يقولون إنه استحق الوصف بانه أمر لصيغته والبغداديون من أصحابنا يقولون إن الأمر أمر لعينه والكلام في هذه المسئلة يكون من وجهين أحدهما أن نفرض أن للأمر حكما لاختصاصه به

يكون امرا ونبين أن الوجه في اختصاصه بذلك الوجه هو الارادة على طريق التعليل والوجه الآخر أن لا يثبت للصيغة حكما يرجع إليها وننظر هل المعقول من قولنا أمر هو الصيغة وحدها أو الصيغة مع شرط آخر هو الارادة وإنما فصلنا بين الوجهين لأن كثيرا من الناس ربما أدخل الكلام في أحدهما في الآخر ونحن نجري الكلام على الوجه الثاني لفساد الوجه الأول فنقول إن المعقول من قولنا إن اللفظة أمر هو أنها على صيغة مخصوصة مفعولة على وجه العلو وأنها طلب للفعل وبعث عليه ولسنا نعقل من هذه اللفظة شيئا آخر وقد تقدم بيان القول في الرتبة والصيغة فأما كون الصيغة طلبا فنحن نشرع في تفصيله فنقول ليس يخلو إما أن تكفي صيغة الأمر في أن تكون طلبا للفعل من غير أن يشرط معها إثبات شيء ولا نفي شيء أو لا تكفي في ذلك فان كفت في ذلك حتى تكون أمرا على أي وجه وجدت عليه لزم أن يكون التهديد أمرا وكلام الساهي أمرا إذا كان على صيغة افعل وإن وجب أن يشرط في كونها طلبا شرط زائدا على صيغتها ووجودها لم يخل إما إن يرجع إلى المأمور أو المأمور به أو إلى الأمر أو إلى محل الصيغة ولا تعلق لمن عداهم بها فيذكر ولا يجوز رجوعه إلى المأمور من كونه محدثا وموجودا وقادرا وغير ذلك ولا إلى المأمور به من كونه حسنا وواجبا وندبا لأن كل ذلك يحصل مع التهديد ألا ترى أن الانسان يهدد على فعل الواجب والحسن وإن رجع ذلك الشرط إلى الآمر لم يخل إما أن يكون من قبيل النفي أو من قبيل الإثبات وما هو من قبيل النفي أن يقال إن الصفة كانت أمرا لأنه لم يدلنا على أنه غير أمر أو أنه لم يدلنا على أنه تهديد أو إباحة ولا ذم كقول الله سبحانه قال اخسئوا فيها ولا تكلمون أو أنها وجدت منه وليس بكاره للفعل أو أنه غير كاره للفعل ولا ساه عنه وأكثر هذه الأقسام يقولها الفقهاء

وأما قولهم إنه لم يدلنا على أنها غير أمر فانه يقال لهم ما معنى قولكم أمر حتى نعقل الدلالة على إثباته أو على نفيه وهل مطلوبنا إلا أن نعقل معنى الأمر ما هو وأما قولهم إذا لم يدلنا على أنها تهديد أو إباحة أو إرشاد فانه يقال لهم قد يهدد من ليس بحكيم غيره ولا يدل على أن ما فعله تهديد لضرب من ضروب السفه ولا تكون الصيغة التي فعلها أمرا ويقال لهم أيضا إذا لم يدلنا على ذلك فانما نقضي بأنها أمر لو كان الأمر هو كلما كان على هذه الصيغة ولم يكن إباحة ولا تهديدا ولا ذما وليس الأمر كذلك لأن كلام الساهي قد خلا من هذه الأقسام وليس بأمر ولا طلب للفعل ولهذا لا يسمى أمرا ولا طلبا وعلى أنه إنما يتم ما ذكروه إذا أعقلونا معنى التهديد حتى يعلم في الصيغة إذا لم يكن تهديدا ولا إباحة أنها أمر فما التهديد فان قالوا هو ما كان على صيغة افعل مع الكراهة للفعل قيل لهم ولم كانت الكراهة شرطا في كون الصيغة تهديدا ونفيها شرطا في كونها أمرا بأولى من أن تكون الارادة شرطا في كون الصيغة طلبا ونفيها أو ضدها شرطا في كونها تهديدا فان قالوا معنى التهديد هو الصيغة بشرط انتفاء الدلالة على كونها أمرا كانوا قد علقوا كونها أمرا بفقد الدلالة على أنها تهديد وعلقوا كونها تهديدا بفقد الدلالة على كونها أمرا وهذا محال فأما الكلام بأن الصيغة إنما كانت طلبا وأمرا لأن المتكلم بها ما كره الفعل فإنه يلزم عليه أن يكون كلام الساهي والعابث أمرا وطلبا لأنه غير كاره للفعل فأما القول بأنها إنما يكون طلبا للفعل إذا كان المتكلم بها غير ساه ولا كاره للفعل ولم يقصد بها الاباحة والذم والتحدي وغير ذلك فانه يقال لهم إذا كان المتكلم غير ساه فلا بد من أن يكون غرضه بإيرادها شيئا من الأشياء فاذا لم يكن غرضه ما ذكرتم فلا بد من أن يكون غرضه إيقاع المأمور به وفي ذلك الرجوع إلى أنه لا بد من غرض وإرادة فقد تم ما ذكرناه من إثبات غرض أو إرادة ويجب أن تكون الصيغة إنما كانت طلبا من حيث طابقت هذا الغرض لا من حيث أن المتكلم بها ليس بساه لأن فقد السهو ليس باثبات للفعل فيكون القول به

طلبا فان قالوا إنما نعني بقولنا إن الامر كان أمرا لصيغته إذا تجردت أي أنها إذا جاءت متجردة من حكيم اكتفينا بذلك في الحكم عليها بأنها أمر وإنما يحتاج في أن المتكلم استعملها في غير الأمر إلى دلالة قيل لهم فهذا موضع وفاق وليس هو مطلوبنا وإنما مطلوبنا ما الذي يفيده قولنا أمر فيها فأحدها مفارق للآخر
فأما ما يرجع إلى الآمر فما هو إثبات فالذي يجوز أن يكون شرطا في ذلك علوه وقدرته وإرادته وكراهاته وليس يجوز أن تكون الشروط في كون الصيغة طلبا للفعل قدرة فاعلها عليها أو علمه بها وبحسنها أم بحسن الفعل أو وجوبه لأنه مع ذلك قد تكون الصيغة تهديدا ولا يجوز أن تكون إنما كانت الصيغة أمرا وطلبا لأن الفاعل لها جعلها بقدرته أمرا وطلبا لأنه تكلمنا مع بطلان القول بأن للأمر حكما وصفة فلا يمكن أن يقال إن القادر جعل الأمر على ذلك الحكم ولأنه ينبغي أن يعرفنا ما معنى كونها أمرا فانا عنه نبحث وبهذا يبطل القول بأنها صارت أمرا لأنه علمها أمرا ولأن الشيء لا يكون على ما هو عليه بالعلم بل ينبغي أن يكون على ما هو عليه حتى يصح أن يتناوله العلم على أن المهدد قد علم كون الأمر أمرا ولا يكون ما يفعله من صيغة التهديد أمرا وليس يجوز أن تكون الصيغة طلبا وأمرا لأن فاعلها كره الفعل لأنه كان يجب كون المهدد آمرا ولا يجوز أن يكون شرط كونها أمرا ما يرجع إلى المحل لأنا نعلقها طلبا وأمرا من غير أن يخطر ببالنا لون المحل وطعمه وغير ذلك لأن ما يرجع إلى المحل قد يثبت والصيغة تارة أمرا وتارة تهديدا فيثبت أنه إنما كان طلبا وأمرا لإرادته ولا تخلو إرادته إما أن تتعلق بالمأمور به وهو قول اصحابنا ولا يجوز أن يكون شرط كونها طلبا إرادة إحداثها لأن هذا حاصل في التهديد ولا يمكن أن يقال إرادة إحداثها أمرا لأنا عن ماهية كونها أمرا نبحث فيجب أن نعقله حتى نعقل تعلق الإرادة به فان قالوا أليس يقول شيوخكم إن الخبر إنما يكون خبرا لارادة كونه خبرا فما أنكرتم من مثله في الأمر قيل إن إرادة كونه خبرا معقولة وهو أن يريد

المتكلم به إخبار زيد وإعلامه ما تضمنه الخبر فقد أعقلنا معنى إرادته لكونه خبرا فينبغي أن يعقلوا بالارادة لكون الصيغة أمرا وقد أفسد ذلك أيضا بأنه كان يجب أن تكون الصيغة أمرا إذا أراد فاعلها أن يكون أمرا وإن كره المأمور به وذلك باطل بالتهديد ولقائل أن يقول إنما لم يكن التهديد أمرا لأن المتكلم به ما أراد كونه أمرا أو يستحيل من جهة الداعي أن يريد كونه أمرا ويكره المأمور به وقيل أيضا كان ينبغي جواز تعلق الأمر بالماضي كالخبر إذا كان إرادة إحداث المأمور به ليس من شرطه ولقائل أن يقول إن الأمر تكليف ولا يجوز تكليف الماضي والجواب أنه إن لم يجب أن يكون الغرض به إيقاع الفعل فليس بواجب أن يكون تكليفا وكان ينبغي صحة تعلقه بالإحداث وبغير الإحداث كالخبر ويكون ما تعلق منه بغير الاحداث قبيحا فصح أن صيغة الأمر إنما تكون طلبا بشرط أن يكون الغرض بها وقوع المأمور به
واحتج المخالف بأشياء
منها أنه لو كان الأمر إنما يكون أمرا إذا أراد الآمر الفعل لما جاز أن يستدل بالأمر على الارادة لأنه لا يعلم أمرا قبل الارادة والجواب أنا لا نستدل على الارادة بالأمر من حيث كان أمرا بل من حيث إنه على صيغة افعل وقد تجرد لأن عند أصحابنا أن هذه الصيغة موضوعة للإرادة وكلام الحكيم يجب حمله على موضوعه إذا تجرد وعندنا أن هذه الصيغة جعلت في اللغة طلبا للفعل فإذا بان لنا أنه لا معنى لكونها طلبا للفعل إلا أن المتكلم بها قد أراد الفعل وأنه هو غرضه علمنا بذلك الارادة عند علمنا بالصيغة
ومنها قولهم إن اهل اللغة قالوا إن الأمر هو قول القائل افعل مع الرتبة ولم يشرطوا الارادة مع انهم شرطوا الرتبة فلو كانت الارادة شرطا لذكروها أيضا فجرى ذلك مجرى كون الأسد مسمى بأنه أسد في أنه لا يشرط فيه الارادة والجواب أنه يجوز أن يكونوا لم يشرطوا الارادة لظهورها

وأيضا فانهم لم يشرطوا انتفاء القرائن والمخالف يشرط انتفائها وأيضا فانهم لم يشرطوا انتفاء القرائن والمخالف يشرط انتفائها وأيضا فانهم لا يختلفون في أن الأمر هو طلب الفعل والقول من بعد في أن الطلب لا يكون إلا مع الارادة وهو تفصيل بحمله وطريقة العقل لأنه كلام في المعقول من معنى الطلب وليس يرجع إلى اللغة في المعقول من الأمور وأما قولهم إن اسم الأسد لا يعتبر في كونه اسما للإرادة فان أرادوا به أن الواضع لهذا الاسم وضعه للاسد فصار اسما له من دون أن يريد أن نسميه بذلك فذلك باطل بل نعلم انه قد أراد ذلك وإن أرادوا أنا نحن نكون مستعملين لاسم الأسد في الأسد من دون أن نريد ذلك فباطل أيضا لأنه لا بد من أن نريد ذلك وإن أرادوا أنه لا يكون اسما له في أصل الوضع بأن نريد نحن بأن يكون موضوعا له فصحيح لأن وضع الواضع الأسماء للمعاني لا يقف على إرادتنا ولذلك لا يكون الأمر واقعا على الصيغة في أصل الوضع بارادتنا على ان ذلك خارج عما نحن بسبيله لأن الذي نحن بسبيله هو هل صيغة الأمر تستحق الوصف بأنها أمر وإن لم يكن قد أراد بها الفعل أم لا فبوزن هذا أن يقال إن جسم الأسد يستحق أن يوصف بأنه أسد وإن لم تقصد بجسمه كثيرا من الأشياء
ومنها قولهم إن الانسان قد يأمر عبده بالفعل وهو يكرهه منه إذا كان قصده أن يعرف أصدقاءه عصيانه فبان أن الصيغة تكون امرا من دون إرادة والجواب أنا لا نسلم أنه أمر كما لا نسلم أنه طالب منه الفعل في نفسه وإنما يقال إنه موهم للغلام أنه طالب منه الفعل وآمر له به
ومنها قولهم إن الله سبحانه قد أمر أهل الجنة بقوله كلوا واشربوا ولم يرد ذلك منهم والجواب أن أصحابنا يقولون قد أراد ذلك منهم لأن في علمهم بارادته ذلك منهم زيادة مسرة ولا يمتنع أن يكون ذلك

إطلاقا وليس بأمر كما أن قوله لأهل النار اخسئوا وليس بأمر كما نقول لمن نذمه اخسأ
ومنها قولهم إن الله أمر إبراهيم بذبح إسماعيل وما أراد من الذبح فقد وصفت صيغة الأمر بأنها أمر مع أن فاعلها لم يرد الفعل والجواب أن ما أمر به قد أراده والذي أمر به هو مقدمات الذبح كالاضجاع وأخذ المدية أو أمره بالذبح نفسه وقد فعله إبراهيم عليه السلام لكن الله سبحانه كان يلحم ما يفريه إبراهيم شيئا فشيئا هذا إن ثبت أن إبراهيم كان قد رأى في المنام صيغة الأمر وقول إسماعيل افعل ما تؤمر يحتمل ما يؤمر في المستقبل
فإد ثبت ذلك حددنا الأمر بأنه قول يقتضي استدعاء الفعل بنفسه لا على حجة التذلل وقد دخل في ذلك قولنا افعل وقولنا ليفعل ولا يلزم عليه أن يكون الخبر عن الوجوب أمرا لأنه ليس يستدعي الفعل بنفسه لكن بواسطة تصريحه بالايجاب وكذلك قول القائل أريد منك أن تفعل هو يقتضي بنفسه إثبات إرادته للفعل وبتوسطها يقتضي البعث على الفعل وكذلك النهي عن جميع أضداد الشيء ليس يستدعي فعل ذلك الشيء بنفسه وإنما يقتضي ذلك بتوسط اقتضائه قبح تلك الأضداد واستحالة انفكاك المكلف منها إلا إلى ذلك الشيء وقد دخل في قولنا يقتضي استدعاء الفعل الارادة والغرض لأنا قد بينا أنهما داخلان في الاستدعاء والطلب والله أعلم
باب في أن قولنا افعل ليس بمشترك على سبيل الحقيقة بين فائدتين اعلم أن من الذاهبين إلى أن لفظ العموم مشترك بين الاستغراق والبعض من جعل لفظة افعل مشتركة بين استدعاء الفعل وبين التهديد الذي هو

استدعاء لترك الفعل وبين الاباحة وبين اقتضاء الايجاب وبين اقتضاء الندب جعلوها حقيقة في كل ذلك وكذلك قالوا في قول القائل لا تفعل إنه مشترك بين النهي وبين التهديد على الترك وعند جمهور الناس أن لفظة افعل حقيقتها في الطلب والأمر ومجازها في غيره وأن لفظة لا تفعل حقيقة في النهي مجاز في غيره والدليل على ذلك أنه لو كان قول القائل لغيره افعل حقيقة في أن يفعل وحقيقة في التهديد المقتضي أن لا يفعل لكان اقتضاؤه لكل واحد من هذين على سواء لا ترجيح لأحدهما على الآخر ولو كان كذلك لما سبق إلى أفها منا عند سماعها من دون قرينة أن المتكلم بها يطلب الفعل ويدعو إليه كما أنه لما كان اسم اللون مشتركا بين السواد والبياض لم يسبق عند سماع هذه اللفظة من دون قرينة السواد دون البياض ومعلوم أنا إذا سمعنا قائلا يقول لغيره افعل وعلمنا تجرد هذا القول عن كل قرينة فان الأسبق إلى أفهامنا أنه طالب للفعل لا مانع منه كما أنا إذا سمعناه يقول رأيت حمارا فانه يسبق إلى أفهامنا البهيمة دون الأبله وأيضا فان قولنا افعل في أنه في معنى الاثبات جار مجرى قولنا زيد فاعل فكما أن قولنا زيد فاعل حقيقة في كونه فاعلا وإن جاز ان يستعمل على انه غير فاعل لأن الانسان قد يقول زيد فاعل على طريق الاستهزاء أي أنه على الضد من هذه الحال فكذلك قولنا افعل يجب كونه حقيقة إذا طلب به الفعل ولا يكون حقيقة في نفي الفعل كما لم يكن قولنا زيد فاعل حقيقة في نفي كونه فاعلا إذ كل واحد منهما إثبات ونحن نستوفي الكلام في شبههم عند الكلام في العموم
باب في أن لفظة افعل تقتضي الوجوب اختلف الناس في ذلك فذهب الفقهاء وجماعة من المتكلمين وأحد قولي أبي علي إلى أنها حقيقة في الوجوب وقال قوم إنها حقيقة في الندب وقال

آخرون إنها حقيقة في الاباحة وقال أبو هاشم إنها تقتضي الارادة فإذا قال القائل لغيره افعل أفاد ذلك أنه مريد منه الفعل فان كان القائل لغيره افعل حكيما وجب كون الفعل على صفة زائدة على حسنة يستحق لأجلها المدح إذا كان المقول له في دار التكليف وجاز أن يكون واجبا وجاز أن لا يكون واجبا بل يكون ندبا فإذا لم يدل الدلالة على وجوب الفعل وجب نفيه والاقتصار على المتحقق وهو كون الفعل ندبا يستحق فاعله المدح
والدليل على أن لفظة افعل حقيقة في الوجوب أنها تقتضي أن يفعل المأمور الفعل لا محالة وهذا هو معنى الوجوب فان قيل لم زعمتم أولا ان قول القائل افعل يقتضي أن يفعل وما أنكرتم أنه يقتضي الارادة قيل ليس يخلو من قال إنه يفيد الارادة إما أن يريد بذلك أنه يقتضي أن يفعل المأمور الفعل ومن حيث كان طلبا له وبعثا عليه يدل على الارادة من حيث كان الحكيم لا يبعث على ما لا يريده بل يكرهه وإما أن يريد أنه موضوع للإرادة كما أن قول القائل لغيره أريد منك أن تفعل موضوع للارادة ابتداء فان قال بالأول فهو قولنا لأنه قد سلم أنه موضوع لأن يفعل المأمور الفعل وقال إنه يقتضي الارادة تبعا لذلك وهذا مذهبنا وإن أراد الثاني بطل من وجوه
منها أن في صريح قولنا افعل ذكر للفعلية وليس في صريحه ذكر للارادة فلم يجز كونه موضوعا للارادة غير موضوع لأن يفعل كما أن قولنا زيد فاعل موضوع لكونه فاعلا وليس بموضوع لإرادة الاخبار عن ذلك وقد قيل إنه موضوع لارادة الاخبار عن ذلك وهذا باطل لأنه إن كان موضوعا لارادة الاخبار عنه فما الاخبار عن ذلك إن لم يكن قولنا زيد فاعل إخبارا عنه
ومنها أنه إن كان قولنا افعل موضوعا ابتداء للإرادة وجب أن يكون خبرا عنها وفي ذلك دخول الصدق والكذب فيه حتى يحسن أن يصدق من قال

ذلك أو يكذبه كما يحسن أن يقال ذلك لمن قال لغيره أريد أن تفعل إذا كانت اللفظة قد وضعت ابتداء لحصول هذه الصفة ولا يلزمنا دخول الصدق والكذب على التمني والنداء أما التمني فلانه ليس بخبر على الحقيقة لأنه غير موضوع لكون التمني متحسرا كما وضع له قول القائل أنا متحسر ومتأسف على كذا وكذا وإنما يفيد ذلك من حيث علمنا أن الداعي للانسان إلى ان يقول ليت كان زيد عندنا هو كونه متأسفا على فوات كونه عنده وأما النداء فهو أن قولنا يا زيد إنما يفيد إذا أضمر فيه معنى الأمر على ما تقدم والصدق والكذب لا يدخلان الأمر ول كان معناه انادي زيدا لما دخله الصدق والكذب لأن ذلك مضمر غير مظهر
ومنهاأنه لو كان قولنا إفعل موضوعا للارادة لاحتجنا إلى أن نريد تعليق ذلك بالارادة كما أن قولنا أريد منك أن تفعل لا يتعلق عند أصحابنا بكونه مريدا إلا أن نريد ذلك
فان قالوا إن قولكم إن لفظة افعل تقتضي أن يفعل لا يتصور إلا على ان يكون إخبارا عن أنه سيفعل أو يفيد إرادة الفعل قيل لهم هذا كلام من لا يتصور في أقسام الكلام إلا الخبر ونحن قد بينا أن الأمر قسم من أقسام الكلام غير الخبر لا يدخله الصدق والكذب وقد بين أهل اللغة ذلك وإذا رجعنا إلى أنفسنا عقلنا فرق ما بين طلب الشيء والإعلام عنه والإخبار وأنه قد يكون لنا غرض في طلب الشيء من الغير ويكون لنا غرض في أن نعلم الغير به فلم يمتنع أن يضع أهل اللغة لفظتين بحسب هذين الغرضين ويكون كل واحدة من اللفظتين وصلة إلى ذلك الغرض ولا يكون إخبارا عنه ألا ترى أن الخبر وهو قولنا زيد في الدار ليس هو إخبارا عن إرادتنا الإخبار عن كونه في الدار بل هو وصلة إلى بلوغ غرضنا من إعلام غيرنا كون زيد في الدار فكذلك قولنا افعل هو وصلة إلى غرضنا من طلب الفعل من غيرنا وليس هو إخبار عن غرضنا وأيضا فكيف عقلتم تعلق الارادة بالفعل أن

يحدث فقلتم إن لفظة افعل موضوعة لارادة أن يفعل ولم يعقلوا قولنا إنها موضوعة لأن نفعل اعقلوا عنا في الصيغة ما عقلتموه عن أنفسكم في الارادة فان قالوا إرادة أن يفعل معناه أنها إرادة للحدوث فقولوا إن الأمر متعلق بالحدوث قيل كذلك نقول إن الأمر طلب للحدوث وليس من مذهبكم أن الارادة متعلقة بالحدوث كما ليس من مذهبكم أن العلم متعلق بالحدوث وإنما تقولون إن الارادة متعلقة بالفعل على وجه الحدوث وهو معنى قولكم إرادة للفعل أن يحدث فان قالوا فلم إذا كانت لفظة افعل تقتضي أن يفعل المأمور الفعل كانت تقتضي أن يفعله لا محالة قيل لأن لا يفعل المأمور الفعل هو نقيض أن يفعل واللفظة إذا وضعت لشيء فانها تمنع من نقيضه ألا ترى أن قول القائل زيد في الدار لما أفاد حصوله فيها منع من نقيضه وهو أن لا يكون فيها ولم يجز أن يكون قوله زيد في الدار ومعناه الأولى أن يكون فيها فكذلك لفظة افعل وهذا هو الوجوب
ويدل على أن لفظة افعل تمنع من الإخلال بالفعل أن اهل اللغة يقولون أمرتك فعصيتني وقلت لك افعل فعصيتني وقال الله عز و جل أفعصيت أمري وقال الشاعر
...
أمرتك امرا حازما فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما فعقب المعصية ...
على الأمر بلفظ الفاء فدل على أن المعصية إنما لزمت المامور لأجل إخلاله بما أمر به وأن لتقدم الأمر في استحقاق هذا الاسم تأثيرا كما أن قولهم إذا دخل زيد الدار فأعطه درهما يفيد أن لتقدم الدخول تأثيرا في استحقاق العطية ومعلوم أن الانسان إنما يكون عاصيا للآمر والأمر إذا أقدم على ما يحظره الآمر ويمنع منه ألا ترى أن الله لو أوجب علينا فعلا فلم نفعله لكنا عصاة ولو ندبنا إليه فقال الأولى أن تفعلوه ولكم أن لا

تفعلوه فلم نفعله لم نكن عصاة ولهذا يوصف تارك الواجب بأنه عاصي لله ولا يوصف تارك النوافل بذلك ولا فصل بينهما إلا لأن إيجابه الفعل علينا يحظر الاخلال به وترغيبه إيانا فيه من غير إيجاب لا يحظر علينا تركه فلذلك لم نكن بتركه عاصين وأيضا فان العاصي للقول مقدم على مخالفته وترك موافقته وليس تخلو مخالفته إما أن تكون بالاقدام على ما يمنع منه الآمر فقط أو قد يثبت بالاقدام على ما لا يتعرض له الآمر بمنع ولا إيجاب وليس يجوز هذا الأخير لأنا لو كنا عصاة للامر بفعل ما لم يمنع منه لوجب إذا أمرنا الله سبحانه بالصلاة غدا فتصدقنا اليوم أن نكون عصاة لذلك الأمر بصدقتنا اليوم فبان أن مخالفة الآمر إنما تثبت بالاقدام على ما يمنع منه فاذا كان تارك ما أمر به عاصيا للامر والعاصي للامر هو المقدم على مخالفة مقتضاه والمقدم على مخالفة مقتضاه مقدم على ما يحظره الآمر ويمنع منه ثبت أن ترك المأمور به يمنع منه الآمر ويحظره وهذا هو معنى الوجوب
إن قيل أليس المشير قد يقول لمن أشار عليه قد أشرت عليك فعصيتني ولم يدل ذلك على الإيجاب قيل إنا نقول في لفظة افعل إنها دعاء إلى الفعل ومنع من الاخلال به وأن ظاهرها يقتضي أن المستعمل لها استعملها في هذا المعنى وهذه حالة المشير إذا قال لغيره افعل كيت وكيت فهو الرأي والحزم لأنه إنما يدعوه الى فعل الحزم وترك الإخلال به والمستشير ايضا إنما يطلب منه أن يشير عليه بالرأي الذي لا معدل عنه يبين ما قلناه أن المشير لو قال له الأولى أن تفعل كذا وإن تركته لم يكن به بأس فتركه لا يقال إنه قد عصاه كيف يكون قد عصاه وقد رخص له في الترك وإنما يكون عاصيا له إذا قال له الرأي أن تفعل كذا وهو الأولى وافعل لأن الأولى في الرأي هو الأحزم والأحوط وما هذه سبيله فالمشير يوجبه ولا يرخص في تركه وان لم يلزم المستشير قبول إيجابه ويلزمنا قبول إيجاب الله ورسوله ص

فان قيل إن الذي ذكرتموه يدل على أن الأمر يمنع من الإخلال بالمأمور به وليس هذا من قولكم لأن الأمر هو قول القائل لغيره مع الإرادة والإرادة لا تقتضي الوجوب والجواب أنا فرضنا الكلام في لفظة افعل لأنهم قد يقولون قلت لك أقسم في هذا البلد فعصيتني وظاهر لفظة افعل للوجوب عندنا ولو فرضنا الكلام في قولهم أمرتك لم يضرنا لأن الأمر هو قول القائل افعل مع الارادة والرتبة وليس يجب إذا كانت الارادة لا تقتضي الوجوب أن لا تقتضيه الصيغة التي هي افعل
ومما يدل على أن الأمر على الوجوب أن العبد إذا لم يفعل ما أمره به سيده اقتصر العقلاء من أهل اللغة في تعليل حسن ذمه على أن يقولوا أمره سيده بكذا فلم يفعله فدل كون ذلك علة في حسن ذمه على أن تركه لما أمره به ترك لواجب إن قيل إنما ذموه لأنهم علموا من سيده أنه كاره من عبده ترك ما أمره به قيل اقتصارهم على التعليل الذي ذكرناه دليل على أنه استحق الذم لما ذكروه من العلة لا غير فان قيل إن هذا التعليل مشروط بأن يكون السيد كارها للترك كما يشرطونه بكون ما أمر به سيده حسنا غير قبيح قيل ليس يجب إذا شرطنا هذا التعليل حسن المأمور به إن شرط شرطا آخر لم يدل على اشتراطه دلالة على أن العقلاء يفضلون ما أمره به فيقولون أمره بكذا فلم يفعل ولو كان ما فضلوه قبيحا لما ذموه ولو أنهم قالوا أمره فلم يفعل لقال العقلاء بماذا أمره لعله أمره بظلم غيره وإنا يمسكون عن ذلك إذا فضلوا ما أمره به فان قيل أليس لو قال له أريد منك أن تفعل كذا فلم يفعله لامه العقلاء قيل لا نسلم ذلك ولو ثبت لكان عندنا وعندكم مشروطا بكراهية السيد الترك وعلمهم بذلك من حاله وليس يجب إذا شرطنا ذلك أن يشرط غيره إلا لدلالة إن قيل إنما ذموه لأجل إخلاله بما أمره به سيده لأن الشريعة جاءت بوجوب طاعة العبد لسيده وامتثال أوامره أو لأنه لا يأمره إلا بما فيه منفعته ودفع مضرة عنه والعبد يلزمه إيصال المنافع إلى سيده ودفع المضار عنه ولأن ذلك دلالة على أن السيد قد كره منه ترك ما

أمره به ولهذا لو أمره السيد بفعل يخص العبد لما وجب عليه والجواب أن الشريعة إنما ألزمت العبد طاعة سيده إذا أوجب السيد عليه طاعته ولم تلزمه لأجل سيده فعلا لم يلزمه إياه سيده ألا ترى أن سيده لو قال له الأولى أن تفعل كذا ولك أن لا تفعله لما ألزمته الشريعة فعله والأمر عند المخالف يجري مجرى هذا القول فينبغي أن لا يجب به على العبد شيء ولا يجب على العبد إيصال النفع إلى سيده ولا دفع المضار عنه إلا إذا أوجبه عليه سيده ولم يرخص له في تركه ألا ترى أنه لو قال له الأولى أن تفعل ذلك ويجوز أن لا تفعله لجاز له أن لا يفعله وكذلك لو علم أن غيره يقوم مقامه في دفع المضرة عنه وأما قول السائل إن كون السيد منتفعا بما أمره به دلالة على أنه قد كره تركه فلا يصح لأنه ليس يجب إذا انتفع بشيء أن يكره من عبده تركه لجواز أن يكون إنما يكره من غير ذلك العبد تركه وإنما يعلم أنه قد كره من ذلك العبد تركه إذا دله على ذلك والأمر عند السائل ليس بدليل على الإيجاب ولا على هذه الكراهة فلم يلزم العبد ذلك الفعل فأما قول السائل إن السيد لو أمر العبد بفعل يخص العبد لم يجب عليه لما لم ينتفع السيد به فغير مسلم أنه لا يجب عليه وغير مسلم أنه لا ينتفع السيد بذلك لأنه إذا أمر العبد بمنفعة أو بدفع مضرة عن نفسه فان ذلك يعود بصلاح ماله فمن هذه الجهة يكون للسيد فيه منفعة أو دفع مضرة
دليل آخر قول القائل افعل يقتضي إيقاع الفعل وليس لجواز تركه لفظة فيجب المنع من تركه وإذا لم يجز تركه فقد وجب ولمعترض أن يعترض ذلك فيقول إن لفظة افعل تقتضي إيقاع الفعل غير أنا لا نسلم أنه يقتضيه على سبيل الإيجاب وإذا لم نسلم لكم ذلك لم يثبت الوجوب إذا لم يدل دليل على جواز الإخلال بالفعل لأنه إنما يثبت الوجود إذا فقدنا دليل جواز الترك إذ أثبتت أن لفظة افعل تقتضي وجوب الفعل وفي هذا وقع الخلاف ولو ثبت ذلك ما احتاج المستدل أن يقول إنه ليس لجواز الترك لفظ ألا ترى أن فقد دليل التخصيص لا يكفي في العلم شمول العموم إلا بعد

أن يبين أن لفظ العموم يقتضي الشمول
دليل آخر لفظة افعل تقتضي قصر المأمور على الفعل وحصره عليه وذلك يمنع من جواز الإخلال به ولقائل أن يقول إن أردتم بقولكم إنه يقتضي قصر المأمور على الفعل أنه يقتضي إيجابه ففيه النزاع وإن أردتم أنه بعث عليه وليس فيه إباحة الإخلال به فهو الدليل المتقدم
دليل آخر لو اقتضى الأمر الندب كان معناه افعل إن شئت وليس في الأمر ذكر هذا الشرط ولقائل أن يقول والإيجاب غير مذكور في اللفظ فلا يجوز أن يقتضيه فان قيل إن معنى الإيجاب في لفظ الأمر قيل لكم سوى ذلك وقد تم غرضكم وأيضا فالقائلون بالندب لا يقولون إن المكلف قد قيل له افعل إن شئت لأن هذا يقتضي التخير وليست هذه حالة الندب لأن الندب الأولى أن يفعل فالمكلف قد ندب إلى الفعل وندب إلى أن يشاءه ويريده
دليل آخر قول القائل افعل إما أن يقتضي إرادة الفعل وإما أن يقتضي المنع من الفعل أو التوقف عنه أو التخيير بينه وبين الإخلال به على سواء أو على أن يكون الأولى أن يفعل فان خير بينه وبين الإخلال به أو يقتضي أن يفعل لا محالة وقد تقدم بطلان القول بأنه يقتضي الإرادة ومن المحال أن يكون قوله افعل معناه لا تفعل لأنه نقيض فائدة اللفظ أو أن يكون معناه توقف لأن قوله افعل بعث على الفعل فهو نقيض التوقف ولا يجوز أن يقتضي التخيير بين الفعل وتركه على سواء وعلى أن يكون الأولى أن يفعل لأنه ليس للتخيير ذكر في اللفظ ولا للإخلال بالفعل ذكر وإنما اللفظ يتعلق بالفعل دون تركه ولقائل أن يقول قد أخللتم بقسم آخر وهو أن يكون قولنا افعل يفيد استدعاء الفعل والبعث عليه ولا يتعرض للإخلال به بمنع ولا إباحة وليس لكم أن تقولوا لما لم يكن في اللفظ ذكر للتخيير ولا للترك وجب نفي التخيير وإثبات الوجوب بأولى من أن تقولوا إنه لما لم

يكن في اللفظ ذكر للمنع من الإخلال بالفعل وجب نفي الوجوب وفي نفيه إثبات الندب فان قلتم لفظة افعل يمنع من الإخلال بالفعل قيل لكم بينوا ذلك وقد تم غرضكم من غيرحاجة منكم إلى هذه القسمة
دليل آخر أجمع المسلمون على أن الله عز و جل أوجب علينا الصلاة بقوله أقيموا الصلاة وأجمعوا على أن ذلك ليس بمجاز فلو لم يكن الأمر للوجوب بل كان للإدارة أو الندب لكان المستعمل له في الوجوب قد أراد به الفعل وكره به تركه وفي ذلك استعماله فيما لم يوضع له لأن معنى استعمال الأمر في الوجوب هو أنه كره تركه ولو أن أهل اللغة اضطروا من القائل لغيره افعل إلى أنه قد كره منه ترك الفعل لما سبق إلى أنه يجوز بالأمر ولقائل أن يقول أنا من المسلمين ولا أقول إن الله أوجب الصلاة بقوله أقيموا الصلاة وإنما استعمل ذلك فيما وضع له وهو إرادة الصلاة وإنما كره تركها بدليل الوجوب من وعيد وغيره فكيف يمكنكم ادعاء الاجماع مع خلافي لكم مع طائفتي في ذلك ولا أسلم قولكم إن أهل اللغة لو علموا أن القائل لغيره افعل قد كره منه ترك الفعل بالأمر ما نسبوه إلى أنه مستعمل في غير ما وضعت له
دليل آخر قول القائل لا تفعل يقتضي الامتناع من الفعل لا محالة ويمنع من فعله فكان قوله افعل يقتضي أن يفعل ولا يرخص له في تركه والمخالف يقول إني لا أستفيد تحريم المنهي عنه من لفظ النهي إلا بتوسط الكراهة إما لأن لفظ النهي موضوع لها وإما لأن الناهي لا ينهي إلا عما يكره والحكيم لا يكره من غيره إلا القبيح فان ثبت أن الناهي ينهي عما لا يكره لم يدل مجرد النهي على تحريم المنهي عنه
دليل آخر الإيجاب معقول لأهل اللغة وتمسهم الحاجة إلى العبارة عنه فلو

لم يفده الأمر لم يكن له لفظ ولقائل أن يقول وكون الفعل على صفة زائدة على حسنه أو كون الفعل مرارا معقول لهم والحاجة تمس إلى العبارة عنه فلو لم يكن الأمر موضوعا له لم يكن له لفظ فان قالوا الأمر موضوع لذلك قيل وغير الأمر موضوع للإيجاب وهو قول القائل ألزمت وأوجبت وحتمت
دليل آخر الأمر بالشيء نهي عن صده والإخلال به والنهي يقتضي حظر المنهي عنه فوجب حظر الإخلال بالمأمور به وفي ذلك وجوب المأمور به ولقائل أن يقول ما تريدون بقولكم إن الأمر بالشيء نهي عن الإخلال به فان قالوا إن صورته صورة المنهي كان الحس يشهد بخلاف ذلك وإن قالوا إنه نهي في المعنى قيل لهم ما ذلك المعنى فان قالوا هو أن الأمر يقتضي أن يفعل المأمور به لا محالة قيل لهم بينوا ذلك وهو الدليل الأول وإن قالوا هو أن الأمر بالشيء يقتضي الإرادة والإرادة للشيء كراهة ضده أو لا بد من أن تقترن بها كراهة الضد إما من جهة الصحة أو من جهة الحكمة ومن كره أضداد الشيء فقد ألزم ذلك الشيء قيل لكم هذا باطل بالنوافل لأن الله سبحانه قد أرادها منا ولذلك نكون مطيعين له بفعلها وليس بكاره لتركها واضدادها فان قالوا معنى ذلك أن الأمر يقتضي إرادة فعل المأمور به على جهة الإيجاب قيل لا معنى لكون الحي مريدا للفعل على جهة الإيجاب إلا أنه أراده وكره تركه وقد تقدم إبطال ذلك ولو كانت الإرادة تتناول الشيء على جهة الإيجاب لوجب عليكم أن تدلوا على أن الأمر يقتضي هذه الإرادة حتى يتم دليلكم ومتى دللتم على ذلك تم غرضكم قيل القول إن النهي إذا اقتضى قبح أضداد الشيء فقد وجب ذلك الشيء وإن قالوا معنى ذلك أن لفظة الأمر تدعو إلى فعل المأمور به وتحظر الإخلال به قيل لهم بينوا ذلك وقد تم غرضكم ونحن قد بينا ذلك من قبل
دليل آخر الأمر إذا حمل على الوجوب كان أحوط والأخذ بالأحوط

واجب ألا ترى أنا إذا حملناه على الوجوب لم يخل المأمور به إما أن يكون واجبا أو ندبا فان كان ندبا لم يضرنا فعله بل ينفعنا وإن كان واجبا أمنا الضرر بفعله وإذا حملناه على الندب لم نأمن أن يكون واجبا فنستضر تركه ولقائل أن يقول أنا قد علمت بدلالة لغوية أن الأمر ما وضع للوجوب وعلمت أن الحكيم لا يجوز أن يجرده عن قرينة إلا والمأمور به غير واجب فأنا إذا حملته على الندب أمنت الضرر ويقول أيضا ليس يخلو المستدل إما أن يكون عالما بأن الأمر وضع للوجوب أو عالما بأنه وضع للندب والإرادة أو عالما بأنه مشترك بينهما أو شاكا في موضوعه فان كان عالما بالوجوب فقد وجب عليه حمله على الوجوب لعلمه بأنه موضوع له لا لأنه لا يأمن أن يكون قد عني به الوجوب وينبغي أن يدلنا على أنه موضوع للوجوب وإن كان عالما بانه للندب فهو آمن إذا تجرد أن يكون الحكيم قد عني به الوجوب وإن كان عالما بأنه مشترك بين الوجوب والندب فليس ذلك من قولهم ويلزمهم إن كان كذلك أن يجعلوا المكلف مخيرا بين حمله إياه على الوجوب أو على الندب كما يقوله بعض الناس في الاسم المشترك أو يقول إن الحكيم للخلية من قرينة كما يقوله آخرون في الاسم المشترك وأن كان شاكا في موضوع الأمر فالاحتياط يقتضيه أن يفحص عن موضوعه حتى إذا عرفه حمل خطاب الحكيم عليه ويكون آمنا من الضرر على أن كلا منا إنما هو في موضوع الأمر ما هو في اللغة وإيجاب حمله على الوجوب لأجل الاحتياط لا يدل على أنه موضوع له في اللغة على أن من حمل المأمور به على الوجوب عدولا عن الاحتياط من وجوه لأنه لا يأمن إذا اعتقد وجوبه أن يكون ندبا فيكون اعتقاد وجوبه جهلا وتكون نية الوجوب قبيحة وكراهته لأضداده قبيحة وأما وجوب إعادة الصلوات الخمس إذا ترك الإنسان واحدة منها لا يدري ما هي فلان الواجب غير متميز من غيره وليس كذلك موضوع الأمر لأنه يمكن أن يعرف ما موضوعه ويعلم أن الحكيم يجب في حكمته أن يعينه دون غيره وعلى أن العلم على اليقين غير مستمر وجوبه ألا

ترى أن من يعتاد السهو في صلاته إذا سها فاليقين أن يعيد صلاته وليس اليقين أن يبني على الأقل ولا أن يتحرى ومع ذلك لم تجب عليه الإعادة وربما حققوا شبهتهم بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال دع ما يريبك إلى ما لا يريبك والجواب أن المخالف يقول إذا حملت الأمر على الندب فقد عدلت عما يريبني إلى الثقة واليقين ولا ريب في ذلك
دليل آخر الوجوب أعم فوائد الأمر لأنه يدخل تحته الحسن والمندوب إليه واللفظ يجب حمله على أتم فوائده ولقائل أن يقول ولم يجب حمله على أتم فوائده فان قالوا لمكان الاحتياط كان الكلام عليهم ما تقدم وإن قالوا ذلك قياسا على العموم قيل لهم وما العلة الجامعة بينهما ويقال لهم إن العموم إنما حمل على الاستغراق ليس لأنه أعم فوائده لكن لعلمنا بأنه موضوع للاستغراق فقط فينبغي أن تبينوا أن موضوع الأمر للوجوب حتى يتم لكم غرضكم على أن الندب على التحقيق ليس بداخل تحت الوجوب لأن المندوب إليه هو الذي يستحق المدح بفعله ولا يستحق الذم بالاخلال به وليس يجمع كلا الأمرين للواجب
وقد استدل من جهة الشرع على أن أوامر الله سبحانه وأوامر نبيه صلى الله عليه و سلم على الوجوب بوجوه منها قول الله سبحانه فليحذر الذين يخالفون عن أمره الأية فحذر من مخالفة أمر نبيه صلى الله عليه و سلم وتوعد عليه ومخالفة أمره هو الإخلال بما أمر به فوجب كون الإخلال بما أمر به محظورا وهذا هو وجوب فعل ما أمر به فاذا ثبت ذلك في أوامر النبي صلى الله عليه و سلم وجب مثله في أوامر الله سبحانه لأن كل من قال إن الشرع قد دل على أن أوامر النبي صلى الله عليه على الوجوب قال إن أوامر الله سبحانه على الوجوب وإنما قلنا إنه عز و جل حذر من مخالفة أمر النبي صلى الله عليه و سلم لأنه قال لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا فحث

بذلك على الرجوع إلى أقواله ثم عقب ذلك بقوله فليحذر الذين يخالفون عن أمره فعلمنا أنه بعث بذلك على التزام ما كان دعا إليه من الرجوع إلى أمر النبي صلى الله عليه و سلم فلو ثبت أن الهاء في أمره راجعة إلى اسم الله لدل على وجوب الرجوع إلى أوامر الله سبحانه وفي ذلك وجوب مأمورها وثبت مثله في أوامر النبي صلى الله عليه و سلم لأن أحدا ما فرق بينهما وإنما قلنا إن مخالفة أمره هو الإخلال بمأموره لأن المخالفة ضد الموافقة وموافقة القول هو فعل ما يطابقه ومعلوم أن موافقة قول القائل لغيره افعل هو أن يفعل فيجب أن تكون مخالفته هو أن لا يفعل إن قيل مخالفة القول هو الإقدام على ما يحظره القول ويمنع منه فيجب أن تبينوا أن الإخلال بالمأمور به يحظره القول حتى يدخل في الاية وإذا بينتم ذلك فقد تم غرضكم من أن الأمر يقتضي الوجوب قيل ليس نحتاج في أن نعلم أن الإخلال بالمأمور به مخالفة الأمر إلى ما ذكرتم بل يمكننا أن نعلم ذلك بما قلناه من أن المخالفة ضد الموافقة وموافقة الأمر هو فعل المأمور به وإذا كان كذلك لم نكن قد بينا الدلالة على موضع الخلاف إن قيل مخالفة الأمر هو الرد على فاعله واتهامه في القول وموافقته هو الثقة به وترك الرد عليه قيل موافقة القول هو الإقدام على مطابقته ومخالفته هو ترك مطابقته والرد على النبي صلى الله عليه و سلم وأله وترك الثقة به هو مخالفة للدليل الموجب لاعتقاد الثقة به وليس هو مخالفة للأمر لأن الأمر لا يدل على أنه غير متهم في أقواله بل العلم بذلك يسبق الاستدلال بأمره وكذلك الثقة به هو موافقة دليل الثقة به لا الأمر بالفعل إن قيل لو كان الإخلال بالمأمور به مخالفة للأمر لكنا إذا لم نفعل النوافل المأمور بها مخالفين لأمر الله وفي ذلك كوننا مخالفين لله سبحانه إذا أخللنا بالنافلة قيل إنما لم نكن مخالفين للامر بالنافلة لأن الأمر بالنافلة في تعذر قول النبي صلى الله عليه و سلم الأولى أن تفعلوا كذا وكذا

ويجوز أن لا تفعلوه وهذه زيادات لا ينبيء عنها قوله افعل وهو صريح الأمر وإذا كان كذلك لم نكن مخالفين للامر بالنوافل لأن في مضمونها جواز الترك فان قيل فيجب أن تعلموا أن أمر النبي صلى الله عليه و سلم ليس في هذا التقدير حتى تعلموا أن الإخلال بالمأمور به مخالفة له وإذا علمتم ذلك فقد علمتم أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب قبل الاستدلال بهذه الآية قيل نحن نعلم ذلك لعلمنا أن قول القائل افعل يقتضي إيقاع الفعل وأنه لا دليل في صريحه يدل على أنه في تقدير قول القائل الأولى أن تفعل ويجوز أن لا تفعل وليس يجب إذا علمنا ذلك أن نعلم أنه على الوجوب لأنه لا يجب أن يكون على الوجوب إذا لم يكن في صريحه ما يدل على التخيير ونفي الوجوب إلا بعد أن يثبت أن صريحه يدل على الوجوب على ما ذكرناه من قبل فان قيل قد علمنا أن من قال إن ظاهر الأمر للندب لا يلزمه الوعيد فعلمنا أن قوله فليحذر الذين يخالفون عن أمره المراد به الرد على النبي صلى الله عليه و سلم والجواب أن الله سبحانه إنما حذر من لحوق العذاب ممن خالف أمر النبي صلى الله عليه و سلم وليس في ذلك تحقق لنزول العذاب وإذا كان كذلك كان من حمل أمر النبي صلى الله عليه و سلم على الندب مخطئا بلأن ذلك ليس من مسائل الاجتهاد وكل ما كان خطأ فانه يجوز أن يكون كثيرا وكلما جاز أن يكون كثيرا لم يؤمن لحوق العذاب بفاعله فثبت التحذير في ترك المأمور به ولو كان ذلك من مسائل الاجتهاد للحق ذلك الوعيد من خالف أمر النبي صلى الله عليه و سلم إذا لم يعتقد أنه على الندب وفي ذلك بوجه الوعيد
دليل آخر وهو قول الله عز و جل وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون فذمهم على أنهم تركوا ما قيل لهم افعلوه ولو كان الأمر يفيد الندب لم يذمهم على ترك المأمور به كما أنه لا يجوز أن نقول إذا قيل لهم الأولى أن تفعلوه ومرخص لكم في تركه لم تذمهم على الترك وقوله عز

وجل ويل يومئذ للمكذبين كلام مبتدأ لا يمنع من كونه عز و جل ذاما لهم لأجل تركهم فعل ما قال لهم افعلوه
دليل آخر قول الله سبحانه لإبليس ما منعك أن تسجد إذ أمرتك ليس باستفهام لكنه خارج مخرج الذم والاستبطاء لإبليس وأنه لا عذر له ولا رخصة في إخلاله بالسجود مع أمره به هذا هو المفهوم من قول السيد لعبده ما منعك من دخول الدار إذا أمرتك متى لم يكن السيد مستفهما فلو لم يكن الأمر على الوجوب لم يذمه ولا استبطأه ولكان لإبليس أن يقول الذي سوغ لي ترك السجود إنك لم تلزمينه بل رخصت لي في تركه إن قيل لعله أمره بلغة أخرى والأمر فيها موضوع للوجوب لا في لغة العرب قيل الظاهر يقتضي أنه ذمه لأنه أمره أمرا مطلقا فلم يفعل لا لأنه أمره أمرا مخصوصا في لغة مخصوصة على أن طريقة من قال أن الأمر على الندب هو أنه يفيد الإرادة لا غير والإرادة لا تفيد الوجوب وهذه الطريقة لا تختلف فيها اللغات
دليل آخر وهو قوله سبحانه وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم والقضاء قد يكون بمعنى الفعل وحقيقة الأمر للقول فكأنه قال إذا فعل النبي صلى الله عليه و سلم أمرا فليس لأحد أن يتخير فيه وفي ذلك وجوب المصير إليه وقد قيل إن سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر قوما أن يزوجوا زيد بن حارثة فأبوا فأنزل الله سبحانه هذه الآية ولقائل أن يقول إن حقيقة الأمر وإن كان في القول فإنه إذا قرن بالقضاء فقيل قضى فلان أمرا جرى مجرى أن يقول فعل فلان شيئا سيما وقد قلنا فيما تقدم إن الأمر إذا أطلق كان حقيقة في الشيء وفي القول وفي الشأن وإنما يتخصص بحسب القرائن وهذه

القرينة تدل على أن المراد به الشيء فيكون المراد بذلك إذا الزم شيئا لأن القضاء يكون بمعنى الإلزام ولا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قد كان ألزم أن يزوج زيد بن حارثة بلفظ من ألفاظ الإلزام إن ثبت أن قصة زيد هي سبب نزول الآية
دليل آخر قوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت الآية فأوجب التسليم لما قضاه والقضاء هو الأمر ولقائل أن يقول إن القضاء هو الإلزام ها هنا وعلى أن المراد بقوله ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت المراد به السخط وترك الرضا ولهذا قال ويسلموا تسليما فان قالوا لو كان القضاء بمعنى الإلزام لما قيل إن الله سبحانه قد قضى الطاعات كلها لأن النوافل ما ألزمها قيل ولو كان القضاء بمعنى الأمر والأمر على الوجوب لما قيل إن الله قد قضى الطاعات كلها على أن المراد بقولنا إن الله قضى النوافل أنه أخبر عنها وذلك يعم الطاعات كلها النوافل وغيرها
دليل آخر وهو قوله سبحانه أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وهذا لا يدل لأنه أمر وفيه الخلاف وادعاؤهم الإجماع بأن طاعة النبي صلى الله عليه و سلم واجبة لا يسلمها الخصم لأن النوافل طاعة للنبي صلى الله عليه و سلم وليست بواجبة وقوله تعالى فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم حملتم لو رجع إلى صدر الكلام لم يصح التعلق به لأن التولي ليس هو ترك المأمور به لأنه لا يوصف بذلك تارك النوافل وقوله من بعد وإن تطيعوه تهتدوا لا يدل على وجوب الطاعة لأن الاهتداء قد

يكون بفعل النافلة إذ فاعلها مهتد إلى رشده وصلاحه وقوله ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا إنما يصح التعلق به في وجوب أوامر النبي صلى الله عليه و سلم لو ثبت أن من لم يفعل مأمورها عاص للنبي صلى الله عليه و سلم وقوله تعالى قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم او يسلمون الآية لا يدل لأن وجوب الاستجابة إلى الجهاد معلوم بما تقدم وقوله تعالى وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم يدل على أن المراد بالتوالي ها هنا العدول عن الطاعة على وجه العناد لأنهم هكذا تولوا من قبل
دليل آخر وهو ما روي أن رجلا قال يا رسول الله أحجتنا هذه لعامنا أم للأبد فقال بل لعامكم فقط ولو قلت نعم لوجبت فأخبرها أن وجوبها متعلق بقوله ولقائل أن يقول إن قوله نعم ليس بأمر فيدل على ما ذكرتم والمراد بذلك لو قلت نعم هي للأبد لوجبت عليكم في كل عام ويكون الموجب لذلك إخبار الله تعالى عن وجوبها لقوله تعالى ولله على الناس حج البيت وذلك أن وجوب الحج قد كان استقر ولم يعلم السائل أن تلك الحجة مسقطة للوجوب الثابت بالآية بل جوز أن لا يسقطه إلا في تلك السنة فقول النبي صلى الله عليه و سلم لو قلت نعم معناه لو قلت انه يسقط الفرض في تلك السنة فقط لوجبت لأنه كان يكون ذلك بيانا لكون الواجب الثابت بالآية ثابتا في كل سنة
دليل آخر وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ولو كان الأمر بالشيء لا

يقتضي إلا كونه ندبا لم يكن في هذا الكلام فائدة لأن السواك قد كان ندبا قبل هذا الكلام ولقائل أن يقول إن هذا الوجه أمارة على انه أراد لأمرتهم على وجه يقتضي الوجوب وليس يمتنع أن يقتضي الأمر الوجوب بدلالة
دليل آخر روي أن النبي صلى الله عليه و سلم دعا أبا سعيد الخدري فلم يجبه لأنه كان في الصلاة فقال ما منعك ان تستجيب وقد سمعت قول الله سبحانه يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول الآية فلامه على ترك الاستجابة مع أن الله سبحانه أمر بها فدل على أن الأمر على الوجوب فان قيل إن النبي صلى الله عليه و سلم لم يلمه ولكنه أراد أن يبين أنه لا يقبح الاستجابة للنبي صلى الله عليه و سلم إذا دعاه وهو يصلي وأن دعاء النبي صلى الله عليه و سلم مخالف لدعاء غيره والجواب أن ظاهر الكلام يقتضي اللوم وهو في معنى الإخبار عن نفي العذر وذلك لا يكون إلا والأمر على الوجوب
دليل آخر وقد استدل على ذلك بالإجماع من وجوه
منها أن الأمة اتفقت على وجوب طاعة الله ورسوله وامتثال أوامرهما طاعة لهما فكان واجبا ولقائل أن يقول المراد بطاعة الله وطاعة رسوله التصديق لهما وامتثال ما أوجبا دون ما لم يوجباه من النوافل وما ثبت من كون النوافل مأمور بها وفاعلها يكون مطيعا ولا يجب عليه لا يدل على أن المراد بوجوب طاعة الله ورسوله ما ذكرناه
ومنها أن المسلمين كانوا يرجعون إلى كتاب الله وسنة رسوله في الأحكام ولم يسئلوا النبي صلى الله عليه و سلم عن بعض أوامره ما الذي عناه به وقد أجيب عن ذلك بأنهم إنما رجعوا إليهما لأن الأحكام تثبت بالإيجاب وبالندب والوجوب يثبت بغير الأمر مما هو في الكتاب والسنة نحو الزجر والتهديد

والوعيد والخبر عن الوجوب ولهذا فهموا وجوب الصلاة من قول الله سبحانه إن الصلواة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا فلفظة على تقتضي الوجوب وقوله ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا يدل على وجوب الحج وقوله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها الآية يدل على وجوب الزكاة
ومنها أن أبا بكر الصديق رضوان الله عليه استدل على وجوب الزكاة على أهل الردة بقوله وءاتوا الزكاة ولم ينكر عليه أحد في هذا الاستدلال وقد أجيب عن ذلك بأن القوم لم ينكروا وجوبها وإنما أنكروا استدامة وجوبها عليهم والأمر بالزكاة لا يدل على الاستمرار فعلمنا أنه لم يتعلق بالأمر وإنه إنما احتج باقتران الزكاة إلى الصلاة وكون الصلاة مستمرا وجوبها
ومنها أن الصحابة كانت حين تسمع الأمر من الكتاب والسنة تحمله على الوجوب فدل على أنها كانت تحمل الأوامر على الوجوب كما دل رجوعها إلى أخبار الآحاد في الأحكام على أنها اعتقدت كونها حجة ألا ترى إلى إيجابها أخذ الجزية من المجوس برواية عبد الرحمان سنوا بهم سنة أهل الكتاب وإيجابهم غسل الإناء من ولوغ الكلب بقول النبي صلى الله عليه و سلم فليغسله سبعا وأوجبوا إعادة الصلاة عند ذكرها لقول النبي صلى الله عليه و سلم فليصلها إذا ذكرها إلى غير ذلك وقد أجيبوا عن ذلك بأنهم إنما صاروا إلى شيء سوى الأمر في وجوب هذه العبادات لأنهم كما اعتقدوا الوجوب عند هذه الأوامر فإنهم لم يعتقدوه عند غيرها نحو قول الله سبحانه وأشهدوا إذا تبايعتم فكاتبوهم إن علمتم فيهم

خيرا فانكحوا ما طاب لكم من النساء وإذا حللتم فاصطادوا إلى غير ذلك وليس لأحد أن يقول إنما لم يعتقدوا الوجوب عند هذه الأوامر لدليل بأولى من أن تقولوا إنما قالوا بالوجوب عند تلك الأوامر لدليل لا لظاهر الأمر
واحتج أصحابنا القائلون بأن الأمر لا يقتضي الوجوب بما هذا معناه لو اقتضي الأمر الوجوب لاقتضائه إما بلفظه أو بفائدته التي هي الإرادة أو بشرطه الذي هو الرتبة وليس شيء من ذلك يقتضي الوجوب فالأمر إذا لا يقتضي الوجوب لكن الإرادة تقتضي الندب على بعض الوجوه فصح أن الأمر يقتضي الندب
واستدلوا على أن صيغة الأمر لا تقتضي الوجوب بأن الوجوب ليس في لفظها وبأن صيغتها إنما تفيد الإرادة فقط واستدلوا على ذلك بوجوه
منها أنه لا فرق بين قول القائل افعل وبين قوله أريد منك أن تفعل يفهم أهل اللغة من أحدهما ما يفهمونه من الآخر ويستعمل أحدهما مكان الآخر فجرى مجرى إدراك البصر ورؤية البصر في أن المفهوم من أحدهما هو المفهوم الآخر فلما أفاد قولنا أريد منك أن تفعل الإرادة فقط دون كراهة ضد الفعل ودون إيجاب الفعل وجب مثله في قولنا أفعل
ومنها أن أهل اللغة قالوا إن قول القائل لغيره افعل يكون أمرا إذا كان فوق المقول له في الرتبة وسؤالا إذا كان دونه في الرتبة فلم يفرقوا بينهما إلا بالرتبة ومعلوم أن السؤال لا يقتضي إيجاب الفعل على المسؤول ولا كراهة ضد ما سأله فعله وإنما يقتضي الإرادة فقط فوجب في الأمر مثل

ذلك إذ لو اقتضى الوجوب أو كراهة ضد المأمور لا نفصل من السؤال بشيء زائد على الرتبة
ومنها أن الأمر ضد النهي ولا معنى لكونه ضدا له إلا أن فائدته ضد فائدته وفائدة النهي كراهة الناهي المنهي عنه لا غير فكان فائدة الأمر إرادة المأمور به لا غير لأنها ضد الكراهة
ومنها أن الأمر يفيد أن الآمر مريد للفعل وما زاد على الإرادة لا دليل يدل على اقتضاء الأمر له فلم يجز أن يقتضيه فصح أنه يقتضي الإرادة فقط
ومنها أن صيغة الأمر يجوز استعمالها في التهديد والإباحة وإنما يتميز منهما بالإرادة فهي كافية في ثبوت حقيقة الأمر فلا افتقار بها إلى شيء من كراهة ضد المأمور به ومن غيرها ولو لم يتميز الأمر من غيره إلا بالكراهة لضد المأمور به لكان الأمر بالنوافل ليس بأمر على الحقيقة لأن الله تعالى ما كره أضدادها وقد أجمع المسلمون على أن الله سبحانه قد أمر بالنوافل وإنما مطيعون له بفعلها
ومنها أن قول القائل لغيره افعل هو طلب للفعل واستدعاء له فيجب أن يثبت معه من أحوال القائل ما يطابقه ليكون مستعملا في موضوعه والذي يطابق طلب الفعل بالقول إرادته وما عدا ذلك لا حاجة بالمأمور إليه من كراهة وغيرها
قالوا فثبت أن صيغة الأمر لا تفيد إلا الإرادة وليس يخلو إما أن تفيد إرادة مطلقة متعلقة بحدوث الفعل المأمور به أو إرادة على طريق الوجوب أو إرادة فعله لا محالة وليس يجوز أن تفيد إرادة فعله لا محالة لأن المعقول من قولنا إن الإنسان يريد أن يفعل غيره الفعل لا محالة هو أنه يريد فعله ويكره تركه وقد بينا أن الأمر لا يقتضي كراهة الترك ولو عقل من إرادة الفعل لا محالة غير ما ذكرناه لم يكن الأمر يقتضيها لما ذكرناه من الأدلة

وأما إرادة الفعل على طريق الوجوب فإن عني بها أنها إرادة الفعل لا محالة فقد أفسدناه وإن عني بها إرادة فعل المأمور به وإرادة أن ينوي المأمور الوجوب فذلك باطل لأنه لا دليل في الأمر على فعل هذه البتة
واستدلوا على أن الإرادة المطلقة لا تقتضي الوجوب بأن الإنسان قد يريد الواجب والندب والمباح والقبيح والله عز و جل إنما يريد من المكلفين في دار التكليف ما كان له صفة زائدة على حسنه لأن إرادة القبيح يستحيل عليه لأنها قبيحة وإرادة المباح من المكلفين لا فائدة فيها لأنه لا يترجح وجود المباح على عدمه في استحقاق ثواب ومدح فلم يكن في إرادته فائدة في دار التكليف وأما إرادة ما له صفة زائدة على حسنه فيحسن من الحكيم لأن ماله صفة زائده على حسنه إما أن يكون ندبا أو واجبا وإرادة كل واحد منهما يحسن من الحكيم فاذا حسن ذلك كان الواجب ينفصل من الندب باستحقاق الذم على الإخلال به وهذه زيادة لا يقتضيها حكم الأصل في كثير من الأفعال لم يجز إثباتها إلا لدليل زائد فمتى لم يحصل دليل زائد وجب نفيها كما أنه لما يثبت دليل يقتضي وجوب صلاة زائدة وجب نفيها
قالوا والرتبة أيضا لا تقتضي الوجوب لأن العالي الرتبة قد يأمر بالندب كما أنه قد يأمر بالواجب فلم تكن الرتبة مقتضية للوجوب والجواب أما قولهم أولا إنه ليس في صيغة الأمر ذكر للوجوب فانه يقال لهم وليس في صيغة الأمر ذكر للإرادة ولا لكون الفعل مندوبا وأيضا فانه لا يمتنع أن لا يكون ذكر الوجوب الذي هو قولك أوجبت في صريحة ويكون هو لفظ آخر من ألفاظ الوجوب وذلك أنه يقتضي إيجاب الفعل لا محالة على ما بيناه كما أن قول القائل لغيره افعل لا محالة وقوله ألزمتك الفعل يقتضي الوجوب وإن لم يكن ذكر الوجوب في صريحها وأما قولهم إنه لا فرق بين قول القائل لغيره افعل وبين قوله لغيره أريد منك أن تفعل فانه يقال لهم أتعنون أنه لا فرق بينهما في أن كل واحد منهما موضوع للإرادة كما وضع قولنا سواد للسواد أو تعنون أنه وضع لشيء آخر والإرادة تفهم تبعا له

فان قالوا بهذا الثاني وربما فسروا كلامهم به قيل لهم فقد أقررتم أن قولنا افعل موضوع لشيء غير الإرادة فبينوا انه غير الواجب حتى يتم دليلكم وإن أردتم الأول لم نسلمه لكم فان استدللتم عليه بما ذكرتموه قيل لكم لا نسلم أنه لا فرق بين قول القائل لغيره افعل وبين قوله أريد منك أن تفعل بل بينهما فرق وهو أن قوله افعل يفيد أن يفعل لا محالة ويفيد الإرادة من حيث كان المتكلم بهذا الكلام باعثا على الفعل ولا يجوز أن يبعث إلا على فعل ما له فيه غرض ولو عزلنا هذا عن أنفسنا لم نعلم أنه مريد للفعل وليس كذلك قوله أريد منك أن تفعل لأن ذلك صريح في الإخبار عن كونه مريدا وليس بصريح في استدعاء الفعل فضلا عن أن يكون مستدعيا لا محالة وأما قولهم إنه لافرق بين السؤال وبين الأمر إلا بالرتبة فالجواب عنه أنه لا فرق بين الأمر والسؤال في اقتضائهما للفعل لا محالة ألا ترى أن الواحد منا إذا قال اللهم اغفر لي أو قال للامير اخلع علي فإنه يجد من نفسه أن يطلب وقوع ذلك لا محالة وأن لا يقع الإخلال به وإن أورد ذلك على طريق التضرع وعلم أن إيصال الخلعة إليه تفضل لا يستحق بالاخلال به الذم فكأنه يقول أنا أعلم أن ذلك تفضل ولكني أطلب أن يفعل بي لا محالة ألا ترى أن السائل قد يصرح بذلك فيقول اخلع علي أيها الأمير ولا تخل بالتفضل علي بالخلعة
فان قيل فاذا كان قول السائل للمسؤول افعل هو طلب للفعل لا محالة وكان السائل بذلك طالبا للفعل لا محالة فقد أراد الفعل لا محالة وإلا لم يكن مستعملا للفظة فيما وضعت له وقولنا أراد الفعل لا محالة يفيد أنه أراده وكره ضده وتركه وفي ذلك كونه كارها للحسن لأنه قد يكون ضد ما سأله حسنا وكراهة الحسن قبيحة قيل قد بينا أن الإنسان إذا سأل غيره شيئا فقد طلب أن يفعله لا محالة ويجري مجرى أن يقول أعطني مالا ولا تخل بذلك وقد يصرح السائل بذلك ولا شبهة في أن ذلك طلب للفعل لا محالة والسائل بهذا الكلام طالب للفعل لا محالة أفتقولون إن من قال ذلك يكره ضد

ما سأل فان قالوا لا مع أنه طالب أن يفعل المسؤول الفعل لا محالة قلنا مثله في السؤال إذا تجرد عن نهي وإن قالوا هو كاره لضد ما سأله وكراهة الحسن قبيحة كانوا قد التزموا ما عابوه وإن قالوا لا يمتنع حسن كراهة الحسن قلنا مثله في السؤال ويقال لهم كراهة الحسن قبيحة إذا كانت كراهة له لأنه حسن فأما إذا كانت كراهة له لأن فيه مضرة أو فوت منفعة فلا ألا ترى أن الإنسان يقول خرج زيد من عندي آخر النهار وإني لكاره لذلك لما لي في كونه عندي من الأنس ولا يلومه أحد على ذلك ولو قال أردت أن يقتل زيد عمرا لأنني أحسده واستضر بجسدي إياه لامه العقلاء فليس يلزم حسن إرادة القبيح على حسن كراهة الحسن لا لحسنه وما نذكره في الكتاب من إطلاق قبح كراهة الحسن إنما جرينا فيه على طريقة أصحابنا
فان قالوا لو كان السائل قد طلب الفعل لا محالة لكان قد أوجب على المسؤول فعل ما ليس بلازم قيل الملزم غيره الفعل والموجب عليه هو الذي يلحقه الذم واللوم بالإخلال به إما بحق وإما بغير حق وذلك مرتفع عن السائل فلم يكن موجبا ولا ملزما للفعل
فان قالوا فإذا كان السؤال يقتضي الفعل لا محالة ولا يوجبه فما أنكرتم أن يكون الأمر يقتضي الفعل لا محالة ولا يوجبه قيل إنا نقول إن لفظة افعل تقتضي استدعاء الفعل لا محالة وقد يستدعي بها الإنسان القبيح والمباح لمنافعه وإنما نعلم أنها استدعاء وطلب لما ليس بقبيح ولا مباح إذا صدرت من حكيم ولا تجوز عليه المنافع والمضار أو ناقل عمن لا يجوز عليه المنافع والمضار وذلك يمنع أيضا أن يكون استدعاء أن يفعل المأمور الفعل لا محالة وليس هو بواجب فعله لأنه لا يحسن أن يقال للمكلف افعل هذا الفعل لا محالة وهو بصفة الندب إلا وبين له أنه بصفة الندب الذي يجوز له الإخلال به لأن الله إنما يأمرنا بمصالحنا ويستحيل عليه المنافع والمضار ولا

يجوز أن يقول الحكيم لغيره افعل هذا الفعل لا محالة وهو يعلم أنه ينتفع به ولا يستضر بتركه بل لا بد أن يبين له جواز تركه فاذا لم يبينه ثبت الوجوب لأن تقدير الأمر بالنوافل الأولى أن تفعل ولك أن لا تفعل وهذه زيادة فافتقر إثباتها إلى دليل فمتى فقد الدليل فلا بد من الوجوب
وأما الجواب عن قولهم إن النهي لا يقتضي إلا كراهة الناهي للمنهي عنه فهو أنا لا نسلم ذلك في النهي بل قول القائل لا تفعل هو طلب للإخلال بالفعل لا محالة كما أن قوله افعل هو طلب للفعل لا محالة وإنما تعقل الكراهة على طريق التبع من حيث لم يجز أن يمنع المتكلم إلا مما هو كاره له وأيضا إن قولنا لا تفعل كالنفي لقولنا افعل فان اقتضى النهي الكراهة فيجب أن يقتضي الأمر نفي الكراهة فقط
وأما الجواب عن قولهم إن لفظة افعل تدخل في أن يكون أمرا بالإرادة لا غير والإرادة لا تقتضي الوجوب فهو أن هذا إنما يدل على أن ما به يكون الأمر أمرا وهو الإرادة لا يفيد الوجوب ولا يدل على أن الصيغة ما وضعت للوجوب وأحد الأمرين مباين للآخر ألا ترى أنه لا يمتنع أن يقول أهل اللغة قد وضعنا قولنا افعل للوجوب وسمينا قولنا افعل أمرا إذا أراد المتكلم بها الفعل سواء استعملت في الوجوب أو في الندب ألا ترى أن المخالف يقول قد وضعت لفظة افعل للإرادة ووضعت بأنها صيغة افعل سواء استعملت في الإرادة أو في الكراهة
وأما الجواب عن قولهم إن لفظة افعل تفيد الإرادة وما زاد عليها لا دليل على إفادتها له فهو أنهم إن أرادوا أنها موضوعة للإرادة فغير مسلم وقد أفسدناه من قبل وإن أرادوا أنها موضوعة لغير الإرادة والإرادة مفهومة منها على طريق التبع قيل لهم فقد بطل قولكم لا دليل يدل على اقتضائها على ما زاد على الإرادة
وأما الجواب عن قولهم إنه ينبغي أن يثبت من أحوال الآمر ما يطابق

قوله افعل فهو أن ذلك صواب غير أن قوله افعل يقتضي ظاهره أن يفعل لا محالة والذي يطابق ذلك هو الإرادة والكراهة لضد الفعل فعليهم إفساد ذلك حتى يتم دليلهم
وربما استدلوا على أن الأمر ليس على الوجوب بأن السلطان قد يأمر بالحسن وبالقبيح ويوصفان بأنهما مأمور بهما على الحقيقة ويوصف السلطان بأنه أمر على الحقيقة فلو كان الأمر يفيد الوجوب لما وصف هذين بأنهما مأمور بهما والجواب أن هذا إنما يدل على أن لفظة افعل متى صدرت من مريد للفعل كانت أمرا على الحقيقة ولا تدل على أن صيغها التي هي قول القائل افعل ما وضعت للوجوب وقد بينا فرق ما بين الموضعين وربما قالوا لو اقتضت الوجوب لكانت إذا تناولت القبيح جعلته واجبا وهذا إنما يفسد بكونها جاعلة للفعل واجبا ولسنا نقول ذلك بل نقول إنها موضوعة لاقتضاء الفعل لا محالة والمتكلم بهما قد طلب الفعل لا محالة فاذا كان حكيما يستحيل عليه المنافع والمضار علمنا أن الفعل مما يجب أن يفعل لا محالة ولا يلزم إذا استعملت في غير الإيجاب أن لا تكون موضوعة له لأنها مستعملة في غير الإرادة ولا يمنع ذلك عندهم من وضعها لها وصيغة العموم قد تستعمل فيما دون الاستغراق ولا تدل على أنها ما وضعت للاستغراق
باب في صيغة الأمر الواردة بعد حظر اعلم أنها إذا وردت بعد حظر عقلي أو شرعي أفادت ما تفيده لو لم يتقدمها حظر من وجوب أو ندب وقال جل الفقهاء إنها تفيد بعد الحظر الشرعي الإباحة والإطلاق
ودليلنا أن صيغة الأمر إنما وجب أن تحمل على الوجوب لأنها موضوعة له وقد صدرت من حكيم وتجردت عن دلالة تدل على أنها مستعملة في غيره

وهذه الأمور قائمة بعد الحظر فدلت على الوجوب
ويمكن المخالف أن يقول إنها بعد النهي موضوعة للإباحة في أصل اللغة أو في العرف وأن يقول إنها موضوعة للإيجاب في الأحوال كلها غير أن تقدم النهي من الآمر دلالة على أنه استعملها في الإباحة والأول باطل لأن المعقول من لفظة افعل البعث على الفعل واستدعاؤه دون التخيير بين الفعل وتركه والإباحة هي تخيير بين الفعل وتركه فلم تكن مستفادة من صيغة الأمر ولأن هذا القول لا يشهد له أهل اللغة فهو جار مجرى أن يقال إن الأمر يقتضي الوجوب في مكان دون مكان ولأنا لو عزلنا عن أوهامنا أن الشيء المأمور به مما تجب إباحته لولا النهي لما سبق إلى أفهامنا من الأمر الإباحة ولهذا إذا قال الأب لابنه اخرج من الحبس إلى المكتب لا يسبق إلى الأفهام إباحة الخروج
فان قالوا لو لم يفد الإباحة لم يكن لها لفظ بعد الحظر قيل بلى لها ألفاظ وهو قوله أبحت وأطلقت وافعل إن شئت وأنت مخير بين الفعل وتركه فأما إن قيل إن تقدم الحظر دلالة على أن المتكلم استعمل صيغة الأمر في الإباحة كما أن العجز دلالة على أن المتكلم لم يعن بالأمر العجز فالذي يبطله هو أن ذلك إنما يكون دلالة على ما ذكروه لو لم يجز انتقال المحظور من كونه محظور إلى كونه واجبا فأما وذلك جائز فلا دلالة فيه على العدول عن ظاهر الأمر ولهذا كان الأمر الوارد بعد حظر عقلي يفيد الوجوب
فان قيل الظاهر من الشيء المحظور بالنهي أن لا ينتقل إلى الوجوب قيل لا نسلم ذلك ولو كان كذلك لكان معنى قولكم أن الظاهر ما ذكرتم أنه الأكثر والأغلب وذلك يقتضي غالب الظن فان المحظور بالنهي لا ينتقل إلى الوجوب والأمارة الدالة على الظن لا تنتقل عن موجب الدلالة الدالة على العلم والأمر الصادر عن الله سبحانه دلالة على العلم وليس وجداننا أوامر واردة بعد الحظر وهي مستعملة في الإباحة مما يقتضي أن ذلك هو ظاهرها كما أن

وجداننا ألفاظ عموم لم يرد بها الإستغراق لا تدل على أنها ما وضعت لذلك وقد قال قاضي القضاة إن الأمة إنما حملت قول الله سبحانه فاذا حللتم فاصطادوا وقوله سبحانه فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض على الإباحة لأنها علمت من قصد النبي صلى الله عليه و سلم ضرورة أن هذه الأشياء مباحة لولا ما عرض فيها من إحرام أو تشاغل بالصلاة وما أشبه ذلك وقد يعلم الإنسان أن زيدا لا يوجب على عبده الخروج من الحبس بل يبيحه له إلا عندما يريد حبسه فيه فلهذا نعلم أنه إذا قال له اخرج من الحبس أنه قد أباحه الخروج وربما كان موجبا بذلك عليه الخروج وهو الأكثر في العبيد لما يعرض من كونهم في الحبس من مضرة المولى بانقطاعهم عن خدمته
باب في الأمر بالأشياء على طريق التخيير هل يفيد وجوب جميعها على البدل أم يفيد وجوب واحد منها لا بعينه
اعلم أنه ينبغي أن نبين معنى قولنا إن الأشياء واجبة على البدل ومعنى إيجاب الله سبحانه إياها على البدل ونبين الشرط في إيجابها على البدل ونبين جواز ورود التعبد بها على البدل ونبين الطريق إلى ثبوت التعبد بالأشياء على البدل وأن الله سبحانه قد تعبدنا بالأشياء على البدل ونبين كيفية التعبد بها
فأما معنى قولنا إن الأشياء واجبة على البدل فهو أنه لا يجوز للمكلف الإخلال بجميعها ولا يلزمه الجمع بينها ويكون فعل كل واحد منها موكولا إلى اختياره لتساويها في وجه الوجوب ومعنى إيجاب الله سبحانه لها هو أنه كره ترك جميعها وأراد كل واحد منها ولم يكره ترك كل واحد منها إذا فعل المكلف الآخر وفوض إلى المكلف فعل أيها شاء وعرفه جميع ذلك وقد

يجوز أن يريد جميعها على البدل وعلى الجمع ويفارق ذلك الواجبات المرتبة نحو التيمم مع تعذر الوضوء لأن فعل التيمم والوضوء ليس بموكول إلى اختيار المكلف وقد دخل في ذلك تخيير اللابس للخفين بين أن يمسح عليهما أن يغسل رجليه وإن تعين عليه غسلهما عند ظهورهما لأن تبقية الخف ونزعه موكول إلى اختياره
فأما شروط إيجاب الأشياء على التخيير فضربان أحدهما أن يتمكن المكلف من الفعلين بأن يقدر عليهما ويتميزان له والآخر أن يتساوى الفعلان في الصفة التي تناولها التعبد نحو أن يكونا واجبين أو ندبين لأنه لو خير الله سبحانه بين قبيح ومباح لكان قد فسح في فعل القبيح تعالى الله عن ذلك ولو خير بين ندب ومباح لكان قد جعل للمكلف أن يفعله وأن لا يفعله من غير أن يترجح فعله على تركه وذلك يدخله في كونه مباحا ولو خير بين واجب وندب لكان قد فسح في ترك الواجب لأنه قد اباحه تركه إلى غيره
وقد قيل إن الله سبحانه لما خير بين تقديم الزكاة وتأخيرها لم يخير بين واجب ونفل وإنما خير الإنسان بين أن يجعل نفسه عند حؤول الحول على الصفة التي تلزم معها الزكاة بأن لا يقدم الزكاة وبين أن يخرج نفسه عن هذه الصفة بأن يقدمها وعندنا أنه إنما خير بين التقديم والتأخير لأن كل واحد منهما يسد مسد صاحبه في المصلحة ولا يجوز أن يخير الإنسان بين أن يفعل الفعل ولا يفعله إلا إذا كان مباحا لهذا قال شيوخنا إن الإنسان إنما خير بين الصوم في السفر وبين العزم عليه في الحضر وعند قوم أنه خير بين الصوم في السفر وبين الصوم في الحضر فلم يحصل التخيير بين الفعل وتركه
فأما الدلالة على جواز التعبد بالأشياء على التخيير فهي أنه لا يمتنع في العقل أن يصلح زيد عند كل واحد من فعلين كما لا يمتنع ان يصلح عند فعل واحد معين وكما جاز أن يكون الفعل صلاحا لشخص واحد جاز أن يكون الفعلان صلاحا في واجب واحد ألا ترى أن الإنسان قد يظن أن ولده لا يمضي إلى

المكتب إلا إذا أمر يده على رأسه وقد يظن أن يمضي عند ذلك وعندما يهب له درهما وإذا لم يمتنع ذلك في الأفعال لم يحسن أن لا يكلف ولا واحدا منها لأن فيه تفويت مصلحتنا ولا ان يوجب مجموعهما لأن المصلحة تحصل من دون مجموعهما فلا وجه لوجوبهما على الجمع ولا أن يوجب أحدهما بعينه لأنه يكون المكلف قد فصل بينهما في الوجوب مع اشتراكهما في وجه الوجوب
وأما الكلام في طريق ورود التعبد بالأشياء على البدل فضربان أحدهما عقلي والآخر سمعي أما العقلي فيجوز أن يعلم بالعقل تساوي شيئين أو أكثر في وجه الوجوب كرد الوديعة بكل واحدة من اليدين وأما الشرعي فضربان أحدهما مشروط بطريقة عقلية والآخر غير مشروط بطريقة عقلية أما ألأول فنحو أن يأمرنا الله سبحانه بأشياء في وقت واحد ويستحيل الجمع بينهما فنعلم أنها على التخيير وأما الثاني فضربان أحدهما أن يرد السمع بتساوي أشياء في وجه الوجوب والآخر أن يرد بايجاب أشياء على طريق التخيير وذلك نحو الكفارات الثلاث
وقد ذهب الفقهاء إلى أن الواجب منها واحد لا بعينه وقال بعضهم إن الواجب منها واحدة وأنها تتعين بالفعل وذهب شيخانا أبو علي وأبو هاشم إلى إن الكل واجبة على التخيير ومعنى ذلك أنه لا يجوز الإخلال بأجمعها ولا يجب الجمع بين اثنين منهما لتساويهما في وجه الوجوب ومعنى إيجاب الله إياها هو أنه أراد كل واحدة منها وكره ترك أجمعها ولم يكره ترك واحدة منها إلى الأخرى وعرفنا ذلك فان كان الفقهاء هذا أرادوا وهو الأشبه بكلامهم فالمسألة وفاق وكل سؤال يتوجه علينا فهو يتوجه عليهم يلزمنا وإياهم الانفصال عنه وإن قالوا بل الواجب واحد معين عند الله غير معين عندنا إلا أن الله سبحانه قد علم أن المكلف لا يختار إلا ما هو الواجب عليه فالخلاف بيننا وبينهم في المعنى
والدليل على ما قلناه قوله تعالى فكفارته إطعام عشرة مساكين

من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة الآية وقوله فكفارته إطعام إيجاب للإطعام وقوله أو كسوتهم عطف على الاطعام تقديره أو كفارته كسوتهم فشرك بينهما في الإيجاب لا على الجمع فكانا واجبين على التخيير فصح أن كل واحد منهما يقوم مقام الآخر في الوجوب فان قيل قوله فكفارته إطعام يجوز أن يكون إخبارا عما يحصل من الكفارة فكأنه قال فما يوجد من الكفارة هو إطعام أو كسوة من حانث آخر أو عتق قيل هذا الكلام من الله هو إيجاب لرجوع الأمة إلى الآية في إيجاب الكفارة وايضا لو كان كما ذكرتم لما كان الخطاب راجعا إلى كل من حلف وإنما كان يرجع أوله إلى بعض من حلف وثانيه إلى بعض آخر وثالثه إلى بعض ثالث لأنه ليس كل من حلف فقد كفر ولا كل من كفر فقد كفر بالإطعام فان قيل إنما قال عز و جل فكفارته إطعام ثم قال أو كسوتهم أو تحرير رقبة لأن بعض المكلفين يلزمه الإطعام وبعضهم يلزمه الكسوة وبعضهم يلزمه العتق فكأنه قال فكفارته إطعام عشرة مساكين لبعضهم أو الكسوة لبعض آخر قيل إن قوله لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم خطاب للكافة والمراد به كل واحد منهم لاتفاق المسلمين على أن كل حانث قد قيل له كفر بالإطعام أو الكسوة أو بالعتق ولم يقل أحد إن الله سبحانه قال لواحد كفر بالإطعام وقال لآخر كفر بالكسوة يبين ذلك أن حمل الآية على ذلك يحوج إلى إضمار حتى يكون تقديره فكفارته إطعام عشرة مساكين لبعضكم أو كسوتهم لبعضكم وليس يجوز إضمار لا دليل عليه وأيضا فلو كان قوله فكفارته خطابا للكافة لا لكل واحد منهم لقال فكفارته إطعام عشرة مساكين وكسوتهم وتحرير رقبة لأن الثلاثة واجبة على الجمع عليهم ألا ترى أنه يجب على

بعضهم الكسوة فقط في حال ما يجب الإطعام فقط على آخرين في حال ما يجب العتق فقط على أخرين
دليل آخر لو كانت الواحدة من الكفارات واجبة بعينها على المكلف لعينها الله عز و جل له وإلا كان قد كلفه ما لا طريق له إليه وذلك لا يجوز وليس في شيء من الأدلة تعيين لكفارة من الكفارات
دليل آخر قد خير الله سبحانه والمسلمون كل مكلف بين الكفارات الثلاث فلو وجب واحدة منها على المكلف لا غير لكان الله سبحانه قد خيره بين الواجب وبين ما ليس بواجب وفي ذلك إباحة الإخلال بالواجب إن قيل إنما خير الله بين الكفارات وإن كان الواجب منها واحدا لأنه قد علم أن المكلف لا يختار إلا الواجب قيل له ليس يخلو اختياره للواحدة منها إما أن يكون له تأثير في كونها مصلحة واقعة على وجه الوجوب أو ليس له تأثير في ذلك فان لم يكن له تأثير في ذلك أدى إلى أن يتفق وقوع المكلفين مع كثرتهم وطول أزمانهم على المصلحة دون المفسدة وذلك في التعذر كتعذر اتفاق الفعل المحكم ممن ليس بعالم به وفي ذلك جواز اتفاق تصديق أنبياء من جملة كذابين ممن لا يعلم الفرق بينهم وأيضا فلو صح وقوع الواجب اتفاقا لم يخرج الباري سبحانه من كونه مخيرا لنا بين الواجب وبين ما ليس بواجب ومبيحا لنا الإخلال بالواجب وإن علم أنا لا نخل به وأيضا فالأمة مجمعة على أن من كفر بواحدة من الكفارات لو كفر بغيرها أجزأه وكان مكفرا بما تعبد به فلو لم يكن ما كفر به واجبا لم يكن مجزئا فان قالوا لاختيار المكلف تأثير في كون الفعل المختار مصلحة قيل لهم ليس يخلو إما أن تكون مصادفة الاختيار لأي فعل أشير إليه تجعله مصلحة حتى يكون الاختيار وحده هو المؤثر في كون الفعل المختار صلاحا أو تكون مصادفته لواحدة من الكفارات الثلاث هو المصلحة فان قالوا بالأول لزمهم أن يكون للمكلف أن يختار أن يكفر بغير الإطعام والكسوة والعتق وإن قالوا بالثاني قيل لهم اشترك الكفارات الثلاث في الوجه الذي به فارقت ما ليس منها وهو الذي

صار له الفعل مصلحة إذا قارنه الاختيارأو لا تشترك في ذلك بل الواحد منها هو مختص بهذا الوجه فقط فان قالوا بالثاني قيل لهم فاذا الذي يكون مصلحة إذا اخترناه هو واحد منها فقط وهذا يمنع منه تخيير الله سبحانه المكلف بين أن يفعله وبين أن يتركه ويفعل غيره ويجب أن لو فعلنا غيره أن لا يجزئنا والأمة مجمعة على أنه يجزئنا فان قالوا لا يمتنع أن يكون ما عدا تلك الكفارة مباحا ويسقط به الفرض كا تقولون إن القبيح يسقط به الفرض قيل إن الأمة كما اجتمعت على أن المكفر بواحدة من الكفارات لو كفر بغيرها اجزأه فقد أجمعت أيضا على أنه لو كفر بغيرها لكان قد فعل الواجب وما تعبد به وأيضا فاني إنما أجوز في القبيح أن يسقط به الفرض إذا كان سادا لمسد الواجب في وجه المصلحة وإنما قبح ولم يدخل تحت التكليف لأن فيه وجها من وجوه القبح أو لأنه إذا فعله المكلف صار لو فعل ذلك الواجب لم يكن على صفة المصلجة فيسقط وجوبه لهذا وأما المباح فلو سقط به الواجب لكان إما أن يسقط به لأنه إما قد ساواه في وجه الوجوب وفي ذلك كونه واجبا لأنه ليس فيه وجه قبح يمنع من وجوبه وإما أن يسقط الواجب لأنه يصير معه غير مصلحة فذلك يجعله مفسدة لأن عنده يبطل لطف المكلف ويصير فاعلا لقبيح ولولاه لكان له لطف يصرفه عن ذلك القبيح وإن قالوا الكفارات الثلاث تشترك في الوجه الذي تتميز به مما ليس بكفارة وهو الذي لمكانه صار كل واحد منها إذا ضامه الاختيار مصلحة قيل لهم فقد وجب أن تكون كل واحدة منها لو فعلت سدت مسد الأخرى في المصلحة وهذا هو قولنا والذي يبقى بيننا وبينكم ما قلتموه من أن يكون للآختيار تأثير في كون الفعل مصلحة مع ما عليه الفعل من الوجه وهذا لا معنى له لأن المكفر عالم بما يفعله ومن هذه سبيله منا لا بد من أن يقصد ويريد ما يفعله وما لا بد منه في الفعل لا معنى لاشتراطه في المصلحة لأنه لو جاز ذلك لجاز أن يجعل اختيار كل فعل واجب شرطا في كونه واجبا
فأما من ذهب إلى أن الواجب من الكفارات واحدة وأنها تتعين بالفعل

فيقال لهم ما معنى قولكم إنها تتعين بالفعل فان قالوا إذا فعلت لزم فعلها مرة ثانية قيل لهم إن أردتم تكرير مثلها فذلك غير واجب باتفاق وإن أردتم فعل نفس ما فعله فذلك غير ممكن ولو أمكن لم يجب فان قالوا نريد بذلك أنه إذا فعلها علمنا أنها هي التي كانت واجبة عليه دون غيرها قيل فكان يجب أن يدلنا الله عز و جل على وجوبها بعينها ولا يخيرنا بينها وبين غيرها ولا تجمع الأمة على أنه لو كرر بغيرها أجزأه فإن قالوا معنى ذلك أنه إذا فعلها أجزأه في إسقاط الفرض قيل وكذلك ما لم يفعله لو فعله أجزأه
والذي والذي ذكروه نسلمه وليس هو موضع الخلاف فهذه القسمة تبطل قول المخالف ويزول معها اعتراضات وقد أفسد أصحابنا قول المخالف بهذه على الوجوه غير هذه القسمة فقالوا لو كان الواجب واحدة من الكفارات لعينها الله سبحانه بالوجوب ولما وكل فعلها إلى اختيارنا لأن الإنسان قد يختار المصلحة والمفسدة كما لم يجز أن يكل إلينا اختيار نبي من غير أن يدلنا عليه بمعجزة ولقائل أن يقول إنما يتم هذا الكلام لو كانت الكفارة مصلحة من دون الاختيار فيقال يجوز أن يختار المكلف المصلحة ويجوز أن يختار ما ليس بمصلحة كما أن النبي يكون نبيا من دون اختيارنا اعتقاد نبوته فأما إذا قلنا إن تأخيرنا مكمل كون ما يفعله مصلحة فإنا نعلم أن ما نختاره هو المصلحة لأجل اختيارنا لا لأنه صادف اختيارنا ما هو مصلحة فيقال فاذا جاز أن يصادف اختياركم المصلحة جاز أيضا أن يصادف أيضا ما ليس بمصلحة
وقالوا أيضا لو كانت الواحدة من الثلاث واجبة فقط وهو الذي يختاره المكلف لكان لو كفر بغيرها لم تجزئه والإجماع واقع على انه يجزئه ولقائل أن يقول إذا جعلت المصلحة أن أفعل الكفارة وأنا مختارها وجب لو لم يفعل المكلف ما فعله وفعل غيره أن تكون مصلحة أيضا لنه قد فعله وهو مختار له

وقالوا أيضا كان يجب لو اخل بالثلاث أجمع أن لا يستحق ذما لأنه إنما يجب عليه واحدة منها إذا اختاره فاذا لم يختره لم يحصل الشرط ولقائل أن يقول المصلحة إنما تحصل باحدى الكفارات مع الاختيار فان لم توجد فاتت المصلحة فجرى مجرى لطف يحصل بمجموع فعلين وجرى مجرى قولكم إن بيع الأرز متفاضلا إنما يكون مفسدة إذا غلب على ظن المجتهد شبه بالبر ولا يجوز مع ذلك إقدام المجتهد على بيعه متفاضلا إذا لم يجتهد في تحريمه بل يلزمه أن يجتهد حتى إذا أداه اجتهاده إلى تحريمه اجتنبه
وقالوا أيضا لو كانت الواحدة من الكفارات واجبة فقط لكان قد خير الله سبحانه بين الواجب وبين ما ليس بواجب ولقائل أن يقول إنما تصير مصلحة باختيار المكلف وأيها فعل وهو مختار له فقد فعل المصلحة فلم يخير بين المصلحة وبين ما ليس بمصلحة
واحتج المخالف بأشياء
منها أنه لو كان كل واحدة من الكفارات واجبة لوجب الجمع بينها إذ كل واحدة منها على وجه الوجوب وإذا وجدت واحدة منها لم تخرج الأخرى من أن تكون لو فعلت لوقعت على وجه الوجوب والجواب أن كل واحدة منها تختص بوجه وجوب يقوم فيه مقام الأخرى فتسقط المصلحة الاولى فلم يجز أن تجب الأخرى مع أن الحانث قد استوفى المصلحة بالاولى يبين ذلك أن الإطعام إذا كان مصلحة في رد وديعة وكانت الكسوة تسد مسده في ذلك فانه إذا أطعم الحانث فرد الوديعة قام الإطعام مقام الكسوة ولم يبق شيء تكون الكسوة مصلحة فيه فلم يجز أن يجب
ومنها قولهم كان يجب لو كفر الحانث بها معا أن تكون كلها واجبة إذ ليس بعضها بذلك أولى من بعض وأجاب قاضي القضاة بأنا لا نقول بهد إيجادها بأنها واجبة عليه لأن ذلك يفيد لزوم فعلها وذلك مستحيل بعد

إيجادها وإنما يقال في الموجود إنه واجب ولا يقال إنه واجب على أحد ولا يقال في الكفارات الموجودة معا إنها واجبة لا على الجمع ولا على البدل والتخيير لأن التخيير والبدل إنما يصحان على المعدوم دون الموجود قال فلو قلنا إنها واجبة لكانت واجبة على الجمع وذلك باطل ولقائل أن يقول إذا لم تكن بعد إيجادها موصوفة بالوجوب لا على التخيير ولا على الجمع ولا كل واحد منها على وجه وجوب لأنكم لا تصفون كل واحدة بأنها واجبة فانه يلزمكم أن تقولوا إن واحد منها واجب لا يتعين عندنا وإذا قلتم ذلك لزمكم أن يكون ذلك الواحد هو الواجب قبل وجوده لأنه إنما كان كل واحد منها واجبا قبل وجوده على البدل لأن كل واحد منها لو وجد لكان على وجه الوجوب فان كانت إذا وجدت فواحد منها فقط على وجه الوجوب فذاك إذا هو الواجب على المكلف قبل وجوده ما لم يوجد الآخر فأما إذا وجد الآخر فلا قيل له فاذا وجدت معا لم يكن بعضها بأن يخرج من أن يكون على وجه الوجوب لأجل وجود الآخر بأولى من العكس فيلزم أن يخرج كلها عن صفة الوجوب ونحن نجيب عن الشبهة فنقول للسائل إن أردت بقولك هل هي واجبة كلها انه يلزم فعلها مع أنها مفعولة فذلك مستحيل ولا يبقى بعد ذلك إلا أن تقول هل هي على صفات كان يلزم لمكانها إيجادها إما على الجمع وإما على البدل فجوابنا أما أن تكون واجبة على الجمع فلا وأما على البدل فنعم هي بعد وجودها واجبة على معنى أن كل واحد منها على صفة متساوية للصفة الأخرى ولمكان تلك الصفة يلزم إيجادها على التخيير وهو قولنا
ومنها ومنها قولهم لو كانت واجبة على البدل لم يخل إذا أطعم المكفر في حال ما كسا إما أن يسقط الغرض بكل واحد منهما وإما أن يسقط لمجموعهما أو بواحد منهما فلو سقط لمجموعهما لكانا واجبين على الجمع ولو سقط بكل واحد منهما لكان قد حصل حكم واحد عن مؤثرين وإن سقط بواحد منهما فذلك هو الفرض دون غيره والجواب أن الفرض يسقط بكل واحد منهما

لأن كل واحد منهما ساد مسد الآخر في وجه الوجوب فليس بأن يسقط بأحدهما أولى من أن يسقط بالآخر وذلك غير ممتنع ألا ترى أن المكلف لو قتل أحدا في حال ما ارتد لا يستحق قتله وهو حكم واحد بكل واحد من الردة والقتل ولو انكشفت عورة المصلي في حال ما وطيء على نجاسة وفي حال ما أحدث يخرج من الصلاة بكل واحد منها لأنه ليس بعضها بأن يؤثر في ذلك أولى من بعض وعلى أن هذه الشبهة التي قبلها تلزم المخالف إذا قال إن الواجب هو ما يختاره المكلف لأنه إذا كفر بالكسوة والعتق والإطعام معا فقد اختار كل واحد منها فوجب أن يكون كل واحد منها هو الواجب وبكل واحد منها يسقط الفرض وكذلك من قال يتعين الواجب بالفعل
ومنها ومنها قولهم لو قال الحانث للفقير ملكتك هذه الكسوة وهذا الطعام وقال مثل ذلك لباقي الفقراء يكون ذلك واجبا أو ندبا فان قلتم واجب لزمكم أن يكون الجمع بين الإطعام والكسوة واجبا وإن قلتم ندب لزمكم أن يكون هذا المكفر ما فعل الواجب وإن قلتم هو واجب وندب لم يكن بعضه بالوجوب أولى من بعض وكنتم قد صرتم إلى قول مخالفكم من أن الواجب أحدهما والجواب أنا نقول إنه واجب على معنى أنه يتضمن إفعالا لو انفرد كل واحد منها لأسقط الفرض ونقول إنه ندب على معنى أنه لا يلزمه أن يجمع بينهما ولا تناقض بين ذلك على هذا التفسير
ومنها قولهم لو كانت واجبة كلها لوجب إذا أطعم وكسا معا أن ينوي بكل واحد منها الوجوب لأنه ليس بأن يكون أحدهما هو الواجب أولى من الآخر والجواب يقال لهم إن أردتم بذلك أنه ينوي أنه يفعل ما يقوم مقام غيره في وجه المصلحة وإسقاط الفرض فنعم وهو مطابق لما فسرناه وإن أردتم به أنه ينوي بكل واحدة منهما أنه يلزمه فعله وإن فعل الآخر فلا ثم إن الشبهة لازمة لهم إذا قالوا إن بالاختيار أو بالفعل يتميز الوجوب لأن الاختيار قد حصل في كل واحد منهما

ومنها قولهم كان يجب لو أخل بكل واحدة من الكفارات أن يستحق الذم على الإخلال بكل واحدة منها لأن كلها واجبة فليس بأن يذم على ترك البعض أولى من البعض والجواب أنا لم نقل إنه يلزمه الجمع بينهما حتى يعاقب على كل واحدة منها ونقول يستحق قدرا من العقاب على الإخلال بالكل كما يذم على الإخلال بالكل ولا بقدر العقاب ويسقط كل شبهة وقد أجاب شيوخنا عنه بأنه يستحق الذم والعقاب على أدونها عقابا لأنه لو فعله ما استحق شيئا من العقاب فان قيل لو فعل أعظمها عقابا لما استحق الذم فيجب إذا أخل بالكل أن يستحق ذلك العقاب والجواب أنه إذا كان لو فعل أقلها عقابا سقط عنه العقاب فيجب إذا أخل بأجمعها ثم عوقب في كل وقت عقاب أقلها عقابا ان يجري بعد استيفاء هذا العقاب مجرى من فعل الكفارة التي هذا العقاب يستحق على تركها ولو فعلها لم يستحق عقابا فكذلك إذا استوفى عقابها والأولى أن يقال يستحق عقاب أدونها عقابا لما ذكرناه الآن لكنه يستحق ذلك على الإخلال بأجمعها لا بواحدة منها لأنها إذا كانت واجبة على البدل لم يجز أن يعاقب على الإخلال بواحد منها لأن في ذلك كونها هي الواجبة وإنما يعاقب كما يذم ومعلوم أنا لا نذمه لم أخل بواحدة وإنما نذمه لم أخل بالكفارات الثلاث فكذلك يعاقب ألا ترى أنا نلومه ونعنفه فنقول لم أخللت بجميعها ولا نقول لم أخللت بواحدة منها فان قالوا فاذا كان يستحق العقاب على الإخلال بأجمعها فكيف يتصور أن بعضها أقل عقابا وبعضها أزيد قيل بأن يكون بعضها أشق من بعض نحو العتق ويتصور أن لو وجب وحده لكان عقاب الإخلال به أقل من عقاب ترك الكسوة لو وجبت وحدها
ومنها قولهم لو كانت كلها واجبة لا يستحق فاعلها معا على كل واحد منها ثواب الواجب وأجاب أصحابنا عن ذلك بأنه إنما يستحق عليه ذلك الثواب ولقائل أن يقول ولو أفرد فعل أدونها ثوابا لكان واجبا ولا يستحق عليه ثوابه فيلزمكم على تعليلكم أن يستحق على ذلك ثواب الواجب ويستحق

ثواب الأعظم لا على أنه ثواب الواجب ثم يقال لهم أبزيادة الثواب صار واجبا أم لا فان قالوا نعم قيل فيجب أن يكون هذا الواجب قبل ايجاده وإن قالوا لا قيل لهم فما به صارت واجبة قد اشتركت فيه فلم صار الثواب الأزيد هو ثواب الواجب دون غيره ثم يقال لهم إنكم بقولكم أزيدها ثوابا هو الذي يستحق عليه ثواب الواجب دون غيره تسليم منكم أن ذلك هو الواجب دون غيره لأن ما لم يوجد إنما يوصف بالوجوب وحده لأنه إذا وجد اختص بوجه الوجوب دون غيره وهذا قد قلتموه في هذه الكفارة ونحن نجيب عن الشبهة فنقول للمستدلين قولكم على أنها تستحق ثوب الواجب تسليم منكم أن فيها واحد واجب يستحق عليه الثواب وأنكم تطلبون أيها هو ونحن قد بينا أن كل واحد منها واجب إذا وجدت معا على التفسير الذي ذكرناه فكل واحد منها يستحق عليه ثواب الواجب على معنى أنه يستحق عليه ثواب ما هو على صفة لو فعل وحده لأسقط الفرض ونقول إن كل واحد منها لا يستحق عليه ثواب الواجب إذا أريد بالواجب لزومه بعينه لأنه ليس فيها ما يلزم بعينه
واستدلوا على جواز ورود التعبد بواحد من الأشياء لا بعينه ويجعل ذلك موكولا إلى اختيارنا بأنه لا يمتنع أن يقول الله سبحانه أوجبت عليكم واحدة من الكفارات لا بعينها فافعلوا أيها شئتم ولو قال ذلك لوجبت واحدة منها لا بعينها والجواب أنه إن عني بقوله أوجبت عليكم واحدة منها لا بعينها أنه لا يلزمنا ضم واحدة إلى واحدة وأنه يلزمنا أيها شئنا لأن كل واحدة تقوم مقام الأخرى فصحيح وهو مذهبنا وإن عني أن الواجب والمصلحة واحد لم يعينه لنا وهو في نفسه متعين عند الله فذلك لا يجوز أن يقوله وهو موضع الخلاف
واستدلوا على أن التعبد بذلك قد ورد بأشياء
منها أن الحانث لا يلزمه عتق كل رقاب الدنيا وإنما يلزمه عتق واحدة

منها لا بعينها وذلك موكول إلى اختياره وكذلك العمي إذا أفتاه فقيهان بفتويين مختلفين أنه يلزمه أحدهما لا بعينه وكذلك إذا اعتدلت عند المجتهد أمارتان أنه يلزمه المصير إلى أحداهما لا بعينها وقد أجاب قاضي القضاة بأنه يلزمه عتق كل رقبة تمكن من عتقها على البدل وهذا هو مذهبنا وليس ذلك بمستحيل على التفسير الذي ذكرناه وكذلك يلزم العامي الأخذ بكل واحد من الفتويين على البدل وكذلك المجتهد إذا اعتدلت عنده الأمارتان
ومنها أن الإنسان لو عقد على قفيز من صبرة لكان المعقود عليه قفيزا منها لا بعينه وإنما يتعين باختيار والجواب أنه إذا عقد على قفيز من صبره فليس العقد بأن يتناول قفيزا منها أولى من قفيز لعقد الإختصاص فوجب أن يكون كل قفيز منها قد يتناوله العقد على سبيل البدل على معنى أن كل واحد منها لا اختصاص للعقد به دون صاحبه وللمشتري أن يختاره وإذا اختاره تعين ملكه فيه فتعين الملك في القفيز كسقوط الفرض بالكفارة وكذلك إذا طلق زوجة من زوجاته لا بعينها أو أعتق عبدا من عبيده لا بعينه أن كل واحد منهم معتق على البدل وكل واحدة منهن طالق على البدل على معنى أنه لا اختصاص للطلاق والعتق بواحد دون صاحبه وأنه أي نسائه اختار مفارقتها حلت له الأخرى وتعينت الفرقة عليها وأي عبيده اختار عتقه تعينت فيه الحرية وكان له استخدام الباقين وقد أجاب الشيخ أبو عبد الله وقاضي القضاة عن الشبهة فقالا إنه لما جاز أن يقف العقد على القفيز على الاختيار جاز أن يقف فرع من فروعه على الاختيار وظاهر ذلك يقتضي تسليم ما قاله المخالف من أن المبيع من الصبرة والمعقود منها قفيز يعلم الله عينه ولا نعلمه نحن وما عداه غير معقود عليه وكذلك المطلقة من النساء واحدة يعلم الله عينها ولو كان كذلك لوجب أن يعين الله سبحانه لنا المطلقة والقفيز المبيع وإلا كان قد خيرنا بين أن نقبض ما نملكه وما لا نملكه وبين المقام على المطلقة والتي ليست بمطلقة وبين ملك الحر والعبد فهذا هو الكلام في إيجاب الأشياء على جهة التخيير

فأما كيفية إرادة الله الأشياء التي أوجبها فنحن آخذون فيها فنقول إن الأشياء التي أوجبها الله سبحانه لا على الجمع ضربان أحدهما أوجبها على الترتيب والآخر أوجبها على البدل
أما الأول فهي التي تعبد ببعضها عند تعذر البعض كالتيمم عند عدم الماء وأكل الميتة عند تعذر الطعام والخوف على النفس أو عند وجود المشقة نحو التيمم عند وجود ماء بأكثر من ثمن مثله وما تعبد الله سبحانه به على الترتيب منه ما قد أراد جميعه وإن لم يجب جميعه نحو الصيام والعتق في كفارة اليمين وإن كان إذا فعل الصيام لا تكون كفارة منه ومنه ما لم يرد الجمع نحو أكل الميتة وأكل المباح من الطعام والأشياء المرتبة قد يكون منها ما يوصف بأنه رخصة وهو أن يكون أسهل والأصل غيره ولذلك المسح على الخفين رخصة وأكل الميتة رخصة
وأما الأشياء المتعبد بها على البدل فضربان أحدهما أرادها الله بأجمعها وإن لم يجب الجمع والآخر لم يرد الجمع فالأول نحو الكفارات الثلاث وأما الذي لم يرده أجمع فضربان أحدهما كره الجمع بينه نحو تزويج المرأتين كفوين والآخر لم يرد الجمع ولا كرهه نحو ستر العورة وكل ما يستحب ستره في الصلاة بثوب بعد ثوب لأن الثوب الثاني مباح ما أراده الله ولا كرهه وقد أراد الستر بكل واحد منها على البدل
باب في الأمر هل يدل على إجزاء المأمور به أم لا ذهب الفقهاء بأسرهم إلى أنه يدل على ذلك وقال قاضي القضاة إنه لا يدل عليه وينبغي أن نذكر معنى وصفنا للعبادة بأنها مجزئة وغير مجزئة ثم نبني الكلام عليه فنقول إن وصف العبادة بأنها مجزئة معناه أنها تكفي وتجزيء في إسقاط التعبد بها وإنما يكون كذلك إذا استوفينا شروطها التي تعبدنا أن

نفعلها عليها وذلك أنه لا فرق بين قولنا هذا الشيء يجزئني وبين قولنا إنه يكفيني والمعقول من قولنا إنه يكفيني أنه يكفي في غرض من الأغراض وكذلك المعقول من قولنا في العبادة إنها تجزيء هو أنها تكفي وتجزيء في إسقاط التعبد وإذا قلنا إن العبادة لا تجزيء فالمعقول منه أنها لا تجزىء في إسقاط التعبد بها وإنما لا تجزيء في ذلك لأنها لم تستوف شرايطها التي أخذ علينا إيقاعها عليها وتبع ذلك أن يجب قضاؤها بذلك التعبد إن لم تكن موقتة أو كان وقتها باقيا وأن يجوز أن يجب قضاؤها إن كان قد خرج وقتها وقد دخل تحت هذا الكلام العبادات الواجبة وغير الواجبة وليس معنى قولنا إن العبادة تجزىء أنها حسنة لأن المباح حسن ولا يوصف بأنه يجزىء وإنما يوصف المباح بأنه جائز على معنى أنه حسن غير قبيح وذكر قاضي القضاة أن معنى وصف العبادة بأنها مجزئة هو أنه لا يجب قضاؤها ومعنى وصفها بأنها لا تجزيء هو أنه يلزم قضاؤها وهذا غير مستمر لأن الله سبحانه لو أمرنا بالصلاة على طهارة فصلى الإنسان على غير طهارة ومات عقيب الصلاة أو بقي حتى خرج وقت الصلاة ولم يرد التعبد بالقضاء لوجب أن تكون الصلاة مجزئة إذ كان القضاء لم يجب وهو معنى كونها مجزئة عنده فإن قال العبادة التي هي غير المجزئة هي التي يجوز أن يجب قضاؤها أو كان يجوز أن يجب قضاؤها وما فرضتموه كان يجوز أن يجب عليه القضاء قيل فقد صارت العبادة المجزئة هي التي تكون على صفة لأجلها لا يجوز أن يجب قضاؤها والتي لا تجزيء تكون على صفة يجوز معها أن يجب قضاؤها فما تلك الصفة إذ هي معنى الإجزاء فلا بد عند ذلك من الرجوع إلى ما قلناه فيظهر أن المأمور به إذا فعل على حد ما أمر به لم يجز أن يجب قضاؤه
فاذا ثبت ذلك فلنتكلم في المسألة على كلا القولين فنقول إن كان معنى وصف العبادة بأنها مجزئة أنه قد سقط بها التعبد فمعلوم أن الأمر يدل على أن ما تناوله إذا فعل على حد ما تناوله مع تكامل الشرائط فهو يجزيء لأن

المكلف بهذا الفعل ممتثل للامر فلو قلنا إن التعبد بذلك الفعل باق عليه انتقض القول بأنه ممتثل للأمر لأن الأمر تعبد ولهذا نقول إن المضي في الحجة الفاسدة يجزيء في إسقاط التعبد بالمضي فيها وإنما لا يجزيء فيها إسقاط التعبد بحجة صحيحة لأن ذلك التعبد ما امتثل وكذلك الصلاة في آخر الوقت على ظن الطهارة تجزيء في إسقاط التعبد المتوجه إلى الظان في ذلك الوقت وإذا ذكر من بعد أنه كان محدثا توجه إليه أمر آخر لأنه إنما كلف الصلاة على طهارة إذا ذكر أمه كان محدثا حين صلى فأما كون العباد جائزة على معنى أنها حسنة فلا شبهة في أن الأمر يدل عليه لأن الأمر يدل على الوجوب أو على الندب والحسن داخل تحت كل واحد منهما
فأما القول بأن الأمر يدل على إجزاء المأمور به على معنى أنه يمنع من لزم القضاء فصحيح أيضا لأن قضاء العبادة الموقتة هو فعل واقع بعد خروج وقتها بدلا من فعلها في وقتها على الوجه المأمور به وذلك يكون إما لأن العبادة ما فعلت أصلا أو فعلت على وجه الفساد وذلك غير حاصل إذا فعلها الإنسان على وجه الصحة فلم يتصور القضاء اللهم إلا أن يقال يجب عليه بعد خروج الوقت فعل مثل ما فعله في الوقت ولا يكون قضاء لما فعله فذلك غير منكر والأمر لا يدل على نفي وجوب ذلك ألا ترى أن الأمر بصلاة الظهر لا يمنع من وجوب مثلها في العصر غير أنه لا يكون قضاء لها فان قيل أليس الماضي في الحجة الفاسدة قد امتثل الأمر في المضي فيها ويلزمه القضاء وكذلك المصلي في آخر الوقت على ظن الطهارة قيل الحجة الصحيحة لا تكون قضاء لمقتضى الأمر بالمضي في الحجة الفاسدة وإنما هي مفعولة لأجل أن الأمر بالحج الصحيح باق والصلاة المفعولة بعد خروج الوقت إذا ذكر المكلف أنه كان صلى على غير طهارة ليس بقضاء لمقتضى الأمر بالصلاة مع ظن الطهارة وإنما هو قضاء لمقتضى الأمر بصلاة على طهارة


باب في الأمر بالشيء هل يدل على وجوب ما لا يتم الشيء إلا به أم لا اعلم أنه ينبغي أن نذكر الأشياء التي لا تتم العبادة إلا معها ثم نذكر متى يدل الأمر على وجوب ما لا يتم المأمور به إلا معه ومتى لا يدل ويدل على كلا القسمين
ونبدأ بالأول فنقول إن ما لا تتم العبادة إلا به ضربان أحدهما هو كالوصلة والطريق المتقدم على العبادة والآخر ليس كالوصلة المتقدمة فالأول ضربان أحدهما يجب بحصوله حصول ما هو طريق إليه والآخر لا يجب ذلك فيه فالأول ضربان أحدهما يجب بحصوله حصول ما هو طريق إليه والآخر لا يجب ذلك فيه فالأول نحو أن يأمرنا الله سبحانه بإيلام زيد فإن وصلتنا إلى ذلك هو ضربة ومحال وجود الضرب الشديد في بدنه مع احتماله الألم ولا يألم والثاني ضربان أحدهما تحتاج إليه العبادة بالشرع والآخر تحتاج إليه في نفسها لا بالشرع أما الأول فكحاجة الصلاة إلى تقديم الطهارة وأما الثاني فكالتمكن على اختلاف أقسامه كالقدرة والآلات وقطع المسافة إلى أقرب الأماكن من عرفة والتمكن منه ما يصح من المكلف تحصيله كقطع المسافة وإحضار بعض الآلات ومنه ما لا يصح من المكلف كالقدرة
فأما ما ليس كالوصلة مما تحتاج إليه العبادة فان العبادة المفتقرة إليه ضربان أحدهما إقدام على الفعل والآخر إخلال بفعل أما الأول فضربان أحدهما أن يكون إنما لم يتم من دون غيره لأجل الالتباس نحو أن يترك الإنسان صلاة من جملة الخمس لا يعرفها بعينها فيلزمه فعل الخمس لأنه لا يتمكن مع الالتباس أن يتيقن إتيانه بالمنسية إلا بفعله الكل والآخران أن لا يمكن استيفاء العبادة إلا بفعل آخر لأجل التقارب نحو ستر جميع الفخذ لأنه لا يمكن إلا مع ستر بعض الركبة وغسل جميع الوجه لا يمكن إلا مع غسل يسير من الرأس وأما إذا كانت العبادة إخلالا بفعل ولا يمكن إلا بغيره فهو أن يكون ما يلزم

الإخلال به ملتبسا بغيره وهو ضربان أحدهما أن يكون قد تغير في نفسه والآخر لا يكون قد تغير في نفسه فالأول نحو اختلاط النجاسة بالماء الطاهر وقد اختلف الناس في ذلك فمنهم من حرم استعمال الماء المتيقن حصول النجاسة فيه على كل حال ولم يجعلها مستهلكة ومنهم من جعلها مستهلكة واختلفوا في الأمارة الدالة على استهلاكها فمنهم من قال هي تغير الماء ومنهم من قال هي كثرة الماء واختلف هؤلاء فمنهم من قدر الكثرة بالقلتين ومنهم من قدرها بكر وغير ذلك فأما ما لا يتغير مع الالتباس فإنه يشتمل على مسائل
منها أن يلتبس الإناء النجس بالإناء الطاهر وقد اختلف في ذلك فمنع قوم من استعمالها تغليبا للحظر لأجل مساواة الطاهر النجس في العدد وقال قوم بالتحري والعمل على غلبة الظن فإذا غلب على الظن نجاسة أحدهما جرى ذلك مجرى العلم في أن أحدهما قد أمكن استعماله من دون المحرم
ومنها أن يوقع الإنسان الطلاق على امرأة من نسائه بعينها ثم تذهب عليه عينها قال قاضي القضاة الأقوى عندي أن تحرم الكل لأن التحريم قد كان تعين فلا يؤمن إذا استمتع بواحدة منهن أن تكون هي المطلقة
فهذه جملة الأقسام وقد ذكرت في الشرح الأشياء التي يتبع بعضها أحكام بعض وقد ذكرها قاضي القضاة في شرحه وعدلت عن ذكرها ها هنا لأنها بالكلام أشبه
فأما الكلام في الفصل الثاني فهو أن ما لا يتم العبادة إلا معه ضربان أحدهما لا يمكن المكلف تحصيله كالقدرة والآخر يمكن تحصيله فالأول لا يدل الأمر بالعبادة على وجوبه لأنه غير ممكن فعله والأمر من الحكيم لا يتوجه بما لا يمكن ولا يتوجه إلى العبادة إلا بشرط حصول القدرة لأنه إن كان يوجد مع فقدها كان أمرا بما لا يطاق والثاني على ضربين أحدهما أن يكون الأمر بالعبادة ورد مشروطا بحصول ما يفتقر إليه العبادة نحو أن يقال

للمكلف اصعد السطح إن كان السلم منصوبا وهذا يقتضي وجوب الصعود إن كان السلم منصوبا لأن الأمر تناول المكلف بهذا الشرط وقد حصل الشرط ولا يتناول المكلف مع فقد الشرط فلم يوجب عليه صعودا كساير ما لا يتناوله الأمر وإذا لم يوجب عليه الصعود لم يوجب عليه نصب السلم والضرب الآخر أن يرد الأمر مطلقا نحو أن يقال للمكلف اصعد السطح فان هذا الأمر يوجب عليه الصعود وتقديم نصب السلم يدل على ذلك أن الأمر المطلق يقتضي إيقاع الفعل لا محالة متى أمكن إيقاعه وإذا اقتضى ذلك اقتضى إيقاع ما يحتاج إليه الفعل وإنما قلنا إن المطلق يقتضي إيقاع الفعل على كل حال لأنه لو كان مقيدا بوقت نحو أن يقال اصعد السطح في هذا الوقت فانه يجري مجرى أن نقول له لا يخرج هذا الوقت إلا وقد صعدت السطح على كل حال متى تمكنت الصعود إذ ليس في لفظ الأمر ذكر الشرط ولو قيل له ذلك لزمه الصعود على كل حال وإنما قلنا إن هذا يقتضي وجوب نصب السلم لأنه لو لم يجب نصب السلم بل كان مباحا أن لا ينصبه لكان الأمر كأنه قال له مباح أن لا تنصب السلم وواجب عليك مع فقد السلم وغيره أن تصعد وذلك تكليف ما لا يطاق
فإن قيل ليس يخلو الأمر بالصعود إما أن يكون مشروطا بنصب السلم أو غير مشروط به فإن كان مشروطا به فهو قولنا ويجب إذا لم يكن السلم منصوبا أن لا يكون متوجها إلى المكلف ولا يلزمه نصبه وإن كان غير مشروط بوجود السلم فذلك تكليف ما لا يطاق والجواب أنا لا نعقل من قولهم إن الأمر بالصعود مشروط بنصب السلم إلا أنه يتناول المأمور عند نصب السلم ولا يتناوله إذا لم يكن السلم منصوبا وهذا موضع الخلاف لأنا نقول إن الأمر يتناول المأمور سواء كان السلم منصوبا أو غير منصوب وليس في ذلك تكليف ما لا يطاق لأنا نقول إن الأمر اقتضى وجوب نصب السلم وهو ممكن للمكلف ولولا صحة ما ذكرناه لكان كل من أمر غلامه بحاجة في السوق وهو في البيت أن يكون إنما أمره بذلك إن حصل في أقرب

الأماكن من مكان تلك الحاجة إن كانت القسمة لا تخلو مما ذكروه
فإن قالوا ليس في لفظ الأمر ذكر الإيجاب غير المأمور به فلم أوجبتموه قيل لأن وجوب المأمور به اقتضى وجوبه كما أوجبنا التسبب وإن كان الأمر بالمسبب لا ذكر للسبب فيه وكما أوجبنا ستر بعض الركبة وإن لم يكن له ذكر في الأمر بستر الفخذ
فإن قيل هلا شرطتم الأمر بحصول الصفة التي يحتاج إليها الفعل حتى لا يلزم وجوب تحصيل تلك الصفة قيل لأن اشتراط ما ذكرتم يمنع من ثبوت وجوب المأمور به في بعض الحالات وعلى بعض الوجوه بأن لا تكون الصفة حاصلة ول يلزم تحصيلها ونحن قد بينا أن ظاهر الأمر يقتضي وجوب المأمور على كل حال فاشتراط ما ذكرتم فيه ترك للظاهر
فإن قالوا لستم بأن تتمسكوا بظاهر الأمر في إيجاب المأمور به على كل حال وتتركوا ظاهره في إيجاب ما لا ذكر له في الأمر بأولى من أن تتمسكوا بظاهره في نفي وجوب ما لا ذكر لإيجابه فيه وهو ترك ظاهر الأمر في نفي اشتراط شرط يمنع من وجوب المأمور به في بعض الحالات قيل قد سلمتم وبينا نحن أن ما تفعلونه أنتم ترك لظاهر الأمر فأما إيجابنا لما لا ذكر له في الأمر فليس بترك لظاهر الأمر فيقع بيننا وبينكم المساواة في ترك إحدى الظاهرين واستعمال الآخر لأن ما لا يتم المأمور به إلا معه كما أنه لا ذكر لإيجابه في الأمر فإنه لا ذكر لنفي وجوبه فيه ومن أوجب ما لا يمنع اللفظ من وجوبه ولا يقتضي صريحه وجوبه لم يكن تاركا لظاهر اللفظ ألا ترى أن إثبات الربا ليس بترك لآية الدين لما لم ينفه ولم يتعرض له أصلا فأما ظاهر قوله افعل في هذا الوقت فانه يقتضي أن يفعل فيه على كل حال متى أمكنه فعله فيه على كل حال فالقول بأنه مشروط شرطا إن لم يكن حاصلا فإنه لا يلزمه الفعل إسقاط الوجوب في كل حال مع أن ظاهر القول اقتضاه


باب في الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده دال على قبحه أم لا ذهب قوم إلى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده وخالفهم أخرون على ذلك وإليه ذهب قاضي القاضة واصحابنا والخلاف في ذلك إما في الاسم وإما في المعنى
فالخلاف في الاسم أن يسموا الأمر نهيا على الحقيقة وهذا باطل لأن أهل اللغة فصلوا بين الأمر والنهي في الاسم وسموا هذا أمرا وسموا هذا نهيا ولم يستعملوا اسم النهي في الأمر فإن استعملوه فيه فقليل نادر
والخلاف في المعنى من وجهين أحدهما أن يقال إن صيغة لا تفعل وهو النهي موجودة في الأمر وهذا لا يقولونه لأن الحس يدفعه والآخر أن يقال إن الأمر نهي عن ضده في المعنى من جهة أن يحرم ضده وهذا يكون من وجوه
منها أن يقال إن صيغة الأمر تقتضي إيقاع الفعل ونمنع من الإخلال به ومن كل فعل يمنع من فعل المأمور به فمن هذه الجهة يكون محرما لضد المأمور به وهذا قد بينا صحته من قبل
ومنها أن يقال إن الأمر يقتضي الوجوب لدليل سوى هذا الدليل فاذا تجرد الأمر عن دلالة تدل على أن أحد أضداد المأمور به يقوم مقامه في الوجوب اقتضى قبح أضداده إذ كل واحد منها يمنع من فعل المأمور به وما منع من فعل الواجب فهو قبيح وهذا الوجه أيضا فهو صحيح إذا ثبت أن الأمر يدل على الوجوب
ومنها أن يقال إن الأمر يدل على كون المأمور به ندبا فيقتضي أن الأولى أن لا يفعل ضده كما أن النهي على طريق التنزيه يقتضي أن الأولى أن لا يفعل

المنهي عنه وهذا لا يأباه القائلون بأن الأمر على الندب غير أنه لو سمي الأمر بالندب نهيا عن ضد المأمور به لكنا منهيين عن البيع وسائر المباحات لأنا مأمورون بأضدادها من الندب
ومنها أن يقال إن الأمر بالشيء يقتضي حسنه أو كونه ندبا وحسن الشيء يقتضي قبح ضده وأن الأمر يدل على إرادة الآمر للمأمور به وإرادة الشيء كراهة ضده أو تتبعها لا محالة كراهة ضده إما من جهة الحكمة أو الصحة والحكيم لا يكره إلا القبيح وهذا كله باطل بالنوافل لأنها حسنة ومراده ليست اضدادها قبيحة ولا مكروهة
فإن قالوا صيغة افعل إذا تعلقت بالنوافل لم تكن أمرا على الحقيقة فلهذا لم تكن نهيا عن أضدادها قيل إنما كلامنا على قولكم إن حسن الشيء وتعلق الإرادة به يقتضي قبح ضده وكونه مكروها وهذا منتقض بالنوافل سواء سميتم ما تعلق به أمرا أم لا ثم يقال لهم فاذا كان ما تعلق بالنوافل ليس بالأمر فما الأمر فان قالوا ما دل على الوجوب كانوا قد تركوا هذا القسم وعدلوا إلى ما تقدم فأما النهي عن الشيء فانه دعاء إلى الإخلال به فيجب كونه في معنى الأمر بما لا يصح الإخلال بالمنهي عنه إلا معه فإن كان للمنهي عنه ضد واحد ولا يمكن الانصراف عنه إلا إليه كان النهي دليلا على وجوبه بعينه وإن كان له اضداد كثيرة ولا يمكن الانصراف عنه إلا إلى واحد منها كان النهي في حكم الأمر بها أجمع على البدل
باب في الأمر المطلق هل يقتضي الفعل مرة واحدة أو يقتضي التكرار ذهب بعض الناس إلى أن ظاهره يفيد التكرار وقال الأكثرون إنه لا يفيده وإنما يفيد إيقاع الفعل فقط وبالمرة الواحدة يحصل ذلك والدليل على

ذلك أن السيد إذا أمر غلامه بالدخول إلى الدار أو يشترى اللحم لم يعقل منه التكرار ولو ذمه على تركه تكرار الدخول لامه العقلاء ولو كرر الدخول اليها جاز أن يلومه ويقول له إني لم آمرك بتكرار الدخول إليها
فان قيل أليس الرجل إذا قال لغيره أكرم فلانا أو أحسن عشرته عقل منه التكرار قيل له المعقول من قول القائل لغيره أحسن عشرة فلان لا تسيء عشرته ولهذا يقال لمن لا يسيء عشرته على غيره إنه يحسن عشرته والنهي يفيد الاستدامة وأيضا فإن هذا الكلام يعقل منه فعل الإكرام والتعظيم ومعلوم أنه لم يأمره باكرامه وتعظيمه إلا لأنه عنده يستحق ذلك فمتى لم يعلم زوال العلة الموجبة لاستحقاقه وجب دوام ذلك فبهذه القرينة يعلم دوام الإكرام لا لمجرد الأمر وايضا فان قولنا عشرة يفيد جملة من الأفعال لا فعلا واحدا ألا ترى أن من رأيناه يعامل غيره بعمل واحد جميل لا يوصف بأنه حسن العشرة وإنما يوصف بذلك إذا عرفنا أن ذلك من عادته وأنه يكرر هذا الفعل وإذا كان اسم العشرة يفيد جملة من الأفعال والأمر بحسن العشرة أمر بجملة من الأفعال حسنة وليس أسم العشرة يتناول فعلا واحدا حتى إذا استفيد من قولنا أحسن عشرة فلان أفعال كثيرة وجب أن يكون قد دل على تكرار فائدته
دليل آخر قول القائل لغيره ادخل الدار معناه كن داخلا لأن من دخل الدار يوصف بأنه داخل وبدخلة واحدة يوصف بانه داخل فكان ممتثلا للامر وكان الأمر عنه ساقطا كما أن قوله اضرب رجلا يسقط عنه إذا ضرب رجلا واحدا لأنه بذلك يوصف بأنه ضارب لرجل فإن قيل وهو بالدخلة الثانية يوصف بأنه داخل أيضا فهلا دخلت تحت الأمر أو توقفتم في دخولها فيه قيل بالدخلة الأولى يكون داخلا على الكمال لأنه يكون داخلا على الإطلاق فكمل بها فائدة الأمر وإنما الدخلة الثانية تكرار لفائدة الأمر بعد استكمالها وإن وقع عليه اسم دخول فلم يدخل تحت الأمر إلا بلفظ

تكرار أو عموم كما أنه إذا قال له اضرب رجلا فضرب فإنه بضرب واحد يكون مستكملا لفائدة الأمر وإنما ضرب رجل آخر تكرار لفائدة الأمر بعد استكماله فلم يلزم بالأمر المطلق وإنما يلزم بلفظ عموم ولا لفظ للعموم ها هنا
فان قيل ما أنكرتم أن يكون قوله اضرب معناه افعل الضرب ولو قال ذلك لوجب أن يفعل جنس الضرب لأن لام الجنس تقتضي استغراق الجنس قيل إنما أنكرنا ذلك لأن قوله اضرب تصريف من ضرب لا من الضرب لأنه ليس فيه ذكر الألف واللام يبين ذلك أنه لو كان قوله اضرب معناه افعل الضرب لكان قوله زيد ضرب معناه افعل الضرب فكان يجب أن يفهم منه تكرار الضرب واستغراق الجنس ومعلوم أن المفهوم من ذلك ضرب مرة ولا نعلم به ماذا عليها فيجب أن نعلم بالأمر وجوب المرة ولا نعلم به وجوب ما زاد عليها فإن قيل فيجب أن يشكوا فيما زاد عليها قيل لا يجب ذلك لأن الأمر إن لم يفده كفى في نفيه أن لا يدل دليل آخر عليه ولو دل دليل آخر عليه لكنا إنما استفدناه بغير الأمر
احتج المخالف بأشياء
منها وجود أوامر في القرآن على التكرار والجواب أن ذلك لا يدل على أنه عقل التكرار من ظاهرها كما لم يدل وجود الفاظ عامة في القرآن لم يرد بها العموم على أنها ما وضعت له على أن في القرآن إيجاب الحج وليس وجوبه متكررا
ومنها قولهم لو لم يفد الأمر التكرار لما اشتبه على سراقة ذلك مع أنه عربي حين قال للنبي عليه السلام أحجتنا هذه لعامنا أو للأبد والجواب أنه ليس في الخبر دليل على أن سبب سؤاله اشتباه ذلك عليه وأيضا فلو كان الإيجاب يفيد التكرار لما اشتبه على سراقة فكان لا يسأل عن ذلك وليس

يمتنع أن يكون إنما سأل لأن الأمر في اقتضائه المرة والتكرار مشتبه بل لأنه ظن أن الحج مقيس على الصلوات والصيام والزكاة فأراد إزالة هذا الاشتباه وقول النبي صلى الله عليه و سلم لو قلت نعم لوجبت دليل على أن وجوب التكرار لم يستفد من الإيجاب بل من قوله صلى الله عليه و سلم وجوابه
ومنها قولهم إن الأمر لا اختصاص له بزمان دون زمان فاقتضى إيقاع الفعل في جميعه والجواب أن القائلين بالفور يجعلون الأمر بأقرب الأوقات إليه أخص فمنهم من يقول إذا لم يفعل المكلف في أقرب الأوقات إليه لم يلزمه الفعل إلا بدليل آخر ومنهم من يقول يلزمه الفعل بالأمر لا لأن الأمر نعقله بالأوقات على سواء بل لأنه يجري مجرى قول القائل افعل في الوقت الأول فان لم تفعل ففي الثاني فان لم تفعل ففي الثالث والأمر عندهم يتعلق بالأوقات على سواء بل لأنه يجرى مجرى قول القائل افعل في الوقت الأول فأن لم تفعل ففي الثاني فأن لم تفعل ففي الثالث والأمر عندهم يتعلق بالأوقات كلها على هذا الترتيب وأما النافون للفور فانهم يقولون لا اختصاص للامر بالأوقات وإذا لم يكن له بها اختصاص صح إيجاب الفعل في جميعها على البدل وعلى الجمع لأن الاختصاص زائل في الحالين فلم يكن فقد الاختصاص طريقا إلى أحدهما
ومنها قولهم لو لم يفد الأمر التكرار لما صح ورود النسخ عليه ولا الاستثناء لأن ورود النسخ على المرة الواحدة يدل على البداء وورود الاستثناء عليها يكون نقضا والجواب أن النسخ لا يجوز وروده عليه إلا أن يدل الدليل على أن المراد بالأمر التكرار فيبين النسخ أن بعض المرات لم يرد وكذلك الاستثناء لا يجوز وروده على الأمر على قول من قال بالفور وأما من لم يقل بالفور فانه يجوز أن يرفع الاستثناء الفعل في بعض الأوقات التي المأمور مخير بين إيقاع المرة فيها وقد قال الشيخ أبو عبد الله رحمه الله إن ورود النسخ والاستثناء على الأمر يدلان على أنه قد أريد به التكرار

ومنها قولهم لو لم يفد الأمر إلا مرة واحدة لم يكن لقول القائل لغيره افعل مرة معنى إذ ذلك معقول من الأمر من غير تقييد والجواب أن المقتضى لذلك هو المقتضى لحسن التأكيد في الكلام وهو ما يفيد من قوة العلم أو الظن وأيضا لو اقتضى التكرار لم يحسن أن يقول افعل متكررا
ومنها قولهم لو أفاد الأمر فعل مرة لما حسن استفهام الآمر فيقال له اردت بأمرك فعل مرة أو أكثر لأن الأمر قد دل على المرة بالأمر والجواب أنه يحسن ذلك طلبا لتأكيد العلم أو الظن أو لأن المأمور عارضه شبهة جوز لأجلها التكرار وسنشبع الكلام في ذلك عند الكلام في العموم إن شاء الله
ومنها قولهم لو أفاد الأمر مرة فلم يفعل المكلف الفعل في الأول لاحتاج في فعله في الثاني إلى دليل والجواب أن ذلك إنما يلزم من قال إن الأمر يقتضي فعل مرة واحدة على الفور وهذا كلام على القائلين بالفور وسيجيء في موضعه ومن لم يقل بالفور لا يلزمه ذلك
ومنها قولهم إن الاحتياط يقتضي تكرار المأمور به لأنه لا ضرر على المكلف فيه ولا نأمن الضرر في ترك التكرار لتجويزه أن يكون الأمر على التكرار والجواب أن المتكلم إذا علم أن الأمر ليس على التكرار أمن الضرر لفقد التكرار ومتى أهمل النظر في ذلك لم يأمن الضرر في اعتقاد وجوب التكرار وإيقاع التكرار بنية الوجوب
ومنها أن الأمر ضد النهي وكالنقيض له فلو كان الأمر يفيد إيقاع الفعل مرة واحدة لكان النهي يفيد الإخلال بالفعل مرة واحدة ولما كان النهي يفيد الانتهاء عن الفعل ابدا كان الأمر يفيد إيقاع الفعل ابدا والجواب أن النهي كالنقيض للامر على ما ذكروه لأن قول القائل لغيره كن فاعلا موجود في قوله لا تكن فاعلا وإنما زاد عليه لفظة النفي وهو لا وزاد عليه

التاء فجرى مجرى قوله زيد في الدار وليس زيد في الدار وكون النهي كالنقيض للامر يوجب أن يفيد في الفعل نقيض فائدة الأمر في الفعل فاذا كان قولنا افعل يقتضي أن نفعل في زمان ما أي زمان كان فنفي هذا ونقيضه هو أن لا نفعل في شيء من الأزمان لأنه إن لم يفعل اليوم وفعل غدا كان ممتثلا للامر ولا يجوز أن يكون ممتثلا للامر والنهي معا مع أنهما نقيضان فصح أن كون الأمر مفيدا لمرة غير معينة يقتضي أن يكون نقيضه يرفع المرة في كل الأزمان ألا ترى أن قول القائل في الدار رجل يقتضي أن فيها رجل غير معين فاذا قال ليس في الدار رجل كان نقيضا له ولا يكون نقيضا له إلا بأن يرفع كل الرجال لأنه إن رفع بعض الرجال دون بعض كان مقتضى قوله في الدار رجل ألا ترى أنه يصدق القائل في الدار رجل إذا كان فيها هذا الرجل فكذلك النهي مع الأمر وأما كون النهي مفيدا لإخلال بالفعل أبدا فهو حجتنا في اقتضاء الأمر للفعل مرة واحدة لأن النهي إذا أفاد الانتهاء على العموم فنقيضه من الإثبات يقتضي مرة واحدة غير معينة كما إن قولنا ليس في الدار رجل لما أفاد نفي كل الرجال كان قولنا في الدار رجل يفيد إثبات رجل غير معين لأنه بذلك يكون مناقضا للنفي فكذلك إذا كان قولنا لا تدخل الدار يفيد لا تدخلها أبدا فنقيض ذلك أن يدخلها ولو مرة واحدة لأنه بذلك يخرج من كونه غير داخل إليها أبدا وإذا كان كذلك وكان الأمر يقتضي النهي اقتضى الفعل مرة واحدة
وقال قاضي القضاة العادة فرقت بينهما لأن الإنسان إذا قال لعبده ادخل الدار عقل من ذلك مرة واحدة وإذا قال له لا تدخل الدار عقل منه التأبيد وهذا فرق ليس فيه ذكر العلة المفرقة بينهما وقال أيضا إن الأمر بالضرب يفيد أن يكون المأمور ضاربا بالمرة الواحدة يتم ذلك والنهي عن الضرب يفيد أن لا يكون ضاربا ولا يتم ذلك إلا مع التأييد

ولقائل أن يقول ثبتوا أن المرة الواحدة تتم فائدة الأمر ولا تتم فائدة النهي حتى يصح ما ذكرتم وعلى أن هذا الكلام هو ابتداء دلالة وليس فيه بيان أن ما ذكروه من أن النهي يقتضي الأمر ولا يقتضي تكرار المأمور به وفرق بينهما أيضا بأن النهي يقتضي قبح المنهي عنه والقبيح يجب الانتهاء عنه أبدا والأمر يقتضي المأمور به والحس يجوز تركه وأجاب عن ذلك بأن القبيح في وقت لا يجب كونه قبيحا في غيره فإن كان ظاهر النهي لا يقتضي الانتهاء أبدا وإنما يقتضي الانتهاء في وقت ما فإنا لا نعلم قبحه في كل وقت ولو كان ما قبح في وقت قبح في كل الأوقات لزم أن يكون النهي على التأبيد بهذه الدلالة لا بظاهره وأيضا فان الأمر إذا اقترن به الوعيد كان على الوجوب فان كان القبيح يلزم الامتناع منه أبدا فالواجب لا يجوز الإخلال به أبدا
وقد فرق بينهما بأن الأمر يقتضي الإقدام على الفعل وتكرار الإقدام عليه أبدا لا يمكن لأنه يقطع عن الأغراض والنهي يقتضي الكف عن الفعل والكف أبدا عنه ممكن وهذا ليس بفرق من جهة المواضعة وليس يمتنع أن يضعوا لما لا يمكن لفظه ألا ترى أن قولهم افعل أبدا ولا تخل به ولا تتشاغل بغيرها أمر يكر به موضوع للتأبيد الذي لا يمكن وعلى أنه لا يمتنع أن يكون الأمر يفيد من التكرار ما يمكن
وقد فصل بينهما بأنه يكفي في مخالفة النهي فعل مرة واحدة ولا يكفي في امتثاله إلا الكف أبدا ويكفي في امتثال الأمر فعل مرة ولهذا يوصف المأمور بأنه ممتثل الأمر إذا فعل المأمور به مرة واحدة والجواب أنه إن أمكن أن يبين ذلك قبل العلم بأن الأمر ليس على التكرار والنهي على التكرار فالكلام صحيح ويجب بيان ذلك ليصح الفرق وإلا فللسائل أن ينازع في وصف المكلف بأنه ممتثل للأمر إذا فعل مرة واحدة
وفرق بينهما بأن المأمور لا يقال له ائتمر بالمرة الثانية ويقال للمنهي وقد انتهى بالانتهاء عن الفعل مرة وثانية فعلمنا أن الأمر ليس على

التكرار وأن النهي يفيده وللمخالف أن يقول إني أصف المأمور بالائتمار كلما كرر الفعل كما قلتموه في النهي
وفرق بينهما بأن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا نهيتكم عن شيء فانتهوا وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم قالوا وذلك يدل على أن الأمر ليس على التكرار والجواب أن هذا يدل على ان الأمر خلاف النهي في شرط الاستطاعة وليس بدليل على ان ظاهر أحدهما التكرار دون الآخر بل لو قيل إنه يدل على أن ظاهرهما التكرار وأن التكرار يسقط عن المأمور لفقد الاستطاعة ولا يسقط عن المنهي لكان أولى والصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم عني بالاستطاعة المشقة دون القدرة لأن القدرة شرط في امتثال الأمر والنهي وإنما خص الأمر باشتراط هذه الاستطاعة لأن الأفعال يظهر فيها من المشقة ما لا يظهر في كثير من التروك
باب في أن الأمر المعلق بصفة أو بشرط هل يقتضي تكرار المأمور به بتكرار كل واحد منهما أم لا
أعلم أنه ينبغي أن نذكر أولا الشرط والصفة وأحكامهما ثم نذكر ما فائدة الأمر المعلق بهما فنقول إنا قد نصف الشيء بأنه شرط ونعني أن عليه يقف تأثير المؤثر سواء ورد بلفظ الشرط أو لم يرد بلفظ الشرط وذلك نحو الإحصان الذي يقف عليه تأثير الزنا في وجوب الرجم وقد نعني أنه وارد بلفظ الشرط سواء كان شرطا في الحقيقة أو علة مؤثرة فالأول نحو أن يقول سبحانه ارجموا الزاني إن كان محصنا والثاني أن يقول ارجموا زيدا إن كان زانيا وذكر قاضي القضاة أن الشرط هو المعقول الذي يتعلق به المشروط وإذا لم يكن يتعلق به المشروط وهذا يلزم عليه أن تكون العلة شرطا وأيضا إن من لا يعرف الشرط لا يعرف المشروط

فأما الصفة التي يتعلق الحكم بها فهي في هذا الموضع ما علق به الحكم من غير أن يتناوله لفظ تعليل ولا لفظ شرط نحو قول الله سبحانه فتحرير رقبة مؤمنة ونحو قوله سبحانه والسارق والسارقة
وذكر قاضي القضاة أن الشرط يجب اختصاصه بأمور ثلاثة
أحدها أن يكون متميزا من غيره وهذا لا بد منه ليتمكن المكلف من إيقاع الفعل عنده
والثاني أن يكون مستقبلا لأن العبادة المعلقة بالشرط مستقبلة فان قيل أليس قد يقول الإنسان لغيره ادخل الدار إن كان زيد قد دخلها بالأمس قيل إذا قال ذلك كان شرط دخوله علمه بعد الأمر بأن زيدا قد كان دخلها
وأحدها أن يكون الشرط ممكنا وهذا لا بد منه لأنه إن لم يكن ممكنا وكلف المأمور الفعل المشروط على كل حال كان قد كلف ما لا يطيقه وبطل فائدة الشرط وإن كلف عند الشرط ولم يكلف عند فقده كان قد علق المأمور به على شرط يعلم الآمر أنه لا يحصل وهذا عبث
وأما الكلام في المسألة فنقول قد اختلف الناس فيها فكل من جعل الأمر المطلق مفيدا للتكرار قال إن الأمر المقيد بصفة أو شرط يفيده أيضا إذا تكرر الشرط والصفة ومن نفي اقتضاء مطلق الأمر لذلك اختلفوا فمنهم من جعله مفيدا للتكرار إذا تكرر الشرط والصفة وعند أكثر الفقهاء أنه لا يفيد ذلك وعندنا ان الشرط الذي يقف عليه تأثير المؤثر لا يجب بتكراره تكرار المشروط فأما ما جاء على لفظ الشرط فانه لا يتكرر المأمور به بتكراره أيضا إلا أن يكون علة وكذلك المعلق بصفة

ودليلنا أنه لو وجب التكرار لم يخل إما أن يكون المفيد لوجوبه هو الأمر أو الشرط والصفة وقد بان في الباب المتقدم أن الأمر لا يفيد ذلك ولو أفاده الشرط لم يخل إما أن يفيده لفظا أو معنى ومعلوم أنه ليس في قولنا إن و إذا لفظ التكرار ولو أفاده من جهة المعنى لكان إنما يفيده من حيث كان الشرط علة وهذا باطل لأن الشرط عليه يقف تأثير المؤثر فلا يمتنع أن يتكرر الشرط ولا يتكرر المؤثر فلا يتكرر الحكم وإذا ثبت أن الأمر لا يقتضي إلا مرة واحدة والشرط لا يقتضي تكرارها لم يستفد من مجموعهما إلا تخصيص تلك المرة بالشرط
ويمكن أن نبتدىء الدلالة فنقول إن الشرط عليه يقف تأثير المؤثر وليس يمتنع أن يتكرر الشرط ولا يتكرر المؤثر فلا يتكرر الحكم فان قيل فإذا جوزتم أن يكون ما ذكر بلفظ الشرط مؤثرا في الحكم فجوزوا التكرار وقفوا فيه ولا تقطعوا على نفيه قيل إن لفظ الشرط لا يدل على أن ما دخل عليه علة فلو كان علة لدل الله عليها فاذا لم يدل عليها قطعنا على أنه ليس بعلة
دليل آخر الخبر المعلق بالشرط لا يقتضي تكرار المخبر عنه بتكرار الشرط فكذلك الأمر المعلق بشرط وقد بينا الجمع بينهما في الباب الأول ومعلوم أن الإنسان إذا قال زيد سيدخل الدار إن دخلها عمرو وقد دخلها عمرو فدخلها زيد يعد صادقا وإن تكرر دخول عمرو ولم يتكرر دخول زيد
دليل آخر المعقول في الشاهد من تعلق الأمر بالشرط فعل مرة وإن تكرر الشرط ألا ترى أن الإنسان لو قال لعبده اشتر لحما إن دخلت السوق لم يعقل منه التكرار وإن تكرر منه الدخول ولذلك قال الفقهاء إن الرجل إذا طلق امرأته بقوله إن دخلت الدار أو أمر وكيله أن يطلقها إن دخلت الدار لم يتكرر الطلاق بتكرار الدخول
احتج المخالف بأشياء

منها أنه وجد في كتاب الله سبحانه أوامر متعلقة بشروط وصفات وتكرر مأمورها بتكرر الصفات نحو قول الله إذا قمتم إلى الصلاة ونحو قوله والسارق والسارقة والزانية والزاني والجواب أنه إنما عقل التكرار بدليل لا بهذه الآيات وأيضا فإنما علم تكرار الحد بتكرار الزنى لأن الزنى والسرقة علتان في الحد والعلة يتبعها حكمهما كلما حصلت وأيضا فمعلوم باضطرار من الدين تكرر الحد بتكرار ذلك
ومنها تشبيههم الشرط بالعلة في وجوب تكرار الحكم بتكرارها ويقوون ذلك بأن الشرط آكد من العلة لأن الشرط ينتفي الحكم بانتفائه ولا ينتفي معلول العلة بانتفائها والجواب أن الشرط عليه يقف تأثير المؤثر وليس يلزم أن يتكرر معه المؤثر حتى يتكرر المشروط بتكراره فأما إذا قال الله سبحانه هذا واجب لعلة كذا أو لأجل كذا فإن الظاهر أن ذلك هو المؤثر في الوجوب لا غير ولا يجوز أن يشرط فيه شرطا إلا بدلالة فإذا لم تدل دلالة على اشتراطه لم يشرطه فوجب تكرار الحكم بتكرار العلة لأنها تحصل بيانا على الحد الذي حصل اولا وإنما جاز وجود الحكم مع فقدها لأنه يجوز أن يخلفها علة أخرى والشرط أيضا يجوز أن يخلفه شرط آخر فاستويا في هذه الجهة وقد فصل قاضي القضاة بين الشرط والعلة بأن العلة دلالة على الحكم والدليل يتبعه الحكم متى وجد وأما الشرط فقد يجوز وجود مثله وليس بشرط ألا ترى أن من طلق امرأته بشرط دخول الدار لم تكن دخلتها الثانية شرطا في الطلاق
ومنها قولهم إن الأمر المعلق بالشرط لا اختصاص له بالشرط الأول من دون أمثاله من الشروط فلزم الفعل عندها كلها لفقد الاختصاص وفي ذلك تكرار المأمور به والجواب أن من قال بالفور يجعل الأمر بالشرط الأول من

الاختصاص ما ليس له بغيره فلا يلزمه الكلام وأما من لم يقل بالفور فيه فينبغي أن يرتب الجواب على مذهبه هكذا ليس يخلو الشرط إما أن لا يغلب على الظن تجدد أمثاله والمأمور متمكن أو يغلب على الظن تجدده والمأمور متمكن فالأول نحو أن يقول القائل لغيره أعط زيدا درهما إذا دخل الدار ولا يغلب على الظن إذا دخل الدار أنه يدخلها مرة ثانية فمتى كان كذلك لزمه دفع الدرهم إليه عند الدخلة الأولى لأنها متحققة حصولها ويجوز أن لا تحصل الدخلة الأخرى ومثال الثاني أن يقول له أعط زيدا درهما إذا طلعت الشمس ومعلوم أنه إذا كان المأمور سالما فان الظن يقوم بسلامته مع طلوع الشمس في غد وفي بعد غد وإذا كان كذلك كان مأمورا بالعطية عند طلوع الشمس في غد وفي بعد غد وفي كل يوم يغلب على الظن تمكنه فيه من العطية على البدل ويكون فقد الاختصاص قد اقتضى تعلق المأمور به بالشروط كلها على البدل ويمكن أيضا أن يقال إن العطية تجب بالشرط الأول فقط لأن قولنا أعط زيدا درهما إذا طلعت الشمس المراد به تعليق العطية بطلوع يزول معه غروبها ومعلوم أن غروبها عند هذا الكلام ليس هو غروبها من الليلة الثانية والثالثة وإذا كان كذلك فطلوعها الذي يزول معه غروبها عنا في هذه الليلة هو طلوعها من الغد فقط وهذا هو الذي يفقده الناس فوجب انصراف ذلك إليه وكذلك القول في جمع الشروط المتجددة وعلى هذا يستوي الجواب على قول أصحاب الفور والتراخي
ومنها قولهم لو لم يقتض الأمر تعليق الوجوب بجميع الشروط لاقتضى تعليقه بأولها وذلك يقتضي أن تكون العبادة إذا فعلت مع الشرط الثاني دون الأول قضاء لا أداء وذلك يحوجها إلى دليل آخر والجواب أن القائلين بأن الأمر يفيد تعليق المأمور به على الشروط كلها على البدل لا يلزمهم ذلك وأما القائلون بأنه يتعلق بالشرط الأول سيجيء القول فيه إن شاء الله وأما قاضي القضاة فانه التزم حاجة العبادة إلى دليل ناتيء في إيقاعها عند الشرط الثاني إذا لم يفعل في الأول وامتنع من تسميتها قضاء وذكر في الشرح أن

الأمر يتعلق بأول الشرط على قول أصحاب الفور ويتعلق بجميعها على قول أصحاب التراخي
ومنها قولهم لو لم يفد الأمر المعلق بالشرط تكرار المأمور إذا تكرر الشرط لما أفاد النهي المعلق بالشرط التكرار يقال لهم ولم زعمتم ذلك فإن قالوا لأن النهي كالنقيض للامر فاقتضى نقيض ما اقتضاه نقيض الأمر في الحال الذي اقتضاه قيل ليس يجب ذلك لأن كونه كالنقيض له يقتضي أن ينفي ما أثبته الأمر في جميع الأحوال كما ذكرناه في النهي المطلق ثم يقال لهم أما القائلون بالفور فقد قلنا إنهم يجهلون الأمر المعلق بشرط يفيد إيقاع المأمور به مع الشرط الأول ويمكن أن يجيء ذلك أيضا على قول أصحاب التراخي على ما ذكرناه فالنهي يقتضي المنع من إيقاعه مع الشرط الأول على التأبيد سواء تجدد شرط ناتيء أو لم يتجدد مثال ذلك أن يقول القائل لا تعط زيدا درهما إن دخل الدار أو إن دخل الدار فلا تعطه درهما فإنه يفيد نفي العطية عند أول دخلة إلى الأبد لأن من نهي غيره عن أن يعطي زيدا درهما إن دخل الدار فليس غرضه المنع من أن يعقب العطية الدخول فقط بل غرضه استدامة نفي العطية إلا أن يتداوله في ذلك فأما من قال بالتراخي فإن الأمر المعلق بالشرط يتعلق بجميع الشروط على البدل على التفصيل المتقدم فان الأمر على قولهم في تقدير أن يقول القائل اعط زيدا درهما إذا طلعت الشمس أما اليوم أو غدا أو بعد غد فيجب أن يفيد النهي المنع من العطية عند هذه الشروط كلها لأنه لما كان نقيض الأمر وجب أن يمنع من العطية عند جميعها لأنه لو لو يمنع من العطية عند الشرط الأول ومنع منها عند الشرط الثاني ما كان مانعا من فائدة الأمر لأن المأمور قد يجوز أن يمتثل الأمر بفعل العطية عند الشرط الأول وفي ذلك اجتماع فائدة الأمر والنهي مع كونهما كالنقيضين وهذا محال
وحكي قاضي القضاة عن الشيخ أبي عبد الله أنه أجاب عن شبهتهم في النهي

بأن العادة تقتضي في النهي المقيد بالشرط أنه يفيد شرطا واحدا وإذا كان مطلقا اقتضى التكرار فسواء بين النهي المقيد بالشرط وبين الأمر قال لأن السيد إذا قال لعبده لا تخرج من بغداد إذا جاء زيد أفاد مرة واحدة وإذا قال لا تخرج من بغداد وأطلق القول أفاد المنع من الخروج على التأبيد فإن قالوا فإذا كان مطلق النهي يفيد التأبيد فيجب أن يكون تقييده بالشرط يفيد قصر المنهي عنه عليه كما قلتموه في الأمر المقيد بالشرط أنه يفيد قصر مقتضى الأمر من المرة عليه وأجاب بأن المطلق من النهي أفاد التكرار في العرف لا في اللغة فلا يمتنع أن يبقى المقيد بالشرط على مقتضى اللغة
باب في الأمر هل يقتضي تعجيل المأمور به أم لا ذهب الشيخان أبو علي وأبو هاشم إلى أنه لا يقتضي وجوب تعجيل المأمور به في أقرب الأوقات وجوزا تأخير المأمور به عن أول اوقات الإمكان وإلى ذلك ذهب أصحاب الشافعي وذهب أصحاب أبي حنيفة إلى أنه يقتضي تعجيل المأمور به ويحرم تأخيره عن أول أوقات الإمكان
وحجة الأولين هي أن الأمر لو اقتضى التعجيل لكان إما أن يقتضيه بلفظة أو بفائدته ومعناه وليس يقتضيه لا بلفظة ولا بفائدته فلم يقتضي الفور
أما الدلالة على أنه لا يقتضيه بلفظه فهي أن قول القائل افعل ليس فيه ذكر وقت متقدم ولا متأخر وإنما يفيد إيقاع الفعل فقط والفعل إذا وجد في الوقت الأول أو الثاني أو الثالث كان موقعا وذلك يقتضي كون المأمور ممتثلا للامر وليس يجوز أن يكون ممتثلا للامر بفعل ما يمنع الآمر منه فجرى مجرى أن يقول الإنسان لغيره افعل في أي وقت شئت في أنه لا يوجب إيقاع الفعل في وقت متقدم وأيضا فإن الإنسان إذا قال لغيره ادفع درهما إلى رجل جاز لذلك الغير أن يدفع أي درهم شاء إلى أي رجل شاء لما لم

يختص الأمر برجل دون رجل ولا بدرهم دون درهم وكذلك يجب أن لا يلزم إيقاعه في وقت معين لأنه لا يختص بوقت دون وقت وأيضا فإن قول القائل لغيره افعل هو طلب للفعل في المستقبل كما ان قوله زيد سيفعل إخبار عن إيقاع الفعل في المستقبل فكما لا يمتنع هذا الخبر من وجود الدخول بعد مدة من الخبر فكذلك الأمر
وأما الدلالة على أنه لا يقتضيه بفائدة فهي أنه لا يمكن أن يقال إنه يقتضيه بفائدته إلا أن يقال إن الأمر يفيد الوجوب ولا يتم الوجوب مع جواز التأخير وهذا لا يصح لأن الفعل قد يجب وإن كان المكلف مخيرا بين إيقاعه في أول الأوقات وفيما بعده ما لم يغلب على ظنه فواته إن لم يفعله فمتى غلب على ظنه ذلك لم يجز له الإخلال وبذلك يفارق النوافل
دليل آخر السيد أذا أمر عبده بشيء ولم يعلم حاجته إليه في الحال ولم يعلم إلا الأمر فقط فانه لا يفهم منه التعجيل وهذه الحجة لا يسلمها الخصم لأنه يقول متى لم يعلم العبد من قصد السيد أنه يبيحه التأخير فانه يعقل من الأمر التعجيل ويستحق العبد الذم إذا لم يعجل المأمور به
واستدل القائلون بالفور بأشياء منها ما يدل على اقتضاء لفظ الأمر لذلك ومنها ما يدل على أن الوجوب المستفاد من لفظ الأمر يقتضي ذلك ومنها أدلة سمعية
أما ما يدل على أن لفظ الأمر يقتضي ذلك فوجهان
أحدهما أن السيد إذا أمر عبده أن يسقيه الماء فهم منه تعجيل سقيه الماء واستحسن العقلاء ذمه على تأخير ذلك من غير عذر فعلمنا أن الأمر يفيد ذلك والمخالف يقول إنما عقل بقرينة وهو علم العبد بأن السيد لا يستدعي ماء ليشرب إلا وهو محتاج إليه في الحال هذا هو الأغلب ولو لم يعلم إلا نفس الأمر لم يفهم ذلك كما أن أصحاب التراخي إذا رجعوا إلى الشاهد في أن

الأمر لا يفيد وجوب التعجيل لم يسلم لهم خصمهم ما يذكرونه من الشاهد وكل منهم يدعي أن ما يقوله خصمه إنما يفهم بقرينة لا بمجرد الأمر فان قال أصحاب الفور إن السيد يعلل ذمه لعبده بأن يقول أمرته بشيء فأخره فلو لم يفد الأمر التعجيل لم يجعل ذلك علة قيل لهم وقد يتعذر البعد أيضا فيقول أمرتني بأن أفعل ففعلت ولم تأمرني بالتعجيل ولا علمت أن عليه في التأخير مضرة
وأما الوجه الآخر فقولهم إن الوقت وإن لم يكن مذكورا في لفظ الأمر فان الفعل لما كان إنما يقع في وقت وجب أن يفيد إيقاعه في أقرب الأوقات إليه كما أن الفاظ العتاق والطلاق والبيع تفيد وقوع أحكامها في أقرب الأوقات إليها والجواب أنه ليس العلة في البيع والإيقاعات ما ذكروه بل العلة في ذلك أن قول القائل بعت وقول المشتري اشتريت إخبار عن الحال برضاهما بانتقال ملك كل واحد منهما عن صاحبه إلى الآخر فجرى مجرى قول القائل تحركت في أنه إخبار عن الحال فوجب أن يحكم في ثاني القبول بانتقال الملك لأن علمنا برضاهما لا يتكامل إلا عند انقطاع القبول ويمكن ان يقال إن الملك ينتقل عند آخر جزء من أجزاء القبول غير أنا لا نضبطه فاذا صح ذلك صار محصول كلامهم انه لما كان الخبر عن الحال يقتضي المأمور به في الثاني في أنه جمع بين شيئين لا يشتبهان وليسوا بذلك أولى ممن حمل الأمر على الخبر عن المستقبل وهو أولى لأن الأمر هو استدعاء الفعل في المستقبل ومعلوم أن الخبر عن المستقبل لا يختص بالثاني فكذلك الأمر فأما قول القائل لامرأته أنت طالق وقوله لعبده أنت حر فهو جار مجرى قوله للمرأة أنت بيضاء أو طويلة في أنه خبر عن الحال ومع أنهما خبران عن الحال فأحكامهما تثبت بالشرع فالواحب اتباع الشرع في كيفية ثبوتهما وقد أثبتهما الشرع من غير تراخ وليس إذا جاء الشرع بذلك وجب أن يكون موضوع الأمر في اللغة الفور وليس يصح الجواب بأن يقال إن حمل الأمر على الإطلاق قياس ولو صح لكان الدال على وجوب التعجيل غير

الأمر لأن المستدل بهذه الدلالة إنما يبين بها أن لفظ الأمر موضوع للتعجيل كما أن الإ يقاع موضوع لإفادة ذلك كما بين اصحاب التراخي قولهم بقياس الأمر على الخبر عن المستقبل ولا يصح أن يفرق أيضا بين الأمر والإيقاعات بأن يقال إن الأمر هو طلب للفعل والفعل إنما يقع في وقت فوجب أن يطلب وقته ما هو وأما الطلاق والعتاق فانهما يفيدان أحكاما لا أفعالا وذلك لأن الأمر كاطلاق في إفادة الألحكام لأن الأمر يفيد وجوب الفعل فصح أن ينظر في وقت الوجوب ما هو والطلاق يفيد تحريم الاستمتاع فصح أن ينظر في وقته هذا التحريم ما هو وكذلك العتاق وقد قيل أيضا لو لم تفد الإيقاعات أحكامها في الثاني لكان وجودها كعدمها وليس كذلك الأمر إذا جعل على التراخي ولقائل أن يقول والأمر لو لم يفد الفور لكان وجوده كعدمه فان قلتم إن وجوده ينفصل من عدمه وإن أفاد التراخي لأنه يفيد وجوب إيقاع الفعل ويكون إيقاعه وإيقاع بدله وهو العزم موقوفا على اختياره قيل لكم فكذلك يفيد نقل الملك في وقت ما ويكون نقله في الثاني أو العزم على نقله وتسليم البيع في الثاني موقوفا على اختياره فان قلتم فبماذا ينقلانه إن كان لفظ البيع نقله في الحال قيل لكم ينقلانه بالتسليم أو بأن يقول كل واحد منهما لصاحبه قد انتقل ملكي إليك في هذه الساعة فإن قلتم أجمعت الأمة على بطلان ذلك في البيع قيل لكم ثبوت هذا الإجماع يقتضي صحة الأصل الذي قسنا عليه وذلك يؤكد صحة القياس وقد قيل أيضا إن الأمر دلالة على وجوب إيقاع الفعل وليس يجب تعجيل مدلول الدلالة وليس كذلك الطلاق والعتاق لأنهما سببان لأحكامهما والسبب إذا تكاملت شرائطه وجب حصول سببه في الحال والجواب أنهما سواء لأن الدلالة قد تدل على حصول مدلولها في الحال وقد تدل على حصوله في المستقبل والسبب قد يكون سببا للحكم في الحال وقد يكون سببا لثبوت الحكم في المستقبل ألا ترى أن البيع المؤجل يكون سببا لانتقال الملك في الثمن في المستقبل فإن قلتم إنما كان البيع المؤجل كذلك لأنه قد ذكر فيه التأجيل وليس كذلك البيع

المطلق قيل لهم فقولوا إن الأمر المقيد بوقت مؤجل يفيد التراخي والمطلق يفيد الحال وعلى أن البيع أيضا دلالة على الرضا والرضا هو السبب في انتقال الملك فقولوا إن الرضا لا يجب أن يتعقب عقد البيع وأيضا فان تكامل شرائط وجوب الحج سبب لوجوبه وهو عندكم على التراخي فان قلتم الوجوب حاصل وإن لم يتضيق قيل لكم فقد بطل قولكم إن المسبب لا يتراخى عن السبب وقد قيل ايضا إن البدل يجب أن يكون بازاء المبدل فاذا وجب انتقال الملك في البدل وجب انتقال الملك في المبدل ولقائل أن يقول ومن أين لكم أن الملك قد انتقل في المبدل حتى تبنوا عليه انتقال البدل وقد قيل إن البيع والإيقاعات تقتضي أحكامها على وجه التأبيد فجرى مجرى النهي في اقتضاء المنع من الفعل على التأبيد وأما الأمر فانه يقتضي فعلا واحدا والجواب أن كون الحكم مما إذا وقع دام لا يمنع من أن ننظر في ابتداء وقوعه هل هو معجل أو متأخر ألا ترى أن البيع المؤجل يقتضي نقل الملك في الثمن في المستقبل وإذا انتقل فيه دام ولا يقتضي البيع انتقال الملك فيه إلى حد وغاية وكون الفعل المستفاد بالأمر واحدا لا يمنع من أن ننظر في وقت لزومه وأن يكون وقت لزومه هو أول الأوقات
واما استدلالهم على الفور بفائدة الأمر فمن وجوه
ومنها أن الأمر قد اقتضى وجوب الفعل في أول أوقات الإمكان بدلالة أنه لو أوقعه المكلف فيه لأسقط الفرض بذلك على نفسه فجواز تأخيره عنه نقض لوجوبه فيه وإيجاب لحوقه بالنافلة فيه والجواب يقال لهم ما معنى قولكم إن الأمر اقتضى وجوب الفعل في أول أوقات الإمكان فان قالوا معناه أنه ألزم فعله فيه ومنع من تأخيره عنه قيل وهل نوزعتم إلا في ذلك وإن قالوا معناه أن المكلف لو فعل المأمور به في ذلك الوقت كان قد اسقط الفرض عن نفسه قيل ولم إذا كان كذلك لا يجوز تأخير الفعل عنه فان قالوا لو جاز تأخيره عنه نقض القول بسقوط الفرض بالفعل في ذلك الوقت

قيل لهم ولم زعمتم ذلك وما انكرتم أن الفرض إنما سقط بايقاع الفعل في الأول لأن الأمر اقتضى إيقاع الفعل فقط وهذا حاصل إذا فعله في الأول وإذا فعله في الثاني فالأمر اقتضى إسقاط الفرض بالفعل في الثاني والثالث من حيث اقتضى إسقاطه بإيقاع الفعل في الأول ويبطل بالكفارات الثلاث لأنه إذا فعل كل واحدة منها سقط الفرض ومع هذا يجوز تأخيرها عنه وقد أجيب عن ذلك بأن جواز تأخير الفعل عن ألأول لا ينقض وجوب الفعل ولا يلحقه بالنافلة لأنه ينفصل عن النافلة بأن النافلة يجوز الإخلال بها اصلا وليس كذلك الفرض لأنه لا يجوز الإخلال به أصلا وهذا غير صحيح لأن المستدل ألزم على جواز التأخير عن الأول بأن يلحق بما هو فعل في ذلك الوقت ولم يلزم أن يلحق بالنوافل على الإطلاق فيفصل بينه وبين النافلة المطلقة وأجاب شيوخنا فقالوا إن الواجب إذا أخر إلى بدل لام ينتقص وجوبه ولم يلحق بالنوافل والفعل إنما يجوز تأخيره عن ثاني الأمر إلى بدل هو العزم على أدائه واستدلوا على كون العزم بدلا بأن الأمر اقتضى إيجاب الفعل ولم يعين الوقت فاذا وجب الفعل في الثاني وجاز مع ذلك تأخيره عنه لم يمكن ذلك إلا مع البدل وقد أجمعوا على أن المأمور يلزمه إذا لم يفعل المأمور به في الثاني أن يعزم على ادائه فيما بعد فقد دل الدليل على وجوب العزم ولم يدل الدليل على وجوب غيره فأثبتناه دون غيره وسنتكلم على هذا الجواب فيما بعد إن شاء الله
ومنها قولهم إن الأمة قد أجمعت على أن الفرض يسقط عن المأمور بايقاع الفعل في ثاني حال الأمر ولم تجمع على إسقاطه إذا فعله بعده فلم يجز تأخيره والجواب يقال لهم ولم إذا لم تجمع على ذلك لم يجز التأخير وما أنكرتم أنه ليس كل ما لم تجمع الأمة عليه فهو باطل لأنه لا يمنع على وجوب صحته دليل غير الإجماع كما أن تحريم التأخير لم تجمع الأمة عليه ولم يمنع من ذلك صحة القول به

ومنها قولهم إن المكلف إذا فعل المأمور به في الثاني سقط عنه الفرض وفعل ما وجب عليه فعلمنا أن الأمر قد تناول ذلك وهذا يمنع من الإخلال به لأنه بالإخلال به يفوت إذ كان ما يقع فيما بعد ليس هو ذلك المأمور به بعينه وإنما هو مثله لأن أفعال العباد تحتص بالأوقات فما يصح أن يوجدوه في وقت لا يصح إيجاده في غيره فلم يجز أن يفوت المكلف ما علم أن التكليف قد تناوله والجواب أن الآمر إنما أوجب ما له صورة مخصوصة من الأفعال ولم يوجب فعلا معينا لأن المكلف لا يميز ذلك فاذا كان كذلك وكان ما يفعله في الوقت الأول وفيما بعده قد اختص بتلك الصورة كان فاعل كل واحد منهما ممتثلا للامر وأيصا فان المخالف يقول لو تناول الأمر الأفعال المختصة بالأوقات لم يمتنع أن يتناول أعيان ما يختص بكل وقت فيجوز ترك ما اختص بالوقت الأول إلى ما يختص بالثاني والثالث لأن كل واحد من ذلك بدل من صاحيه والكلام في أن أفعال المكلف تختص بالأوقات ليس هذا موضعه
ومنها قولهم إن الأمر قد اقتضى الوجوب فحمله على وجوب الفعل في ثاني الأوقات أحوط والجواب أن النافين للفور يقطعون على نفي وجوبه فهم آمنون من المضرة إن أخروا الفعل غير خائفين من ذلك ويقولون طريق الاحتياط أن ننظر هل يقتضي الفور أم لا فان علمنا أنه يقتضيه حملناه عليه وإن لم يقتضه لم نحمله عليه والاحتياط ثابت في كلا القسمين وليس الاحتياط أن نعتقد وجوب التعجيل ونحن لا نأمن أن لا يكون واجبا فنكون قد فعلنا اعتقادا لا نأمن كونه جهلا
ومنها قولهم إن الأمر يتناول الفعل فيقتضي وجوبه ولا يتناول اعتقاد وجوب المأمور به فاذا وجب تعجيل اعتقاد وجوب المأمور به مع أن الأمر ما تناوله فبأن يقضي وجوب تعجيل المأمور به أولى والجواب يقال لهم لم زعمتم أنه إن وجب تعجيل اعتقاد وجوب المأمور به وجب تعجيل المأمور به وما

أنكرتم أن تعجيل الاعتقاد يجب لدليل يخصه لا للأمر وإنما كان يلزم ما ذكرتموه لو وجب ذلك لأجل الأمر فان قالوا الاعتقاد تابع للمعتقد فاذا تعجل الاعتقاد تعجل المعتقد قيل لهم أتعنون أن وجوب تعجيل الاعتقاد تابع لوجوب تعجيل المعتقد فان قالوا نعم قيل لهم لا نسلم ذلك وإن قالوا نعني أن وجوب الاعتقاد تابع لوجوب المعتقد قيل لهم ولم إذا كان كذلك وجب إذا الزم تعجيل الاعتقاد أن يلزم تعجيل المعتقد ثم يقال لهم إن المكلف إذا سمع الأمر بالفعل فلا يخلو إما أن يكون قد سبق له العلم بأن الأمر على الوجوب وأن خطاب الحكيم يجب حمله على موضعه أو لم يسبق له ذلك فإن كان قد سبق له ذلك فهو يعلم وجوب المأمور به في ثاني سماعه الأمر الذي يعلمه صادرا من حكيم ولا يمكنه أن لا يعلم ذلك فلا يصح أن يجب والحال هذه وإن لم يعلم أن الأمر على الوجوب فلا يخلو إما أن يكون قد علم أن ألفاظ الوجوب المطلقة لا تفيد الفور أو لا يعلم ذلك فان علم ذلك فان لم يثبت العزم بدلا يقول إنه لا يلزمه أن يعجل اعتقاد المأمور به ولا النظر فيه لأنه يقول إن لم يكن الأمر على الوجوب فليس يلزمني في الثاني ولا فيما بعده أن أفعل شيئا فلا يلزمني اعتقاد وجوب ذلك الشيء وإن كان الأمر على الوجوب فليس يلزمني أيضا فعل الواجب في الثالث ولا في الرابع فلم يلزمني اعتقاد الوجوب في الثاني لأن فعل المأمور به في الثالث غير متعين وجوبه وإنما يلزمني أن انظر في الأمر هل يفيد الوجوب إذا غلب على ظني أنني إن لم أنظر في ذلك فأعلم الوجوب وأفعل عقيبة فاتني الفعل فيلزمني حينئذ أن أنظر لأنني لا آمن كون الأمر على الوجوب فان قيل إن من لا يثبت العزم بدلا يوجبه ويقول إنه ليس ببدل فهذا لزمه النظر ليعلم وجوب المأمور به لأنه إن كان المأمور به واجبا لزمه أن يفعله أو يعزم على أدائه قيل إن كثيرا منهم لا يقول بوجوب العزم ومن يقول منهم بوجوبه يقول إنما يجب إذا علم المكلف وجوب الفعل وقبل أن يعلم ذلك لا يلزمه العزم وأما من أثبت العزم بدلا فانه يقول يلزم هذا المكلف في الثاني أن

ينظر في الأمر هل يقتضي الوجوب لأنه يلزمه معجلا أن يفعل إما المامور به أو العزم على أدائه وإنما يلزمه العزم إذا كان المعزوم عليه واجبا فلا يأمن المكلف أن يكون الأمر على الوجوب وإن لم ينظر في ذلك معجلا فاته أحد الواجبين وأما إن كان لا يعلم أن ألفاظ الإيجاب المطلقة ليست على الفور ولم يعلم أن الأمر على الوجوب فان له أن يقدم النظر في أن الأمر لو كان على الوجوب لما اقتضى الفور فاذا علم ذلك سقط عنه تقديم النظر في وجوب الفعل إلا على قول من يثبت العزم بدلا على ما بينا
ومنها أن يقال لو جاز تأخير المأمور به عن الوقت الثاني أدى إلى أقسام كلها باطلة وما أدى إلى الباطل باطل وبيان ذلك أنه لو جاز تاخيره عن الثاني لم يخل من أن يجوز تأخيره لا إلى غاية أو إلى غاية لا يجوز أن يؤخر عنها فإن جاز لا إلى غاية لم يخل من أن يجوز ذلك لا إلى بدل أو إلى بدل وهذا الثاني ينقسم إلى أن يكون البدل هو العزم على ادائه في المستقبل أو الوصية كالحج وإن جاز تأخيره إلى غاية لم تخل تلك الغاية إما أن تكون موصوفة أو معينة أما المعينة فيجوز أن يقال له أخره إلى الوقت العاشر أو اليوم الفلاني ولا تؤخره عنه وأما الموصوفة فنحو أن يقال إذا غلب على ظنه أنه إن لم يشرع في أداء المأمور به فاته وهذا ضربان أحدهما أن يغلب على ظنه ذلك بأمارة أو لا بأمارة والأمارة نحو المرض وعلو السن وكل هذه الأقسام باطلة
أما القول بجواز تأخير المأمور به لا إلى غاية من غير بدل فانه ينقض وجوبه ويلحقه بالنوافل وأما القول بأنه يجوز تأخيره إلى بدل هو الوصية فباطل أيضا لأن ذلك ليس بعام في كل العبادات لأنه ليس كل العبادات تثبت بالوصية وعلى أنه إن جاز أن يكون أمر الله سبحانه لنا أن نفعل العبادة لا يمنع من أن نعزم على الإخلال بها ونوصي غيرنا بها لم يمنع أمرنا للوصي من أن يوصي بما وصينا به وكذلك القول في الوصي الثاني والثالث الى غير غاية

وأما كون العزم بدلا فقد أفسدنا بدلا لا دليل على كونه بدلا وليس يجوز إثبات بدل لا دليل عليه وإذا لم يجز كونه بدلا لم يجز تاخير العبادة لأن تأخيرها موقوف على إثبات بدل لا دليل عليه وليس لأحد أن يقول قد أجمعت الأمة على وجوب العزم لأن قيام الدلالة على وجوب الشيء لا يقتضي كونه بدلا من غيره والجواب يقال لهم لم زعمتم أنه لا دليل يدل على كون العزم بدلا فان قالوا لأنه لا ذكر للعزم في الأمر قيل لهم ولا ذكر للوقت الثاني في الأمر ولستم بأن تنفوا كون العزم بدلا لأنه غير مذكور في الأمر وتتوصلون بذلك إلى تعيين الوقت الثاني بأولى من أن ننفي تعيين الوجوب بالوقت الثاني ونتوصل بذلك إلى اثبات بدل لأنه لا يمكن بعد ذلك إلا إثبات بدله وقد أفسد كون العزم بدلا فقيل إن العزم على أداء العبادة واجب لا على سبيل البدل عنها لأنه يجب على المكلف أن يعزم على أدائها قبل دخول وقتها مع علمنا بأن الوجوب لم يحصل قبل وقتها وأجيب عن ذلك بأنه لا يلزم العزم على فعلها قبل أن يجب وإنما يقبح كراهة فعلها فأما أن يعزم الإنسان ويريد فعلها فلا يجب ويمكن أن يعترض هذا الجواب فيقال له إنه إذا وجبت العبادة وجاز تأخيرها فليس يجب عليه إلا ما يجب عليه قبل دخول وقتها فان كان يجب عليه في أحدهما العزم وجب أيضا في الآخر وإن وجب عليه ألا يكره العبادة وجب عليه ذلك ها هنا وليس يمكن أن يدعي أن الأمة فصلت بين العزم على الأداء وبين نفي الكراهة فأوجبت أحدهما قبل الوجوب وأوجبت الآخر بعد توجه الوجوب ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن نسلم أن الواجب قبل دخول الوقت وتوجه الوجوب مثل ما يجب بعد توجه الوجوب إما عزم أو فقد كراهة ثم يقال إنه لا يمتنع أن لا يكون ذلك بدلا قبل توجه الوجوب ويكون بدلا وقائما مقام المبدل في المصلحة كلها أو بعضها بعد توجه الوجوب لأنه لا يمتنع أن يكون الفعل أو الإخلال بالفعل في بعض الأوقات بدلا من شيء وفي وقت آخر لا يكون بدلا منه فلا يجوز أن يمنع من كون العزم بعد دخول الوقت بدلا من العبادة لأجل أنه يجب فعله قبل الوقت ولا يكون بدلا

طريقة أخرى في العزم لو كان العزم بدلا من العبادة لم يخل إما أن يجب في الوقت الثاني بدلا من العبادة أو يجوز تأخيره وتأخير العبادة عن الثاني فان جاز تأخيرهما كان القول في العزم كالقول في العبادة المأمور بها ولم يقف ذلك على غاية ولحقا جميعا بالنوافل وإن وجب العزم في الثاني إن لم يفعل المأمور به فيه لم يجز ذلك لأن بدل العبادة إنما يجب على حد وجوبها ليكون فعله جاريا مجرى فعلها ومعلوم أن الآمر عندهم إنما أوجب أن نفعل العبادة في وقت غير معين ولم يعين وجوبها في الثاني فينبغي أن يكون بدلها يجب في وقت غير معين وفي ذلك بطلان تعيينه بالثاني فان قالوا إن الأمر قد اقتضى وجوب الفعل في الثاني قيل لهم إن أردتم بذلك أنه عين وجوبها فيه ولم يرخص في تأخيرها عنه فذلك هو القول بالفور وذلك يمنع من تأخيرها ويغني عن البدل إلا أن يدل دلالة مبتدأة عليه وإن أردتم أن الأمر قد اقتضى كون الفعل في الثاني مرادا ومسقطا للفرض قيل لكم وقد اقتضى أن يكون في فعله في الثاني والثالث كذلك فقد صار موجبا له في وقت غير معين فيجب أن يكون بدله الساد مسده هذه حالة ويقال لهم إذا كان الأمر قد اقتضى أن فعل العبادة في الثاني كفعلها في الثالث والرابع فلم منعتم المكلف من تأخيرها عن الثاني إلا ببدل وهو يقول إني إنما أؤخرها لأن المصلحة تحصل لي في الثالث كما تحصل لي في الثاني فأن قالوا لأن الأمر اقتضى الوجوب في الثاني والثالث على وجه لا يمنع من التأخير ولا يتم ذلك إلا مع البدل فجرى مجرى أن يقول المكلف هذا الفعل واجب في الثاني ويجوز تأخيره إلى الثالث في أنه لا يجوز تأخيره إلا ببدل إلا انتقض وجوبه فيه قيل إن كان المكلف قد قال إنه واجب في الثاني لا يجوز تأخيره عنه ويجوز مع ذلك تأخيره الى الثالث فذلك متناقض وإن قال إنه واجب في الثاني والثالث على معنى أن الفرض يسقط بالفعل في كل واحد منهما فلو صرح بذلك لما احتجنا إلى بدل في الثاني
طريقة أخرى لو كان العزم في الثاني بدلا من أداء العبادة فيه لم تخل

العبادة من أن يتضيق أداؤها في وقت من الأوقات أو لا يتضيق فان لم يتضيق فحكم العبادة في كل الأوقات حكم الثاني فكما جاز للمكلف تأخيرها عن الثاني جاز له تأخيرها عن سائر الأوقات وإذا جاز له تركها في جميع الأوقات لم يجز أن يجب عليه العزم على أدائها لأنه لا يجوز أن يجب على الإنسان أن يعزم ويقصد أن يفعل ما يجوز له تركه لأن في ضمن قولنا يجب عليك أن تعزم على الفعل في الثاني إيجابا للفعل في الثاني فكون العزم بدلا من واجب يقتضي وجوبه وكونه عزما على ما يجوز تركه يقتضي جواز تركه فان قالوا إن المأمور به يتضيق أداؤه في بعض الأوقات وهو الوقت الذي يغلب على ظن المكلف أنه إن لم يفعله فيه فاته فعله قيل لهم فكأن المكلف خير في فعله وتركه قبل هذا الوقت وضيق وجوبه عليه فيه فجرى مجرى أن يقول المكلف صريحا للمكلف أنت مخير في فعل هذه العبادة إلى أن يغلب على ظنك أنها تفوت إن لم تؤدها فحينئذ يتضيق وجوبها ولو قال ذلك لما كان للمنع من تأخيرها قبل هذا الوقت لا إلى بدل وجه مع أن المكلف قد رخص في تأخيرها ولم يذكر بدلا لأن البدل إنما يجب بعد أن يكون المبدل قد تضيق وجوبه في نفسه فيستحيل أن يجوز تركه لا إلى بدل فان قالوا لو لم يثبت البدل انتقض وجوبها فيما قبل قيل إنه لا ينتقض الوجوب الذي هو بمعنى أن الفوض يسقط بالفعل لأنه لا يمتنع أن يكون الفعل مصلحة في هذا الوقت وفيما قبله على سواء فيخير الله سبحانه بينهما ولا وجه لإيجاب البدل والحال هذه فان قالوا إنما ألزمناه العزم وجعلناه بدلا لأننا لا نأمن أن يموت من غير أن يغلب على ظنه أنه يموت فتفوته العبادة فألزمناه ما يقوم مقامها في الوقت الثاني والثالث قيل لهم إن المكلف إذا مات في زمان التخيير وقبل زمان التضييق ولم يفعل الفعل لم يكن عليه تبعة وإذا لم تكن عليه تبعة لم يلزمه البدل
طريقة أخرى في العزم لو كان العزم في الثاني بدلا من فعل العبادة فيه لم يخل إما أن يقوم مقام فعلها في ثبوت المصلحة فيه أو لا يقوم مقامها فيه فان

لم يقم مقامها فيه لم يكن بدلا منها ولم يجز العدول عنها إليه إذ في ذلك تفويت بعض المصلحة وإن قام مقامها فيه فقد استوفيت المصلحة بفعله فلا وجه لوجوب العبادة بعد ذلك وفي ذلك سقوط الفرض بالعزم فان قالوا إنه يقوم مقام العبادة في ذلك الوقت ويبقى فعلها واجبا في الأوقات الأخر قيل إن الأمر لم يفد وجوب العبادة في الأوقات على الجمع حتى إذا سقط الفرض في الوقت الثاني بقي ما بعده وإنما أوجب فعلا واحدا ولهذا لو فعله في الثاني لم يلزمه فعله فيما بعد ذلك الأمر فاذا فعل ما يجري مجرى فعله العبادة في الثاني وجب أن يسقط الفرض الثابت بذلك الأمر كما يسقط لو فعل العبادة المأمور بها وإنما يجوز أن يثبت مثله في الثالث والرابع بأمر آخر كما يجوز ذلك لو فعل نفس المأمور به فان قالوا ما تنكرون أن تكون العبادة لو فعلت في الثاني لكانت مصلحة في الثالث والرابع وسائر الأوقات إلى حال الموت فاذا فعل بدلها وهو العزم سد مسدها في حصول المصلحة في الثالث وتبقى المصلحة في الأوقات الأخر لا تحصل إلا بالمعزوم عليه أو بعزم يحصل في كل وقت فيقوم مقام المعزوم عليه في ثبوت المصلحة في الوقت الذي يليه قيل هذا يقتضي أن يكون المكلف إذا مات وهو موال للعزم فانه يكون قد استوفى مصلحة الحج وفي ذلك سقوط فرضه وفرض العزم لو عاش وقد أجمعت الأمة في كل من مات ولم يحج أنه لو بقي وهو صحيح موسر للزمه الحج فان قالوا إن الحج هو مصلحة في أفعال تقع في كل الأوقات إلى أبعد عمر يجوز أن يحيي فيه المكلف في العادة فاذا مات المكلف قبل ذلك ولم يحج وجب أن يقال لو عاش لزمه الحج لأنه لو عاش لكان الحج أو العزم على أدائه مصلحة في أفعال تحصل في تلك الأوقات فاما ما بعد أطول الأعمار بزمان طويل فلا يمكنكم أن تدعوا فيه إجماعا قيل هذا يقتضي أن الإنسان لو حج عند بلوغه فانه يكون ذلك مصلحة في فعل يقع منه بعد مائة سنة وأكثر وهذا يبعد لأن اللطف إذا تراخى صار في حكم المنسي
فأما القول بأن العبادة تتضيق في وقت معين فلم يقل به أحد ولا دليل يدل

عليه وليس بعض الأوقات المعينة بذلك أولى من وقت فالقول بأنها تتضيق عند ما يغلب على الظن أنها تفوت إن لم تفعل ولا يحصل ذلك الظن عن أمارة لا يصح لأنه لا ينفصل من ظن السوداوي والقول بأنها تتضيق عند ظن يحصل على أمارة كمرض وعلو سن باطل لأن كثيرا من الناس يموت فجأة وذلك يقتضي أنه ما كان يجب عليهم أن يفعلوا العبادة لا محالة مع أن ظاهر الأمر اقتضى أن يفعلوها لا محالة لأن صيغة افعل تقتضي أن يفعل المقول له لا محالة والجواب أن قول القائل لغيره افعل وإن اقتضى أن يفعل لا محالة فانه يقتضي أن يفعل لا محالة في غير وقت معين لأنه يقتضي أنه متى فعل فقد قضي عهدة الأمر فصار مفيدا لأن يفعل لا محالة في غير وقت معين وذلك يقتضي أن يخيره في الأوقات ولا يدخل في كونه واجبا إلا بأن يضيقه في بعض الأوقات ولا وقت يمكن ذلك فيه إلا إذا خشي الفوات إن أخره عنه وذلك يقتضي أن من لم يغلب على ظنه أن الفعل يفوته إن لم يفعله في الوقت الذي قه انتهى إليه لم يجب عليه أن يفعل لا محالة
باب القول في الامر إذا كان مؤقتا بوقت محدود بأول وآخر اعلم أن الوقت المضروب للفعل إما أن يتسع للفعل أو لا يتسع له فان لم يتسع له لم يجب أن يكلف الإنسان إيقاع الفعل فيه لأنه تكليف لما يطاق ويجوز أن يكون وجود ذلك الوقت على بعض الوجوه سببا لوجوب القضاء نحو أن تطهر الحائض أو يبلغ الغلام وقد بقي من الصلاة مقدار ركعة ونحو أن يحرم الإنسان بحجتين لأن ذلك سببا لقضاء إحداهما عند أصحابنا ونحو أن ينذر الإنسان أن يصوم في يوم يقدم فيه فلان فيقدم وقد مضى من النهار بعضه
وأما إن اتسع الوقت للفعل فذلك ضربان أحدهما ألا يزيد الوقت على

مقدار الفعل نحو صوم يوم ولا إشكال في أن جميعه وقت للوجوب والآخر أن يزيد الوقت على مقدار الفعل كوقت صلاة الظهر
وقد اختلف الناس في وقت الوجوب من ذلك فقال محمد بن شجاع الثلجي وأصحاب الشافعي وشيخانا أبو علي وأبو هاشم وأصحابهما إن أول الوقت ووسطه وآخره وما بين ذلك من حالاته وقت للوجوب واختلف هؤلاء فمنهم من لم يثبت للصلاة في أول الوقت ووسطه بدلا فيه ومنهم من أثبت للصلاة في كل وقت من هذين الوقتين بدلا واختلفوا فقال أبو علي وأبو هاشم إن بدل الصلاة في أول الوقت ووسطه هو العزم على أدائها في المستقبل وقال بعض أصحابنا إن لها في أول الوقت ووسطه بدلا يفعله الله سبحانه وقال قوم إن أول الوقت هو وقت الوجوب وإنما ضرب آخره للقضاء وقال أكثر اصحابنا إن آخر الوقت هو وقت الوجوب واختلفوا في إيقاع الفعل فيما قبل ذلك فقال بعضهم هو نفل يسقط به الفرض وحكي عن الشيخ ابي الحسن أن الفعل يقع في أول الوقت مراعى فإن أدرك المصلي آخر الوقت وليس هو على صفة المكلفين كان ما فعله نفلا وإن أدركه على صفة المكلفين كان ما فعله واجبا وحكي عنه الشيخ أبو عبد الله أنه قال إن أدرك المصلي آخر الوقت وهو على صفة المكلفين كان ما فعله مسقطا المفرض وهذا أشبه من الحكاية الأولى وحكي أبو بكر الرازي عن أبي الحسن أن الصلاة يتعين وجوبها بأحد شيئين إما بأن تفعل وإما بأن يضيق وقتها ويمكن أن يفسر أكثر هذه الأقاويل تفسيرا صحيحا لا يقع فيه نزاع ويمكن أن يفسر تفسيرا يقع فيه النزاع على ما نبينه عند الكلام فيها وينبغي أن نبين معنى قولنا إن الصلاة واجبة في أول الوقت ووسطه وآخره ثم نبين جواز كونها واجبا فيها ثم نبين ورود التعبد به
أما معنى قولنا إن الصلاة واجبة في جميع الوقت فهو أنه إذا فعلها في أوله كانت كما لو فعلها في وسطه وآخره في سقوط الفرض وحصول المصلحة المقتضية للوجوب

فأما جواز ورود التعبد بذلك فهو أنه لا يمتنع في العقل أن تكون الصلاة في أول الوقت ووسطه وآخره تتساوى في كونها لطفا داعيا إلى طاعة واجبة بعد خروج الوقت وداعيا إلى طاعة مندوب إليها قبل خروج الوقت ولا يمتنع أن يكون داعيا إلى طاعة واجبة بعد خروج الوقت فقط ولا يكون فعلها بعد خروج الوقت مصلحة فيما كانت مصلحة فيه قبل خروج الوقت لكن إذا فرط المكلف في فعلها لزمه قضاؤها لأن قضاءها يكون مصلحة في دون ما كان الأداء مصلحة فيه فاذا كان كذلك لم يجز أن يضيق الله سبحانه فعلها في أول الوقت مع أن الغرض بايجابها وهو المصلحة يحصل بفعلها في آخر الوقت ولا يجوز أن لا يضيق الله سبحانه فعلها في آخره مع أن المصلحة لا تحصل إذا أخرت عنه ولا يمتنع أيضا أن تكون الصلاة في كل وقت قبل آخر الوقت مصلحة في طاعة تليها وفي طاعة بعد خروج الوقت فإن لم يفعلها فيه فعل الله سبحانه ما يقوم مقامها في الطاعة التي تليها وبقي على المكلف فرضها لما يدعو إليه من الطاعة بعد خروج الوقت ولا يمتنع أيضا أن يكون العزم في كل وقت على أدائها في الثاني أو في غيره من أفعال المكلف يقوم مقامها في المصلحة التي تليها دون المصلحة التي تدعو إليها بعد خروج الوقت وإذا لم تمتنع كل هذه الوجوه لم يمتنع ورود التعبد عليها والذي نذهب إليه أن الصلاة في أول الوقت ووسطه مصلحة في طاعة واجبة بعد خروج الوقت وفي طاعة مندوب إليها قبل خروج الوقت إذا كان المعلوم من حال المكلف انه لا يدرك ما بعد الوقت وهو حي
فاما الكلام في ورود التعبد بذلك فيقع في وجوه منها الكلام على من خص الوجوب بأول الوقت ومنها الكلام على من خصه بآخره ومنها الكلام على من جعل الفعل في أول الوقت مراعي ومنها الكلام على من عين الوجوب بأحد شيئين ثم يقع الكلام بعد ذلك في إثبات البدل هل هو من فعل الله سبحانه أو من فعلنا

أما الكلام على من خص الوجوب بأوله فهو أن يقال له أتزعم أن تأخير الصلاة عن أول الوقت لا يجوز كما لا يجوز تأخيرها عن آخره ويستحق الذم على أحدهما كما يستحق على الآخر فان قال نعم دفع قوله الإجماع وإن قال لا قيل له فقد نقضت قولك باختصاص الوجوب بأول الوقت ويقال له لماذا ضرب الوقت فان قال ليكون ما يفعل بعد أول الوقت قضاء قيل له الأمة مجمعة على أنه ليس بقضاء ولا يجوز أن تؤدي الصلاة بعد أول الوقت بنية القضاء وأيضا فلا فائدة لضرب الوقت في ذلك لأن ما يفعل بعده يكو قضاء أيضا وايضا فالوجوب مستفاد من الأمر وهو متعلق بأول الوقت وآخره ووسطه فيجب أن يفيد الوجوب في الكل ويتضيق بآخره لأنه جعل غاية وقت الوجوب
فأما من خص الوجوب بآخره فانا نفرض عليه ما يعنيه بقولنا إن الوجوب شائع في جميع الوقت فان أقر به وإلا دللنا عليه فنقول إنا نعني بذلك أن الصلاة في أول الوقت كهي في وسطه وآخره في حصول المصلحة بها المقتضية للوجوب وفي سقوط الفرض فان أجاب إلى ذلك فقد وافق في المعنى وإن منع عن ذلك قيل له إن لم تكن الصلاة قائمة مقام فعلها في آخره في حصول المصلحة وجب أحد أمرين إما أن تكون المصلحة باقية فيلزم فعل الصلاة في آخر الوقت مع أنها مفعولة في أوله وإما أن تكون المصلحة قد فاتت فان كانت قد فاتت فقد صارت الصلاة في اول الوقت مفسدة وفي ذلك قبحها والإجماع يمنع من قبحها ويقتضي الإجماع ايضا أن فعل بعض الصلوات في أول وقتها افضل يبين كونها مفسدة أنه إذا كان المكلف لو صلى في آخر الوقت حصلت له المصلحة واللطف وإذا صلى في أوله ولم تحصل له تلك المصلحة وخرجت الصلاة في آخر الوقت من أن تكون مصلحة وحصلت المعصية التي كانت الصلاة في آخر الوقت لطفا في الإخلال بها فقد حصلت الصلاة في أول الوقت داعية إلى هذه المعصية ومفوتا لما يدعو إلى الطاعة فان قيل أليس تقديم الزكاة على الحول يسقط الفرض وليس بمفسدة قيل إنما

يسقط الفرض لأنه يقوم مقامه في المصلحة ولهذا لم يطلق أحد من الأمة القول بانه صدقة تطوع ونافلة مع أنها مسقطة للفرض فان قيل وإذا كانت قائمة مقام الزكاة بعد الحول في المصلحة فما معنى تعليق الوجوب بحؤول الحول قيل الفائدة في ذلك أن يكون للإمام إلزام رب المال الزكاة بعد حؤول الحول ولا يكون له إلزامه اخراج الزكاة قبله لأن الوجوب موسع عليه ويدل على شمول الوجوب لأوقات الصلوات أن الوجوب مستفاد من الأمر والأمر نتعلق بأول الوقت وآخره وما بينهما فشمل الوجوب هذه الأوقات
وقد استدل في المسألة بأشياء
منها أنه لو كانت الصلاة نافلة في أول الوقت لصح إيقاعها بنية النفل لمطابقتها لما عليه الصلاة في نفسها وقد اعترض ذلك بأنه يجوز إيقاعها بنية كونها ظهرا نفلا وأجيب عن ذلك بأن كونها ظهرا نفلا يتناقض وهذا إنما يتناقض إذا ثبت أن صلاة الظهر لا تكون إلا واجبة وفيه النزاع وقد أجيب عن الدليل فقيل أليس تقديم الزكاة يكون نفلا ولا يجوز إيقاعها بنية النفل فان قلتم يجوز إيقاعها بنية كونها زكاة نفلا قيل يجوز إيقاع صلاة الظهر في أول الوقت بنية كونها ظهرا نفلا وليست الشناعة في ذلك إلا كالشناعة في كون الزكاة نفلا ويمكن أيضا أن يجاب عن الدليل فيقال إن أردتم بنية النفل أن ينوي أن يفعل ما يجوز تركه في أول الوقت لا إلى بدل فيه فهو قولنا وإن أردتم أن ينوي أن يفعل ما يجوز تركه وترك أمثاله في كل الأوقات مع السلامة فليس هذا قولنا فلم يلزمنا حوار أن ينويه
ومنها قولهم إن الصلاة في أول الوقت يراعي فيها أذان وإقامة وعدد مخصوص وليس هذا حال النوافل وللمخالف أن يقول إن النوافل التي تسقط الفرض وتفعل في الوقت المضروب هذه سبيلها
ومنها أنه كان يجب أن يكون من لم يؤد الصلاة إلا في وقتها الأول غير مؤد للفرض من الصلوات ولا قائما بالواجب منها وللمخالف أن يقول إن

إطلاق ذلك يوهم أن الصلاة وجبت عليه فلم يقم بها وليس الأمر كذلك ولهذا لا يقال فيمن يقدم زكاته في كل عام إنه لم يقم بالواجب من الزكاة لأن ذلك صفة ذم والذم لا يلحق من قدم الواجب قبل وقت وجوبه إذا أذن في ذلك
ومنها قولهم إن تقديم صلاة المغرب أفضل من تأخيرها والنفل لا يكون أفضل من الواجب وللمخالف أن يقول بل يجوز أن يكون أفضل منه إذا كان متقدما على الواجب ومسقطا له ولهذا يقال إن تقديم الزكاة على الحول مع شدة حاجة الفقراء أفضل من تأخيرها إلى حؤول الحول
واحتج القائلون إن الصلاة نافلة في أول الوقت بأن الواجب في الوقت هو ما لا يجوز تأخيره عن الوقت إلا إلى بدل فيه والصلاة في أول الوقت يجوز تأخيرها عنه لا إلى بدل فيه لأنه لا دليل عليه ولم تكن واجبة فيه وإذا لم تكن واجبة فيه وكانت مأمورا بها ثبت كونها نفلا فيه وقالوا وليس لكم أن تقولوا إنها تفارق النافلة وتدخل في جملة الواجبات من حيث لم يجز تركها أصلا لأنا إنما استدللنا على كونها نافلة في الأول من حيث جاز تأخيرها عنه ولم نستدل على أن أمثالها نافلة في كل الأوقات والجواب أن وصفنا للفعل بأنه واجب في الوقت يستعمل على وجهين أحدهما أنه لا يجوز الإخلال به في ذلك الوقت إلا إلى بدل فيه وهذا لا نعينه في الصلاة في الوقت الأول والآخر أنه يقوم مقام غيره من الواجبات المضيقة في وجه الوجوب وهذا هو الذي نعنيه بقولنا إن الصلاة واجبة في أول الوقت وقد بينا أنه لا بد للمخالف من أن يقوله فما يلزمنا عليه فهو لازم له ايضا وليس يلزمنا على هذا القول أن لا نجيز تأخير الصلاة عن أول الوقت لا إلى بدل لأنه إذا كانت الصلاة في الوقت الثاني تسد مسد وقوعها في الوقت الأول في الفرض والمصلحة لم يجز أن يلزم في الوقت بدلها هو إذا تركها فيه صار إلى ما يجري مجراها فاذا كان كذلك فأي فائدة في إلزام البدل

فأما القول بأن الفرض يتعين بإيقاع الفعل فان أريد بذلك أنه إذا فعل الفعل يجب أن يفعل مرة ثانية وجوبا معينا مضيقا فباطل لأن فعل المفعول غير ممكن فايجابه قبيح وإن أريد أنه يلزم بالشروع فيه إتمامه فهذه حالة النوافل عند أصحابنا وقد تكلمنا على من قال إن الفعل نافلة في أول الوقت وإن أريد أنه إذا فعل الفعل علمنا أنه قد تعين سقوط الفرض به وأنه لا فرض بعده في ذلك الوقت إلى آخره فذلك صحيح وقد كنا نحكم قبل الفعل أيضا بأنه إن وجد فهذه سبيله
فأما القول بأن المكلف إذا صلى في أول الوقت وأدرك آخره على صفة المكلفين كان ما يفعله واجبا فان أريد به أنه يبين لنا أنه قد كان ألزم الفعل في الأول ومنع من تأخيره عنه فذلك يؤدي إلى أنه حظر عليه في الأول التاخير ولم يعرف في ذلك الوقت أنه قد منع من التأخير وذلك تكليف ما لا يطاق وإن أريد به أنه يبين لنا أن ذلك الفعل قد أسقط عن المكلف أن يفعل في آخر الوقت مثله وأنه قائم مقام الفعل في آخر الوقت في المصلحة التي تحصل بعده فصحيح وإن أراد الشيخ أبو الحسن بقوله إن المكلف إذا لم يدرك آخر الوقت على صفة المكلفين كان ما فعله في أول الوقت نافلة أنه يبين لنا في آخر الوقت أنه ما كان قد ألزم المكلف الفعل في أوله فليس بصحيح لأنه يجب أن يعرف ذلك قبل أول الوقت وإن أراد أنه يبين لنا أن ما فعله لم يكن لطفا في واجب وأنه لطف في نافلة فصحيح وهو الذي ينصره لأنه لو كان لطفا في واجب يوقعه قبل حال موته لكان الله سبحانه قد ضيق عليه الوجوب في أول الوقت والدلالة على أن الصلاة في أول الوقت مصلحة في طاعة نافلة قبل خروج الوقت إذا كان المصلي يموت قبل خروج الوقت فهي أنها لو لم تكن كذلك لما حسن تكليفها لمن المعلوم أنه يموت قبل خروج الوقت لأن وجه وجوبها غير حاصل فيه وهو كونها داعية إلى طاعة واجبة بعد الوقت إذ المكلف ليس يدرك هذا الوقت حيا وفي إجماع الأمة على أن من مات قبل

خروج الوقت لا يكون ما فعله من الصلاة في أول الوقت مباحا بل طاعة مأمور بها دليل على ما قلناه لأنها لا تكون طاعة إلا وهي مصلحة في طاعة قبل موته وليس يجوز أن تكون تلك الطاعة واجبه لأنها لو كانت واجبة لضيق الله سبحانه وجوب الصلاة عليه فثبت أنها مصلحة في طاعة مندوب إليها فان قالوا فيجب أن تكون صلاة هذا المكلف نافلة قيل إن أردتم بكونها نافلة ما ذكرتم وأنه لو لم يفعلها حتى مات لم يستحق الذم فصحيح وهو الذي نصرناه وإن أردتم أنه لو بقي المصلي إلى بعد الوقت لم تكن صلاته لطفا في واجب فلا
فأما القول بأن العزم بدل من الصلاة في الوقت الأول فانه إن جعل هذا القائل العزم جاريا مجرى الصلاة في أول الوقت من كل وجه لزم أن يكون ما فعله مسقطا لفرض الصلاة كما أن الصلاة في أول الوقت مسقطة للفرض إذ قد سد العزم مسد فعل الصلاة وإن أريد أن العزم يقوم مقام فعلها من وجه دون وجه نحو أن تكون الصلاة مصلحة في طاعة تليها وفي طاعة بعد خروج الوقت فيقوم العزم مقام فعلها في أول الوقت في حصول المصلحة التي تليها وتبقى المصلحة الأخرى بكون الصلاة في الوقت الثاني مصلحة فيها ومصلحة في الوقت الثالث هكذا في كل الأوقات إلى أن يتضيق الوقت فلا يكون العزم قائما مقام الصلاة في المصلحة التي تكون بعد الوقت والذي يبطله هو أنهم إذا توصلوا إلى إثبات البدل فيجب أن يثبتوه على حد ثبوت المبدل ومعلوم أن ظاهر الأمر اقتضى إيجاب الفعل في الأوقات من زوال الشمس إلى آخر الوقت على البدل فكان الواجب أن يفعل المكلف الصلاة في وقت من هذه الأوقات أي وقت شاء هكذا ظاهر الأمر فيجب أن يكون بدل ذلك يلزم فعله في وقت غير معين من هذه الأوقات ولا يتعين في الأول كما لم يتعين المبدل ويجب إذا فعل البدل في وقت من هذه الأوقات أن يسقط الفرض كالمبدل وأيضا فلو لزم المكلف ان يفعل الصلاة في أول الوقت أو العزم لكان قد أخذ عليه أن يتحفظ من السهو وأن يجب علينا أن نوقظه من نومه في

هذا الوقت لأنه قد أخذ عليه في هذا الوقت فعل يمنع منه النوم كما يلزم أن نوقظه عن نومه في آخر الوقت وأيضا فان الأمر اقتضى إيجاب الصلاة علينا في الأوقات كلها على البدل ولا دليل يدل على إثبات بدل للصلاة لأنا قد بينا حسن تكليفها من غير بدل ولا يجوز إثبات ما لا دليل عليه وبأكثر هذه الوجه يبطل قول من قال إن بدل الصلاة هو فعل يفعله الله سبحانه يقوم مقام الصلاة كونها مصلحة في طاعة تختص بالوقت الثاني على ما ذكرناه في العزم وتختص ذلك بوجه آخر وهو أنه كان يجب أن لا يحسن تكليف الصلاة من يعلم الله أنه يخترم في الوقت لأنه يقوم فعل الله سبحانه مقام فعله في المصلحة الحاصلة قبل خروج الوقت فلو كلفه الله تعالى الصلاة لكان إنما كلفه لمجرد الثواب فقط
وقد استدل أصحاب العزم على إثبات البدل فقالوا الصلاة واجبة في أول الوقت فلا يجوز كونها واجبة فيه مع جواز تأخيرها عنه إلا إلى بدل ولا بدل إلا العزم والجواب يقال لهم أتعنون بوجوبها في الأول أنه محظور تأخيرها عنه فان قالوا نعم قيل لهم من سلم لكم ذلك أو ليس الأمر دل على إيقاعها في الأول والثاني والثالث على البدل فكيف حظر تأخيرها حتى يطلب لجوازه فعل بدل وعلى أن حظر تأخيرها مع إباحة تأخيرها متناقض ولم يصح ثبوته حتى يتبعه إثبات بدل فان قالوا نعني بوجوبها في الأول أنها على صفة المصلحة الحاصلة بالصلاة في آخر الوقت قيل لهم ولم إذا كان كذلك لا يجوز تأخيرها إلا إلى بدل مع أنه يؤخرها إلى ما يساويها في وجه الوجوب ثم يقال لهم ولم زعمتم أنه لا بدل إلا العزم فان قالوا لإجماع الأمة على وجوبه على من أخر الصلاة عن الأول قيل إجماع الأمة على ذلك كإجماعها على وجوبه قبل دخول الوقت وليس يظهر أن الأمة فصلت بين الأمرين فأوجبت بعد دخول الوقت فعل العزم ولم توجبه قبل الوقت وإنما حضرت قبل الوقت كراهة فعل الصلاة وقد تقدم ذلك في الباب الأول فما يؤمنهم أن يكون البدل هو الإخلال بالكراهة ويكون ذلك سادا في هذا الوقت مسد الصلاة في

المصلحة ويمكن أن يستدلوا على إثبات بدل فيقولوا إن الصلاة لطف في واجب بعد خروج الوقت ولطف في واجب قبل خروج الوقت أما كونها لطفا بعد خروج الوقت فالدلالة عليه أنه قد أتيح له تأخيرها إلى آخر الوقت فلو لم يكن إلا لطفا في طاعة في الوقت لما أتيح تأخيرها عن وقت تلك الطاعة فأما الدلالة على أنها لطف في واجب في الوقت ايضا فهي أنها لو لم تكن لطفا إلا في واجب بعد الوقت لما حسن تكليفها من المعلوم أنه يموت قبل خروج الوقت وإذا كانت لطفا في واجب قبل خروج الوقت لم يجز تأخيرها عن ذلك الوقت إلا إلى بدل ولا بدل إلا العزم لأن الأمة أجمعت على وجوبه دون وجوب غيره والجواب أنه يكفي في حسن تكليف الصلاة من المعلوم أنه يكون قبل خروج الوقت أن يكون فيها لطفا في طاعة مندوب إليها بفعل عقيب فعل الصلاة أو أن يكون كل جزء من الصلاة لطفا في مندوب وإذا جاز ذلك لم يجب أن يكون لها بدل من حيث هي لطف في ندب فان قيل فلم كان قولكم أولى من قولنا مع جواز ورود التعبد عليهما جميعا قيل أنتم الذي يلزمكم الترجيح لأنكم المستدلون وأيضا فان قولنا أولى من قولكم لأن التعبد بالصلاة في الوقت كله ورد مطلقا من غير بدل وإنما يثبت البدل للضرورة فاذا بينا إمكان قولنا وحسن ورود التعبد به لم يكن إلى البدل ضرورة فان قيل فيجب على ما قلتم أن يكون تقديم الصلاة في أول أوقاتها أولى لأنها تكون مصلحة في مندوب إليه وفي واجب والصلاة في آخر الوقت لا تكون مصلحة إلا في واجب فقط والجواب أنه لا يمتنع أن تكون الصلاة التي يستحب تأخيرها إذا فعلت في أول الوقت كانت لطفا في مندوب إليه يليها وفي طاعة واجبة بعد خروج الوقت وإذا فعلت في آخر الوقت كانت لطفا في طاعة واجبة وفي طاعات مندوب إليها بعد خروج الوقت ايضا أكثر مما تكون الصلاة في أول الوقت لطفا فيه من الطاعات المندوب إليها فلذلك كان تأخير الصلاة أفضل


باب في الامر المؤقت هل يقتضي الفعل فيما بعد الوقت إذا عصى المكلف في الوقت أم لا
اعلم أنه لا يقتضي الفعل فيما بعد الوقت أطاع المكلف في الوقت أم عصى فيه ويحتاج فعله فيما بعد الوقت إلى دلالة أخرى لأن قول القائل لغيره افعل هذا الفعل في يوم الجمعة لا يتناول ما عدا الجمعة وما لم يتناوله الأمر لا يدل فيه على إثبات ولا نفي ولهذا لم يدل الأمر على استدعاء الفعل قبل الوقت ولو كان الأمر مقيدا بصفة لم يدل على وجوب ما لم يختص بها لما لم يتناول ما عدا تلك الصفة ولذلك لو قال الإنسان لغيره اضرب من كان في الدار لم يتناول من لم يكن فيها ولو أمرنا الله سبحانه أن نتصدق بأيماننا ثم تعذر ذلك علينا لما علمنا بذلك الأمر وجوب الصدقة باليسرى لكن علمنا أن الصدقة باليمنى الغرض منها إيصال النفع إلى الفقير فقط فانا نعلم وجوب الصدقة باليسرى لهذا الاعتبار والوقت وإن لم يكن في مقدورنا ولا هو وجه يوقع الفعل عليه فانه لا يمتنع أن يكون الفعل فيه مصلحة دون غيره ولهذا كانت الصلوات واجبة في أوقات مخصوصة وكان الصوم واجبا في شهر مخصوص ودفع الضرر عن النفس واجب في الوقت الذي يختص فيه الضرر دون غيره وإذا صح ما ذكرناه لم يجز ورود النسخ على الأمر المفيد للفعل الواحد المؤقت وإنما يرد على الأمر المفيد ظاهره أفعالا كثيرة فيدلنا النسخ على أنه ما أريد بعض تلك المرات فان قيل فاذادل الدليل على أن من عصى في الوقت يلزمه مثله أكان يكون ذلك قضاء قيل نعم إذا اختص بشروط القضاء وهي أشياء
منها أن يكون مثل المقضي ولهذا لم تكن الصلاة قضاء للصوم
ومنها أن يكون المقضي متعبد به في وقت مخصوص إما على الوجوب أو

على الندب ولهذا لو لم نتعبد بالفعل ثم أمرنا بمثله لم يكن قضاء
ومنها أن يكون سبب القضاء غير سبب المقضي ولهذا لو لم يقض الإنسان يوما فات من شهر رمضان ثم قضاه بعد ذلك لم يكن ذلك قضاء للقضاء لأن سببهما غير مختلف
ومنها أن يرد التعبد بالقضاء لأنه لو لم يتعبد به لم يسهم إذا فعل قضاء والله أعلم
باب في الامر المطلق إذا لم يفعل المكلف مأموره في أول أوقات الإمكان هل يقتضي فعله فيما بعد أم يحتاج إلى دليل
أما القائلون بنفي الفور فانهم يقولون إن الأمر يقتضي الفعل فيما بعد ولا يحتاج المكلف إلى دليل وأما القائلون بالفور فيختلفون فمنهم من قال إنه يقتضي الفعل فيما بعد ومنهم من قال لا يقتضيه بل يحتاج المكلف إلى دليل وهو مذهب أبي عبد الله وحكاه عن الشيخ أبي الحسن ولم يفصل المؤقت من غيره ويقول قاضي القضاة بذلك لو ثبت القول بالفور
واحتج الأولون بأن قالوا قول القائل لغيره افعل معناه افعل في الثاني فان عصيت ففي الثالث فان عصيت ففي الرابع هكذا ابدا فان قال قائل ولم زعموا أن الأمر يتنزل هذه المنزلة قيل لأن ظاهر قوله افعل لا يتخصص بالوقت الثاني دون الثالث والرابع وإنما قالوا إنه يجب فعله في الثاني لأنه لو مل يجب فيه انتقض الوجوب المستفاد بالأمر فاجتمع في الأمر شيئان أحدهما الوجوب المقتضي للفور والثاني نفي تخصيص الأمر بالأوقات المقتضي لشياع الفعل في الأوقات فوجب الفور مع نفي تخصيص الأمر بالأوقات وشياع الفعل فيها ولا يمكن ذلك إلا إذا عصى المكلف في الوقت

الأول فصح أن مطلق الأمر من حيث اجتمع فيه ما يدل على ما ذكرناه يجري مجرى قول القائل افعل في الأول فان عصيت فافعل في الثاني فان قالوا الأمر وإن لم يختص بوقت معين فان الوجوب المستفاد من الأمر لما دل على الفور جعل الأمر مختصا بالوقت الأول قيل لهم إنما جعله مختصا بالأول ما لم تقع المعصية فاذا وقع بقي مطلق الأمر فان قالوا قد ثبت أن مطلق الأمر يقتضي وجوب الفعل في الثاني فجرى مجرى أن يكون الأمر مقيدا بالثاني قيل الفرق بينهما أنه إذا كان مقيدا بالثاني لم يكن غير مختص بالأوقات بل يكون مختصا بالوقت الثاني فلا يتنزل منزلة قول القائل افعل في الثاني فان عصيت فافعل في الثالث لأنه يتناول فعلا واحدا وليس كذلك إذا كان الأمر مطلقا
واحتج أبو عبد الله فقال قد ثبت أن مطلق الأمر يفيد إيقاع الفعل في الثاني فلم يتناول إيقاعه في الثالث لأنه يتناول فعلا واحدا والفعل المختص بالثاني غير المختص بالثالث لأن أفعال العباد لا يجوز عليها التقديم والتأخير والجواب أنه إن ثبت أن أفعال العباد هذه سبيلها فان الأمر لم يتناول تلك الأعيان وإنما يتناول ما له صورة يميزها المكلف فاذا أمرنا الله سبحانه بالحج فانما أمرنا بأفعال لها صفة مخصوصة سواء كانت واقعة في هذا الوقت أو في هذا الوقت واذا كان كذلك وكان الأمر لا يتخصص بالأوقات علمنا أنه يتناول ما اختص بتلك الصورة من الأفعال المختصة بتلك الأوقات فاذا بان أن الوجوب يفيد التعجيل بان أنه قد اختص بالأمر ما يقتضي التعجيل وما يقتضي التأخير ولا يمكن الجمع بينهما إلا على شرط المعصية
باب في الآمر هل يدخل تحت الأمر ام لا اعلم أن هذا الباب يتضمن مسائل
منها أن يقال هل يمكن أن يامر الإنسان نفسه في المعنى أم لا وليس في

إمكان ذلك شبهة لأنه يمكن الإنسان أن يقول لنفسه افعل ويريد منها الفعل
ومنها أن يقال هل يكون هذا القول مسمى بأنه أمر على الحقيقة أم لا والجواب أنه لا يكون أمرا على الحقيقة لأن من شرط كونه أمرا الرتبة وما يجري مجراها وذلك لا يتأتى إلا بين ذاتي لتكون إحداهما مستعلية ومرتبة على الأخرى
ومنها أن يقال هل يحسن أن يأمر الإنسان نفسه أم لا والجواب أنه لا يحسن ذلك لأن الفائدة بالأمر أن يكون دليلا على حال المأمور به أو يؤكد الدلالة أو يدل على إرادة فاعله الفعل ويكون ممن يتقرب إليه بالمصير إلى إرادته فيدعو علم المأمور بإرادته إلى أن يوقع مرادها وهذه الأمور منتفية في أمر الإنسان نفسه لأن الانسان يعلم إرادته وكون المأمور به طاعة قبل أمره من غير أن يراد علما من جهة الآمر إذ كان إنما يأمر لتقدم علمه بما له في الفعل المأمور به من الغرض
ومنها أن يقال هل إذا خاطب الإنسان غيره بالأمر يكون داخلا في جملة المأمورين وهذه المسألة وإن دخلت في مسائل العموم فذكرها ها هنا يجوز لتعلقها بهذه المسائل والجواب أنه إن كان المخاطب نالا للأمر من غيره نظر في خطابه فان كان يتناوله دخل فيهم والا لم يدخل فيهم مثال الأول أن يقول الإنسان لجماعة إن فلانا يأمرنا بكذا وكذا ومثال الثاني أن يقول إن فلانا يأمركم بكذا وكذا وإن نقل كلامهم غيره ولم يذكر عن نفسه شيئا نحو قوله سبحانه يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فان هذا يتناول الكل لأن الخطاب من الله سبحانه يرد إلى كل

مكلف وإلا من استثناه الدليل وإن كان المخاطب بالأمر هو الآمر فانه لا يدخل تحت الأمر لما بيناه أنه لا فائدة فيه وذلك نحو أن يقول افعلوا كذا وكذا فان قيل فهل يدخل المخبر تحت الخبر قيل إن أردت أنه يدخل في أن يكون مخبرا لنفسه فلا لأنه لا فائدة في أن يخبر نفسه إذ ليس يخفى عليه حال المخبر عنه فيستدل عليه بخبره وإن أردت أنه يدخل في أنه يكون مخبرا عن نفسه فذلك جائزلأن الإنسان له غرض في أن يخبر عن حال نفسه كما أن له غرضا في أن يخبر عن غيره
باب في كيفية إيجاب الامر لفروض الكفايات اعلم أن الأمر بالفعل إذا تناول جماعة على الجمع فذلك من فروض الأعيان والكلام في ذلك من باب العموم وقد يكون فعل بعضهم شرطا في فعل بعض كصلاة الجمعة وقد لا يكون فعل بعضهم شرطا في فعل بعض وإذا تناول جماعتهم لا على الجمع فذلك من فروض الكفايات نحو أن يكون الغرض بتلك العبادة يحصل بفعل البعض كالجهاد الذي الغرض به حراسة المسلمين وإذلال العدو وقهره فمتى حصل ذلك بالبعض لم يلزم الباقين والفرض في ذلك موقوف على غالب الظن فان غلب على ظن الجماعة أن غيرها يقوم بذلك سقط عنها وحد الواجب لا يحصل في فعلها وإن غلب على ظنها أن غيرها لا يقوم به وجب عليها وحد الواجب حاصل في فعلها وإن غلب على ظن كل طائفة أن غيرها لا يقوم به وجب على كل واحدة منها القيام به وكان حد الواجب قائما في فعل كل واحدة منها وإن غلب على ظن كل طائفة أن غيرها يقوم به سقط الفرض عن كل واحدة منها وإن أدى إلى أن لا يقوم به أحد ولم يكن حد الواجب حاصلا في فعل كل واحدة منها فبان بما ذكرنا أن ما تقدم من حد الواجب ليس ينتقص بشيء من هذه الأقسام


باب في الامر الوارد بالشيء على شرط زوال المنع ذهب شيوخنا رحمهم الله إلى أن الله عز و جل لم يعن بالأمر من يعلم أنه يمنع من الفعل وقال قوم إذا أمر الله قوما بالفعل وعلم أن فيهم من يمنع منه فانه قد عناه بالأمر بشرط زوال المنع ولم يختلفوا في جواز أمر الواحد منا غيره بالفعل بشرط قدرته على الفعل وانتفاء المنع منه وقال قاضي القضاة لم يختلفوا في أنه لا يجوز أن يفرد الله سبحانه المكلف الواحد بالأمر بالفعل وهو يعلم أنه يمنع منه قال ولم يختلفوا في أنه لا يجوز أن يأمر من يعلم أنه يموت أو يعجز أو لا يكون المأمور به مصلحة بشرط أن يبقى ويقدر ويكون الفعل مصلحة
دليلنا هو أن معنى قولنا إن الله سبحانه قد أمر بالفعل بشرط زوال المنع هو أنه قال لنا افعلوه وأراده منا أو كان لنا فيه غرض مع فقد المنع ولم يرده مع وجوده لأنه لو أراده في الحالين لكان قد كلف إيقاع الفعل مع وجود المنع ولما كان قد أراده بشرط زوال المنع فاذا علم الله سبحانه أن المنع يحصل لا محالة فقد علم الحالة التي لا غرض له في إيقاع الفعل فيها فلم يجز أن يريده فيها يبين ذلك أن الواحد منا لو أراد دخول زيد الدار إن دخلها عمرو ولم يرد دخلوه فيها إن لم يدخلها عمرو ثم علم بخبر نبي أن عمرا لا يدخلها فان هذا العلم يصرفه عن إرادة دخول زيد إليها وإنما يريد دخوله إليها لو دخلها عمرو وهذه إرادة مقدرة غير حاصلة وأيضا فلو أراد الله سبحانه الفعل بشرط زوال المنع لكان قد اراد من المكلف إيقاعه إن لم يحصل المنع والمفهوم من هذه اللفظة الشك ألا ترى أن من علم بالمشاهدة أن الشمس قد طلعت لا يقول إن كانت الشمس قد طلعت دخلت الدار وإنما يحسن أن يقول ذلك إذا كان شاكا في طلوعها والبارىء

سبحانه عالم بأن المنع سيوجد فلم يجز أن يريد الفعل إن لم يحصل المنع وهذا الذي ذكرناه يمنع من تكليف الله سبحانه من يعلم أنه يتعذر عليه الفعل بجميع ضروب التعذر
وحجة المخالف أشياء
منها أن يقول قد أجمعنا على أن الله عز و جل قد كلف المعدوم والعاجز بشرط أن يقدر في حال الحاجة إلى القدرة والجواب أنا نقول إن الله سبحانه كلف بشرط أن يقدر ومعنى ذلك أن حكمنا بأن الله تعالى قد كلف الفعل مشروط بأن يكون ممن يقدر في وقت الحاجة فالشرط داخل على حكمنا لا على تكليف الله سبحانه ويشبه أن يكون المخالف هذا يعني بقوله إن الله سبحانه يكلف بشرط زوال المنع فان عني ذلك فلا حاجة فيه وجواب آخر وهو أن الذي ذكروه ليس يشبه موضع الخلاف وذلك أن كلامنا في أن يأمر الله تعالى بشرط يعلم أنه لا يوجد فأوردوا أن يأمر الله تعالى بشرط يعلم وجوده على أنا نقول إن الله يأمر المعدوم بشرط أن يوجد ونعني به أن الأمر الذي صدر من الله تعالى أمر له عند وجوده أو إذا وجد هذا ليس بمحال فيبطل ما قالوا
ومنها أن يقول إن الله سبحانه قد كلف الكافر بالصلاة بشرط أن يؤمن مع أنه علم بأنه لا يؤمن ولهذا يعاقبه على ترك الصلاة كما يعاقبه على الكفر والجواب أنا نقول كلف الإيمان والصلاة جميعا ولم يكلفه فعل الصلاة مضامة للكفر فلم يدخل الشرط في التكليف وإنما دخل الشرط في فعله لأنه قيل له افعلهما فاذا لم يفعلهما فقد أخل بمصلحتين فاستحق العقاب على الإخلال بها
ومنها قياسهم تكليف الله سبحانه الفعل بشرط زوال المنع على تكليف الواحد منا غيره بشرط زوال المنع وهو قياس بغير علة والفرق بينهما أن

الواحد منا غير عالم بأن للمكلف حالة منع لا غرض له في إيقاع الفعل فيها والباريء عز و جل عالم بذلك يبين ما ذكرناه أنه يجوز أن يكلف الواحد منا غيره بشرط أن يبقى وأن يكون الفعل مصلحة ولا يجوز ذلك من الله سبحانه
ومنها قولهم لو رفع منع التكليف لكان من منع غيره من الصلاة فقد أحسن إليه لأنه قد أسقط عنه كلفة من غير توجه ذم إليه الجواب يقال لهم أليس عندكم أنه لا يلزمه الفعل مضافا للمنع وأنه يسقط الفعل عنه من غير لوم فالسؤال يلزمكم كما يلزمنا وعلى أنه لا يكون محسنا إليه بالمنع مما يستحق به الثواب الجزيل
ومنها قولهم لو أسقط المنع التكليف على كل حال لما علم الواحد منا أنه مكلف للصلاة قبل تشاغله بها وذلك يسقط عنه وجوب أخذ الأهبة لها الجواب يقال لهم هذا يلزمكم أيضا لأن عندكم أن مع المنع لا تلزم الصلاة ولا أريدت من المكلف في تلك الحال وإنما أريدت منه بشرط زوال المنع وهو لا يعلم أن المنع يزول فاذا لا يعلم الوجوب فان لزمنا سقوط أخذ الأهبة فقد لزمكم وقد قال أصحابنا إنما يجب أخذ الأهبة للصلاة لثبوت أمارة بقائه سالما إلى وقتها فوجب عليه لهذه الأمارة التحرز من ترك ما لا يأمن وجوبه
باب في الامر المقيد بشرط هل يعلم أن الحكم فيما عدا الشرط بخلاف الشرط أم لا
اعلم أن حكم الأمر وغيره إذا علق بشرط فإن الشرط يدل على أن الحكم لا يثبت فيما عداه على كل حال ولا يمنع الشرط من قيام الدلالة على شرط آخر يقوم مقامه ومتى فقدنا دلالة تدل على شرط ثان قضينا بأنه لا شرط إلا

الأول فنعلم أنه إذا انتفى الشرط انتفى الحكم على كل حال وإن دل دليل على شرط آخر علمنا انتفاء الحكم إذا انتفى الشرطان وإن علمنا ثبوت الحكم مع انتفاء الشرط على كل حال علمنا أن ذلك ليس بشرط وأنه قد يجوز به وقال قاضي القضاة إن تعليق الحكم بالشرط لا يدل على أن ما عداه بخلافه وأنه يجوز أن يقوم شرط آخر مقام ذلك الشرط وحكاه عن أبي عبد الله وحكى عن الشيخ أبي الحسن أنه يدل على أن ما عداه بخلافه ومنع لذلك من الحكم بالشاهد واليمين لأن الله سبحانه شرط في الحكم الشاهد الثاني لأنه قصر الحكم على الشاهدين فلو لم يكن الثاني شرطا لم يكن لذكره معنى قال وإذا كان شرطا لم يجز الحكم مع فقده
والدليل على أن الشرط يمنع من ثبوت الحكم مع عدمه على كل حال أن قول القائل لغيره ادخل الدار إن دخلها عمرو معناه أن الشرط في دخولك هو دخول عمرو لأن لفظة إن موضوعة للشرط ولو قال له شرط دخولك الدار دخول عمرو علمنا أنه لم يوجب عليه دخول الدار مع فقد دخول عمرو على كل حال فكذلك في مسالتنا يبين ما قلناه أن الشرط هو الذي يقف عليه الحكم وعلى ما يقوم مقامه فلو ثبت الحكم مع عدمه على كل حال لكان كل شيء شرطا في كل شيء حتى يكون دخول زيد الدار شرطا في كون السماء فوق الإرض وإن وجد ذلك مع عدم الدخول ويدل على أن المعقول من الشرط ما ذكرناه ما روى أن يعلى بن منية سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال ما بالنا نقصر وقد أمنا فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته 6 فلو لم يعقل من الشرط نفى الحكم عما عداه لم يكن لتعجبهما معنى وأجاب عن ذلك قاضي القضاة فقال لا يمتنع أن يكونا إنما تعجبا من ذلك لأنها عقلا من الآيات الواردة في وجوب الصلاة وجوب الإتمام وأن حال

الخوف مستثناة من ذلك والباقي ثابت على أصله في الإتمام فلذلك تعجبا من ثبوت القصر مع الأمن ولقائل أن يقول الآيات لا تنطق بالإتمام ولا كان الأصل في الصلاة الإتمام فنتم ما ذكر بل المروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كانت صلاة السفر والحضر ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر وإذا كان كذلك لم يكن لتعجب عمر ويعلى بن منية سبب إلا الشرط وبطل القول بأن الأصل كان الإتمام فان قيل لو منع الشرط من ثبوت الحكم مع عدمه لما ثبت القصر مع عدم الخوف قيل إن ظاهر الشرط يمنع من ذلك وليس يمتنع أن تدل دلالة على خلاف الظاهر كما تدل دلالة على خلاف ظاهر العموم ولا يمتنع أن يكون الشرط قد ورد ليؤكد حال المشروط ولأن السبب في نزول إباحة القصر هو حال الخوف فشرط لأن الحال اقتضته
فان قيل ليس يمتنع أن تكون الفائدة في ورود الشرط تأكيد حال المشروط بأن يكون الحكم لو ورد مطلقا لظن المكلف أن المشروط لم يرد فيشرط لإزالة هذا الظن لا لأن الحكم لا يثبت مع فقده نحو أن يقول الله تعالى ضحوا بالشاة إن كانت عوراء لأنه لو قال ضحوا بالشاة لجاز أن يتوهم متوهم أنه لم يرد العوراء قيل إنا لم نقل إن الشرط يمنع من ثبوت الحكم مع فقده لأنه لا فائدة فيه إلا ذلك فيبطل قولنا بإيراد فائدة سواه وإنما قلنا ذلك من جهة أن لفظة إن وضعت موضع قولنا الشرط في هذا الحكم كذا وكذا وهذا اللفظ يفيد ما ذكرناه لأن معنى الشرط الحكم أن يقف عليه على ما يقوم مقامه وعلى أن العادة جرت أن يقول الإنسان لغيره ضح بالشاة وإن كانت عوراء ولا يقول إن كانت عوراء وإذا قال وإن كانت عوراء فهم من ذلك عطفها على الصحيحة كأنه أضمر جواز الأضحية بالصحيحة ثم عطف عليها العوراء
إن قيل لو منع الشرط من ثبوت الحكم مع فقده لكان قول الله

سبحانه ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا يدل على أنه حظر الإكراه على البغاء إذا لم يردن التحصن قيل ليس كذلك لأنه إنما شرط إرادة التحصن لأن الإكراه على البغاء لا يحصل إلا وهن مريدات للتحصن فلهذا شرط لا لأن الحكم لا يثبت إلا مع إرادة التحصن وإنما قلنا إن الشرط لا يمنع من قيام دلالة على ثبوت شرط آخر لأن قول القائل لغيره أعط زيدا درهما إن دخل الدار ليس يتعرض لشرط آخر بنفي ولا إثبات ألا ترى أنه ليس فيه ذكر له فلم يمنع منه ولم يوجبه إن قيل قوله إن دخل الدار معناه الشرط في عطيتك دخوله الدار وهذا يقتضي أن كمال الشرط هو دخول الدار لأن لام الجنس تقتضي الشمول قيل بل قوله إن دخل الدار يفيد أن دخوله الدار شرط وذلك لا يمنع من ثبوت شرط آخر وليس له أن يقدر ذلك بزيادة ألف ولام لأن ذلك زيادة لا دليل عليها إن قيل ألستم قد قلتم إن قوله أعط زيدا درهما إن دخل الدار يمنع من العطية مع فقد الدخول أفليس إذا حصل شرط آخر فقد أعطاه مع عدم الدخول فهلا قلتم إن ظاهر الشرط يمنع من ثبوت شرط آخر وأنه لا يجوز إثباته إلا لدليل يدل عليه خلاف ظاهر الشرط الأول قيل إنا نقول إن قوله أعطه إن دخل الدار يفيد أن العطية مع فقد هذا الدخول على كل حال غير مباحة بل لا بد من حالة من الحالات تكون فيها العطية غير مباحة إذا فقد الدخول وليس يدخل تحت ذلك إذا قام شرط آخر مقام هذا الشرط لأنه إذا قام مقامه شرط لم تجز العطية إلا مع كل واحد منهما فلا تكون العطية مباحة مع فقد الشرط الأول على كل حال وقلنا إن الشرط لا يمنع ظاهرة من ثبوت شرط آخر لأنه ليس فيه ذكر لنفي شرط آخر ولا إثباته فلا تناقض بينهما
وأما الدلالة على أنه إذا لم تدل دلالة على شرط ثان لم نثبته فهي أنه لو كان

للحكم شرط آخر لدل الله سبحانه عليه فاذا لم يدل عليه علمنا نفيه كما نقول في صلاة سادسة
وأما قول الشيخ ابي الحسن إن الشاهد الثاني شرط في الحكم فان أراد به أنه ذكر بلفظ الشرط فمعلوم أنه ليس في الآية لفظ شرط وإن أراد أن الحكم لا يجوز مع فقده على كل حال فذلك صحيح وإن اراد أنه لا يجوز في حال ويجوز في حال فهكذا يقول من يذهب إلى الشاهد واليمين فانه لا يجوز الحكم بالشاهد الواحد ويجوز الحكم بالشاهد واليمين كما يجوز برجل وامرأتين وإن منع من الحكم بالشاهد واليمين لأنه زيادة على النص والزيادة على النص نسخ فلم يجز نسخ القرآن بخبر الواحد فذلك كلام في الزيادة على النص وسيأتي في موضعه إن شاء الله
باب في الأمر إذا قيد بغاية وحد اعلم أن الحكم إذا علق بغاية وحد منع ظاهرهما من ثبوت الحكم بعدهما لأن قوله سبحانه ثم أتموا الصيام إلى الليل يجري مجرى أن يقول صوموا صوما غايته ونهايته وآخره وطرفه الليل لأن إلى موضوع للغاية والحد ولو قال ذلك لمنع من وجوب الصوم بعد مجيء الليل لأنه لو وجب أن يصوم بعد ذلك خرج الليل من أن يكون آخرا للصوم ودخل في أن يكون وسطا للصوم ولا يمتنع مع ذلك أن تدل دلالة على خلاف ظاهر الغاية فتوجب علينا صيام قطعة من الليل وتدل على أنه إنما سمي أول النهار طرفا للصوم مجازا من حيث كان قريبا من آخره فأما قاضي القضاة فانه قال إن الغاية تدل على أن ما بعدها بخلافها قال لأن الفائدة في ضرب الغاية زوال الحكم بعدها وهذا دعوى لا فرق بينه وبين قول القائل الفائدة في

ذكر الصفة انتفاء الحكم مع انتفائها فأما نحن فقد بينا أن لفظة الغاية تفيد ما ذكرناه لا الفائدة
باب في الامر إذا قيد بعدد كيف القول فيه اعلم أن من الناس من قال إن الحكم إذا علق بعدد دل على أن ما عداه بخلافه ومنهم من قال لا يدل على ذلك كتعليق الحد بالثمانين ونحن نقول إنه ينبغي أن ينظر هل يدل تعليق الحكم بالعدد على حكم ما زاد عليه أم لا وهل يدل على حكم ما نقص منه أم لا فنقول إنه لا يدل على نفي الحكم عما زاد على العدد لأنه يجوز أن يكون في تعليقه بذلك العدد فائدة سوى نفيه عن الزيادة على ما سنذكره في دليل الخطاب
وقد يدل على ثبوت الحكم في الزيادة من جهة الأولى فان قول النبي صلى الله عليه و سلم إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا نعلم منه أن ما زاد عليها أولى بأن لا يحمل الخبث لأن القلتين موجودتان في الثلاث وزيادة ولو حظر الله علينا جلد الزاني مائة لكان حظر ما زاد على المائة أولى لأن المائة موجودة في المائتين وزيادة فأما إذا أباحنا جلد الزاني مائة أو أوجبه علينا فانه لا يدل على حكم ما زاد على ذلك لأنه ليس في اللفظ ذكر للزيادة ولا يقتضيه من جهة الأولى والفائدة
فأما تعليق الحكم بالعدد هل يدل على حكم ما نقص منه فانه ينظر فيه فان كان الحكم إيجابا فانه يدل على وجوب ما نقص عنه لأنه داخل تحته ويمنع من الاقتصار على ما دونه لأن الأمر قد أوجب استكمال العدد نحو أن يوجب الله سبحانه علينا جلد الزاني مائة فنعلم وجوب جلد خمسين وحظر

الاقتصار على ذلك وإن كان الحكم المعلق على العدد إباحة فانه يدل على إباحة ما دونه مما دخل تحته ولا يدل على إباحة ما دونه مما لم يدخل تحته مثال الأول يبيحنا جلد الزاني مائة فنعلم إباحة جلده خمسين وإذا علمنا أن الإباحة غير مقصورة على الخمسين لأن الخمسين داخلة تحت المائة وإذا أباحنا استعمال القلتين إذا وقعت فيها نجاسة علمنا إباحةاستعمال قلة منها ومثال الثاني أن يبيحنا استعمال القلتين فلا يدل ذلك على استعمال قلة واحدة وقعت فيها نجاسة ليست من جملة القلتين وكذلك إذا أباحنا الحكم بشهادة شاهدين فانه لا يدل على الحكم بشهادة شاهد واحد
فأما تعليق الحظر بالعدد فانه لا يدل على حكم ما دونه إلا من جهة الأولى فان الله سبحانه لو حظر علينا استعمال قلتين وقعت فيهما نجاسة لكان حظر قلة واحدة وقعت فيها نجاسة أولى ولو حظر علينا جلد الزاني مائة لم يدل على حظر ما دونه ولا على إباحته بل ذلك موقوف على الدليل لما سنذكره في دليل الخطاب فبان أن تعليق الحكم على العدد لا يدل على نفي ما زاد عليه أو نقص عنه ولا على إثبات ما زاد عليه أو نقص إلا باعتبار زائد
واحتج المخالف بأن الحكم لو ثبت فيما زاد على العدد المذكور لم يكن لذكر العدد فائدة والجواب عن ذلك ما سنذكره في دليل الخطاب وقالوا قد عقل النبي صلى الله عليه و سلم من قول الله سبحانه إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم أن ما زاد السبعين بخلاف السبعين فقال صلى الله عليه و سلم لأزيدن على السبعين وعقلت الأمة من جعل الجلد ثمانين حظر ما زاد عليه والجواب أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما علم ذلك بالبقاء على حكم الأصل لأن الأصل جواز العفو فلما علق الله سبحانه المنع من ذلك على السبعين بقي ما زاد على السبعين على حكم الأصل والأصل أيضا حظر الجلد فلما أوجب

الله سبحانه جلد القاذف ثمانين بقي ما زاد عليه على حكم الأصل فلهذا حظرت الأمة ما زاد على الثمانين
باب في الامر المقيد بالاسم ذهب الجمهور إلى أن الإيجاب والأخبار المقيدة بالأسامي لا تدل على حكم ما عداها نحو قول القائل زيد في الدار لا يدل على أن عمرا في الدار ولا على أنه ليس في الدار وكذلك إذا أمر بشيء فانه لا يدل على ان غيره ليس بواجب وقال بعضهم إن تعليق الحكم بالاسم يدل على أن ما عداه بخلافه
ودلينا أن قول القائل زيد آكل لا يفهم منه أن عمرا ليس بآكل وأيضا لو دل على ذلك لما حسن من الإنسان أن يخبر به إلا بعد أن يعلم أن غير زيد ليس بآكل لأنه إن لم يعلم ذلك كان قد أخبر بما يعلم أنه كاذب فيه أو بما لا يأمن أن يكون فيه كاذبا وفي علمنا باستحسان العقلاء الإخبار بأن زيدا آكل مع شك المخبر في كون غيره آكلا بل مع علمه بأن غير زيد آكل دليل على ما قلناه وأيضا فلو دل قولنا زيد آكل على أن غيره ليس بآكل لم يخل إما أن يدل عليه لفظا أو من حيث خصه بالذكر فالأول باطل لأنه ليس في اللفظة ذكر لعمرو ولا لغيره والثاني أيضا باطل لأن الإنسان قد يعلم أن زيدا وعمرا قد اشتركا في فعل ويكون له غرض في الإخبار عن أحدهما ولا يكون له غرض في الإخبار عن الآخر وقد يعلم أن الفعل يجب عليهما فيخص أحدهما بالأمر به ويدل الأخر على وجوب الفعل بلفظ آخر وبدليل آخر فإذا أمكن ذلك لم يدل الاختصاص على ما ذكروه
فان قالوا إذا أمر احدهما ولم يدل الاخر على وجوب الفعل علمنا أنه

غير واجب عليه إذ لو كان واجبا عليه لدل على وجوبه قيل فاذا الدال على سقوط الوجوب فقد دلالة الوجوب لا تعلق الأمر بزيد ألا ترى أن الأمر لو لم يتوجه إلى زيد لعلمنا نفي الوجوب عن عمرو بفقد دلالة الوجوب فعلمنا أن هذا هو الدليل لا ما ذكرتم
فإن قالوا إذا علق الله سبحانه الحكم على الاسم الخاص ولم يعلقه على الاسم العام علمنا أنه غير متعلق عليه إذ لو تعلق عليه لعلقه الله سبحانه عليه وذلك نحو أن يقول في الغنم الزكاة فنعلم أنه لو كانت الزكاة في النعم لعلق الزكاة عليها والجواب أن هذا يقتضي أن نعلم نفي الزكاة عما سوى الغنم لفقد دلالة تدل على وجوب الزكاة فيها لا لتعلق الحكم على الغنم وعلى أنه لا يمتنع أن تكون المصلحة أن يبين لنا حكم الغنم في ذلك الوقت بذلك الكلام ويبين لنا حكم غيرها بكلام آخر في وقت آخر
باب في الامر المقيد بصفة اختلف الناس في ذلك فقال معظم أصحاب الشافعي لو قال النبي صلى الله عليه و سلم زكوا عن الغنم السائمة لدل على أنه لا زكاة في غير السائمة واختلف هؤلاء في الخطاب المعلق بالاسم نحو قوله زكوا عن الغنم فقال معظمهم لا يدل على أن لا زكاة في غيرها وقال الأقلون يدل على ذلك وقال قوم إن الأمر وغيره إذا قيد بصفة لا يدل على أن ما عداه بخلافه وهو معظم المتكلمين ومعظم أصحاب أبي حنيفة واختلف هؤلاء في الخطاب المقيد بلفظة إنما فقال قوم لا يدل على أن ما عداه بخلافة وقال قوم منهم بل يدل على ذلك نحو قول الله سبحانه إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم

واختلفوا أيضا في الخطاب المعلق بشرط والخطاب المعلق بعدد فمنهم من أجراه مجرى الخطاب المعلق بصفة في أنه لا يدل على أن ما عداه بخلافة ومنهم من قال يدل على حكم ما عداه وخالف بينه و بين المعلق بصفة
وأما الخطاب المعلق بغاية فإنهم اتفقوا على أنه يعلم أن ما عدا الغاية بخلافها وقال الشيخ أبو عبد الله إن الخطاب المعلق بالصفة يدل على نفي الحكم عما عداها في حال ولا يدل عليه في حال فالحالة التي يدل فيها على ذلك أحد أمور ثلاثة إما أن يكون الخطاب واردا مورد البيان نحو قول النبي صلى الله عليه و سلم في سائمة الغنم الزكاة وإما أن يكون واردا مورد التعليم نحو خبر التحالف والسلعة قائمة وإما ان يكون ما عدا الصفة داخلا تحت الصفة نحو الحكم بالشاهدين يدل على نفيه عن الشاهد الواحد لأنه داخل تحت الشاهدين
والدليل على أن الخطاب المقيد بالصفة لا يدل على أن ما عداه بخلافه هو أنه لو دل عليه لدل عليه إما بصريحه ولفظه وإما بفائدته ومعناه وليس يدل عليه من كلا الوجهين فأذا ليس يدل عليه
فأما صريحه فإنه ليس فيه ذكر لما عدا الصفة ألا ترى أن قول القائل أدوا الزكاة عن الغنم السائمة ليس فيه ذكر المعلوفة فإن قيل أليس قول الله سبحانه فلا تقل لهما أف يدل بصريحه على المنع من ضربهما وليس في لفظه ذكر الضرب قيل الصحيح أنه إنما يدل من جهة الفحوى والأولى لأنه لما نهى عن القليل من الأذى كان بأن يمنع من الكثير من الأذى أولى على ما سنبينه فأما أن الخطاب المعلق بالصفة لا يدل على أن الحكم مع نفيها من جهة المعنى فهو أنه لو دل على ذلك لكان إنما يدل عليه بأن يقال إذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في الغنم السائمة زكاة علمنا أنه لو

كانت الزكاة في غير السائمة كما هي في السائمة لما تكلف ذكر السوم ولعلق الزكاة باسم الغنم لأن تكلف ذكر السوم مع تعلق الزكاة على مطلق اسم الغنم تكلف لما لا فائدة فيه وهذا باطل لأن في تكلف ذكر السوم فوائد أخر سوى نفي الزكاة عن المعلوفة وإذا أمكن ذلك بطل القول بأنه لا فائدة في ذكر السوم إلا انتفاء الزكاة عن المعلوفة يبين ما قلناه أنه قد يكون اللفظ لو أطلق في بعض المواضع لتوهم متوهم أن الصفة خارجة منه فيذكر الصفة لإزالة هذا الإيهام ويستدل من الجهة الأولى على ثبوت الحكم مع فقدها نحو أن يعلم الله سبحانه أنه لو قال ضحوا بشاة لتوهم متوهم أنه لم يرد العوراء فيقول ضحوا بشاة عوراء فيعلم جواز الأضحية بها وينبه بذلك على أن جواز الأضحية بالصحيحة أولى ولو قال الله سبحانه ولا تقتلوا أولادكم لتوهم متوهم أنه لم يرد قتلهم بخشية الإملاق فيقول الله سبحانه ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق لهذا الغرض
ومنها أن تكون البلوى قد وقعت بالصفة المذكورة وما عداها لم يشتبه على الناس فيقيد الله سبحانه الخطاب بالصفة نحو قوله سبحانه ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق
ومنها أن تكون المصلحة أن نعلم حكم الصفة بالنص ونعلم حكم ما عداها بالقياس عليها وليس يمتنع ذلك كما لم يمتنع أن تكون المصلحة أن نعرف حكم الستة أجناس بالنص ونعرف حكم ما عداها بالقياس عليها وإذا لم يمتنع ذلك جاز أن يدلنا الله سبحانه على حكم الصفة نصا وينبهنا على ثبوت الحكم مع نفيها من جهة القياس
ومنها أن تكون المصلحة أن نعرف حكم الصفة بنص ونعرف ثبوت ذلك الحكم فيما عداها بنص آخر ألا ترى أنه قد تكون المصلحة أن نعرف الحكم

تارة بخطاب وجيز وتارة بخطاب طويل وتارة بأن يقول النبي صلى الله عليه و سلم في الغنم زكاة وتارة بأن يقول في الغنم السائمة وفي المعلوفة زكاة وإذا جاز أن يقرن ذلك إلى قوله في الغنم السائمة فلم لا يجوز أن يفصل بينهما بأن يقدم ذكر المعلوفة على ذكر السائمة
ومنها أن تكون المصلحة أن نعرف حصول الحكم فيما عدا الصفة بحكم العقل نحو أن يكون الحكم المعلق بصفة حكم العقل مثاله أن يقول النبي صلى الله عليه لا تذبحوا الغنم السائمة أو لا زكاة فيها فيبقى على نفي الزكاة عن المعلوفة وعلى تحريم ذبحها لأن ذلك هو حكم العقل
ومنها أن تكون المصلحة أن يبقى الحكم مع نفي الصفة بقاء على حكم العقل لا لثبوت الحكم مع الصفة نحو أن يقول النبي صلى الله عليه في الغنم السائمة زكاة ولا نجد دليلا شرعيا يدلنا على ثبوتها في المعلوفة فتنفي الزكاة عن المعلوفة بقاء على حكم العقل وتكون مصلحتنا أن نعلم ذلك بالعقل
فأن قيل فاذا عرفتم بطلان هذه الأقسام كلها لم تجدوا دليلا يدل على ثبوت الزكاة في المعلوفة فنفيتم الزكاة فقد صرتم إلى مذهبنا قيل ليس الأمر كذلك لأنكم أنتم تنفون الزكاة عن المعلوفة لأجل تعليقها على السائمة ونحن ننفيها عن المعلوفة لأنه حكم العقل ولم ينقلنا عنه دليل شرعي وبين الأمرين فرقان يبين ذلك أن استدلالنا نحن لا يقف على تعليق الزكاة على السوم بل سواء علقت عليه أو لم تعلق واستدلالكم يقف على تعليق الزكاة على السوم ونحن إنما نطلب هل في الشرع ما يدل على ثبوت الزكاة في المعلوفة أم لا لنعلم هل في الشرع ما يمنع من حكم العقل وإطلاقه أم لا وأنتم تطلبون هل في الشرع ما يدل على ثبوت الزكاة في المعلوفة لتنظروا هل في الشرع ما يمنع من دلالة تعلق الحكم على الصفة على نفيه عما عداها أم لا ويبين الفرق بيننا أنه لو كان المعلق بالصفة هو حكم العقل بأن يقول النبي صلى الله عليه و سلم لا تذبحوا السائمة لحرمنا ذبح المعلوفة بقاء على حكم الأصل إذا لم ينقلنا على

ذلك دليل شرعي وأنتم تبيحون ذبح المعلوفة لأجل حظر ذبح السائمة فقد بان الفرق بين الطريقتين فان قيل أيجوز ان يكون الحكم إنما علق بالسوم لأنه منتف عما عداه قيل يجوز ذلك ويجوز ما ذكرناه فلذلك توقفنا فيه فان قالوا إنه وإن جاز ما ذكرتموه من الفوائد فالظاهر أنه إنما علق الحكم بالسوم لأجل انتفائه عما عداه لا لما ذكرتم قيل ليس ها هنا لفظ متناول للفوائد فيقال إن الظاهر منه وقوعه على بعضها دون بعض فان قالوا معنى قولنا الظاهر يقتضي ما قلناه أن الأكثر من الحكم إذا علق على صفة أنه لا فائدة فيه إلا لأجل انتفائه عما عداه قيل لهم لم زعمتم أن الأكثر والأغلب ما قلتم وعلى أنه لو كان الأكثر من الفائدة والأغلب ما قلتم لأدى ذلك إلى غالب الظن بأنه إنما علق الحكم بالصفة لانتفائها عما عداها ولا يؤدي إلى القطع ألا ترى أنه يجوز ما قلناه من الفوائد وإن كان قليلا نادرا
دليل قد استدل بعضهم على أن تعليق الحكم بالصفة لا يدل على نفيه عما عدا الصفة من جهة الفائدة فقال لو لم يكن في ذلك فائدة إلا إذا كان الحكم منتفيا عما عدا الصفة لما جاز أن يدل دلالة منفصلة على ثبوت الحكم فيما عداها لأن الدلالة إذا دلت على ذلك فقد دلت على إبطال فائدة الخطاب وذلك لا يجوز في خطاب الحكيم فان قالوا إنما نقول إن الحكم لو ثبت فيما عدا الصفة لما كان لذكر الصفة فائدة إذا كان المتكلم قد خص الصفة بالحكم وإنما يكون قد خصها بالحكم إذا لم يدل دلالة على ثبوت الحكم مع عدمها قيل لهم فيجب استدلالكم على انتفاء الحكم فيما عدا الصفة على أن تفحصوا عن الأدلة فلا يجدوا دليلا عقليا ولا سمعيا يدل على ثبوت الحكم مع انتفاء الصفة وليس هذا من مذهبكم بل من مذهبكم أن نفس تعلق الحكم بالصفة يدل على انتفائه عما عداها وإنما تفتشون عن الأدلة لتعلموا هل فيها ما يعارض هذا الدليل أم لا فلا تفتشون عنها لأن استدلالكم بدليل الخطاب موقوف على ذلك كما يفتش أصحاب العموم عن الأدلة ليعلموا هل فيها ما يخص العموم أم لا ولا يفتشون عنها لأن استدلالهم بالعموم موقوف عليه فان

قالوا إنما يجوز قيام الدلالة على ثبوت الحكم فيما عدا الصفة ولا يكون ذلك مبطلا لفائدة تعليق الحكم بالصفة لأن الظاهر من تعليق الحكم بالصفة انتفاؤه عما عداها وليس يمتنع قيام الدلالة على خلاف الظاهر كما نقوله في تخصيص العموم قيل قد بينا أنه لا يمكن أن يقال فيما ليس بلفظ أن الظاهر منه كيت وكيت إلا على معنى الأكثر والأغلب وإن ذلك إنما يفيد غالب الظن لا العلم
دليل آخر في المسألة لو دل الخطاب المتعلق بالصفة على حكم ما عداها لدل الخبر على ذلك ومعلوم أن الإنسان إذا قال زيد الطويل في الدار لم يدل على أن القصير ليس في الدار ولا على أنه فيها فكذلك الخطاب إذا كان أمرا فان قيل الفرق بين الأمر والخبر أن المخبر قد يكون له غرض في الإخبار عن زيد ولا يكون له غرض في الإخبار عن عمرو وأما المكلف فان غرضه أن يبين جميع ما يجب على المكلف فاذا قال زكوا عن الغنم السائمة علمنا أنه لو كانت الزكاة في جميع الغنم لعلق الزكاة بمطلق الاسم قيل إنه كما يجوز أن يكون غرض المخبر ما ذكرتم فقد يكون غرض المكلف أن يعرفنا حكم السوم بلفظ ويعرفنا حكم ما عدا السوم بلفظ آخر وبدليل ليس بلفظ وإذا جاز ذلك لم يفترقا
دليل آخر استدل الشيخ أبو عبد الله وقاضي القضاة فقالا إن تعليق الحكم بالصفة يجري مجرى تعليقه بالاسم وتعليقه بالاسم لا يدل على انتفائه عما عداه وأما تعليق الحكم بالاسم فقد بينا أنه لا يدل على انتفائه عما عداه وأما تعليق الحكم بالاسم فقد بينا أنه لا يدل على انتفائه عما عداه وأما أن تعليقه بالصفة يجري مجرى تعليقه بالاسم فبيان ذلك أن الاسم وضع ليتميز به بين المسمى من غيره وكذلك الصفة أضيفت إلى الاسم عند وقوع الاشتراك فيه ليتميز أحد المسمين من الآخر مثال ذلك وقوع اسم زيد على البصري والكوفي فنضيف البصري إلى زيد ليتميز به كما يتميز منه باسم يخصه لا

يشاركه فيه الكوفي وكما أن تعليق الحكم بذلك لا يدل على انتفائه عن الكوفي فكذلك تعليقه بالصفة ولمعترض أن ينقض ذلك بالغاية لأنها تخص الزمام وتجري مجرى اسم يختص بذلك الزمان ومع ذلك فان تعليق الحكم بها يدل على انتفائه عما عداها بخلاف الأسماء وينتقص بالشرط عند من قال إنه يدل على انتفائه عما عداه لأنه قد خص ما دخل عليه ألا ترى أنك إذا قلت اعط زيدا درهما إن دخل الدار فقد خصصت هذه الحالة بالعطية وميزتها كما تميزها باسم لو كان لها وقد دل على انتفاء الحكم عما عدا الشرط ولقائل أن يقول ولم إذا جرت الصفة مجرى الاسم في التمييز كان حكمها في كل شيء حكمه وما أنكرتم أنه ليس العلة في أن تعليق الحكم بالاسم لا يدل على نفيه عما عداه كما ذكرتم فان قيل إنما لم يدل على ذلك لأنه ليس في اللفظ ذكر لما عدا الاسم وذلك قائم في الصفة قيل هذا عدول إلى دليل آخر يمكن الاعتماد عليه بنفسه وللمخالف أن يقول هذا إنما يدل على أن تعليق الحكم بالصفة لا يدل من جهة اللفظ على نفيه عما عدا الصفة ولا يدل على انه لا يقتضي ذلك من جهة الفائدة
دليل آخر وقد استدل على ذلك فقيل قد فرق أهل اللغة بين المعطف وبين النقض فقالوا إن قول القائل اضرب الرجال الطوال والقصار عطف وليس بنقض فلو كان قوله اضرب الرجال الطوال يدل على نفي ضرب القصار لكان قوله والقصار نقضا لا عطفا ولقائل أن يقول إنما يدل على نفي ضرب القصار تخصيص الطوال بالذكر في الحال وإذا عطف عليهم القصار لم يكن قد خصهم في الخطاب بالذكر فلم يوجد الدلالة على نفي ضرب القصار على الحد الذي يدل معه وأتى بعدها ما ينقضها فيكون نقضا وليس كذلك إذا قال القائل لغيره ضربت زيدا الآن في هذا المكان لم أضربه الآن في هذا المكان لأن الكلام الأول يدل تصريحه على ضربه والآخر يدل تصريحه على نفي ضربه فكل واحد منهما قد وجد على الوجه الذي لكونه عليه يكون دليلا على ما يدل عليه اللهم إلا أن يكون المتكلم ما عني بهما شيئا

أو لم يعن بأحدهما شيئا فيكون قد لغا بهما أو بأحدهما وعلى أنه باطل بالغاية والشرط لأن الإنسان إذا قال لغيره صم إلى غروب الشمس أفاد ذلك نفي الصوم بعد غروبها ولو قال صم إلى غروب الشمس وإلى طلوع القمر لم يكن ذلك نقضا ولو قال أعط زيدا درهما إن دخل الدار ولم يدل دليل على ثبوت شرط آخر لم تثبت العطية إذا لم يدخل الدار ولو قال له أعطه درهما إن دخل الدار وإن دخل السوق أفاد وجوب العطية إن دخل السوق ولم يكن ذلك نقضا
وأما القول بأن تعليق الحكم بالصفة إذا خرج مخرج البيان دل على أن ما عداها بخلافه فلا يصح لأن اللفظ إنما يكون بيانا لمجمل إذا كان دالا إما بموضوعه أو بمعناه على المراد بالمجمل ومعلوم أن تعليق الحكم بالصفة ليس فيه ذكر ما عدا الصفة ولا يدل من جهة المعنى على ما عدا الصفة فلم يجز أن يقصد به البيان كما عدا الصفة إذا كان هناك آية مجملة فان قيل إذا كان هناك آية مجملة وورد بيان له يعلق بالصفة علمنا انتفاء الحكم عما عدا الصفة لعلمنا أن ما عدا الصفة لو أريد بالمجمل لبين لأن البيان لا يتأخر قيل إذا الدال على انتفاء الحكم عما عدا الصفة هو فقد البيان لا تعليق الحكم بالصفة ألا ترى أن الحكم لو لم يتعلق بالصفة لعلمنا انتفاؤه عما عداها إذا لم يجد بيان حكمهما لعلمنا أن البيان لا يتأخر
وأما القول بأن تعليق الحكم بالصفة يدل على حكم ما عداها إذا خرج مخرج التعليم فلقائل أن يقول إن كل خطاب النبي صلى الله عليه و سلم يتضمن حكما فهو خارج مخرج التعليم فلا معنى لهذه القسمة إلا أن يراد بذلك أن يعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم قصد بذكر الصفة أن يعلق عليها جميع الحكم ومتى أريد ذلك فان الدال على انتفاء الحكم مع عدم الصفة هو علمنا من قصد النبي صلى الله عليه و سلم أنه قصر الحكم كله على الصفة
وأما القول بأن الحكم المعلق بالصفة يدل على أن ما عداها بخلافه إذا دخل

==============================

ج2. كتاب : المعتمد في أصول الفقه محمد بن علي بن الطيب البصري


ما عداها تحتها نحو الشاهد الواحد لأنه داخل في جملة الشاهدين فقد تقدم القول فيه في تعليق الحكم بالعدد
فأما الصفة إذا علق عليها لفظة إنما وعلق عليها الحكم نحو قول النبي صلى الله عليه و سلم إنما الأعمال بالنيات فقد ذهب بعض الناس إلى أن لفظة إنما تقطع الحكم عما عدا المذكور قالوا لأن المفهوم من قول القائل إنما في الدار زيد أنه ليس فيها سواه ألا ترى أنك إذا قلت هل في الدار غير زيد فقيل لك في الجواب إنما في الدار زيد عقلت من ذلك أنه ليس فيها سواه وقال قوم إن ذلك لا يدل على نفي الحكم عما عدا الصفة لأن لفظة إنما مركبة من إن و ما ولو أن قائلا قال إن زيدا في الدار لم يدل ذلك على أن غيره ليس في الدار فكذلك إذا قال إنما في الدار زيد لأن لفظة ما دخلت في الكلام للتأكيد لا غير هذا هو المحكي عن أهل اللغة
واحتج القائلون بدليل الخطاب بأشياء
منها أن أهل اللغة فرقوا بين الخطاب المطلق والمقيد بصفة كما فرقوا بين الخطاب المرسل وبين الخطاب المقيد بالإستثناء فكما دل الاستثناء على أن حكم المستثنى غير حكم المستثنى منه كذلك تدل الصفة على أن حكم ما عداها بخلاف حكمها والجواب أنا نحن نفرق بين مطلق الخطاب وبين المقيد بالصفة فنقطع على ثبوت الحكم في مطلق الخطاب اختص بصفات أو لم يختص بها ولا نقطع على ثبوت الحكم في الخطاب المقيد بالصفة إلا مع وجود الصفة ونشك في ثبوته مع فقدها وفي مطلق الخطاب لا نشك في ثبوته مع فقدها وقولهم كما فرقوا بين الخطاب المرسل والمقيد بالاستثناء إن عنوا به أنهم فرقوا بين المطلق والمقيد او بين المرسل والمستثنى منه من كل وجه فلا نسلمه وإن أرادوا أنهم فرقوا بين المطلق والمقيد كما فرقوا بين المرسل والمستثنى منه من وجه دون وجه فذلك مسلم ولا يجيء منه ما يريدونه لأن

الخطاب المقيد بالصفة يقتضي ثبوت الحكم مع الصفة ولا يقتضي عما عداها والخطاب المستثنى منه يقتضي ثبوت الحكم فيما لم يتناوله الاستثناء فقد اشتركا من هذه الجهة وإن اختص الخطاب المستثنى منه بوجه زائد وهو الدلالة على انتفاء الحكم عن المستثنى وإنما انفرد بذلك لأن الاستثناء يخرج من الكلام شيئا ويقتضي نفي جكم الكلام عنه والصفة لا تنفي شيئا
ومنها قولهم يجب أن تدل الصفة على انتفاء الحكم عما عداها لتكون أعم لدلالتها والجواب أنه ليس يجب أن يجعل الحكم من مدلول اللفظة لتكثر فوائدها وتعم وإنما يجعل من مدلولنا إذا وضعت له أو وضعت لما يدل عليه مثل فحوى القول ألا ترى أنه لا يجوز أن يجعل قول الله سبحانه اقتلوا المشركين دليلا على قتل غيرهم لتكثر فوائده لما لم يكن ذلك موضوعا لغير المشركين
ومنها قولهم إن الحكيم إذا أتى بكلام عام لأنواع فلم يعلق به الحكم إلا بعد أن قيده بصفة تتناول بعض تلك الأنواع علمنا أن ذلك الحكم لا يعم تلك الأنواع إذا لو عمها لم يكن لتكلف ذكر الصفة فائدة والجواب أنه قد يكون في ذكرها فائدة غير انتفاء الحكم مع عدمها لما ذكرناه فيما تقدم
ومنها قولهم إن المقيد بالصفة يجري مجرى فحوى القول في الدلالة على غير ما تناوله اللفظ فكما دل قوله فلا تقل لهما اف على المنع من ضربهما إن لم يتناوله فكذلك يدل التقييد بالصفة على نفي الحكم مع عدمها والجواب أن هذا قياس بغير علة وأصحابنا يقولون إن قول الله سبحانه فلا تقل لهما أف موضوع للمنع من ضربهما ولا يسلمون أن الخطاب المقيد بالصفة موضوع لنفي الحكم عما عداها ومن قال إن قوله

ولا تقل لهما اف يمنع من ضربهما من جهة قياس الأولى يقول إنه إذا منع من اليسير فالأولى أن يمنع من الكثير وهذا غير قائم في دليل الخطاب لأنه ليس هو استدلال باليسير على الكثير
ومنها قولهم إن الأمة قد فهمت الأحكام من دليل الخطاب لأنها عقلت من قول الله سبحانه فلا تقل لهما اف إيجاب إكرامهما وقالت الصحابة إن قول النبي صلى الله عليه و سلم الماء من الماء منسوخ بقوله إذا التقى الختانان وجب الغسل فلو لم يدل عندها قوله الماء من الماء على نفي الغسل مما سوى الماء لم يجعل ذلك ناسخا لهذا لأنه لا تنافي بينهما وكذلك استدلال أبي بكر رضي الله عنه عن اختصاص قريش بالإمامة لقول النبي صلى الله عليه و سلم الأئمة من قريش واستدلال ابن عباس على أنه لا ربا في النقد لقول النبي صلى الله عليه و سلم إنما الربا في النسيئة والجواب إن وجوب إكرام الأبوين إنما فهم من قول الله سبحانه وقل لهما قولا كريما ولو فهم من قوله فلا تقل لهما أف لم يكن ذلك من قبيل دليل الخطاب لكنه من قبيل دلالة النهي عن الشيء على وجوب ضده وأما قول النبي صلى الله عليه و سلم الماء من الماء فانه يقتضي ثبوت حسن الغسل وجمعه في الإنزال لأن لام الجنس تستغرق فلا يبقى غسل لغير الإنزال فاذا قال النبي صلى الله عليه و سلم إذا التقى الختانان وجب الغسل كان قد أثبت الغسل فيما نفاه الخطاب الأول وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله الأئمة من قريش يقتضي جعل جملة الأئمة وجميعهم من قريش فلا يبقى إمام من غيرهم فلهذا استدل أبو بكر رضي الله عنه على نفي الإمامة عن الأنصار وكذلك استدل ابن عباس بقول النبي صلى الله عليه و سلم إنما الربا في النسيئة على أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لا ماء إلا من الماء وهذا ينافيه قوله صلى الله عليه و سلم إذا التقى الختانان وجب الغسل فلذلك كان ناسخا

له وروي أيضا لا ربا إلا في النسيئة فلعله إنما نفي الربا في النقد لهذا الخبر
ومنها قولهم إن أبا عبيد القاسم بن سلام قال إن قول النبي صلى الله عليه و سلم لي الواجد يحل عرضه وعقوبته يدل على أن لي غير الواجد لا يحل عرضه ولا عقوبته وهذا دليل الخطاب والجواب أن قوله وحده ليس بحجة ولعله إنما أراد أنا نعلم أن غير الواجد لا يحل عرضه وهذا صحيح لأن غير الواجد معذور ولا يحل عقوبة من لا يجد ولأن الأصل حظر العرض والعقوبة فلا تحل إلا لدلالة قالوا وقد روي عن أبي عبيد أنه قال إن قول النبي صلى الله عليه و سلم لأن يمتليء جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلىء شعرا يدل على أنه إذا لم يمتلىء بالشعر وكان فيه القليل كان مباحا قال ولا ينصرف ذلك إلى هجاء النبي صلى الله عليه و سلم لأن قليل ذلك وكثيره محظور والجواب أن قوله وحده ليس بحجة كما أن قول محمد بن الحسن والشافعي ليس بحجة وإنما عنى النبي صلى الله عليه و سلم بامتلاء القلب من الشعر أن يوجد فيه وحده كما يمتلىء الإناء بالماء إذا وجد الماء وحده في جميعه فيشغله الشعر عن قراءة القرآن والعبادة وهذا تناول هجاء النبي صلى الله عليه و سلم وغيره فأما إذا لم يمتلىء من الشعر فأمره موقوف يجوز أن يكون فيه وجه آخر يقتضي حظره ويجوز أن يقتضي إباحته فهجاء النبي صلى الله عليه و سلم نعلم حظر قليله وكثيره
باب في الأمر الوارد عقيب الامر بحرف عطف وبغير حرف عطف اعلم أن القائل إذا قال لغيره افعل ثم قال له افعل لم يخل الأمر الثاني إما أن يتناول مثل ما تناوله الأمر الأول أو يتناول ما يخالف ما تناوله الأمر الأول فان تناول ما يخالفه لم يكن شبهة في اقتضائه مأمورا به آخر وهو ضربان أحدهما يصح اجتماعه معه يجب على المأمور فعلهما إما مجتمعين وإما

متفرقين إلا أن يدل دلالة على وجوب الجمع أو وجوب التفريق مثال ذلك قول القائل لغيره صل صم أو صل وصم وأما ما لايصح أن يجتمع مع الأول فضربان أحدهما لا يصح أن يجتمع معه في نفسه نحو الصلاة في مكانين والآخر لا يصح ذلك فيهما من جهة الشريعة نحو الصلاة والصدقة وكلا الضربين لا يصح الأمر بفعلهما مجتمعين ويصح مفترقين
فأما إن تناول الأمر الثاني مثل ما تناول الأول فلا يخلو إما أن يكون ذلك المأمور يصح التزايد فيه أو لا يصح التزايد فيه فان صح التزايد فيه فلا يخلو الأمر الثاني إما أن يكون غير معطوف على الأول أو معطوفا عليه فان لم يكن معطوفا عليه فعند قاضي القضاة أنه يفيد غير ما يفيده الأول إلا أن تمنع العادة من ذلك أو يرد الأمر الثاني معرفا مثال ما تمنع منه العادة قول القائل لغيره اسقني ماء اسقني ماء فالعادة تمنع من تكرار سقيه في حالة واحدة في الأكثر ومثال ما يمنع منه التعريف الحاصل بالأمر الثاني قول القائل لغيره صل ركعتين فإنه إذا قال له صل الركعتين انصرف إلى تلك الركعتين لأن لام الجنس تنصرف إلى العهد المذكور ولهذا حمل ابن عباس قول الله سبحانه فان مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا على أن العسر الثاني هو الأول لما ورد معرفا ومثال ما يجري من كلا القسمين قول القائل لغيره صل غدا ركعتين صل غدا ركعتين ادفع إلى زيد درهما ادفع إلى زيد درهما فاستدل قاضي القضاة على أن الأمر الثاني يفيد غير ما يفيده الأول بأن الأمر يفيد الوجوب أو الندب فيجب أن يفيده وإن تقدمه أمر آخر لأنه ليس يتغير صيغة بتقدم أمر آخر
ولقائل أن يقول يفيد وجوب الفعل أو كونه ندبا وخلافنا في هل يفيد وجوب فعل آخر أم لا وليس في ظاهره أنه يفيد غير ما افاده الأول فان قيل الأمر الثاني لو انفرد لوجب الفعل لأجله فيجب ذلك وإن تقدمه أمر

آخر وإذا وجب الفعل لأجله لم يكن ذلك الفعل هو الذي تناوله الأمر الأول لأنه لو تناوله الأول لوجب لأجل الأول
ولقائل أن يقول إذا أردتم بقولكم يجب الفعل لأجله أنه دليل على وجوب الفعل فكذلك نقول وذلك لا يمنع من أن يجب لأجل دليل آخر وإن أردتم أنه لو انفرد الأمر لوجب الفعل لأجله لا لأجل الأمر الأول فصحيح غير أن يكون الفعل واجبا لا لأجل أمر آخر ليس هو من فائدة الأمر حتى يلزم أن يقتضيه وإن تقدمه أمر آخر لكن إنما يلزم ذلك لفقد أمر سواه وهذا قائم في مسألتنا
واستدل أيضا بأن المعقول من الأمر الثاني في الشاهد مأمور ثان وهذه دعوى لا يسلمها الخصم واستدل أيضا بأن الظاهر من تغاير الألفاظ تغاير المعنى وللخصم أن يمنع من ذلك فان قالوا إنما كان هذا هو الظاهر ليكون للكلام الثاني فائدة قيل فذلك رجوع إلى دليل آخر سنذكره
ويمكن أن يستدل في المسألة فيقال إن الغرض بالأمر هو استدعاء الفعل لأنه هو المطابق لصيغته فلا يخلو الأمر الثاني إما أن يكون فعل لاستدعاء الفعل الأول أو لغيره فان فعل للاستدعاء الأول فقد فعل الغرض ما قد حصل بالأول وذلك عبث فوجب حمله على فعل آخر فان قيل ما أنكرتم أن يكون الغرض تأكيد الحث على الفعل واستدعائه قيل ليس في ظاهره التأكيد وإنما في ظاهره الفعل فحمله على التأكيد حمل على غير ظاهره فان قالوا وليس في ظاهره فعل ثان كما ليس في ظاهره التأكيد قيل نحن إذا حملناه على فعل ثان فقد حملناه على الفعل وذلك في ظاهره ولقائل أن يقول ونحن إذا حملناه على التأكيد فانا نحمله على فعل ايضا وبالجملة كل منا يحمله على فعل فأنتم تريدون فيه أن يكون الفعل ثانيا ونحن نريد فيه التأكيد وليس واحد منهما في ظاهر الأمر والأشبه أن يقال في ذلك بالوقف
وأما إن كان الأمر الثاني معطوفا على الأول فأنه إن لم يكن معرفا فانه

يفيد غير ما يفيده الأول لأن الشيء لا يعطف على نفسه ولا يجمع بينه وبين نفسه مثاله أن يقول القائل لغيره صل ركعتين صل ركعتين وقوله اسقني ماء واسقني ماء لأن الإنسان قد يقول ذلك إذا كان الإناء الذي يشرب فيه لا يكفيه دفعة واحدة ويخالف ذلك إذا لم يعطف الأمر الثاني على الأول لما ذكرناه من حرف العطف فأما إن كان الأمر الثاني معطوفا على الأول ومعرفا نحو قول القائل لغيره صل ركعتين وصل الصلاة فلقائل أن يقول يجب حمله على تلك الصلاة لأجل لام التعريف ولقائل أن يقول يجب حمله على صلاة أخرى لأجل العطف لأنا إن حملناه على التأكيد أخرجناه من كونه عطفا أصلا وإذا نفينا حكم العطف فانا لا نخرج اللام من أن يكون للتعريف وإن جعلناها لتعريف الجنس والأشبه أن يكون ذلك على الوقف لأنه ليس بأن يترك ظاهر العطف ويستعمل اللام على حقيقتها في تعريف العهد بأولى من أن يتمسك بظاهر العطف ويترك ظاهر اللام فأما إذا كان الأمر الثاني أمرا بمثل ما تناوله الأمر الأول وكان ذلك مما لا يصح فيه التزايد فلا يخلو إما أن لا يصح ذلك فيه في نفسه نحو قتل زيد أو صوم يوم وإما أن لا يصح فيه من جهة الحكم نحو عتق زيد فانه قد كان يجوز أن يتزايد عتقه ويقف تمام حريته على عدد كالطلاق وإذا لم يصح التزايد في المأمور به لم يخل الأمر إما أن يكونا عامين أو خاصين أو أحدهما عاما والآخر خاصا فان كانا عامين أو خاصين وجب كون مأمورهما واحدا ويكون الأمر الثاني تأكيدا للأول سواء ورد بحرف عطف أو بغير حرف عطف مثال العامين بحرف عطف قول القائل لغيره اقتل كل إنسان واقتل كل إنسان ومثاله بلا حرف عطف أن يسقط من الأمر الثاني حرف العطف ومثال الخاصين بحرف عطف وبغير حرف عطف قوله اقتل زيدا اقتل زيدا أو واقتل زيدا وأما إذا كان أحدهما عاما والآخر خاصا سواء تقدم العام أو الخاص فلا يخلو الأمر الثاني إما أن يكون معطوفا على الأول أو غير معطوف عليه فان كان معطوفا عليه فمثاله قول القائل صم كل يوم وصم يوم

الجمعة قال قاضي القضاة إن يوم الجمعة لا يكون داخلا تحت الكلام الأول ليصح حكم العطف والأشبه أن يكون الوقف لأنه ليس بأن يترك ظاهر العموم بأولى من أن يترك ظاهر العطف ويحمل على التاكيد
فأما إذا كان الأمر الثاني غير معطوف فمثاله قول القائل لغيره صم كل يوم صم يوم الجمعة فانا إذا قلنا في الأمرين بشيئين يصح فيهما التزايد أنهما على الوقف في اقتضاء الثاني للزيادة فانا لا نقف ها هنا لأن عموم أحد الأمرين دلالة على أن الآخر ورد تأكيدا لأنه لم يبق من ذلك الجنس شيء لم يدخل تحت العام ومن لم يقف فيما يصح الزائد فيه فانه يمكنه أن يقف ها هنا لأن ظاهر الأمر الثاني يفيد غير ما يفيده الأول على قوله وظاهر العموم في الأمر الأول يفيد الاستغراق فليس استعمال احد الظاهرين أولى من استعمال الآخر
باب في في شروط حسن الامر اعلم أن الأمر لما كان صادرا من آمر إلى مأمور بمأمور به في زمان لم يمنع أن يرجع شروط حسنه إليه وإلى الآمر والمأمور والمأمور به والزمان
فالشروط الراجعة إلى المأمور به ضربان
أحدهما أن يكون صحيحا غير مستحيل في نفسه كالجمع بين الضدين وكنحو فعل الشيء في زمان متقدم أو فعله في حال هو فيها معدوم أو إيجاد الموجود أو فعل الأفعال الكثيرة في زمان لا يتسع لها وهذه الأقسام أيضا الداخلة في الشرائط الراجعة إلى الزمان وأما الضرب الآخر فان يكون للفعل صفة زائدة على حسنه إما أن يكون على صفة الندب أو الوجوب او يتعلق به نفع ودفع الضرر في الدنيا

وأما الشروط الراجعة إلى المأمور فضربان أحدهما يرجع إلى تمكنه والآخر يرجع إلى دواعيه أما الراجع إلى تمكنه فأن يكون متمكنا من الفعل بحصول جميع ما يحتاج الفعل إليه في الوقت الذي يحتاج الفعل أن يوجد فيه كان الشيء يجتاج الفعل إليه في وقت وجوده وجب وجوده في ذلك الوقت وإن احتاج إليه قبل وجوده أو في حال وجوده وقبل وجوده معا وجب وجوده كذلك وهذه الأشياء ضربان أحدهما يحتاج إليها جميع الأفعال كالقدر وفقد المنع والآخر يحتاج إليه فعل دون فعل فالفعل المحكم يحتاج إلى العلم فقد يحتاج وقوعه منا إلى إله والفعل الواقع على وجه دون وجه يجتاج عند أصحابنا إلى إرادة والمسبب يحتاج إلى السبب والعلم يحتاج في إيقاعه إلى دلالة ويحتاج الظن إلى أمارة ويجب أن يتقدم الدلالة قدرا من التمكن يمكن معه أن ينظر فيها الانسان فيعلم وجوب الفعل أو كونه ندبا او معربا لما وجب بالفعل ثم يفعل الفعل في الوقت الذي وجب إيقاعه فيه ولا فرق بين أن تكون الدلالة على ذلك أمرا أو غيره وكذلك القول في الأمارة
فأما الكلام في تقدم العلم والقدرة والإرادة وأقسام الآلات المتقدمة والمقارنة فليس مما يحتاج إليه في أصول الفقه وهذه الأشياء ضربان أحدهما لا يمكن الإنسان تحصيله لنفسه كالقدرة وكثير من الآلات فلا يجوز أن يفوض إلى الإنسان تحصيله والآخر يمكن الإنسان تحصيله كالعلم وكثير من الآلات فيجوز تكليف تحصيله إذا كان في ذلك مصلحة
وأما الراجع إلى دواعيه فأن يكون متردد الداعي بالألطاف وغيرها غير ملجأ ولا مستغنى
وأما الشرائط الراجعة إلى الأمر فأشياء
أحدها أن لا يكون ابتداء وجوده مقارنا لحال الفعل وذلك قد دخل فيما تقدم من الفعل الذي لا يمكن في نفسه

وأحدها أن يكون متقدما قدرا من التقدم ويحتاج إليه في الفعل وذلك داخل في تمكين المكلف
وأحدها أن لا يكون واردا على وجه يكون مفسدة
وأما الشرائط الراجعة إلى الآمر فتختلف بحسب الآمرين فان كان الآمر هو الله عز و جل وجب أن يعلم من حال المكلف والمأمور به والأمر ما ذكرناه وأن يكون غرضه تعريض المكلف للثواب وأن يكون عالما بأنه سيشيبه إن أطاع ولم تحبط طاعته وإن كان الآمر لا يعلم الغيب وجب أن يعلم حسن ما أمر به وثبوت غرض فيه إما له أو لغيره وأن يظن أن المكلف سيتمكن من فعل التمكن الذي ذكرناه والدلالة على اشتراط ما ذكرناه هو أن الله سبحانه مع حكمته لا يجوز أن يلزمنا المشاق مع إمكان إلزامه إيانا غير شاق إلا ليجعل في مقابلته الثواب وإلا جرى إلزامه الشاق مجرى ابتداء المضار من غير نفع ولا يكون غرضه ما ذكرناه إلا وهو سيثيب المطيع فاذا كان عالما بما يكون فهو عالم أنه يفعل ذلك ولا يكون غرضه ما ذكرناه إلا وقد أزاح علل المكلف بالتمكن وتردد الدواعي التي يزول معها الإلجاء ويدخل في ذلك الألطاف ورفع المفاسد فلذلك لم يرد الأمر منه تعالى على وجه المفسدة ولأنه إن لم يكن المكلف متمكنا من الأمور التي ذكرناها في الوقت الذي يحتاج إليه الفعل كان قد كلفه ما لا يطيقه وقد دخل في ذلك ما يجب أن يتقدم من التمكين والأدلة والأمارات وقد دخل تحت تمكن المكلف من الفعل أن يكون الفعل غير مستحيل في نفسه لأنه لا يجوز أن يتمكن القادر من فعل ما يستحيل في نفسه فقد دخلت الشرائط المذكورة تحت ما ذكرناه
وقد ذهب قوم إلى أن الأمر بالفعل مقارن لحال الفعل وأن ما تقدمه يكون إعلاما وعندنا أن الأمر لا يجوز أن يبتدىء به في حال الفعل بل لا بد من تقدمه قدرا من الزمن يمكن من الاستدلال به على وجوب المأمور به أو كونه مرعيا فيه ويفعل الفعل في حال وجوبه فيه ولا يجوز تقدمه على ذلك إلا

لغرض ويجوز أن يتقدم على ذلك الغرض مصلحة ولا فرق بين أن يكون المأمور متمكنا من الفعل من حين الأمر إلى وقت الفعل أو غير متمكن من حين الأمر
والدليل على وجوب تقدمه القدر الذي ذكرناه أنه لو لم يتقدمه هذا القدر لم يتمكن المكلف أن يعلم وجوب الفعل قبل وقته فيدعوه إلى فعله على نية الوجوب في الوقت الذي وجب عليه إيقاعه فيه وذلك تكليف ما لا يطاق وقولهم إن ما تقدم الفعل يكون إعلاما إن أرادوا أنه إعلام بحال الفعل فكذلك نقول وذلك لا يمنع من كونه أمرا ألا ترى أن أمر القرآن متقدم لأفعالنا وهو أمر لنا باتفاق والواحد منا يأمر غيره قبل حال الفعل فيسمى ذلك أمرا وإن أرادوا أنه إعلام بورود أمر آخر في حال الفعل فليس في ظاهر الأمر ذلك على أن ورود الأمر في حال الفعل عبث لأنه لا يتمكن أن يستدل به على وجوب الفعل ولا على أنه مرغب فيه ويشبه أن يكونوا أرادوا أن الأمر إذا تقدم حال الفعل لم يسم أمرا فاذا حضر زمان الفعل فحينئذ يسمى ما تقدم من الأمر أمرا وهذا باطل لإجماع المسلمين على أن الواحد منا مأمور بالصلاة قبل وجود وقتها والدلالة على قبح تقدم الأمر على القدر الذي ذكرناه لا لغرض وفائدة أن ما لا غرض فيه عبث والعبث قبيح لا يفعله الحكيم والدلالة على جواز تقدمه على هذا القدر الغرض أنه بذلك يخرج عن كونه عبثا ولهذا حسن تقديم الله سبحانه أمره إيانا بالصلاة والدلالة على حسن تقدمه وإن كان المكلف عاجزا في الحال إذا كان يتمكن وقت الحاجة أن تمكن المكلف في ذلك الوقت لا يحتاج إليه الفعل وكان وجوده وعدمه فيما يرجع إلى الفعل بمنزلة فحسن الأمر مع فقد التمكن كما يسحن مع وجوده إذا كان في ذلك مصلحة من وجه من الوجوه


الكلام في النواهي اعلم أن النهي لما كان بعثا على الإخلال بالفعل كما كان الأمر بعثا على الفعل كان أكثر الكلام في الأمر يليق بالنهي غير أنا نفرد في النهي أبوابا منها ماهية النهي وما يشارك الأمر فيه النهي وما يخالفه فيه ومنها النهي عن الأشياء على وجه التخيير ومنها هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه أم لا وما يتبع ذلك
باب في ماهية النهي وما يشارك الامر فيه وما يخالفه أما النهي فهو قول القائل لغيره لا تفعل على جهة الاستعلاء إذا كان كارها للفعل وغرضه أن لا يفعل والدلالة على ذلك ما تقدم في الأمر
وأما ما يشارك الأمر فيه النهي فأمور منها أنه يجوز استعمال كل واحد منهما في خلاف ما تقتضيه صيغته فصيغة الأمر يجوز وجودها غير أمر وصيغة النهي يجوز وجودها غير نهي ومنها أن يكون كل واحد منهما إنما يوصف بما يوصف به بحال فاعله ومنها اعتبار الاستعلاء في كل واحد منهما ومنها أن كل واحد منهما إذا كان مقيدا بشرط وصفة كان مقصورا عليها ومنها اعتبار كثير من الشرائط في جنسهما نحو أن يكون غرض المكلف التعريض للثواب ويكون عالما باثابة المطيع وغير ذلك
فأما ما يفترقان فيه فأمور منها الصيغة ومنها ما يكون به كل واحد

منهما موصوفا بما يوصف به ومنها أن مطلق الأمر لا يقتضي التأبيد ومطلق النهي يقتضي ذلك ولهذا صح النظر في الأمر هل يقتضي التعجيل ولم يصح ذلك في النهي ومنها أن من شرط حسن النهي أن يكون المنهي عنه قبيحا ومن شرط حسن الأمر أن لا يكون المأمور به قبيحا
باب في النهي عن اشياء على جهة التخيير اعلم أن النهي عن الأشياء إما أن يكون نهيا عنها على الجمع أو عن الجمع بينها أو نهيا عنها على البدل أو نهيا عن البدل
أما النهي عنها على الجمع فهو أن يعمد الناهي إلى اشياء فينهي عن جميعها فيقول الإنسان لا تفعل هذا ولا هذا ولا هذا فيكون موجبا للخلو منها أجمع
والأشياء التي نهي عن جميعها ضربان
أحدهما يمكن الإنسان الخلو منها والآخر لا يمكنه الخلو منها فالذي لا يمكنه الخلو منها لا يحسن النهي عن جميعها إيجاب للخلو منها وإيجاب ما لا يمكن قبيح ولا فرق بين أن يكون النهي إيجابا للخلو من الشيء ونفيه أو إيجابا للخلو من الشيء وضده مثال الأول أن يقول الإنسان لغيره لا تكن قائما ولا غير قائم ومثال الثاني أن يقول للقائم لا تفعل قياما ولا قعودا ولا حالة من حالات الإنسان وما يمكن الخلو منه ضربان
أحدهما يميز كونه فاعلا والثاني لا يميز كونه فاعلا فالذي لا يميزه نحو المضطجع لا يميز كونه فاعلا للسكون من نفسه ويجوز أن يخلو من فعله ومن فعل الحركة ولا يجوز أن ينهي عن الخلو منهما معا لفقد التمييز هذا على قول من جوز أن يفعل هذا المضطجع في جسمه سكونا فأما إذا ميز كونه

فاعلا فانه يجوز أن ينهي عنهما معا نحو ضرب زيد وعمرو وأما ما هو ملجأ إلى الجمع بينهما فانه لا يجوز النهي عن جميعه لأن في ذلك إيجاب الخلو منه مع أنه ملجأ إلى خلافه
وأما النهي عن الجمع بين أشياء فهو أن يقال للإنسان لا تجمع بين كذا وكذا وهما ضربان
أحدهما يمكن الجمع بينهما والآخر لا يمكن الجمع بينهما فما لا يمكن الجمع بينهما فالنهي عن الجمع بينهما قبيح لأنه عبث يجري مجرى نهي الهاوي من شاهق عن الاستقرار في الهواء وذلك أن ينهي الإنسان عن القيام والإخلال به أو أن يجمع بين القيام والقعود وإن أمكن الجمع بينهما فإما أن يمكن أن لا يجمع بينهما نحو الأكل والصلاة وإما أن لا يمكن ذلك بأن يكون ملجأ إلى الجمع بينهما فالأول يحسن النهي عن الجمع بينهما والثاني لا يحسن النهي عنهما لأنه كالنهي عما لا يطاق
فأما النهي عن الأشياء على البدل فهو أن يقال للإنسان لا تفعل هذا إن فعلت ذلك أو لا تفعل ذلك إن فعلت هذا وذلك بأن يكون كل واحد منهما مفسدة عند الآخر وهذا يرجع إلى النهي عن الجمع بينهما
وأما النهي عن البدل فانه يفهم منه شيئان
أحدهما أن ينهي الإنسان عن أن لا يفعل شيئا ويجعله بدلا من غيره وذلك يرجع إلى النهي عن أن يقصد به البدل وذلك غير ممتنع والآخر أن ينهي عن أن يفعل أحدهما دون الآخر لكن يجمع بينهما وهذا قبيح إن تعذر الجمع ويجوز أن يحسن مع إمكانه وإمكان الإخلال به
باب في النهي هل يقتضي فساد المنهي عنه أم لا اختلف الناس في ذلك فذهب بعض أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب

الشافعي إلى أنه يقتضي فساده وقال غيرهم من الفقهاء لا يقتضيه وهو مذهب الشيخ ابي الحسن وابي عبد الله وقاضي القضاة وذكر أن ظاهر مذهب شيوخنا المتكلمين وأنا أذهب إلى أنه يقتضي فساد المنهي عنه في العبادات دون العقود والإيقاعات
وينبغي أن نذكر معنى وصفنا للشيء بأنه صحيح وجائز وفاسد وباطل وغير جائز فنقول إن معنى قولنا إن الفعل صحيح هو أنه قد حصل به الغرض المقصود به وإنما يكون كذلك إذا استوفيت شرائطه التي معها يحصل الغرض المقصود بالفعل وقولنا فاسد وباطل يفيد نفي ذلك وهو أنه لم يستوف شرائطه التي عليها يقف حصول الغرض بالفعل وقولنا إن الفعل مجزىء معناه أنه يكفي في تحصيل الغرض بالفعل ولا يكون كذلك إلا وقد استوفيت الشرائط التي يقف عليها حصول هذا الغرض وقولنا جائز في هذا الموضع يفيد ذلك أيضا وقوله إنه غير جائز ولا مجزىء يفيد نفي ذلك والأغراض الحاصلة بالفعل تختلف بحسب اختلاف الأفعال فالعبادات الغرض بفعلها إسقاط التكليف وتحصيل الثواب وإذا قلنا في العبادات إن الفعل غير مجزىء فمعناه أنه لم يسقط التكليف المتعلق به لأنه لم يستوف شرائطه التي معها يسقط التكليف فان كانت العبادة غير مؤقته لزم فعلها على الصحة وإن كانت موقتة والوقت باقيا لزم فعلها فيه وإن خرج الوقت جاز أن تدل دلالة على لزوم قضائها وأما البيع فالغرض به تحصيل الملك وكمال التصرف والغرض بالشهادة وجوب القضاء على الحاكم والغرض بالطلاق إيقاع الفرقة وتشعيث الوصلة والغرض بالعتق إيقاع الحرية فجواز هذه الأفعال وصحتها يفيد حصول هذه الأحكام وفسادها يفيد نفي هذه الأحكام
وذهب قاضي القضاة إلى أن معنى قولنا إن الصلاة فاسدة أنه يلزم قضاؤها ومعنى أنها صحيحة أنه لا يلزم قضاؤها ولقائل أن يقول وإن أراد لزوم القضاء في وقتها فذلك تابع لكون الصلاة فاسدة وأنه ما سقط عن

المكلف التعبد بها ونفي سقوط التعبد بها تابع لكون الشرائط غير مستوفاه ألا ترى أنا نقول إنما يجب على المصلي إعادة الصلاة في وقتها لأن ما فعله فاسد لم يستوف شرائطه فكان تفسير الفساد بما ذكرناه أولى وإن أراد لزوم القضاء ونفيه بعد خروج الوقت لزم إذا أمر الله سبحانه بصلاة بطهارة فصليناها بغير طهارة وخرج الوقت ولم تدل دلالة على وجوب قضائها فلم يلزمنا القضاء إذ القضاء فرض ثان أن تكون الصلاة صحيحة لأنه لم يلزم قضاؤها فلما ثبت الفساد مع نفي القضاء علمنا أن أحدهما ليس هو الآخر
فاذا ثبت ما ذكرناه فمتى اردنا أن ندل على أن النهي يدل على فساد المنهي عنه إذا كان من العبادات فانما نريد أن ندل على النهي إذا تجرد فالتكليف لا يسقط بفعل المنهي عنه والدلالة على ذلك هي أن المنهي عنه لم يتناوله التعبد وما لم يتناوله التعبد لا يسقط التعبد أما أن المنهي عنه لا يتناوله التعبد فلأن التعبد يتناول ما له صفة زائدة على حسنه والنهي يتناول ما ليس بحسن يبين ذلك أن الله سبحانه إذا قال لنا صلوا الظهر ثم قال لا تصلوها بغير طهارة فان هذا النهي يدل على أن الصلاة بغير طهارة قبيحة غير حسنة وغير مرادة والأمر يدل على أن الصلاة المأمور بها حسنة مرادة فأحدهما غير الآخر فصح أن المنهي عنه لم يتناوله التعبد وأما أن ما لم يتناوله التعبد فالتكليف لم يسقط به إذا تجرد النهي عن دلالة فلأن فاعله لم يفعل ما تعبد به فجرى مجرى أن يقول الله سبحانه لنا صلوا بطهارة في أنا إذا صلينا بغير طهارة لم يسقط التعبد عنا ويلزمنا أن نصلي ما بقي الوقت وجرى مجرى أن يأمر الله سبحانه بالصلاة فنتصدق في أن التعبد يكون باقيا لما كنا فاعلين لما لم يتناوله التعبد
فان قيل أليس يجوز أن يكون الفعل المنهي عنه مع قبحه يقوم مقام الواجب في وجه المصلحة وإنما لم يتناوله الإيجاب لاختصاصه بوجه من وجوه القبح ويجوز أن يخرج الواجب من كونه مصلحة عند فعل المنهي عنه نحو أن

تكون الصلاة مصلحة في رد وديعة فاذا فعلها في الدار المغصوبة خرجت الصلاة في الدار المملوكة من أن تكون لطفا في رد الوديعة ولهذا جاز أن يقول الله سبحانه لا تصلوا في الدار المغصوبة فان صليتم فيها فالفرض قد سقط عنكم قيل الذي ذكرته إن جاز فانا لا نتنبه إلا بدلالة زائدة ومتى لم يدل عليه دليل زائد وجب نفيه لأن الأمور الثابتة متى لم يدل عليها دليل وجب نفيها ألا ترى أن الصلاة السادسة يجب نفيها لما لم يدل على إثباتها دليل زائد فلو قال الله عز و جل إن صليتم في الدار المغصوبة أجزأتكم كان ذلك دليلا على سقوط الفرض ولا يجب لأجل ذلك تجويز سقوط الفرض بهذه الصلاة إذا لم يدلنا الله سبحانه على ذلك ألا ترى أنه كان يجوز أن يقول صلوا بطهارة فان صليتم بغير طهارة أجزأتكم ولا يدل ذلك على أنه لو لم يقل فان صليتم بغير طهارة أجزأتكم على أنها إن صلى الإنسان بغير طهارة أجزأه أو لا ترى أنه كان يجوز أن يقول صلوا فان تصدقتم قام ذلك مقام الصلاة ولم يلزم من ذلك تجويز قيام الصدقة مقام الصلاة إذا لم يقل الله ذلك فكذلك في مسألتنا
فان قيل فيجب على ما ذكرتم أن يكون الدال على فساد العبادة هو فقد دليل يدل على أن المنهي عنه مقام العبادة المأمور بها قيل إنه لا يصحل العلم بفساد الفعل إلا مع العلم بورود التعبد بالفعل وبالنهي عن إيقاعه على بعض الوجوه وبفقده دلالة تدل على أن المنهي عنه يقوم مقام العبادة ألا ترى أنه متى اختل واحد من ذلك اختل علمنا بالفساد وأما أن الدليل هو فقد دلالة تدل على أن المنهي عنه لا يقوم مقام العبادة أو أن الدليل على ذلك هو النهي فذلك كلام في عبارة ومرادنا بقولنا إن النهي يدل على فساد هو ما ذكرناه لا غير فأما إن فسر فساد الفعل بوجوب قضائه وأريد بذلك وجوب القضاء قبل انقضاء وقت العبادة فقد بينا أنا نعلم ذلك تبعا لعلمنا بفساد العبادة وإن أريد بذلك وجوب القضاء بعد خروج الوقت فالنهي لا يدل على ذلك لأن القضاء فرض ثان فليس فاعل العبادة على الوجه المنهي عنه بأسوأ حالا من

تاركها أصلا فاذا كان تاركها لا يلزمه إلا بدليل مستأنف ففاعلها على الوجه المنهي عنه أولى بذلك ولأن المنهي عنه كما أنه لم يدخل تحت الإيجاب فالقضاء أيضا لم يدخل تحت الإيجاب فلم يدل عليه
ومما احتج به في أن النهي يدل على فساد المنهي عنه أن النهي ضد الأمر ونقيضه والأمر يدل على إجزاء المأمور به فيجب أن يدل النهي على نفي إجزائه وإلا لم يكن ضده ونقيضه ولقائل أن يقول إن الأمر إذا دل على إجزاء المأمور به فيجب أن لا يدل النهي على إجزاء المنهي عنه فكذلك نقول لأنا وإن حكمنا بإجزائه فلسنا نحكم بإجزائه لمكان النهي
واحتجوا أيضا بأن المنهي عنه لو كان مجزئا لكان طريق إجزائه الشرع إما أمر أو إيجاب أو إباحة وكل ذلك يمنع منه النهي والجواب أنه قد يدل على الإجزاء غير ذلك نحو أن نقول إذا فعلتم ما نهيتكم عنه أجزأكم عن الفرض أو نقول إذا بعتم هذا على هذا الوجه فقد ملكتم به أو يكون إجزاء ذلك الفعل معلوما بالعقل وذلك كله لا يمنع منه النهي
واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه و سلم قال من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد قالوا والمنهي عنه ليس من الدين فيجب كونه مردودا ولو كان مجزئا ثبتت أحكامه لما كان مردودا والجواب أن الإنسان إنما يكون مدخلا للفعل في الدين إذا اعتقد أنه من الدين ألا ترى أن الزاني وفاعل المباح لا يكون مدخلا للزنا والفعل المباح في الدين فليس يخلو إما أن يعنوا أن الفاعل لما نهي عنه مدخل للفعل في الدين أو مدخل لأحكامه في الدين فان أرادوا الأول لم يثبت لأن المصلي في الدار المغصوبة لا يعتقد أن ذلك في الدين وإنما يقول إنه يسقط به الفرض وكذلك المطلق في حال الحيض لا يعتقد أن ذلك من الدين إذا اعتقد أن ذلك بدعة وإن أرادوا الوجه الثاني لم يسلم الخصم أن ذلك من الدين
فان قالوا فيجب إذا فعل ذلك الإنسان معتقدا بأنه من الدين أن يكون

مردودا عليه فلا يثبت أحكامه قيل إنما يجب أن يكون ردا من الدين لا غير وإنما يكون كذلك إذا جعلناه بخلاف ما اعتقده ألا ترى أن من قال من رام الدخول إلى داري فهو مردود أفاد أنه مردود من الدار وأجاب قاضي القضاة بأن لفظ الرد يفيد نفي استحقاق الثواب لأن الرد ضد القبول والقبول يفيد استحقاق الثواب قال فلفظه الرد كالنهي في اقتضائه القبح ونفي استحقاق الثواب قال ونحن نقول إن المنهي عنه لا يستحق عليه الثواب وأجاب أيضا بأن قال يجب أن نبين أن الحكم باجزاء الفعل ليس من الدين ثم نحكم برده وهذا إنما يتوجه إلى من قال في استدلاله إن الإجزاء ليس من الدين لا إلى من قال إن الفعل نفسه ليس من الدين ثم استدل بذلك على انتفاء حكمه وقال ايضا إن النهي أبلغ من لفظ الرد لأن طاعات الكافر مردودة وليست بمنهي عنها فاذا لم تظهر دلالة النهي على الفساد فلفظ الرد أولى بذلك وعلى أن هذا الخبر من أخبار الآحاد فلا يصح التعلق به في ذلك
واحتج الذاهبون إلى أن النهي لا يدل على فساد المنهي عنه بأشياء
منها أن فساد العبادة هو وجوب قضائها والنهي إنما يدل على قبحها وعلى كراهة الناهي لها وقبحها لا يقتضي وجوب قضائها لعلمنا بقبح أفعال كثيرة لا يلزم قضاؤها والجواب ما تقدم من أنه إن أرادوا وجوب القضاء مع بقاء الوقت أو وجوب القضاء إن لم تكن العبادة موقتة فقبح الفعل مع تقدم الأمر بالعبادة وفقد دليل يدل على أن الفعل المنهي عنه قائم مقام الواجب يدل على وجوب القضاء بعد خروج الوقت فلعمري لا يدل النهي عليه غير أنه ليس هو معنى الفساد
ومنها قولهم لو أفاد النهي الفساد لكان ما لم يفسد من الأفعال القبيحة نحو الوضوء بالمساء المغصوب غير منهي عنه على التحقيق لأنه لم يتعلق به ما هو نهي على التحقيق فيوصف بأنه منهي منه والجواب إنا لا نقول إن النهي موضوع في اللغة للفساد كما وضع لفظ العموم للاستغرق فيلزم ما ذكروه وإنما وضع عندنا لإيجاب الامتناع من الفعل والإخلال به أو على الكراهة له

وإنما يعلم فساد العبادة بالتدريج الذي ذكرناه ألا ترى أن اصحابنا لما قالوا ان الأمر وضع للإرادة وأنه يفيد الندب على ضرب من التدريج لم يالزمهم أن يكون الواحد منا إذا قال لغيره أظلم وأراد ذلك منه أن يكون الظلم ليس بمأمور به على الحقيقة ولا أن يكون قوله اظلم ليس بأمر على الحقيقة لأجل أن الظلم قبيح ليس بحسن
ومنها أن لفظ النهي لغوي وفساد العبادة شرعي فلا يجوز أن يكون موضوعا له والجواب انا لا نقول إنه وضع للفساد فيلزم ما ذكروه وإن علمنا عنده على التدريج المذكور كما يقولون إن الأمر وضع للندب على التدريج ولو قلنا إنه موضوع للفساد لم يبطل بما ذكروه لأن فساد الفعل هو انتفاء الأغراض المقصودة بالفعل عن الفعل أو وجوب إعادته على قول قاضي القضاة وذلك معقول قبل الشرع فلا يمتنع أن يوضع النهي له كما وضعوا له أن هذا الفعل يجب إعادته فان الأغراض لا تتعلق به مع أن هذه ألفاظ لغوية
فأما الأفعال التي يرجع فسادها إلى نفي أحكامها نحو البيع والطلاق والعتاق والشهادة فالنهي عنها لا يدل على فسادها لا بنفسه ولا بواسطة أما بنفسه فانه إنما يدل إذا صدر من حكيم فيدل على قبح الفعل ووجوب الإخلال به أو على كراهته له فقط وأما أنه لا يدل على ذلك بواسطة فهو أن الواسطة هي قبح وكونه مكروها والفعل قد يكون مكروها وحكمه ثابت نحو البيع في حال صلاة الجمعة والطلاق في حال الحيض ولأن قبح البيع لا ينافي ثبوت الملك به لا محالة لأنه قد ينهي الحكيم عن البيع لأن الملك لا يقع به ولأنه مفسدة في نفسه وإن وقع الملك به ولأنه يتشاغل به عن واجب نحو البيع مع تعين وجوب التحريمة وإذا أمكن كل ذلك لم نأمن أن يكون النهي عن البيع أو عن الطلاق وغيرهما كان لغرض سوى أن أحكامها لا تثبت ويفارق ذلك النهي عن العبادات لأنا قد بينا أن فسادها مفارق لفساد هذه الأفعال وإذا اختلف معناهما لم يجب أن يكون ما دل على أحدهما يدل على الآخر فاذا اثبت ذلك ونهي الله سبحانه عن أمثال هذه الأفعال فلا يخلو إما أن يكون الأصل

في العقل يفيد تعلق حكمه به كالبيع الذي يقتضي انتقال الملك به في العقل أو يكون العقل يمنع من تعلق الحكم به فالأول يحكم فيه بما يقتضيه العقل لأن النهي عنه لا يمنع من ذلك وأما الثاني فمثاله الحد إذا شهد بما يوجبه الشاهدان على وجه نهي الشاهدان عنه فانه ينظر فيه فان كان في الشرع دليل يدل في الجملة على تعلق الأحكام بتلك الأفعال حكم به والا لم يحكم به لأن الأصل نفيها وليس في الشرع ما يدل على ثبوتها إلا لأجل النهي
واحتج المخالف بأن الصحابة رضي الله عنها كانت إذا سمعت نهيا عن شيء قضت بفساده عند سماعها النهي فدل على أنها حكمت بالفساد لأجل النهي كما أنها لما حكمت بالأحكام عند خبر الواحد والقياس دل ذلك على أنها حكمت به لأجل خبر الواحد والقياس من ذلك حكمها بفساد بيع درهم بدرهمين ونكاح المحرم والشغار والمتعة والربا والجواب أنهم لما حكموا بذلك فانهم لم يحكموا بالفساد عند سماعهم أخبارا كثيرة في النهي كالنهي عن بيع حاضر لباد وتلقى الركبان وغير ذلك وليس لقائل أن يقول إنما لم يحكموا بالفساد لقرينة بأولى من أن نقول بل إنما حكموا بالفساد لقرينة فان قالوا لو حكموا بالفساد لقرينة لطلبها بعضهم من بعض ولاحتج بها بعضهم قيل لهم ولو كانوا إنما لم يحكموا بالفساد لأجل قرينة لاحتج بها بعضهم على بعض وأما فساد عقد الربا فيجوز أن يكون إنما عرفوه من قول الله سبحانه وحرم الربوا ومن إيجابه الاقتصار على رأس المال لأنه لو كان العقد صحيحا لما ساغ ذلك وأما خبر الواحد والقياس فان الصحابة عملت بها لمكانها على ما سنبينه في موضعه
ويمكن المخالف أن يحتج فيقول إنكم بفصلكم بين العبادات وبين العقود والإيقاعات قد قلتم ما لم يقله احد لأن الأمة مجمعة على التسوية بين الموضعين فمنهم من سوى بينهما في دلالة النهي على فسادهما ومنهم من جمع بينهما في دلالة النهي على نفي فسادهما والجواب أن الذين جمعوا بينهما في نفي دلالة النهي على فسادهما لم يعنوا بالفساد ما عنيناه وإنما أرادوا بالفساد وجوب

القضاء بعد خروج الوقت ولو فصل لهم ما فصلناه لما اختلفوا فيه ولو خالفوا لم يكن ما قلناه مخالفا للإجماع لأنه إنما يكون تفرقنا بين الموضعين مخالفة للإجماع إذا نظمت الموضعين طريقة واحدة وقد بينا أن ليس ينظمهما طريقة واحدة
فأما ما يدل على صحة ما أخبرناه هو أن الشرع اقتضى حمل ما تناوله النهي على الفساد ما لم تكن هناك دلالة تصرف عنه وهو حصول الإجماع المتقدم عليه لأن المعلوم من حال الصحابة والتابعين أنهم كانوا يحكمون بفساد العقود وغيرها لتناول النهي لها ويرجحون في الدلالة على فسادها إلى مجرد النهي الوارد عن الله تعالى وعن الرسول صلى الله عليه و سلم كرجوعهم إلى قوله صلى الله عليه و سلم لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا الخالة والعمة عليها لا الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى في فساد هذا العقد من غير اعتبار أمر سواه وكرجوعهم إلى نهيه عن بيع الغرر وبيع ما لم يقبض وبيع ما ليس عنده في فساد هذه العقود من غير اعتبار معنى سوى ذلك وكرجوعهم عند الاختلاف في حكم الربا نقدا ونسيئة إلى خبر أبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت في النهي عنه نقدا ولما روي من رجوع ابن عباس عن مذهبه في ذلك حين روى له هذا النهي وهكذا رجع كثير منهم إلى نهيه صلى الله عليه و سلم عن نكاح المحرمة ونكاح الشغار في فساد هذين العقدين ولم يحك عمن خالف في هاتين المسألتين أنهم أنكروا على مخالفيهم الرجوع إلى النهي في ذلك والاستدلال به وإنما نازعوهم في ذلك واعترضوا استدلالهم بالنهي من وجوه أخر فصار هذا إجماعا منهم على أن النهي المتناول للافعال الشرعية من حقه أن يكون مقتضيا لفسادها ما لم تدل دلالة على خلاف ذلك
وفيه فان قيل إذا وجدناهم قد حكموا بفساد ما تناوله النهي في بعض المواضع وحكموا بصحته في موضع آخر فلم صار حكمهم بالفساد دلالة علىأن من حق النهي أن يقتضيه أن يحمل عليه أولى من أن يحكم بأن النهي بمجرده لا يقتضي الفساد استدلالا بفعلهم في المواضع الأخر الجواب أنه إذا ثبت أن الحكم بفساد المنهي عنه علقوه بالنهي فقط في الموضع الذي حكموا

به من دون اعتبار أمر آخر على ما بيناه وأوضحنا الحال فيه صار هذا أصلا فيما ذهبنا إليه ودلالة عليه فاذا وجدناهم في مواضع لم يحكموا بفساد المنهي عنه وجب أن يحمل ذلك على أنهم عدلوا عن هذا الأصل ولم يحكموا فيه بالفساد لدلالة دلت عليه كما يعدل عن مقتضى صيغة العموم إلى الحكم بالخصوص وعما تقتضيه حقيقة اللفظ إلى مجازها إذا دلت الدلالة عليه
باب في ما يفسد من الأشياء المنهي عنها وما لا يفسد اعلم أنه ذكر في ذلك أشياء
منها قول الشيخ أبي عبد الله أن المنهي عنه إذا كان متى فعل على الوجه المنهي عنه انتفى عنه شرط من شرائطه الشرعية فانه يجب أن يفسد كبيع الغرر ومتى لم ينتف عنه شرط من شرائطه الشرعية لم يفسده ولقائل أن يقول إنما يجب أن يفسد ما انتفى عنه شرط شرعي متى كان ذلك شرطا في صحته لأنه لو لم يكن شرطا في صحته لم يجب أن يفسد وما هو شرط تقف عليه صحة الشيء فانه يجب بانتفائه فساد الشيء إذا لم يخلفه شرط آخر سواء كان ذلك الشرط شرعيا أو غير شرعي ولا معنى للتقييد بكونه شرعيا وايضا فاذا فسد لانتفائه شرطه الشرعي فأخبرونا أبالنهي علمتم أن ذلك الشرط الشرعي شرط في الصحة أم لا فان قلتم بالنهي قيل لكم ابظاهره علمتم ذلك أم بقرينة فان قلتم بظاهره فقد سلمتم أن ظاهر النهي يدل على ذلك الفساد وإن قلتم بل بنهي اقترفت به قرينة قيل لكم أخبرونا عن تلك القرينة حتى تكونوا قد أشرتم إلى الفرق بين ما يدل على الفساد من النهي وبين ما لا يدل على الفساد وإن قالوا علمنا أن ذلك شرط في الصحة بدليل غير النهي نحو أن نعلم أن الوضوء شرط في الصلاة ثم نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن الصلاة بغير وضوء فتعلم أنها فاسدة بغير وضوء وقد أشار قاضي القضاة إلى ذلك في الشرح قيل لهم فنحن إنما نعلم الفساد بما دل على أن الوضوء شرط في صحة الصلاة ألا ترى أنا إذا علمنا ذلك علمنا فساد الصلاة إذا لم يكن

الوضوء سواء نهينا عن الصلاة بغير وضوء أو لم ننه عن ذلك فإن قالوا إنه لم يكن غرضنا أن نبين الفرق بين النهي الدال على الفساد وبين النهي الذي لا يدل على الفساد حتى يلزم ما ذكرتم وإنما غرضنا أن نفرق بين المنهي عنه الفاسد والمنهي عنه الذي ليس بفاسد قيل لهم فكأنكم قلتم المنهي عنه منه فاسد ومنه غير فاسد وأن الفاسد هو ما دل دليل على فساده نحو أن يدل دلالة على أنه قد أخل فيه بشرط من شرائط صحته وهذا قليل الفائدة لا يجوز أن يجعل أصلا في هذا الموضع
ومنها أن المنهي عنه الفاسد هو ما يوصل به إلى تحليل محرم في الأصل نحو أكل الميتة واستحلال الفروج والذي ليس فاسد هو ما لم يكن وصلة إلى محرم في الأصل وهذا باطل لأنهم إن أرادوا بقولهم إنه يوصل به إلى تحليل محرم أي صار الحرام به حلالا على التحقيق فذلك مناقضة لأنه إذا صار به حلالا فهو صحيح غير فاسد لأنه ليس معنى كون الوصلة صحيحة إلا أنها وصلة إلى تحليل هذا المحرم من الفروج وعلى أنا نريهم أمورا نهي عنها وهي وصلة إلى تحليل ما كان حراما وهي غير فاسدة نحو بيع حاضر لباد هو منهي عنه وقد صار به ملك الغير حلالا للمشتري وإن ارادوا بذلك أنه إذا توصل بالمنهي عنه إلى تحليل ما هو حرام في نفسه لا يجوز أن يصير حلالا كانوا قد عللوا للشيء بنفسه لأن معنى كون هذه الوصلة المنهي عنها فاسدة هو أنها لا توصل إلى تحليل هذا المحرم فكأنهم قالوا إنما لم يوصل إلى إباحة هذا المحرم لأنه لا يوصل إلى إباحته ثم يقال لهم بماذا علمتم أن ذلك الحرام لا يصير حلالا أبالنهي علمتم ذلك أم بغيره ويعود الكلام عليهم
ومنها أن النهي عن الفعل إذا كان لمعنى يختصه اقتضى فساده وإذا لم يكن لمعنى يحتصه لم يقتض فساده والأول بيع الغرر والثاني البيع في حال صلاة الجمعة ولقائل أن يقول إن المقتضي للفساد هو فقد شرط من شرائط الصحة وليس يمتنع أن يرجع ذلك تارة إلى الشيء المنهي عنه كما لا يمتنع أن يرجع إلى غيره ألا ترى أن بيع المحجور عليه منهي عنه لمعنى في العاقد لا في العقد وهو مع ذلك فاسد فان قالوا ما يختص بالعاقد والمعقود عليه يتعلق بالعقد

ويرجع عليه قيل فيجب أن يفسد بيع حاضر لباد لأن النهي عن ذلك إنما كان لمعنى في المتعاقدين
ومنها قول بعضهم ما نهي عنه لحق الغير فانه لا يفسد وما نهي عنه لشرط شرعي فانه يفسد وهذا باطل لأن الإنسان قد نهي عن بيع ملك غيره لحق ذلك الغير ألا ترى أنه لو أذن له في بيعه جاز ومع ذلك يفسد العقد إذا لم يأذن في المالك
ويدخل في هذا العقد اختلاف الناس في الصلاة في الدار المغصوبة فقال جل الفقهاء وأبو إسحاق النظام إن الصلاة في الدار المغصوبة مجزئة مسقطة للفرض وقال أبو علي وأبو هاشم وأبو شمر وأهل الظاهر والزيدية إنها غير مجزئة واستدل شيوخنا على أنها غير مجزئة بان الصلاة من حقها أن تكون طاعة لإجماع المسلمين على ذلك والصلاة في الدار المغصوبة غير طاعة بل معصية لأن الصلاة تشتمل على القيام والركوع والسجود والجلوس وهذه الأشياء تصرف في الدار المغصوبة وشغل لأماكنها وأهويتها ومنع لرب الدار لو حضر من التصرف فيها فجرى مجرى وضع متاع في ذلك المكان في أنه قبيح وأيضا فأجمعوا على أن من شرط الصلوات الخمس أن ينوي بها المصلي أداء الواجب أو ما يدخل فيه أداء الواجب نحو أن ينوي كونها ظهرا أو عصرا والصلاة في الدار المغصوبة لا يتأتى فيها ذلك لأنه لا يصح أن ينوي الإنسان أداء الواجب بما يعلم أنه ليس بواجب وذلك محال في الداعي إن قيل إن أفعال الصلاة هو ما يفعله المصلي في نفسه من القيام والركوع والجلوس وليس هذا شغل للدار وإنما هو شغل للهواء وإنما يشغل الأرض باستقرار قدميه في الدار وليس ذلك من الصلاة لأنه لو أمكنه أن يصلي من غير أن تستقر قدماه في الدار جازت صلاته قيل إن السكون الذي يفعله في قدميه من جملة صلاته لأن القيام من جملة الصلاة وقوله لو أمكنه أن يصلي في الهواء جازت صلاته لا يمنع من كون ذلك الآن من الصلاة وعلى أن شغله لهواء الدار هو غصب لأن مالك الدار أحق به ألا ترى انه ليس للإنسان أن يشرع جناحا من داره إلى دار غيره لما كان شاغلا لهواء دار غيره

فان فأن قالوا إن قراءة الإنسان واعتقاده هما من جملة صلاته ولا تعلق لهما بالغصب فالنية تنصرف إليهما قيل كون القراءة من جملة الصلاة لا يمنع من كون الركوع والسجود والقيام من جملة الصلاة لأن اسم الصلاة يفيد محموع ذلك وإذا كان كذلك لم يكن أن يكون من جملة الصلاة طاعة حتى ينصرف إليه النهي إن قالوا إنما منع الغاصب من الصلاة في الدار المغصوبة لحق الغير والا فقد استوفى شرائطها الشرعية فوجب إجزاؤها لأن النية تنصرف إلى ما استوفى شروطه الشرعية ويجري ما عدا ذلك مجرى فعل منفصل قيل إن من شروطها الشرعية أن تكون طاعة وأن ينوي بها أداء الواجب وليس هذان بحاصلين وأيضا فاذا كان من جملة الصلاة ما هو معصية لم يجز أن يكون واجبا من جهة أخرى فان قالوا إذا غصبها المصلي بأعوانه لا تكون صلاته فيها غصبا فيجب جوازها قيل فيجب لو غصبها هو بنفسه أن لا تجزيه صلاته على موجب دليلنا وعلى أن استعانته بأعوانه في غصبها لا يخرج تصرفه فيها من أن يكون قبيحا غير طاعة
ولما ذكرنا لم يجز أصحابنا صلاة من ستر عورته بثوب مغصوب واختلفوا فيمن سترها بثوب مملوك ولبس فوقه ثوبا مغصوبا فأجازوها قوم قالوا إن فعله في الثوب الأعلى ليس من الصلاة ولم يجزها آخرون لأن قيامه وقعوده تصرف في كلا الثوبين وقالوا ايضا إن المودع أو الغاصب إذا طولب برد الوديعة والمغصوب فتشاغل بالصلاة مع اتساع الوقت لم تجزئه صلاته وإن كان الوقت ضيقا يخشى إن تشاغل بالرد فاتته الصلاة لم تبطل إن لم يستضر صاحبها بالتأخير ضررا شديدا وتبطل إن استضر بالتأخير ضررا شديدا وقالوا إن صلى وهو يرى من يغرق أو يهلك بنار وهو يرجو أن يخلصه فسدت صلاته والوجه في ذلك أجمع أن صلاته تكون في هذه المواضع قبيحة
ولا يلزم على ما ذكرناه أن لا يجزي الغاصب اعتقاده الإيمان في الدار المغصوبة لأن ذلك ليس بتصرف فيها فيكون غصبا لها فلم يلزم أن يكون قبيح غير طاعة ولا يلزم أن تبطل صلاة الغاصب للدار إذا منع من الخروج

منها لأنه إذا منع من ذلك لم يحرم عليه القعود فيها ومن جاز له القعود فيها جاز له أن يصلي فيها فجاز أن يكون فعله طاعة ولا يلزم عليه إذا صلى في ملكه وقبض بيده على رجل فمنعه من التصرف لأن ذلك وإن كان قبيحا فليس من الصلاة ولا يلزم عليه إذا صلى في براح غيره بغير إذنه لأن العادة جارية بأن مالك البراح لا يكره أن يصلي المارة فيه والعادة جارية أيضا بأن من أذن لغيره في دخول داره لا يكره منه الصلاة فيها فصار ذلك كالصريح بالإذن بالصلاة قال اصحابنا ولا يلزم على ما ذكرناه أن لا تجزيء إزالة النجاسة بماء مغصوب والذبح والختان بسكين مغصوب أجابوا عن الذبح بسكين مغصوب أنه إنما جاز لأنه من شرطه النية ولا من حقه أن يكون قربة وليس كذلك الصلاة وسيأتي الكلام على مثل هذا الجواب والجواب الصحيح أن يقال إن الذبح بسكين مغصوبة منهي عنه وقبيح إلا أنه لما كان وصلة إلى إباحة اللحم كان كالبيع الذي هو وصلة إلى إباحة التصرف والنهي لا يدل على فساد ما هذه سبيله لأنه إنما نهي عنه لقبحه في نفسه لا لأنه ليس بوصلة إلى إباحة اللحم وكذلك البيع في وقت صلاة الجمعة إنما نهي عنه لأنه قبيح أن يتشاغل به عن الغرض لا لأنه غير موصل إلى نقل الملك يبين ذلك أن ما دل على البياعات تنتقل بها الأملاك يدخل تحته هذا البيع وغيره فان قيل فان كان الذبح مما يتعبد به الأنسان هل يكون فعله بسكين مغصوبة غير مجزي قيل إذا علمنا أن الغرض بالذبح التصدق باللحم وعلمنا أن اللحم يصير مباحا بالذبح بسكين مغصوبة جاز التصدق به وإن كانت السكين مغصوبة وأما السكين المغصوبة إذا وقع الختان بها فهي كالمملوكة في إزالة ذلك القدر من اللحم والماء المغصوب كالمملوك في إزالة النجاسة فلم يبق بعد إزالتها وبعد قطع ما يجب قطعه في الختان شيء كان الأمر متوجها إليه فيمتثل
فان قيل أما كان يجوز أن يجب على الإنسان أن يغسل موضع النجاسة وأن يقطع جزءا آخر قيل يجوز أن يجب ذلك بأمر مستأنق فأما إذا لم

يتجدد أمر آخر فلا لأن الأمر الأول إذا كان أمرا بازالة تلك النجاسة وبقطع ذلك الجزء من الذكر فانه لا يمكن بعد إزالتهما إن زالا لأن إزالة الزائل مستحيلة قال أصحابنا ولا يلزم عليه أن يكون الصوم في شهر رمضان مع الخوف على النفس لا يسقط به الفرض لأنه لم يوجد عليه في الصوم أفعال وإنما أخذ عليه الكف عن الأكل والشرب والجماع ولقائل أن يقول وقد أخذ عليه فعل نية الصوم ومن حقها أن تكون طاعة وأخذ عليه الكف عن هذه الأفعال ومن حق الكف عنها أن يكون طاعة حتى يكون صوما والكف عنها مع الخوف على النفس معصية وأخذ عليه أن ينوي الصوم وفي ضمن كونه صوما كونه طاعة فاذا كان الصوم معصية لم يكن أن ينوي به الطاعة
وإن قلتم إن نية الصوم لا يدخل في ضمنها نية الطاعة ولا من حق الصوم أن يكون طاعة قيل لكم مثله في الصلاة وادعاء الإجماع في أحدهما كادعائه في الآخر ويسأل أيضا على ذلك الوقوف على جمل مغصوب والطواف عليه والوضوء بماء مغصوب وقد أجيب عن ذلك بأنه ما أخذ على الإنسان في ذلك فعل فيقال من شرطه أن يكون طاعة أو واجبا لأن الإنسان لا يكون مطيعا بفعل غيره ألا ترى أن الإنسان لو طاف به غيره وهو نائم أو وضأه غيره أجزأه وشبيه بذلك يقال في الصائم لأنه لو نام طول نهاره وقد قدم النية أجزأه ولقائل أن يقول إن ذلك لا يمنع من أن يكون لو صام وهو عالم بصومه أو وضأ نفسه كان لا بد من أن يكون قربة وطاعة كما قلتموه في الصلاة فمن هذه الجهة ينتقض دليلكم
فان قلتم إذا أجزأه الصوم والوضوء مع أنه لم يفعل شيئا فبأن يجزئه إذا فعل أولى قيل هذا لا ينجيكم من انتقاض دليلكم لأنا أوجدناكم ما من حقه أن يكون طاعة وقد وقع قبيحا ومع ذلك قد أجزأه
وقيل في الوضوء إنه لا يجب فيه النية فلم يجز أن يقال من حقه أن ينوي

به أداء الواجب والجواب أن هذا لا يتم على قول من جعل النية من شرطه ومن قال ليس النية من شرطه يقول الأولى أن ينوي الإنسان في الوضوء فصار من حق الوضوء أن يكون طاعة وأن يصح أن ينوي به القربة أو الطهارة التي يدخل في ضمنها القربة كما قلتموه في الصلاة ومعلوم أن الوضوء بالماء المغصوب ليس بقربة بل هو معصية فلم يتأت فيه هذه النية فانتقض به كلا الدليلين وقد أجيب عن الوضوء أيضا بأن نفله يقوم مقام فرضه وذلك لا يمنع من انتقاض الدليل من الوجه الذي ذكرناه وقد سأل أصحابنا أنفسهم هلا قامت الصلاة في الدار المغصوبة وإن كانت قبيحة مقام الصلاة الواجبة في المصلحة فلم يبق بعدها مصلحة كما قلتم لم يبق بعد إزالة النجاسة بالماء المغصوب نجاسة تزال ولم يبق بعد الوضوء بالماء المغصوب مصلحة ستدرك بالماء المملوك
وأجاب قاضي القضاة عن ذلك بأن الأمة أجمعت بأن الذي يسقط فرض الصلاة هو ما دخل تحت التكليف ألا ترى أن الصلاة بغير طهارة لما لم تدخل تحت التكليف لم تقم مقام الواجب والصلاة في الدار المغصوبة لم تدخل تحت التكليف ولقائل أن يقول ان ادعاء الإجماع في ذلك هو كدعائه في أن الوضوء لا يقوم مقام الواجب إلا أن يكون داخلا تحت التكليف لأنه لوقع بماء نجس لم يسقط الفرض لما لم يدخل تحت التكليف
فهذا هو الكلام فيما استدل به شيوخنا وما يرد عليه من الاعتراضات ونحن نستدل على المسألة فنقول إن صحة الصلاة في الدار المغصوبة إما أن يراد بها أنها داخلة تحت التعبد أو يراد بها أنها تقوم مقام ما دخل تحت التعبد الأول باطل لأن التعبد لا يتناول القبيح المكروه والثاني يكفي في نفيه أن لا يدل دليل على أنها تقوم مقام ما دخل تحت التكليف وإذا لم يدل دليل على ذلك ولا هي داخلة تحت التكليف وكان الوقت باقيا لزم إعادتها لبقاء التعبد ولزم إعادتها إن خرج الوقت لأن كل من أوجب إعادتها مع بقاء الوقت أوجبها

مع خروجه وأما المسائل المتقدم ذكرها فجميعها غير داخل تحت التعبد ويجب تأملها فان دل دليل على أنها تقوم مقام الواجب قيل به وإلا قيل ببقاء الواجب ولزوم التعبد


أبواب العموم والخصوص أما الكلام في العموم فانه يقع في الألفاظ العامة التي هي عامة على الحقيقة والتي يظن قوم أنها عامة فأما الألفاظ العامة على الحقيقة فنتكلم فيهامن وجوه منها اسم العموم هل يتناول المعاني على الحقيقة أم لا ومنها اسم العموم إذا وقع علىالقول ما الذي يفيد فيه ومنها قسمة الأدلة الشرعية قسمة الألفاظ العامة والفصل بينها وبين التي ليست عامة ومنها إقامة الدلالة على إثبات العموم في اللغة ومنها إدخال ما خرج من العموم كالجمع المعرف
فأما ما ظن أنه من جملة العموم وليس منه فيشتمل أيضا على ابواب منها الاسم المفرد المعرف ومنها الجمع المنكر ويتبع ذلك أقل الجمع ومنها نفي مساواة الشيء للشيء هل يفيد نفي اشتراكهما في كل صفاتهما أم لا ومنها اسم المذكر لا يشتمل المؤنث وإنما لم نذكر العمومين إذا تعارضا لأن ذلك يشتمل على أقسام أكثرها يكون بعضها ناسخا للبعض فأرجئنا ذلك إلى الناسخ والمنسوخ
وأما الكلام في الخصوص فمن وجوه منها ما الخصوص وما العموم المخصوص وما الخاص وما التخصيص ومنها ما الذي يجوز تخصيصه وما الذي لا يجوز تخصيصه ومنها أن ما يجوز تخصيصه إلى أي غاية يجوز تخصيصه ومنها جواز استعمال الله سبحانه العام في الخاص ومنها ما به يصير العام خاصا ومنها ذكر الأدلة الدالة على التخصيص أو ما يظنه قوم دليلا أما الأول فضربان أدلة متصلة وأدلة منفصلة أما المتصلة فالصفة والغاية والاستثناء والشرط ويدخل في الاستثناء أبواب سنذكرها وأما المنفصلة

فالعقل والكتاب والسنة ويدخل في التخصيص بالعقل خروج الصبي من الخطاب وإذا بينا جواز التخصيص بالكتاب والسنة ذكرنا في أي حال يقع التخصيص وفي أي حال لا يقع ويدخل في ذلك بناء العام على الخاص ويتبع الكلام في التخصيص أن نتكلم في العموم هل يصير مجازا بالتخصيص أم لا وهل تخصيصه يمنع من التعلق به أم لا ولم نذكر تخصيص قول النبي بفعله لأنه من باب الأفعال إذ ذلك مبني على أن فعله حجة وتخصيص قول النبي صلى الله عليه و سلم بأقاويل الصحابة رضي الله عنهم مبني على أن أقاويلهم حجة وذلك إما أن يرجع إلى الإجماع أو إلى التقليد ولم نذكر تخصيص الإجماع لأنه مبني على كونه حجة وذلك داخل في أبواب الإجماع ولم نذكر التخصيص بأخبار الآحاد ولا بالقياس لأن ذلك مبني على كونهما حجتين فذكرنا ذلك في الأخبار وهذا في ابواب القياس
فأما ما يظن كونه مخصصا فضربان أحدهما معنوي والآخر لفظي أما الأول فكقول بعضهم إن كون المكلف كافرا أو عبدا يخرجه من الخطاب بالعبادات وإن كان لفظ الخطاب يتناولهم وكتخصيص بعضهم العموم بالعادات وكالتخصيص بقصد المتكلم بالعموم إلى الذم وأما الثاني فيشتمل على أبواب منها الخطاب الوارد على سبب وسؤال ومنها العموم إذا تعقبه شرط أو استثناء أو صفة وحكم لا يتأتى إلا في بعض ما يتناوله العموم هل يجب أن يكون المراد بذلك ذلك البعض فقط أم لا ومنها هل يجب أن يضمر في المعطوف جميع ما يظهر في المعطوف عليه وإذا كان أحدهما خاصا كان الآخر خاصا أم لا ومنها تخصيص العموم بذكر بعض ما شمله ومنها تقييد المطلق وتخصيصه لأجل المقيد فأما تخصيص العموم بمذهب الراوي فهو أن يجعل مذهبه كالرواية لنص سمعه والكلام في ذلك يختص بالأخبار


باب في أن قولنا عام وعموم لا يتناول على سبيل الحقيقة إلا القول دون غيره
اعلم أنه لا شبهة في وصف الكلام الشامل بأنه عام وعموم على الحقيقة لأنه لا وجه نعلم به كون الاسم حقيقة من اطراد وغيره إلا وهو حاصل فيه فأما وصف ما ليس بلفظ بأنه عام نحو قولهم عمهم المطر والخصب فمجاز لأن حقيقة عموم المطر للناس أن يكون بجملته حاصلا لكل واحد منهم وذلك مستحيل لأن جملة المطر تحصل لجملة الناس وأجزاؤه لأجزائهم فأما ألفاظ العام نحو قولنا المشركين فان تناوله لهذا الشخص ولهذا الشخص على حد سواء وليس يتناول جزء منه لشخص وجزء منه لشخص آخر كما ذكرناه في المطر وقد قيل إن وصف المعاني بأنها عامة لا يطرد ألا ترى أنه لا يوصف الأكل بأنه عموم فان وصف بذلك فبتقييد لا على طريق الإطلاق نحو أن نقولة الأكل عموم في الناس فأما أن نطلق القول بأن الأكل عموم كما نقول هذا اللفظ عموم فلا
باب في حقيقة الكلام العام اعلم أن الكلام العام هو كلام مستغرق لجميع ما يصلح له هذا هو المعقول من كون الكلام عاما ألا ترى أن قولنا الرجال مستغرق لجميع ما يصلح له لأنه استغرق الرجال دون غيرهم إذ كان لا يصلح لغيرهم وكذلك لفظ من في الاستفهام نحو قولك من عندك لأنها تستغرق كل عاقل عنده ولا تتعرض لغير العقلاء ولا لعقلاء ليسوا عنده لأنها لا تصلح في هذا الموضع لهم وقولنا كل يستغرق كل جنس يدخل عليه دون ما لا يدخل عليه ولا يلزم عليه لفظ التثنية كقولك رجلان ولفظ العدد كقولك ثلاثة

رجال وعشرة لأن ذلك لا يستغرق كل ما يصلح له ألا تراه يصلح لهذين الرجلين ولهذين ولهذين وليس يستغرق كل ذلك وقولنا عشرة يصلح لكل عشرة من الرجال وليس يستغرقها كلها
فأما ألفاظ النكرات نحو قولك رجل فانه عام على البدل غير عام على الجمع والحد لا يتناوله من حيث الجمع لأنه لا يصلح لهذا الرجل ولهذا ولهذا ولا يستغرقهم وهو داخل في الحد من حيث البدل لأنه يتناول كل رجل على البدل ولا يجوز أن يقف على بعض الرجال ولا يتعداهم إلى غيرهم على البدل وقد زاد قاضي القضاة في الشرح زيادة احترز بها من التثنية والجمع فقال العموم لفظ مستغرق لجميع ما يصلح له في أهل اللغة من غير زيادة وذلك لأن التثنية والجمع إنما يكونان بزيادة تدخل على الواحد ولا يمنع من إنتقاصه بلفظ العدد لأنه ليس يستغرق قولنا عشرة لآحاد العشرة بزيادة دخلت على الاسم لأن الاسم الواحد ليس هو حاصل لهما مع الزيادة ويلزم أن لا يكون اسم الجنس إذا دخله لام الجنس عاما نحو قولك الرجل والرجال لأن لام الجنس زيادة دخلت على الإسم
باب في ذكر الأدلة الشرعية اعلم أن الأدلة الشرعية ضربان دليل مستنبط وليس هو غرضنا ها هنا ودليل غير مستنبط وهو إما قول وإما فعل فالفعل لا يمكن ادعاء العموم على الوجوه التي يقع عليها لأنها إن كانت متنافية لم يصح أن يجتمع للفعل نحو جمع النبي صلى الله عليه و سلم بين الصلاتين يستحيل أن يجمع بين صلاتين في وقت إحداهما وفي وقتيهما بأن يصلي الأولى في آخر وقتها والثانية في أول وقتها وإن لم يكن الوجوه متنافية نحو أن يقتل النبي صلى الله عليه و سلم رجلا فانه يحتمل أن يكون قتله لأنه ارتد ولأنه قتل غير أنه لا يمكن أن يعلم بمجرد الفعل أنه قتله لكلا

الوجهين لأنه كما يجوز أن يجتمعا للفعل فانه يجوز أن ينفرد أحدهما وليس الفعل لفظا فيقال إنه وضع ليشملهما وأما القول فمنه ما لفظه يفيد العموم ومنه ما لفظه لا يفيد العموم والذي يفيد لفظه العموم منه ما يفيده في اللغة ومنه ما يفيده في العرف ويقسم ما يفيد لفظة العموم من وجه آخر فيقال منه ما يفيد العموم من جهة اللفظ فقط ومنه ما يفيده من جهة المعنى واللفظ وأما ما لا يفيد لفظة العموم فمنه ما يفيد عن جهة المعنى ومنه ما لا يفيده لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ونحن نذكر ابواب ذلك إن شاء الله عز و جل
باب فيما يفيد لفظة العموم في اللغة وفي العرف وفيما يفيده من جهة اللفظ ومن جهة المعنى
اعلم أن ما لفظه عام في اللغة ضربان أحدهما عام على الجمع والآخر عام على البدل والأول ضربان أحدهما يكون عاما لأن فيه اسما موضوعا للعموم والآخر يكون عاما لأنه اقترن بالاسم ما أوجب عمومه والاسم العام ضربان أحدهما لا يختص ما يعقل ولا ما لا يعقل بل يقع عليهما على الجمع وعلى الانفراد والآخر يختص أحدهما فالأول لفظ أي يقول أي إنسان لقيته فسلم عليه فيعم الكل ويقول أي نبات رأيته فخذه وأي جسم رأيته فخذه فيعم ما يعقل من الأجسام وما لا يعقل وكذلك لفظة كل وجميع فانهما اسمان يدخلان على ما يعقل وعلى ما لا يعقل وأما الذي يختص أحدهما فضربان أحدهما يختص ما يعقل وما يجري مجراه وهي لفظة من في الاسفهام والمجازاة يقول من عندك ومن دخل داري أكرمته والآخر يختص ما لا يعقل وهو ضربان أحدهما لا يختص جنسا مما لا يعقل دون جنس كقولك ما في المجازاة والاستفهام والآخر يختص جنسا مما لا يعقل نحو متى في الزمان واين في المكان وغير ذلك أما متى فانها قد تكون استفهاما عن كل زمان دخلت عليه يقول متى جاءك بنو تميم

فيكون مستفهما عن كل الزمان الذي جاؤوك فيه حتى لو جاؤوك في كل الزمان لكان استفهاما عنه وإذا قلت متى جاءك زيد أفاد أيضا استفهاما عن زمان مجيئه ولفظة متى لا بد أن يقرن بها شيء وقع في الزمان فيكون استفهاما عن كل الزمان الذي وقع فيه وكذلك قولك أين زيد وأين الناس
وأما الخطاب الشامل لأن فيه اسما قد دخل عليه ما أوجب استغراقه فضربان أحدهما يكون الموجب لشموله متصلا به والآخر منفصلا عنه أما المتصل به فنحو لام الجنس الداخل على الاسم المنفرد كقولك أهلك الناس الدينار والدرهم أو الداخل على الجمع كقولك الرجال هذا على قول الشيخ ابي على رحمه الله وأما المنفصل فضربان أحدهما الإضافة والآخر حرف النفي الداخل على النكرة أما الإضافة فكقولك ضربت عبيدي وأما حرف النفي الداخل على النكرة كقولك ما جاءني من أحد
وأما الألفاظ العامة على البدل فأسماء النكرات وهي ضربان أحدهما في غاية التنكير نحو قولك شيء ومعلوم والآخر دون ذلك في التنكير وذلك ضربان أحدهما نهاية في نقصان التنكير نحو قولك رجل وغير ذلك مما يختص نوعا واحدا والآخر متوسط في التنكير نحو قولك حيوان وجسم وما اشبه ذلك فهذا ما هو عام في اللغة
فأما ما يفيد العموم في العرف فكقول الله سبحانه حرمت عليكم الميتة وقوله سبحانه حرمت عليكم أمهاتكم هما من جهة العرف عامان في تحريم سائر وجوه الاستمتاع بالأمهات وسائر وجوه الانتفاع بالميتة ومن ذلك قول الراوي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجمع بين الصلاتين في السفر ذكر قاضي القضاة أن ذلك لا يفيد في اللغة أنه كرر

الجمع وإنما يفيد أنه فعل ذلك فيما مضى لأن لفظة كان تفيد تقدم الفعل وقال في الدرس إن ذلك يفيد تكرار الجمع من جهة العرف لأنه لا يقال فلان كان يتهجد بالليل إذا تهجد مرة واحدة في عمره
وأما ما يفيد العموم من جهة اللفظ ومن جهة المعنى فقول الله سبحانه والسارق والسارقة على قول الشيخ أبي علي رحمه الله لأن صريح الآية يفيد الاستغراق وخروجه مخرج الزجر يفيد ذلك على ما ذكره الشيخ ابو هاشم وكذلك كل لفظ عموم خرج مخرج الزجر
باب فيما يفيد العموم من جهة المعنى دون اللفظ وفيما لا يفيده من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى مما ظنه قوم عاما
أما الذي يفيد العموم من جهة المعنى فهو أن يدل على العموم دليل يقترن باللفظ وذلك ضروب فمنها أن يكون اللفظ مفيدا للحكم ومفيدا لعلنه فيقتضي شياع الحكم في كل ما شاعت فيه العلة ومنها أن يكون اللفظ المفيد لعموم اللفظ ما يرجع إلى سؤال سائل ومنها دليل خطاب عام على قول من جعله حجة أما ألأول فضربان أحدهما تعليل من جهة الأولى كفحوى القول على ما سيجيء بيانه والآخر تعليل لا من جهة الأولى والدل على ذلك ضروب كثيرة نذكر في باب القياس إن شاء الله عز و جل فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم في الهر إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات فاقتضى عموم طهارة كل ما كان من الطوافين علينا ومن ذلك قول الراوي سها رسول الله صلى الله عليه و سلم فسجد فنعلم أن العلة في ذلك سهوه إلى غير ذلك من ضروب التعليل
وأما المقتضى للعموم مما يرجع إلى السؤال فيجوز أن يسأل النبي صلى الله عليه و سلم عمن

أفطر فيقول عليه الكفارة فنلعم أن ذلك يعم كل فطر سواء علم النبي صلى الله عليه و سلم ما وقع الفطر به أو لم يعلم لأنه انما أجاب عن السؤال انما كان عن مطلق الفطر فإن لم يكن جوابه عن مطلق الفطر لم يكن جوابا عن السؤال ولأنه صلى الله عليه و سلم لو كان قد أجاب عن الفطر الذي علمه لكان قد بين ذلك لئلا يظن سامع أن الكفارة تلحق مطلق الفطر
وأما دليل الخطاب فنحو قول النبي صلى الله عليه و سلم في سائمة الغنم زكاة دليل ذلك أن لا زكاة في كل ما ليس بسائمة على قول بعضهم
فأما ما لا يفيد العموم لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى مما ظنه قوم عاما فنحو الجمع المنكور ونحو جمع المذكر لا يدخل تحته المؤنث وقد دخل في هذا الباب وفي الذي قبله فصول يجب إقامة الدلالة عليها منها إثبات العموم في اللغة ومنها الجمع الذي دخله الألف واللام ومنا اسم المفرد إذا دخله الألف واللام ومنها الجمع المنكر ومنها لفظ المذكر هل يدخل تحته المؤنث أم لا ونحن نذكر جميع ذلك إن شاء الله
باب الدلالة على أن في اللغة ألفاظا للعموم اختلف الناس في ذلك فقال بعض المرجئة إنه ليس في اللغة موضوع للاستغراق وحده بل ما وضع للاستغراق وهو موضوع لما دونه من الجموع وزعموا أن قولنا كل وجميع حقيقة في الاستغراق وفي كل جمع دون الاستغراق وكذلك قالوا في لفظة من في المجازاة والاستفهام وحكي عن بعض المرجئة أنه قال ليس في اللغة لفظ العموم وإنما يكون اللفظ عاما بالقصد وزعموا أن الألفاظ التي يقول خصومهما إنها عامة هي مجاز في الاستغراق حقيقة في الخصوص ويشبه أن يكونوا جعلوا لفظة من حقيقة في الواحد مجازا في الكل أو يكونوا جعلوا بقية ألفاظ العموم حقيقة في جمع

غير مستغرق لأنه يبعد أن يجعلوا ألفاظ الجمع المعرفة باللام كقولنا المسلمون حقيقة في الواحد مجازا في الجمع ولفظ كل وجميع في ذلك أبعد وذهب شيوخنا المتكلمون والفقهاء إلى أن في اللغة ألفاظا وضعت للاستغراق فقط فهي حقيقة فيه مجاز فيما دونه والدليل على ذلك أن الاستغراق ظاهر لكل أحد والحاجة تمس إلى العبارة عنه ليفهم السامع أن المتكلم أراده فجرى مجرى السماء والأرض وغيرهما في ظهورهما وشدة الحاجة إلى العبارة عنهما فكما لم يجز مع هذا الداعي الذي هو داعي الحاجة أن تتوالى الأعصار بأهل اللغة ولا يضعوا للسماء والأرض كلاما يختص كل واحد منهما مع أنهم قد وضعوا الأسماء للمعاني الغامضة ووضعوا للمعنى الواحد أسماء كثيرة كذلك لا يجوز ألا يضعوا للاستغراق كلاما يخصه وليس يجوز من أمة عظيمة في أعصار مترادفة أن يضعوا الأسماء الكثيرة للمعنى الواحد ويعدلوا عن وضع كلام يحتص بمعنى ظاهر وهذه الدلالة تفسد قول الفريقين
فان قالوا ليس يمتنع أن يتفق ذلك من الأمم العظيمة أليس العرب مع كثرتها لم يضعوا الفعل الحال عبارة تختصه دون الفعل المستقبل ولا وضعوا عبارة للاعتماد سفلا ولا للاعتماد علوا ولا للكون الذي هو يمنة أو يسرة ولا وضعوا عبارة لرائحة الكافور يختصها والحاجة إلى ذلك شديدة والأمر فيها ظاهر وقد أجاب قاضي القضاة فقال هذه الأشياء غير ظاهرة فلذلك لم يضعوا لها عبارات ولقائل أن يقول لا شيء أظهر من رائحة الكافور ومفارقتها لرائحة المسك والاعتماد والمدافعة للشيء سفلا ومفارقتها للمدافعة علوا ونحن نجيب عن السؤال بأن الذي أوجبناه لظهور المسمى وشدة الحاجة إلى العبارة عنه هو أن يوضع له في اللغة كلام ينبيء عنه سواء كان مفردا أو مركبا وعند خصومنا أنه ليس في اللغة كلام منفرد ولا مركب ينبيء عن الاستغراق وحده فلزمتهم الحجة فأما هذه الأشياء كلها فلها بأجمعها عبارات تعرف بها وهي أسماء مضافة لأنا إذا قلنا رائحة كافور و

اعتماد سفلا أو علوا وقلنا يضرب زيدا الآن تميزت من غيرها بهذه العبارات وكذلك إذا قال السائل الاشتراك بين الاستغراق وبين البعض معقول وقد تمس الحاجة إلى أن يجعل المتكلم غيره في شك من استغراق كلامه أو قصره على البعض فينبغي أن يكون في اللغة خطاب ينبيء عن الاشتراك لأنا نقول إن في اللغة خطابا ينبيء عن الاشتراك يفيد ذلك وهو أن يدخل الألف واللام على اسم الجمع على قول أبي هاشم فنقول جاءني الناس أو جاءني القوم ولو قال جاءني ناس أو جاءني قوم فأنى بلفظ جمع من غير ألف ولام لأفاد ذلك التردد بين الاستغراق وما دونه من الجموع ولو قال ايضا جاءني إما كل الناس وإما بعضهم يحصل له هذا الغرض
فان قالوا فنحن أيضا نقول إن في اللغة كلاما يفيد الاستغراق وهو قولنا استغراق قيل الذي نعرفه من قولكم خلاف ذلك ومن مذهبكم أن حسن الاستثناء والاستفهام والتأكيد يدل على أن اللفظة غير مستغرقة ومعلوم أنه يحسن أن نقول استغرقت أكل الخبز إلا هذا الرغيف ويحسن أن يستفهم المتكلم بذلك ويحسن أن يؤكده فيقول استغرقت أكل الخبز كله فان قالوا لا حاجة بهم إلى وضع لفظة الاستغراق لأنه يمكن المتكلم أن يعدد الأشخاص الذين يريد أن يعمهم بالحكم واحدا واحدا والجواب أنه قد يريد الإنسان أن يعبر عن جميع الناس ليدل على حكم يشملهم فلا يمكنه أن يعددهم واحدا واحدا وقد يمكن ذلك في بعض الأشخاص فيضق تعدادهم لكثرتهم فان قيل لا حاجة بهم إلى وضع اسم يختص الاستغراق لأنهم قد وضعوا له ولما دونه من الجمع اسما إذا استعملوه مع إشارة أو شاهد حال أنبأ عن الاستغراق فيجري ذلك مجرى اسم يختص الاستغراق قيل إنهم لا يعلمون أنه يقترن بالاسم إشارة أو شاهد حال يحصل العلم عندهما بالاستغراق ولا يجب أيضا وقوع العلم عند الإشارة على كل حال وعلى أن عدولهم إلى وضع الأسماء للمعاني واستكثارهم من العبارات عن الشيء الواحد يدل على أنهم قد

عدلوا عن الدلالة بالإشارة إلى العبارة لضيق الإشارة واتساع العبارة ووضوع دلالتها فلا يجوز مع هذا الفرض أن يتركوا ما يظهر في نفسه وتشد الحاجة إليه فلا يضعوا له عبارة فان قالوا إنهم يمكنهم أن يدلوا على الاستغراق بالتعليل فلا حاجة بهم إلى وضع عبارة له لأنهم إذا قالوا من دخل داري ضربته لأنه دخل داري علمنا أنه يعم بذلك كل من دخل الدار الجواب أنه ليس حكم يعرف علته فيعلل بها ألا ترى أن الإنسان إذا أراد أن يخبر بإن كل من في الدار نائم أو آكل أو ضارب إلى غير ذلك مما لا يحصي كثره لم يعرف لذلك علة فيعلل بها وقد تكون عللهم أيضا مختلفة فواحد أكل لعلة وآخر لعلة أخرى فلا يمكن تعليل ذلك بعلة تشيع فيهم فان قالوا إنما كان يلزم ما ذكرتموه لو كان أصل المواضعة من قبلهم إذا وضعوا الأسماء لعرض هو قائم في الاستغراق وجب أن يضعوا له كلاما أيضا فأما والاسماء توقيف فلا يلزم ذلك قيل لو كانت الأسماء توقيفا في الأصل لوجب إذا لم يوقفوا على وضع كلام لمعنى واشتدت حاجتهم إلى وضع كلام له أن يضعوه له كما أن من استحدث له من الصناع يلتجيء إلى وضع اسم لها وإن كان أصل المواضعة ليست لسبق إلى الفهم البعض دون الاستغراق من قبله وكذلك من ولد له ولد وإذا وجب ذلك في الشخص الواحد فللأمم الكثيرة في الأزمان المتصلة أولى بوجوب ذلك
دليل لو كان لفظ للعموم مشتركا بين الاستغراق وبين الجموع التي دونه لكان الإنسان إذا قال رأيت القوم كلهم أجمعين قد أكد الاشتراك والالتباس وكلما زاد في التأكيد زاد تأكيد الالتباس والإيهام ومعلوم باضطرار من مقاصد أهل اللغة أنهم لا يؤكدون بذلك الاشتراك بل يقصدون تأكيد الإيضاح والبيان وأنهم إذا أرادوا تأكيد الإيهام لم يعمدوا إلى هذا التأكيد وإنما قلنا إنه يلزم المخالف تأكيد الاشتراك والالتباس لأن لفظة كل مشتركة على سبيل الحقيقة بين الاستغراق وبين ما تحته من الجموع وكذلك لفظة أجمعين وكل من دل على شيء بدلالة ثم تابع بين الأدلة عليه فانه يتأكد ذلك المدلول وجرى مجرى أن يقول الإنسان رأيت جمعا

إما كل الناس وإما بعضهم ثم كرر هذا الكلام مرة أخرى في أنه يكون مؤكدا للالتباس وكذلك لو قال رأيت سقفا ثم قال رأيت سقفا أو قال رأيت إما الحمرة وإما البياض ولو جاز مع اشتراك اللفظتين بين الاشتراك وبين البعض أن تكون لفظة كل مؤكدة للاستغراق لجاز أن تكون مؤكدة للبعض إذ كل واحدة من اللفظتين حقيقة في الكل وحقيقة في البعض فلو جاز أن يتأكد باللفظة الثانية الكل جاز أن يتأكد بها البعض وذلك محال إن قيل إنما يؤكد بلفظة كل ولفظة أجمعين لأن لفظة كل أو لفظة أجمعين أكثر استعمالا في الاستغراق من غيرها من الألفاظ ولفظة أجمعين أكثر إستعمالا في الاستغراق من لفظة كل قيل أما لفظة أجمعين أكثر فأنه ليس يظهر أنها اسم لها وإن كان أصل المواضعة ليست إستعمالا في الاستغراق من لفظة كل ولو ظهر ذلك لكان لا يخلو إما أن تكون مع ذلك مشتركة بين الاستغراق وبين ما دونه أو لا تكون مشتركة بل تكون بالاستغراق أخص فإن كانت بالاستغراق أخص وهي مفيدة له على سبيل الحقيقة لا غير فهو قولنا دون قولكم وإن كانت مشتركة بينهما واحتمالهما لهما على سواء فالالتباس قائم فان قالوا إنما وقع التأكيد بلفظة أجمعين لأنها في العادة تستعمل في أكثر الجنس لا في أقله وليس كذلك الناس والقوم قيل هذا لا يمنع من أن يكون بتأكيد الاشتراك لأن استعمال لفظه كل وأجمعين في الأكثر لا يمنع من أن يكون مشتركة بين البعض وبين الاستغراق وأن يلتبس على السامع مراد المتكلم للكل والبعض وعلى أنه إن كانت هذه اللفظة أخص بالأكثر منها بالأقل فقد خرجت من أن تكون مشتركة ووجب كونها حقيقة في الأكثر فقط با وإن لم تكن بالاكثر أخص منها بالأقل بل احتمالها لهما على سواء فقد سقط السؤال وعلى أن هذا لا يتأتى في لفظة كل ولفظة أجمعين لأنه لا يمكن أن يقال إن إحداهما تستعمل في شيء أكثر مما تستعمل فيه الأخرى ألا ترى أنا إذا قلنا رأينا الذين في الدار كلهم أو قلنا رأينا الذين في الدار أجمعين لم يجد السامع فصلا بين الكلامين في كثرة

ما يفهمه وقلته وأيضا فقد يقول الإنسان ضربت الناس الذين في الدار أجمع فلو كانت إحدى اللفظتين لا تقع على سبيل الحقيقة إلا على أكثر مما تقع عليه الأخرى لما جاز تأكيد الأكثر بالأقل إن قيل الأمر وإن كان كما ذكرتم في لفظة كل ولفظة أجمعين إذا كانا مفردين فانهما إذا اجتمعا فقال القائل رأيت الناس كلهم أجمعين علمنا أنه رأى أكثر مما رآه لو قال رأيت الناس أجمعين أو قال رأيت الناس كلهم قيل إذا كانت كل واحدة من اللفظتين لا تفيد هذه الكثرة دون ما نقص عنها فيجب مثله عند الاجتماع لأن المركب من الكلام إنما يفيد تركيب معان مفردة فقط ولا يفيد فائدة زائدة
دليل متقرر أن أهل اللغة يلجأون في الإخبار عن الاستغراق إلى لفظة كل وجميع ولا يلجأون إلى لفظ الجمع نحو مسلمين وإن كان ذلك مشتركا في كل جمع فان قالوا إنما يلجأون إلى لفظ كل لما يقترن بها من شاهد الحال قيل فهلا اقترن بلفظ الجمع ذلك مع أنه مشترك كلفظة كل
دليل آخر الإنسان إذا سمع غيره يقول ضربت كل من في الدار وعلم أن في الدار عشرة ولم يعرف سوى هذا اللفظ أعني أنه لم يعرف أن في الدار أباه وغيره ممن يغلب على الظن أنه لا يضربه بل جوز أن يضربهم كلهم فان الأسبق إلى فهمه الاستغراق ولو كانت اللفظة مجازا في الاستغراق لسبق إلى الفهم البعض دون الاستغراق ولو كانت اللفظة مشتركة بين الاستغراق وما دونه لتردد في الفهم أنه أراد الكل أو البعض على سواء كما تترد معاني الأسماء المشتركة فلا تترجح في النفس ومن أنصف من نفسه علم أن الأمر كما قلناه
دليل قول القائل ضربت كل من في الدار يناقضه وينافيه قول لم أضرب كل من في الدار لأن الإنسان إذا أراد أن يناقض من قال ضربت

كل من في الدار قال له في الحال لم تضرب كل من في الدار فلو كانت لفظة كل مشتركة بين البعض والكل لم تكن مناقضة لقوله لم أضرب كل من في الدار لأن هذا القول يصدق إذا ضرب البعض دون البعض ولو كانت لفظة كل مجازا في الاستغراق لكان ما ذكرناه من نفي المناقضة أظهر وأبين ومعلوم أيضا أن لفظة كل مقابلة للفظة جزء وعلى كل حال وذلك يمنع من أن يكون قولنا كل مفيدا للجزء على الحقيقة
دليل قول القائل اضرب رجلا يفيد ضرب رجل غير معين وقولنا لا تضرب رجلا كالسلب له ولا يكون كالسلب له إلا بأن يفيد نفي ضرب كل الرجال لأنه لو نفي ضرب بعضهم لاجتمع مع ضرب رجل وفي ذلك إبطال تنافيهما وكذلك قول القائل ضربت رجلا وقوله لم أضرب رجلا
دليل اعلم أن لفظة من عامة إذا كانت نكرة في المجازاة والاستفهام وإذا كانت معرفة خصت هكذا ذكره شيوخنا ونحن نقول إن لفظة من لا يستفهم بها إلا أن يقرن بها صفة فاذا قرن بها صفة عمت كل عاقل له تلك الصفة سواء كانت معرفة أو نكرة يقول في الاستفهام من في الدار فيكون استفهاما عن كل عاقل في الدار ويقول في المجازاة من دخل داري ضربته فيعم كل عاقل دخل داره ويقول في المعرفة ضربت من ضربت يا زيد فيعم كل عاقل ضربه زيد فهي كالنكرة في هذا المعنى وإنما تفارق النكرة في أنها إذا كانت معرفة دخلت على من قد عرفة المخاطب والمخاطب وليس كذلك إذا كانت نكرة نحو قوله من دخل داري ضربته والدليل على أن لفظة من تعم في الاستفهام أنه لا شبهة في أنها حقيقة في العقلاء لأنه لا وجه يقتضي كونها حقيقة في غيرهم إلا وما هو أقوى منه يقتضي كونها حقيقة فيهم فلا يخلو إما أن تكون حقيقة في جميعهم فقط أو حقيقة في بعضهم فقط أو حقيقة في الكل وفي البعض فلو كانت حقيقة في البعض حتى يكون استفهاما عن صفة بعض العقلاء سواء كان معينا أو غير معين

لوجب إذا كان عند الإنسان بنو تميم كلهم فقال له قائل من عندك من بني تميم فذكرهم له واحدا واحدا أن يكون قد أجابه عما سأله وعما لم يسأله وذلك في القبح جار مجرى أن يجيبه بذكر العقلاء وبذكر الحمير ولو كانت حقيقة في بعض معين لوجب إذا كان عند المسؤول غير ذلك البعض من العقلاء أن لا تكون من استفهاما عنهم فكان لا يحسن أن يذكرهم في الجواب كما لو كان عنده البهائم إذ السؤال ما تناولهم وأيضا فالمسؤول لا يعرف البعض الذي يكون لفظة من سؤالا عنه لأنه ليس له ذكر في لفظة من وفي ذلك كون المسؤول غير عارف بما سئل عنه ولا يقصد السائل بسؤاله بعضا دون بعض ولا عددا دون عدد وأيضا فليس بأن تتناول لفظة من بعضا من العقلاء بأعيانهم بأولى من أن تتناول بعضا آخر ولو كانت لفظة من مشتركة بين الكل والبعض لكان العبد إذا قال له سيده من عندك وعنده جماعة من الناس له أن لا يجيب بذكر جميعهم ومعلوم أن العقلاء يلومونه عى ذلك ويقولون له قد قال لك من عندك فلم أجبته بذكر البعض ولكان له أن يقول ما أدري ما الذي تعنيه بكلامك إذ كلامك مشترك بين البعض وبين الكل ولكان له أن يقول أعن خمسة تسألني أو عن ستة أو عن سبعة ولكان له أن يقول عن العرب تسألني أم عن العجم فاذ قال له عن العرب قال أعن مضر أم عن ربيعة فاذا قال عن مضر قال أعن بني سعد أم عن بني زيد ثم يتصل الاستفهام من المسؤول هكذا لأنه لا وجه يقتضي كون لفظة من مشتركة بين الكل والبعض الاوهو قائم في قولنا العرب وفي قولنا بني تميم ومن مذهب المخالف أيضا أن هذه الألفاظ كلها مشتركة ومعلوم قبح هذا الاستفهام بل لا يتفق ذلك من العقلاء ولا ما هو أقل منه فان قالوا إنما لم يحسن إيصال هذا الاستفهام لأن المسؤول يضطر الى قصد السائل عن بعض هذه الاستفهامات قيل فكيف يضطر إلى قصده ابدا مع أن جميع ما يأتيه من الألفاظ مشترك وهل هذا إلا كالقول بأن الإنسان إذا سمع غيره يقول

رأيت شفقا علم على طريقة واحدة أن المتكلم قد أراد الحمرة في أن ذلك محال وإنما يتفق ذلك في بعض الحالات أن يضطر إلى أنه أراد أحد المعنيين وإلا فالأصل أن يلتبس عليه ولو جاز أن يضطر إلى قصده أبدا لكان الاسم المشترك أظهر من الاسم الذي حقيقته معنى واحد لأن هذا الاسم لا يضطر السامع إلى معناه على طريقة واحدة وإنما يظن أنه قصد ذلك المعنى أو يعلم علم استدلال إذا كان المتكلم به حكيما
فان قالوا إنما يضطر السامع إلى قصد المتكلم لما يقترن بكلامه من الإشارات قيل إنه لفظة من ليس يقترن بها إشارة ولو أقترن بها إشارة في بعض الحالات لجاز أن لا يقترن بها في حالة أخرى وكان ينبغي أن يحسن هذا الاستفهام الذي ذكرناه إذا لم تقترن الإشارة بكلامه وأيضا فليس بواجب حصول العلم عند الإشارة على كل حال فكان ينبغي أن يحسن هذا الاستفهام في حال دون حال إن قيل أليس قد يقول المتكلم لمن قاله من عندك أعن العرب تسألني أم عن العجم فبطل قولكم إن ذلك لا يحسن الجواب أنه متى لم يعرف إلا مجرد اللفظة لم يحسن منه هذا الإستفهام وإنما يحسن منه ذلك إذا علم من ضمير السائل أن غرضه أن يسأله عن أحد القبيلتين إما العرب وإما العجم ولا يعرف أن غرضه أحدهما بعينه فيقول له أعن العرب تسألني أم عن العجم ولو كان الأصل حسن سؤاله عن أحد القبيلتين لكان ينبغي أن يكون حسن هذا الاستفهام هو الأكثر وقبحه هو القل والأمر بخلاف ذلك ويحسن أن يتصل الاستفهام على ما ذكرناه فعلمنا أنه إن حسن أن يقول المسؤول للسائل أعن العرب تسألني فلما ذكرناه وقد يكون عند المسؤول عالم من الناس يعجز عن ذكر آحادهم فيقول عندي عالم من الناس لا أستطيع ذكر آحادهم فيعتذر بذلك ويدل اعتذاره على أن المفهوم من لفظة من السؤال عن كل عاقل عنده إن قيل إنما يجيبه بذكر كل عاقل عنده لأنه إذا أجابه بذلك فقد صار إلى غرض السائل لأنه إن كان غرضه السؤال عن الكل فقد أجابه وإن كان غرضه السؤال عن البعض

فقد دخل تحت جوابه عن الكل قيل يقتضي حسن جوابه عن الكل ولا يوجبه وفي ذلك حسن استفهام المسؤول عن الحد الذي ذكرناه وأيضا فان كانت اللفظة مشتركة فليس في جواب المسؤول بذكر الكل وصول إلى غرض السائل على كل حال لأنه قد يجوز أن يكون غرضه السؤال عن البعض وهو أحد محتملي السؤال وأن لا يفحص عن الباقي ولا يعرفه فان قالوا لو كان هذا غرضه لما أتى بلفظ مشترك قيل ولو كان غرضه الكل لما أتى بلفظ مشترك بين الكل وبين البعض وعلى أن هذا يقتضي أن يكون غرض المستفهم بلفظة من السؤال عن الكل أبدا وهذا يقتضي السامع ذلك من غرضه وذلك يزيل كونها مشتركة فان قالوا إنا غير مشتركة من جهة العرف قيل إذا ثبت لنا أنها غير مشتركة في اللغة في هذا الوقت فقد تم غرضنا ولا ضرر علينا في أن لا نعرف لماذا وضعت من قبل على أنه لا طريق إلى أن نعلم أن اللفظة موضوعة في أصل اللغة للشيء إلا أن نعلم أنها حقيقة فيه في هذا الوقت ولا يدل دليل على أنها منقولة فلو جوزنا في لفظة من أن تكون منقولة لم يجوز ذلك في كل لفظة
دليل القائل إذا قال من دخل داري ضربته حسن أن يستثنى منه كل عاقل والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته فاذا لولا الاستثناء لوجب دخول كل عاقل تحت لفظة من فلو كانت لفظة من حقيقة في الخصوص مجازا في العموم أو كانت حقيقة في الاستغراق وفيما دونه من الجموع لما وجب دخول كل عاقل تحت الكلام على كل حال إن قال أصحاب الاشتراك ما أنكرتم أن يكون الاستثناء إنما يخرج من الكلام ما لولاه لصح دخوله تحته فجاز أن يستثنى الإنسان من لفظة من أي عاقل شاء لصحه دخول كل عاقل تحتها قيل لو جاز ما ذكرت لجاز أن يقول القائل لغيره اضرب رجالا إلا زيدا وهذا الكلام في الحسن والإستقامة يجري مجرى قول قائل من دخل داري ضربته إلا زيدا لأن أي رجل أشرت إليه يجوز أن يدخل تحت قوله اضرب رجلا على سبيل الجمع

والشمول ومعلوم أن أهل اللغة لا يتناولون قول القائل من دخل داري ضربته إلا زيدا بل يجعلون ذلك استثناء حقيقة ويتأولون قوله اضرب رجالا إلا زيدا ويقولون إن إلا ها هنا بمنزلة ليس كأنه قال اضرب رجالا ليس زيد منهم
وقد استدل أصحابنا على أن الاستثناء لا يخرج من الكلام ما لولاه لصح دخوله تحته بأشياء
منها قولهم لو حسن ذلك لحسن أن يقول القائل ضربت رجلا إلا زيدا ورأيت رجلا إلا زيدا لأن كل رجل يصح دخوله تحت قوله أضرب رجلا ولقائل أن يقول أما قول القائل اضرب رجلا إلا زيدا فحسنه لازم لكم لأن قوله اضرب رجلا يتناول كل رجل على البدل على سبيل الوجوب لا على سبيل الصحة فكان ينبغي أن يحسن أن يستثنى منه زيدا ليخرج من وجوب تناول الخطاب له على البدل فان قلتم إنما لم يحسن ذلك لأن قوله اضرب رجلا لا يتناول كل رجل على جهة الشمول والاستثناء يخرج ما لولاه لوجب دخوله تحته على جهة الشمول الجمع قبل لكم ما أنكرتم أن يكون الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لصح دخوله تحته على جهة الشمول أيضا وأما قوله رأيت رجلا إلا زيدا فانه لا يستعمل لأن قوله رأيت رجلا وإن لم يفد رجلا بعينه فاذا نعلم أن رؤيته ما تناولت إلا شخصا معينا وإن لم يكن معينا لنا والشيء الواحد المعين لا يجوز أن يستثنى منه لأنه لم يدخل معه غيره لا على جهة الشمول ولا على جهة البدل
ومنها قولهم إن الاستثناء يدخل على ألفاظ العدد كقول القائل له على عشرة إلا واحدا وإنما حسن دخوله على العشرة لأنه قد أخرج منها ما لولاه لدخل فيها ألا ترى لا يحسن استثناؤها كلها ولا استثناء ما لم يدخل تحتها ولقائل أن يقول إنما حسن استثناء الواحد من العشرة لأنه لولا الاستثناء لصح

دخوله في الخطاب لا لوجوب دخوله فيه لأن وجوب دخول الواحد في جملة العشرة لا يمنع من كون دخوله صحيحا إن قيل كيف يكون دخوله صحيحا وواجبا قيل إن صحة دخوله تحت لفظ العشرة نعني به أن اسم العشرة يتناوله مع غيره على سبيل الحقيقة ووجوب دخوله تحته نعني به أنه لا يكون الخطاب حقيقة إلا إذا دخل تحته ومعلوم أن القسم الأول داخل تحت القسم الثاني ويبين ذلك أن كلما وجب له حكم من الأحكام فذلك الحكم صحيح عليه غير مستحيل وأيضا فلو كان يج دخوله تحت الخطاب مباينا لما يصح دخوله تحته لم يصح الأستدلال بدخول الاستثناء على لفظ العدد لأن ذلك يدل على أن الاستثناء يخرج ما لولاه لوجب دخوله تحت الخطاب وذلك لا يمنع من إخراجه ما يصح دخوله تحته لأن حسن أحدهما لا يمنع من حسن الآخر
ومنها قولهم إن أهل اللغة قالوا إن الاستثناء هو إخراج جزء من كل والجزء يجب كونه جزء لكله ولقائل أن يقول إن الشيء قد يكون جزء للشيء على طريق الصحة وعلى طريق الوجوب أما الذي هو جزء على طريق الوجوب فالواحد من العشرة وأما الذي هو جزء على طريق الصحة فانه يجوز أن يكون جزءه ويجوز أن لا يكون جزءه نحو قول القائل اضرب رجالا فانه يجوز أن يكون زيد جزء منهم ويجوز أن لا يكون منهم فاذا كان كذلك فليس في قول أهل اللغة إن الاستثناء يخرج جزء من كل ما يدل على أنه يخرج ما يجب أن يكون جزء من الكل والمعتمد في الجواب على الأول إن قيل لو كان الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته يحسن أن يستثني الإنسان من قوله من دخل داري ضربته الملائكة والجن لأنه يجب دخولهم تحت لفظة من قيل ولو كان يخرج من الكلام ما لولاه لصح دخوله تحته لحسن استثناء الملائكة والجن من قول القائل من دخل داري ضربته لأن تناول الخطاب لم يصح وأيضا فإنا إنما قلنا إن الاستثناء لا يخرج من الكلام إلا ما يجب دخوله تحته وهذا يقتضي أن يكون كل ما هذه سبيله فيجب

دخول الاستثناء عليه وأيضا فالاستثناء إنما يخرج من الكلام ما لولاه لتناوله الكلام ولم يمنع مانع من دخوله تحته لولا الاستثناء لأنه والحال هذه يجب دخول المستثنى منه تحت الخطاب والملائكة والجن قد منع مانع من دخولهم تحت الخطاب وعلمنا أن المتكلم ما أرادهم قبل الاستثناء فلم يكن في الاستثناء فائدة ولما لم يمتنع أن يدخلوا تحت خطاب الله سبحانه حسن أن يتناولهم الاستثناء لأنه لو قال من عصاني عاقبته حسن أن يستثني الملائكة والجن
دليل وقد استدل في المسألة بأن أهل اللغة فصلوا بين العموم وبين الخصوص وجعلوا أحدهما في مقابلة الآخر فقالوا مخرج هذا اللفظ العموم ومخرج هذا الخصوص كما فصلوا بين الأمر وبين النهي فكما وجب أن يكون لكل واحد منهما لفظ يخصه فكذلك العموم والخصوص وهذه الدلالة إنما تفسد القول بأن لفظ العموم يفيد ما يفيده لفظ الخصوص فقط وانه يستفاد منه العموم بالقصد لأن القائل بهذا القول لا يجعل أحدهما منفصلا من الآخر وذلك يمنع من أن يكون أحدهما في مقابلة الآخر لأن الشيء لا يكون في مقابلة نفسه غير أنه يبعد أن يذهب إلى هذا القول أحد فأما قول الخصم بأن العموم مشترك بين أول المجموع وبين الاستغراق وما بينهما من الجموع ولا يفيد ما نقص عن أقل الجمع على سبيل الحقيقة والخصوص يفيد عينا واحدة فان هذا الدليل لا يفسده وكذلك لو قال إن لفظ العموم يفيد أقل الجمع دون ما فوقه على سبيل الحقيقة والخصوص لا يفيده على سبيل الحقيقة إلا عينا واحدة لأنه بهذا القول قد خالف بينهما في الفائدة
وذكر قاضي القضاة في الشرح أن الذي يفسد قول الذاهبين إلى أن لفظ العموم مشترك بين الإستغراق وبين ما دونه أن أهل اللغة فصلوا بين لفظ العموم وبين النكرة في الإثبات نحو رجل وما أشبه ذلك ولن يتم ذلك إلا مع القول بأن في العموم ضرب من الاستغراق ولقائل أن يقول إن ذلك يتم من دون ما ذكره لأني أجعل النكرة في الإثبات تتناول واحدا غير معين ولفظ العموم يفيد الجمع المستغرق وغير المستغرق على البدل

دليل ومما استدل به في المسألة هو أن أهل اللغة خالفوا بين تأكيد العموم وبين تأكيد الخصوص فجعلوا تأكيد أحدهما مفارقا لتأكيد الآخر ألا ترى أنهم قالوا رأيت زيدا نفسه ولم يقولوا رأيت زيدا أجمعين وقالوا رأيت القوم أجمعين ولم يقولوا رأيت القوم نفسه قالوا فكما أن تأكيديهما مختلفان لا بالقصد فكذلك هما يجب أن يختلفا لا بالقصد لأن من حق التأكيد أن يطابق المؤكد ولا يلزم على ذلك الإشارة لأنها تورد للاستعانة بها والاستراحة إليها لا للتأكيد ومع ذلك فان الاشارة إلى جماعة من الناس مخالفة للإشارة إلى شخص واحد ولهذا إذا قال الإنسان جاءني هؤلاء القوم اشار إلى جماعتهم وحرك إصبعه في جهتهم وإذا قال جاءني زيد وحده أشار إليه وحده وكذلك إذا أشار وهم عنه غيب فقال جاءني القوم كلهم وقال جاءني زيد وحده وهذه الدلالة إنما يبطل بها قول من قال إن لفظ العموم لا يفيد إلا ما يفيده الخصوص لأن القول بذلك يلزم عليه أن يكون تأكيد العموم كتأكيد الخصوص فأما إذا قال إن لفظ الخصوص يتناول الواحد ولفظ العموم يفيد الجمع وهو مشترك بين كل الجموع ولا يقع على الواحد إلا مجازا فانه قد خالف بين فائدتيهما فلم يلزمه أن يوافق بين تأكيديهما
شبهة لهم
قالوا لو كان لفظ العموم مستغرقا لكان ذلك معلوما إما بالبديهة أو باخبار الواضعين لذلك لنا مشافهة أو بنقل عنه إما بالتواتر أو بالآحاد وأن يكون طريق ذلك الشرع قالوا ليس خلافنا معكم في أن ذلك معلوم بالشرع لأنكم تدعون العلم بالاستغراق من جهة اللغة قبل الشرع ومعلوم أن العلم بذلك ليس من البديهة وما شاهدنا الواضعين فيشافهونا بذلك فلو تواتر النقل عنهم باستغراق ألفاظ العموم لعلمنا من ذلك ما علمتم وأخبار الآحاد ليست طريقا إلى العلم ولو كان الخبر عن استغراق العموم خبر واحد لم

ينفعكم فبان أنه لا طريق إلى العلم باستغراق ألفاظ العموم والجواب يقال لهم أتجعلون هذه الشبهة دلالة على أن لفظ العموم ما وضع للاستغراق أو تجعلونها دلالة على أنه وضع للاستغراق ولما دونه فان قالوا بالأول قيل لهم نحن نعلم ضرورة بالنقل عنه وعند استعمالهم الكلام أن لفظة كل وجميع إذا استعملت في الإستغراق لم تكن مجازا ولو لم نعلم ذلك ضرورة لجاز أن نعلم بدليل وهو أن ينقل عنهم بالتواتر أنهم أضافوا إلى هذه الألفاظ أحكاما لا تصح إلا إذا كانت الألفاظ عامة نحو الاستثناء والاستفهام وغير ذلك وعلى أن ما ذكروه يقتضي أنه لا طريق لهم إلى العلم بأن لفظ العموم وضع للاستغراق وهذا يقتضي أن يجوزوا كونه موضوعا له وهم يقطعون على أنه غير موضوع له ولا يشكون فان قالوا مذهبنا أن لفظ العموم موضوع للاستغراق ولما دونه قيل لهم فالشبهة عليكم لا لكم لأنكم قد سلمتم أن لفظ العموم موضوع للاستغراق وهو حقيقة فيه فكأنكم إنما استدللتم على أنه موضوع لما دونه ونحن ننفي ذلك فلنا أن نقول لو كان موضوعا لما دونه لكان ذلك معلوما بالبديهه أو بمشافهة الواضعين أو بالتواتر عنهم أو بالآحاد ولا تواتر في ذلك ولا آحاد لأنه ليس أحد من أهل اللغة قال إن لفظة كل حقيقة في البعض ولا نقل ذلك ناقل واحد فالكلام لازم لأنه لو وضع لما دون الاستغراق لما جاز أن يضرب أهل النقل بأجمعهم عن نقله
شبهة قالوا لو كان العموم موضوعا للاستغراق لفهم السامع له الاستغراق عند إدراكه بأول وهلة كما علم الخصوص عند إدراكه الخصوص الجواب يقال لهم لم زعمتم أنه كان يجب ذلك وأيضا فليس كل معلوم يعلم عند الإدراك بأول وهلة بل كثير من المعلومات يعلم بتأمل ونظر ولا يمتنع أن العموم يعلم بالأدلة التي ذكرناها وعلى أن كثيرا من ألفاظ العموم نحو كل و جميع
إذا تجردت علم من خالط أهل العربية من قصدهم استغراقها حتى إذا

سمعها متجردة عن قرينة سبق إلى فهمه الاستغراق نحو أن يقول القائل ضربت كل من في الدار فهي كألفاظ الخصوص وإن جاز أن يكون العلم بفائدة لفظ الخصوص أظهر ويقال لهم ولو كان لفظ العموم موضوعا للاستغراق أو ولما دونه فقط لعرف ذلك من سمع العموم بأول وهلة
شبهة قالوا لفظ العموم يستعمل في الاستغراق وفيما دونه على سواء فكما وجب أن يكون حقيقة في الاستغراق وجب كونه حقيقة فيما دونه الجواب يقال لهم لو تعنون بقولكم إنها مستعملة في الاستغراق وفيما دونه على حد سواء أنها مستعملة فيهما على حد الحقيقة فهو موضوع الخلاف وفي ذلك استدلالكم بالشيء على نفسه وإن أردتم أنها تستعمل في كل واحد منها من غير قرينة بل يكتفي بها في الدلالة على الاستغراق وعلى ما دونه لم نسلم لكم ذلك ولم يمكنكم أن تقولوه مع القول بالاشتراك فان أردتم أنها لا تستعمل في الاستغراق ولا فيما دونه إلا مع قرينة وأنها لا تدل على واحد منها إلا بقرينة لم نسلمه لكم ولا يمكنكم أن تعلموا أنها لا تدل على الاستغراق بنفسها إلا بعد أن تصححوا كونها مشتركة ويلزمون أن يكون قولنا حمار حقيقة البليد
فان قالوا ليس مستعمل فيه كاستعماله في البهيمة قلنا لهم وليس استعمال لفظ العموم وفيما دون الاستغراق كاستعماله في الاستغراق وأي وجه فصلوا به بين استعمال اسم الحمار في البهيمة وفي البليد أمكننا ذكره في مسألتنا
واستدلوا بالاستعمال على وجه آخر فقالوا إن لفظ العموم يستعمل في الاستغراق وفيما دونه والظاهر من استعمال الاسم في الشيء أن يكون حقيقة فيه إلا أن يمنع مانع من كونه حقيقة فيه نحو أن يعلم باضطرار من قصد أهل اللغة أنهم يتجوزون بالاسم فيما استعملوه فيه والجواب يقال لهم لم زعمتم أن الظاهر من استعمال الاسم في الشيء أنه حقيقة فيه وما أنكرتم أن استعماله فيه يدل على

أنه مستعمل فيه في اللغة فأما أنه حقيقة فيه أو مجاز فيحتاج فيه إلى نظر آخر
فان قالوا لو لم يكن الاستعمال طريقا إلى كونه الاسم حقيقة لم يكن لنا في الفصل بين كون الاسم حقيقة أو مجازا طريق قيل هذا دعوى ونحن قد بينا وجوها يفصل بها بين الحقيقة والمجاز إلا هذا ولو لم يكن هذا فصلا صحيحا فقد لزمنا وإياكم أن لا يكون لنا طريق للفصل بينهما وليس يصير الشيء دليلا على الشيء لأنه قد فسد أن يكون غيره دليلا وليس يجوز أن يكون ما ذكروه دليلا على الحقيقة لأن غيره لا يكون دليلا عليها ويقال لهم إنما يجب أن يكون اللفظ حقيقة في الشيء إذا لم يمنع مانع من كونه حقيقة فيه إذا كان ظاهر استعماله فيه يقتضي أن يكون حقيقه فيه حتى إذا لم يمنع مانع مما يقتضيه حكم الظاهر حكم به فما معنى قولكم إن ظاهر استعمال الاسم في الشيء يقتضي كونه حقيقة فيه فان قالوا معنى ذلك أنه لا يستعمل الاسم في الشيء إلا وهو حقيقة فيه انتقض عليهم بأسماء المجاز كلها وقيل لهم أيضا قولكم إلا أن يمنع من ذلك مانع يوجب أنه قد يكون الاسم مجازا فيما استعمل فيه إذا منع مانع من كونه حقيقة فيه فان قالوا معنى ذلك أن الاسم إذا استعمل في الشيء فالأكثر والأغلب أنه حقيقة فيه قيل لهم بل الأكثر استعمال المجاز ولو صح ما ذكرتموه لكان ذلك يفيد غالب الظن فان الاسم إذا استعمل في الشيء كان حقيقة فيه
فان قالوا معنى قولكم إن ظاهر العموم الاستغراق قيل معنى ذلك أنه موضوع له وحقيقة فيه وأن المتكلم يجب أن يعني به موضوعه إذا جرده عن دلالة ولا يمكنكم ذكر ذلك في الاستعمال لأن الاستعمال ليس بلفظ فيكون موضوعا للشيء فيقال له إنه ظاهره والأسبق إلى الأفهام فلم يكن له معنى إلا الوجهين اللذين ذكرناهما
يلزمون أن يكون اسم الأسد حقيقة في الشجاع لأنه مستعمل فيه فان قالوا قد منع من ذلك مانع وهو علمنا باضطرار من قصد أهل اللغة أنه ليس

بحقيقة فيه قيل لهم فكذلك نحن نعلم باضطرار من قصد أهل اللغة أن قول القائل ضربت كل من في الدار إذا استعمل في ثلاثة وفيها عشرة أنه مجاز فان قالوا كيف نعلم ذلك باضطرار ونحن نخالفكم فيه قيل وكيف علمتم باضطرار أن اسم الأسد واقع على الشجاع مجازا والنافون للمجاز في اللغة يمنعون من كون هذا الاسم للشجاع مجازا ويقال لهم أليس قولنا أمر مستعمل في الشأن والفعل وليس بحقيقة فيهما وليس يمكنكم القول بأنكم تعلمون باضطرار كون ذلك مجازا فيهما لوجدنا خلقا من الناس يقولون إن ذلك حقيقة فيهما وكذلك وقوع اسم الشفاعة على طلب المنافع مجاز عند المرجئة وليس بمعلوم كونه مجازا باضطرار لأنا نذهب إلى أنه حقيقة فيه
وأيضا فليس يجوز أن يقتصر في كون اللفظ مجازا على أنا نعلم باضطرار من قصد أهل اللغة أنه مجاز لأنه ليس كل ما لم نعلم باضطرار وجب نفيه لأن الحكم قد يعلم بدليل وقد يعلم باضطرار فأن قالوا إن الظاهر من استعمال اللفظ في الشيء أن يكون حقيقة فيه إلا أن يعلم باضطرار أو بدليل أنه مجاز فيه ولفظ العموم مستعمل فيما دون الاستغراق ولا يعلم أنه مجاز فيه فوجب كونه حقيقة فيه ولا يلزم على ذلك استعمال اسم الأسد في الشجاع واسم الشفاعة في طلب المنافع لأنا قد علمنا أن اسم الأسد مجاز في الشجاع وعلمنا بالدليل أن اسم الشفاعة مجاز في طلب المنافع قيل قد بينا أنه لا معنى لقولكم إن ظاهر استعمال اللفظ في الشيء أن يكون حقيقة فيه وبينا أن استعمال الاسم في الشيء إنما يدل على أنه يقيده في اللغة فلا يخلو أنه إذا لم نعلم أنه مجاز فيه إما أن لا نعلم ذلك مع الفحص عن أدلة المجاز مع علمنا بانتفائها ذلك عن اللفظ أو مع انتفاء الفحص عن أدلة المجاز فان كنا لم نفحص عن أدلة المجاز فنعلم انتفائها فلا معتبر بفقد علمنا بأنه مجاز نحو أن يكون في اللغة ما يدل على أنه مجاز وإن كنا لم نعلم أنه مجاز مع علمنا بانتفاء أدلة المجاز عن اللفظ فقد صار الدليل على أن اللفظة حقيقة هو أنا لما رأيناها مستعملة في الشيء علمنا أنها من اللغة ثم قلنا إما أن تكون حقيقة فيه أو مجازا وليست

مجازا لأن للمجاز أدلة محصورة كلها منتفية عنه فصح كونها حقيقة وإذا كان كذلك لم تصح هذه الدلالة إلا بأن يحضر أدلة المجاز وتبين زوالها عن اللفظ إذا استعمل فيما دون الاستغراق فيجب أن تبينوا ذلك حتى يصح دليلكم فان قالوا فما الفرق بين هذا الاستدلال وبين استدلالكم بظاهر العموم وقولكم إنه على الاستغراق إلا أن يدل دليل على تخصيصه قبل إن لفظ العموم عندنا موضع للاستغراق فصح أن نقول إنه يفيده إلا أن يمنع منه مانع وقد بينا بطلان القول بأن ظاهر الاستعمال يفيد الحقيقة ومع ذلك فليس يصح أن يعلم استغراق العموم إلا بأن يعلم أنه موضوع للاستغراق ويعلم انتفاء ما يخصه كما لا يعلم أن اللفظ حقيقة فيما استعمل فيه إلا بعد أن يعلم انتفاء أدلة المجاز فهما سيان من هذه الجهة غير أنه يجوز للمستدل بظاهر العموم أن يعول عليه ويكون على المناظر له أن يورد عليه ما يخص العموم ولا يتكلف المستدل بيان فقد ما يخص العموم لأنه قد ذكره ما يدل على الاستغراق إذا لم يكن في معارضة ما يخصه فهو معول على دلالة المشروط فلو كلفناه تصحيح الشرط لطال ولم يتسع له الزمان وليس كذلك من قال إن ظاهر الاستعمال الحقيقة إلا أن يمنع مانع لأنا قد بينا أن محصول كلامه أن اللغة تجوز استعمال الاسم فيما دون الاستغراق وإنما نعلم أنه حقيقة فيه لفقد دلالة المجاز فقوله إنني قد فقدت أدلة المجاز اقتصار على دعوى فقط فان أمكن تصحيحها وإلا فهو مقتصر على دعوى
شبهة
قالوا لو كان لفظ العموم مستغرقا لكان الاستثناء منه نقضا ورجوعا ويقال لهم ما معنى كونه نقصا فان قالوا معنى ذلك أنه يدلنا على أن لفظ العموم قد أراد به المتكلم بعض ظاهره واستعمله فيه فقط قيل فهذا مذهبنا فان سميتموه نقضا فلا يضرنا ثم يقال لهم أتريدون أن ظاهر العموم عندنا الاستغراق إذا تجرد عن اسثناء وما يجري مجراه أو وإن لم يتجرد فان قالوا إذا تجرد قيل لهم فما تجرد في مسئلتنا وإن قالوا وإن لم يتجرد قيل لهم لا

يسلم ذلك خصوصهم على أن لفظ العموم إنما يستغرق ما دخل عليه وإذا كان معه استثناء فهو داخل على ما عدا المستثني وهو مستغرق له فلم يكن الاستثناء نقضا من ذلك لفظة كل تقتضي استغراق ما دخلت عليه لأنك إذا قلت ضربت كل من في الدار استغرقت لفظة كل جميع من في الدار لا غيرهم وإذا قلت ضربت كل رجل طويل كان ذلك مستغرقا لكل طويل لا غير فكذلك قولك كل رجل في الدار إلا بني تميم معناه كل من عدا بني تميم فلفظة كل دخلت على من عداهم فاستغرقتهم فاذا استعملت لفظة كل في هذا الموضع في غير ظاهرها فيكون الاستثناء نقضا لها وعلى أنه لو كان ظاهر العموم الاستغراق على كل حال والاستثناء قد صيرها مجازا لم يلزم أن يكون نقضا لأن ما دل على أن الكلمة مجاز لا يكون نقضا لها كالقرينة الدالة على أن قولنا أسد مستعمل في الرجل الشجاع فان قيل لو لم يكن قول القائل ضربت كل من في الدار إلا بني تميم نقضا وقبيحا لكان قوله ضربت كل من في الدار لم أضرب كل من في الدار غير مناقضة ولا قبيحا قيل هذا لكم ألزم لأنكم تذهبون إلى أن لفظة كل حقيقة في الاستغراق وفي البعض أيضا ويحسن عندكم الاستثناء منها لأنه يدل على أن لفظ العموم مستعمل في إحدى حقيقتيه فيلزم أن يحسن أن يقول الإنسان ضربت كل من في الدار لم أضرب كل من في الدار ليدل بذلك على أنه استعمل لفظة كل في إحدى حقيقتيها وهي البعض والفرق عندنا بين الموضعين أن الاستثناء لما لم يستقل بنفسه وجب تعليقه بما تقدم وذلك يدل على أن المتكلم بالمستثنى منه ما استوفى غرضه منه لأنه ما عدل عنه ألا ترى أنه قد قيده بما لا يستقل إلا معه وإذا لم يكن عادلا عن الكلام بالاستثناء صار الاستثناء جزء من الجملة وصار مجموع المستثنى والمستثنى منه كالجملة الواحدة ودل مجموعها على استغراق ما عدا المستثنى وليس كذلك قول القائل ضربت كل من في الدار لم أضرب كل من في الدار لأن كل واحدة من الجملتين مستقلة بنفسها لا يجب أن تعلق الثانية بالأولى فعدول المتكلم من

الجملة الأولى إلى جملة مستقلة بنفسها لا يجب تعليقها بالأولى يدل على أنه قد استوفى غرضه من الاولى فلما أقر بالثانية كان قد نقض الاولى لأنها تنافيها بعد استيفاء الغرض من الاولى وأيضا فان لفظ العموم إنما دخل على ما عدا المستثنى على ما بيناه فهو مستغرق له دون غيره كما أن العموم المشروط والمقيد بالصفة إنما دخل على ما عدا الشرط والصفة وليس يجب أن يقبح العموم المشروط ولا العموم المقيد بالصفة كما يقبح قول القائل ضربت كل الناس لم أضرب كل الناس لأن كل واحدة من اللفظتين قد دخلت على الناس يبين ما ذكرناه أن الإنسان إذا قال ضربت كل من في الدار عم جميعهم وإذا قال لعبيده أكرم كل الناس عم الجميع وإذا قال لعبيده أكرم كل الناس إن كانوا مؤمنين عم المؤمنين دون غيرهم واقتضى ذلك التخصيص ولم يجز قياسا على ذلك أن يقول ضربت كل من في الدار لم أضرب كل من في الدار فكذلك القول في العموم المستثنى منه فهذا كلام في قولهم إن الاستثناء نقض
ثم يقال لهم ما معنى قولكم إن الاستثناء رجوع فان قالوا رجوع عن ظاهر الكلام لأن ظاهر العموم الاستغراق عندكم والاستثناء قد منع منه فقد تقدم الكلام على ذلك وقلنا إن العموم اقتضى استغراق ما دخل عليه وهو ما عدا المستثنى وقلنا إنه لو اقتضى استغراق الكل والاستثناء يمنع من ذلك لكان قد دل على أنه مجاز وذلك غير مستحيل وإن قالوا اردنا أنه رجوع عن الإرادة لأن المتكلم أراد بلفظ العموم الاستغراق ثم عدل عن هذه الإرادة إلى إرادة البعض فقط عند الاستثناء قيل لهم ولم زعمتم أنه أراد عند أول كلامه استغراق الجميع وما أنكرتم أنه أراد استغراق ما دخل عليه لفظ كل وهو ما عدا المستثنى فلا يكون قد أراد شيئا ثم عدل عنه فان قالوا لو كان المتكلم قد أراد البعض بلفظ العموم لكان قد استثنى مما لم يرد وذلك محال قيل إنه أراد الكل بلفظ العموم لكنه أراد كل ما دخل عليه اللفظ وهو ما عدا المستثنى فلا نقول إنه أراد البعض ثم استثنى كما نقول لو أنه إذا

قال اضرب كل الرجال الطوال دون القصار على انه يلزمهم مثل ما ألزمونا لأنا لا نقول لهم إذا كان لفظ العموم مشتركا بين الاستغراق وبين ما دونه فأخبرونا هل أراد المتكلم الاستغراق ثم استثنى منه أو أراد البعض ثم استثنى منه زيدا فان قالوا بالأول قيل لهم فقد رجع وإن قالوا بالثاني قيل لهم أفهل استثنى منه زيدا من البعض الذى أردناه أو من البعض الذى لم نرده فان قالوا بالأول قيل لهم هذا رجوع وإن قالوا بالثاني قيل لهم فقد أخرج بالاستثناء ما لم يرده وهذا الذي أتيتموه
وربما تعلقوا بالاستثناء من وجه آخر فقالوا لو كان لفظ العموم مستغرقا لجرى الاستثناء منه مجرى أن يعدد الإنسان أشخاص الجنس ثم يستثنى منه شخصا نحو أن يقول رأيت زيدا رأيت عمرا رأيت خالدا هكذا إلى آخر الناس ثم يقول إلا زيدا فلما قبح هذا قبح ذاك وفي حسن الاستثناء دليل على ان لفظ العموم غير شامل يقال لهم لم زعمتم أنه إذا قبح أحدهما قبح الآخر وما أنكرتم أن الفرق بينهما أن الاستثناء إخراج جزء من كل فيدل على أن المتكلم استعمل لفظ الكل في جميع ما عدا الاستثناء فاذا قال الإنسان رأيت زيدا رأيت عمرا إلا زيدا لم يخل قوله إلا زيدا إما أن يكون راجعا إلى زيد او إلى عمرو فان رجع إلى زيد كان ذلك رجوعا ونقضا وإخراجا لجزء من كل واستعمالا للفظ كل فيما عدا المستثنى وإن رجع إلى عمرو ولم يكن قد أخرج زيدا من شيء هو كله لأن عمرا ليس بكل زيد وليس يجوز أن يرجع الاستثناء إلى زيد وإلى عمرو معا لأن كل واحد منهما مستقل بنفسه وليس يشملهما لفظ واحد هو كل لهما فيكون الاستثناء دالا على أن لفظ الكل مستعمل فيما عداه وليس كذلك قول القائل ضربت كل من في الدار إلا زيدا لأن قولنا كل لفظ يشمل الأشخاص فصح أن يخرج الاستثناء بعضها بأن يدل على أن لفظة كل مستعملة فيما عدا المستثنى ويجري ذلك مجرى تعديد الأشخاص كلهم إلا زيدا ثم يقال لهم أنتم تقولون إن لفظ العموم حقيقة للاستغراق كما أنه حقيقة للبعض فقد لزمكم

أن يكون العموم مع الاستثناء يجري مجرى أن يعدد المتكلم أشخاص الجنس ثم يستثني واحدا منها فان قالوا لا يلزمنا ذلك لأنه إذا استثنى منها واحدا علمنا أنه لفظ العموم فيما عداه واستعماله فيما عداه هو حقيقة عندنا قيل لهم استعماله فيما عدا المستثنى حقيقة عندنا لأنه دخل عليه لا غير على ما بيناه ولو كان استعماله فيه مجازا لكان الاستثناء قد دل على أن لفظ العموم مستعمل على وجه المجاز وليس استعمال اللفظ فيما هو مجاز فيه يجري مجرى أن يقول الانسان رأيت زيدا وعمرا إلا زيدا
وربما تعلقوا بالاستثناء على وجه آخر فقالوا لو كان لفظ العموم مستغرقا لما جاز تخصيصه بدلالة متصلة ولا منفصلة كما لا يجوز تخصيص العلة بل العموم أولى بذلك لأنه دلالة قاطعة والعلة الشرعية أمارة والجواب يقال لهم أما التخصيص بالأدلة المتصلة بالشروط والاستثناء والتقييد بالصفة فقد قلنا إن العموم يكون داخلا فيما عداه وأما الدلالة المنفصلة فانما جاز أن تخصص العموم لأنه لفظ والألفاظ يجوز استعمالها في حقيقتها وفي مجازها ويجوز أن تدل الدلالة على استعمالها في المجاز وهذه الطريقة مفقودة في العلل فكان محصول هذه الشبهة أن قالوا لو كان حقيقة العموم الاستغراق لما جاز استعماله في المجاز وهذا ينتقض بجميع الألفاظ وجميع هذه الشبهة تنتقض بالاستثناء من ألفاظ العدد
شبهة
قالوا لو كان لفظ العموم مستغرقا لما حسن أن يستفهم المتكلم به لأن الاستفهام هو طلب الفهم وطلبا فهم ما قد فهم بالخطاب عبث ومعلوم أن الإنسان إذا سمع غيره يقول ضربت كل من في الدار فانه يحسن منه أن يقول أضربتهم أجمعين وأن يقول ضربت زيدا فيهم والجواب يقال لهم إن الاستفهام قد يكون طليا لمطلق الفهم وإزالة الإلباس وقد يكون طلبا لزيادة الفهم وزيادة الفهم فهم وذلك أن الفهم للخطاب قد يكون علما

بمراد المتكلم وقد يكون ظنا فان كان ظنا فالظن تتزايد قوته إذا تزايدت أماراته فالمستفهم يطلب أن تكثر الأمارات الدالة على قصد المتكلم ليقوي ظنه فان كان الفهم علما فالعلم قد يكون ضروريا وقد يكون مكتسبا والضروري أجل من المكتسب فالمستفهم قد يطلب أن يتكرر القول من المتكلم أو أن يؤكد كلامه فربما اضطر إلى قصده وطلب ذلك غير عبث لأنه ليس بحاصل قبل الاستفهام واما الاستفهام الذي هو طلب لإزالة الإلباس إذا اقترن بالعموم ما يقتضي اللبس فيستفهم السامع إزالة ذلك اللبس
ونحن نذكر الوجوه التي يحسن لها الاستفهام في كلا القسمين فنقول إن
منها ما يظن السامع أن المتكلم غير متحفظ في خطابه أو هو كالساهي فيستفهمه ويستثبته حتى إن كان ساهيا أزال سهوة فأخبره عن تيقظ وإن لم يكن ساهيا علم ذلك من حاله ولذلك يستفهم الإنسان بتكرار العموم ويجيبه المتكلم بتكراره نحو أن يقول ضربت كل من في الدار فيقول السامع أضربتهم كلهم فيقول نعم ضربتهم كلهم ولو كان يطلب زيادة الفهم لأجابه بلفظ آخر فعلم أنه إنما يستثبته وكذلك قد يقول الإنسان جاءني زيد فيقول نعم
ومنها أن يظن السامع لأمارة أن المتكلم قد أخبر كلامه العام عن جماعة وأنه ليس يتحقق دخول بعضهم فيما أخبر به ويكون السامع شديد العناية بذلك فتدعوه شدة عنايته إلى الاستفهام عنه لكي يعلم المتكلم اهتمام السامع فلأنه خص في الأخبار ولهذا قد يقول القائل رأيت كل من في الدار فاذا قيل أرأيت زيدا فيهم فقال نعم زالت الظنة لأن اللفظ الخاص أقل احتمالا وربما لم يتحقق رؤيته له فيدعوه ما رآه من اهتمام المستفهم إلى أن يقول لست أتحقق رؤيته
ومنها أن تدعوه شدة الاهتمام إلى الاستفهام طمعا في أن يضطر إلى قصد المتكلم

ومنها أن يقترن بكلام المتكلم من الأمارات ما يقتضي تخصيص كلامه نحو أن يقول القائل ضربت كل من في الدار ويكون فيها من يعظمه كأخيه فيغلب على الظن أنه لم يضربه ويكون كلامه أمارة تدل على ضربه فتتعارض الأمارتان فيستفهمه ليقع الجواب عنه بلفظ خاص لا يحتمل التخصيص
فلهذه الوجوه وما اشبهها يحسن الاستفهام لأن فيها عدول عن الفاظ يقل احتمالها ومتى انتفت وما أشبهها لم يحسن الاستفهام فاما قول القائل رأيت نخلة فانه لا يكاد يستعمل إلا في النخلة فلذلك لم يستفهم عن ذلك إلا على طريق الاستثبات لإزالة السهو ومتى استعمل ذلك في رؤية الرجل الطويل حسن الاستفهام
فأما خطاب الله سبحانه وأنه لا يحسن ورود الاستفهام عليه إلا أن يأذن تعالى في ذلك ليرد منه عز و جل خطاب يكون أقل احتمالا فيكون العمل بمراده أجلى
ثم يعارضون بدخول الاستفهام على ألفاظ الخصوص ثم يلزمون من العتب مثل ما ألزمونا فنقول لهم أليس إذا قال القائل ضربت كل من في الدار كان ذلك مشتركا بين الاستغراق وبين ما دونه وكذلك إذا قال أجمعين فالمستفهم إذا قال أضربنهم أجمعين فقد طلب أن يفهمه ما لم يفهمه بما هو كالأول في أن الفهم لا يقع به فان قالوا إنما يستفهم طمعا في حصول العلم الضروري أو في قوة الظن أجبناهم بمثله
شبهة
قالوا لو كان لفظ العموم مستغرقا وكذلك تأكيده لكان تاكيده عبثا لأنه يفيد ما أفاد المؤكد والجواب يقال لهم ولم إذا أفاد ما يفيده المؤكد من الاستغراق كان عبثا وما أنكرتم من حصول فوائد في التأكيد لا تحصل مع فقده ثم يقال لهم ولو أفاد كل واحد منهما من الاشتراك ما يفيده الآخر لكان ذكر التاكيد عقيب المؤكد عبثا لا فائدة فيه

وينقض شبهتهم بتأكيد الخصوص كقول القائل جاءني زيد نفسه وبتأكيد ألفاظ العدد كقول الله تعالى تلك عشرة كاملة وكقول القائل ألف تامة لأن قوله ألف قد انبأ عن تمامها وجب أن يكون قوله تامة عبثا وقولنا جاءني زيد يفيد مجيء نفسه فوجب كون تأكيده عبثا والنقض بتأكيد العدد إنما يلزم من قال إن قولنا عشرة ليس بحقيقة في التسعة فما دونها فاما من ارتكب كونه حقيقة في ذلك فالنقض لا يلزمه وإن كان بطلان قوله معلوما من اللغة باضطرار وكان يلزم إذا قلنا عشرة تامة أن يكون قولنا تامة بيانا لا تأكيدا بل بيانا وقد رأيت من التزم القول بأن قول القائل جاءني زيد نفسه إنما حسن لأن قوله جاءني زيد حقيقة في مجيء غلامه وجوابنا عن هذا القول السكوت
ونحن ذاكرون وجه الفائدة في التأكيد فنقول إن كان المتكلم بالعموم حكيما استدل على إرادته بخطابه فأنه إذا أكلا خطابهه كان قد زاد بالأدلة على دلالة فيقوى بذلك علمنا ويزداد جلاء وبيانا أو يكون في ذلك مصلحة وإن لم نعلمها بعينها ولهذا كثرت الأدلة على المدلول والواحد وإن كان المتكلم غير حكيم يجوز أن يعمي مراده وإنما يعلم إرادته ضرورة أو يظن إرادته استدلالا بخطابه فانه قد يؤكد خطابه لأنه يجوز أن يضطر السامع عند التاكيد إلى إرادته أو لأنه قد يجوز السامع من ابتداء الكلام كان ساهيا فيدله المتكلم بإيصال كلامه إن كان ساهيا وقد يورد التأكيد ليزيد الأمارات الدالة على الإرادة فيقوى الظن لها وقد يقول لإنسان ضربت من في الدار ويكون فيهم من يغلب على الظن أنه لا يضربه لوكيد صداقة بينهما أو لقرابة فيكون ذلك أمارة معارضة لظاهر العموم فيؤكد كلامه بذكر الكل و الجميع ليصف موقع هذه الأمارة وأيضا فلا يمتنع أن يكون بعض ألفاظ العموم أقل استعمالا فيما دون الاستغراق من بعض والعلم بأنه تقتضي

الاستغراق أجلى وأبين فيؤكد اللفظة التي هي أكثر استعمالا في المجاز فاذا اجتمع كعها تأكيدها تأكد العلم بقصد المتكلم أو الظن وحصل بهما من القوة ما لا تحصل بأحدهما لأن الأمارة القوية معما هو دونها في القوة القوة تكون منها لو انفردت فان قيل هلا أكدوا اللفظ بتكراره إن كان الأمر على ما زعمتم حتى يقولوا جاءني القوم جاءني القوم قيل هذا لا يلزم على الجواب الأخير وإنما يتوجه على الأجوبة المتقدمة والجواب عن ذلك أن العرب لم تقعل ذلك فنفعله فان قالوا فكان يجب أن يفعلوه وليس يجب إذا كان للإنسان عذر في شيء أن يفعل كلما ساواه في العذر ألا ترى أنهم إنما سموا الشيء الواحد بأسماء كثيرة ايتسع نقلتهم فيتمكنون مع ذلك من النظم والنثر لأنه قد يمتنع وزن البيت وقافيته مع بعض اسماء الشيء دون بعض وليس يجب لذلك أن يسموا كل شيء بأسماء كثيرة على أنه لا يمتنع أن يكونوا لم يؤكدوا اللفظ بتكراره استثقالا لتكرار اللفظ فعدلوا إلى لفظة أخرة لينقلوا غرضهم من التأكيد من دون استثقال
فان قالوا لو حسن التأكيد لما فيه من ترادف الأمارات والأدلة وجواز حصول العلم الضروري بقصد المتكلم لحسن أن يقول الإنسان استندت إلى الحائط المبني من الآجر والطين لينفي أن يكون استند إلى إنسان بليد لأن اسم الحائط قد يتجوز به إلى البليد ويتجوز باسم الحمار فيه أيضا فكان ينبغي أن يحسن أن يقول ضربت الحمار النهاق والجواب أنه إنما حسن التأكيد اتباعا لفعل العرب وحسن ذلك منهم للأغراض التي ذكرناها وقد ثبت أن تلك الأغراض لا توجب أن يؤكدوا كل شيء فاذا كان كذلك لم يلزمنا أن نؤكد نحن ما ذكره السائل لأن العرب لم يؤكدوا به ولا يلزم العرب ذلك لما ذكرناه وأيضا فانما يجوز التأكيد لإزالة مجاز واحتمال مستعمل وليس أحد يقول استندت إلى الحائط فيخطر ببال السامع أنه استند إلى إنسان بليد وكذلك إذا قال ضربت الحمار وإنما يستعمل اسم الحائط أو الحمار في البليد عند وصفه بالبلادة فان كان جماعة في وصف رجل

فقالوا هو حائط وهو حمار ثم قال واحد منهم ضربت الحمار واستندت إلى الحائط وجوز أن يتوهم على السامع أنه يعني بذلك البليد جاز أن يفيد بكلامه ما ذكروه فأما إن لم تكن الحال هذه فانه لا يخطر ببال السامع أنه استند إلى بليد فلم يكن لتقييده بما ذكروه معنى وليس كذلك استعمال لفظ العموم فيما دون الاستغراق لأن ذلك كثير مستعمل
شبهة
لو كانت لفظة من عامة في الاستفهام لكان قول القائل لغيره من عندك سؤالا عن كل العقلاء وكانت تجري مجرى قوله أكل الناس عندك وذلك يقتضي أن يكون جوابها لا أو نعم أجاب قاضي القضاة عن ذلك بأن لفظة من هي للعامة وهي من كلام السائل دون المسئول لأن السائل ليس يعلم من عند المسئول فلهذا أدخل اللفظة العامة في خطابه وأما المسئول فهو عالم بمن عنده فلم يجب أن يكون جوابه عاما ولقائل أن يقول إن لفظة من وإن كانت في كلام السائل فهي عندكم موضوعة للعموم فيجب كونها استفهاما عن العموم وذلك يقتضي مطابقة جوابها لها إما بلا أو بنعم ونحن لم نلزمكم أن يكون جواب المسئول أبدا عاما وإنما ألزمناكم أن يجيب العموم إما بأن يثبته أو ينفيه بقوله لا أو نعم وقال أيضا إن لفظة من ليست بالكل أخص منها بالبعض ولا بالبعض أخص منها بالكل فاذ كانت كذلك وجب حملها على الاستغراق
ولقائل أن يقول إن كانت ليست كذلك فيجب كونها مشتركة بين الكل وبين الاستغراق إذا كانت ليست بأحدهما أخص من الآخر وإذا كانت مشتركة بطل قولكم إنها حقيقة في أحدهما فقط وبطل قولكم بوجوب حملها على الاستغراق لأنه ليس الاستغراق أولى بها من البعض وأيضا فلو كانت ليست بأحد الأمرين أولى منها بالآخر وكانت مع ذلك محمولة على الشمول عن الكل لوجب أن يكون جوابها مطابقا لها بلا أو بنعم فالشبهة متوجهة نحوكم

والجواب عن الشبهة أن قول القائل لغيره من عندك هو استفهام عن صفة كل عاقل عنده فهو جار مجرى قوله أخبرني عن صفة كل عاقل عندك ولا تبق عاقلا عندك إلا ذكرت لي صفته ولو قال ذلك لم يكن جوابه لا أو نعم وإنما يكون جوابه بذكر نعوت من عنده من العقلاء وصفاتهم وكذلك إذا قال له من عندك ثم يقال للمخالف أتزعم أن لفظة من حقيقة في البعض أو مشتركة بين البعض وبين الاستغراق فان قال بالأول قيل فينبغي أن يكون جواب السؤال بلا أو نعم كما قال له أبعض الناس عندك وإن قال إنها مشتركة بين الكل وبين البعض قيل فيجب أن يكون جوابها بلا أو بنعم أيضا لأنه إن علم المسئول من قصد السائل أنه استفهمه بها عن الكل فيجب أن يكون جوابها بلا أو بنعم وكذلك إن علم من قصده أنه استفهمه بها عن البعض
شبهة
لو كانت لفظة من مستغرقة لاستحال جمعها لأن الجمع يفيد أكثر مما يفيده المجموع وليس يعد لاستغراق كثرة فيفيدها الجمع قال الشاعر
...
أتوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قلت عموا ظلاما ...
الجواب إن قولهم منون وإن كانت صباحا لفظه لفظ الجمع وليس بجمع على الحقيقة لأنه يستفاد منه ما استفاد من قولهم من عندنا وعند المخالف ألا ترى أنه لو قال الشاعر من أنتم لكان استفهاما عن جماعتهم كما أن قوله منون استفهاما عن جماعتهم وعند المخالف أن ألفاظ العموم كلها مشتركة وليس في اللغة لفظ يختص بالاستغراق فلفظة منون مشتركة بين الاستغراق وبين البعض كلفظة من فلم يفد أكثر مما أفادته لفظة من
وأما من قال إن لفظ العموم مستغرق في الأمر والنهي ولا يقطع على

استغراقه في الخبر فلا يخلو إما أن يقول ذلك من جهة اللغة أو من جهة أخرى والأول باطل لأنا قد بينا أن لفظ العموم مستغرق وإذا كان مستغرقا لم يختلف بحسب اختلاف الجمل التي يدخل عليها وإن قال بالثاني فهو أن يقول لو لم يستغرق لفظ العموم في الأمر والنهي لم يكن المكلف مزاح العلة وليس كذلك الوعيد لأن الغرض بهما الزجر عن القبيح والزجر يكون بالخوف والخوف يحصل بغالب الظن الجواب أن لفظ العموم إن لم يكن مستغرقا لم يجب حمله على الاستغراق لا في الأمر ولا في الوعيد ويجب إذا أراد الحكيم أن يزيح علة المكلف أن لا يدله على استغراق الأمر بلفظ عموم لأنه لا يدل على الاستغراق بل يجب أن يدله بدليل آخر وإن كان لفظ العموم مستغرقا وجب أن يستغرق في الخبر لأن الخبر خطاب لنا والقصد به إفهامنا فلا يجوز أن يقصد به إفهامنا وله ظاهر إلا وقد أريد ظاهره وإلا كان المتكلم به قصد أن يفهم بخطابه ما لا يدل خطابه عليه
باب في الألف واللام إذا دخلا على اسم الجمع اختلف الناس في اسم الجمع المشتق وغير المشتق إذا دخله الألف واللام نحو قولك المشركون والناس فقال الشيخ أبو هاشم رحمه الله إن ذلك يفيد النجس ولا يفيد الاستغراق وقال الشيخ أبو علي رحمه الله وجماعة من الفقهاء إنه موضوع لاستغراق الجنس
والحجة لذلك وجوه
منها أنه لو كان قولنا الناس لا يفيد الاستغراق لا محالة لكن قد يعبر به عنه ويعبر به عن البعض حقيقة لكان قوله كلهم بيانا لأحد المحتملين لا تأكيدا ألا ترى أن اسم الشفق لما كان مشتركا على سبيل الحقيقة بين الحمرة والبياض كان الإنسان إذا قال رايت الشفق ثم قال الذي هو

الحمرة كان قوله الذي هو الحمرة بيانا لا تأكيدا لأن المؤكد يبقي المؤكد على حاله ويزيد قوة وليست هذه حال البيان لأن البيان يكشف عن أحد المحتملين فان قيل ما تنكرون من أن يكون وصف أهل اللغة بأن قولنا كل تأكيد لقولنا الناس مذهبا لهم بنوه على قولهم إن قولنا الناس مستغرق قيل إن كان كذلك فقولهم إن ذلك مستغرق حجة لأنهم يقولون ذلك نقلا بحسب ما فهموه عن العرب فان قيل فاستدلوا بقولهم إن لام الجنس تقتضي الاستغراق واطرحوا دليل التأكيد قيل لو علمنا ذلك ابتداء من اعتقاد جميعهم لاستدللنا ولكن لما علمنا ذلك بوصفهم لفظة كل بأنها تأكيد جعلنا وصفهم لذلك بأنه تأكيد دليلا على اعتقادهم الاستغراق اسم الناس إن قيل فمن أين إن وصف ذلك بأنه تأكيد قول لجميعهم قيل لأنه لو وصفه بعضهم بأنه بيان ومنع من وصفه بأنه تأكيد لنقل ذلك وعرف إن قيل قول القائل الناس يصلح للاستغراق ويصلح لما دونه فاذا أكده المتكلم فقال رأيت الناس كلهم علمنا أنه استعمل قوله الناس في الاستغراق وأنه أكد استعماله فيه بقوله كلهم فقد صح وصف ذلك بأنه تأكيد على قولنا قيل هذا يقتضي أن يكون ما دل على أن المراد بالاسم المشترك أحد معنييه تأكيدا له بأن يقال إن المتكلم بالاسم أراد به أحد معنييه وأكده بأن دل عليه ويلزم أن يكون من دل على الشيء فقد أكده
ومنها أنه يحسن أن يستثنى من قولك رأيت الناس أي إنسان أشرت إليه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه فإذن أي إنسان أشرت إليه فهو داخل في قولك رأيت الناس وقد استوفينا الأدلة على ذلك في الباب المتقدم
ومنها أن قول القائل رايت ناسا يفيد أنه رأى من هذا الجنس ولا يفيد الاستغراق فلا بد من أن يفيد دخول الألف واللام فائدة ولا يجوز أن تكون تلك الفائدة هي الجنس لأن ذلك قد كان حاصلا من دونهما فعلمنا أنهما أفادا الاستغراق

ومنها ما استدل به من أن اللام إذا كانت تعريفا للعهد عمت فكذلك إذا كانت تعريفا للجنس ألا ترى أن الإنسان إذا كان مع غيره في ذكر رجال ثم قال جاءني الرجال عقل منه جميعهم لأن الذى جرى ذكره هو الجميع كذلك ايضا الجنس هو المتعارف إذا لم يكن عهد فلم يكن انصراف الاسم إلى البعض أولى من البعض
واحتج الذاهبون إلى قول ابي هاشم بأشياء
منها أن الإنسان إذا قال جمع الأمير الصاغة لم يعقل منه أنه جمع صاغة الدنيا وإنما يعقل منه أنه جمع هذا الجنس والجواب عنه أن المعقول منه أنه جمع صاغة بلده ومن عداهم فانما يعلم أنه لم يجمعهم لتعذر جمعهم ويلزمهم أن يجوزوا كونه جامعا لصاغة الدنيا لأن الاسم يحتمله فان قالوا نعلم أنه لم يجمعهم وإن احتمله اللفظ لقرينة وهي تعذر جمعهم قلنا نحن إن اللفظ لا يصلح إلا للاستغراق وإنما علمنا أنه لم يرد المتكلم الاستغراق لتعذره
ومنها قولهم لو كانت لام الجنس تقتضي الاستغراق لوجب إذا استعمل في العهد أن يكون مجازا لأنه قد أريد به بعض الجنس والجواب أن لام الجنس تقتضي التعريف فوجب انصراف الاسم إلى ما الإنسان به أعرف فإن كان هناك عهد انصرف إليه لأن السامع به أعرف ولم يكن هناك مجازا إذا انصرف وإن لم يكن بين المتكلم والسامع عهد انصرف إلى الجنس لأنها به أعرف فلم تختلف فائدتها في الحالين وجرت مجرى قولك من عندك في أنه استفهام عن كل عاقل عنده فان كانوا قلة فهي استفهام عنهم وإن كانوا كثرة فهي استفهام عنهم ولا يكون مجازا إذا كانوا قلة ولو قيل إن حمل الاسم المعرف على العهد يحتاج فيه إلى قرينة وهي تقدم العهد وأن ذلك يجعل الاسم مجازا لأنه عام مخصوص لم يكن بعيدا
ومنها أن يقولوا إن قولنا رجال يقتضي جمعا من الرجال غير مستغرق واللام أفادت التعريف فمن أين جاء الاستغراق والجواب إن

إفادتها للتعريف لا تمنع من إفادتها الاستغراق سيما وقد بينا أنهما متى حملا على بعض غير معين نقض ذلك التعريف لأن البعض الذي ليس بمعين مجهول وأفاد الجنس قد كان حاصلا قبل دخول اللام
ومما يمكن أن يحتجوا به هو أن يقولوا لو كان قولنا فلان يلبس الثياب حقيقة في أنه يلبس جميعها يجري مجرى قولهم فلان يلبس كل الثياب فكان يجب أن يكون قولنا فلان لا يلبس الثياب يفيد ما يفيده قولنا فلان لا يلبس كل الثياب وكان يحسن إطلاقه على كل أحد لا يلبس كل الثياب ومعلوم أن أهل اللغة لا يستحسنون إطلاق ذلك إلا على من لا يلبس شيئا من الثياب فعلمنا أن قولنا فلان يلبس الثياب يفيد الجنس فنفيه نفي الجنس أصلا فلذلك عم وكذلك ينبغي أن يوصف كل أحد بأنه لا يباشر النساء ولا يأكل الطعام لأنه لا يباشر جميع النساء ولا يأكل جميع الطعام الجواب أن ذلك باطل بلفظة من في المجازاة لأن الانسان إذا قال من دخل داري أكرمته جرى مجرى قوله كل عاقل دخل داري أكرمته ولو قال لا أكرم من دخل داري لم يجر مجرى قوله لا أكرم كل عاقل دخل داري لأنه لو قال ذلك لم يلزم أن لا يكرم كل أحد منهم بل يجوز أن يكرم البعض دون البعض ولو قال لا أكرم من دخل داري فهم منه أنه لا يكرم واحدا منهم وإن كان قوله من دخل داري أكرمته عاما وكذلك لا يمتنع أن يكون قولنا الثياب وسيلة عامين ولا يجري سلبه مجرى كل سلب فإن قالوا إنما وجب ذلك في لفظة من لأنها ليست موضوعة للجميع وإنما تفيد العقلاء فاذا علق عليها الجزاء لم يكن بأن يتناول بعضهم بأولى من بعض فانصرف إلى الجميع ولهذه العلة وجب في نفي الجزاء ان ينصرف إلى الجميع قيل لهم ولام الجنس أيضا ما وضعت للجمع كلفظة كل وإنما تفيد تعريف الجنس فلما لم يكن بعض الجنس بأن يعرفه أولى من بعض انصرف إلى جميعه وهذه العلة قائمة إذا استعمل لام الجنس في النفي لأنه ليس بأن ينصرف إلى بعض الجنس أولى من بعض

فاذ ثبت أن اسم الجمع إذا دخله لام الجنس استغرق فالواجب أن ننظر هل هناك عهد أم لا فإن كان انصرف إليه وإلا انصرف إلى الجنس لأن انصرافه إلى العهد تخصيص وليس أن تحمل اللفظة على الاستغراق إلا بعد أن يفحص فتفيد ما يدل على أن المراد بها الخصوص
وأما الشيخ أبو هاشم فانه إذا لم يجعل الاسم مستغرقا حمله على الاستغراق لوجه آخر وهو ما ذكروه في الوعيد من أن قوله وإن الفجار لفي جحيم يفيد أنهم في الجحيم لأجل فجورهم لأنه خرج مخرج الزجر عن الفجور فوجب أن يكون كل من وجد فيه الفجور في الجحيم وجرى مجرى قوله من فجر فهو في الجحيم
فأما لفظة الجمع المضاف مثل قولنا عبيد زيد فانه يستغرق لحسن توكيده بلفظة كل وحسن استثناء أي عبد شئت ويمكن أن يذكر فيه من الشبه أكثر ما تقدم في لام الجنس والجواب عنها نحو ما تقدم
باب في الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد المشتق وغيرالمشتق ذهب الشيخ أبو علي رحمه الله إلى أن قول الله تعالى والسارق والسارقة يستغرق جميع السراق وقال الشيخ أبو هاشم رحمه الله إن ذلك يفيد الجنس دون استغراقه والحجة لذلك أنه لو استغرق الجنس لجاز مع أنه لفظ واحد أن يؤكد بكل وجميع كلفظة من نحو قولك كل من دخل داري أكرمته وليس يجوز أن يؤكد بذلك لأنه يقبح أن يقول جاءني الرجل أجمعون ورأيت الإنسان كلهم وأيضا يقبح أن يستثنى من ذلك فيقول رأيت الإنسان إلا المؤمنين ولو كان عاما لحسن ذلك

وهذا يدلنا على أن قول الله سبحانه والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا مجاز يجري مجرى الاستثناء من غير الجنس لأنه غير مطرد ولو كان حقيقة لاطرد ويحتمل أيضا أن تكون الخسارة لما لزمت جميع الناس إلا المؤمنين جاز هذا الاستثناء فان قيل فقد قالوا أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض فعنوا كل واحد منها بالجمع فعلم أنهما يفيدان الاستغراق قيل هذا شاذ ولو كان حقيقة لاطرد حتى يقال جاءني الرجل القصار والرجل المؤمنون على أنه ليس المراد بذلك أن جميع الدنانير أهلك الناس وإنما المراد به هذا الجنس ولما كان الهلاك بالدينار لأمر موجود في كل واحد من الدنانير جاز أن ينعتوه بالجمع لأن المعنى يقتضي الجميع
فان قالوا لو لم يستغرق قولنا الإنسان لأفاد واحدا غير معين وفي ذلك إخراجه من كونه معرفا فإن قلتم إن اللام تقتضي تعريف الجنس لا تعريف الآحاد قيل لكم هذا كان مستفادا من الاسم قيل دخول اللام عليه لأنك لو قلت رأيت إنسانا أفاد أنك رأيت واحدا من هذا الجنس كما لو قلت رايت الإنسان والجواب أن قول القائل رأيت الإنسان لا يطلق إلا على إنسان قد عرفه المتكلم والسامع وتقدم ذكره لهما فيفيد ذلك الشخص بعينه وقد تعلق على لفظ الإنسان حكم يعلم شياعه في جميع الناس إما لأجل لفظ تعليل أو لأجل الزجر أو غير ذلك فلا يستعمل في شخص بعينه ولكن يراد به الجنس واستغراقه لأجل ما اقترن به مما يقتضي الاستغراق
فان قيل إنكم قد خالفتم الإجماع بفرقكم بين الاسم إذا دخله الألف واللام وبين الاسم المفرد لأن الناس على قولين منهم من جعلهما مستغرقين ومنهم من جعلهما غير مستغرقين قيل لسنا نعلم هذا الإجماع وإنما نعلم ما ذكرته من قول الشيخين رحمهما الله ومن تبعهما فقط على أنه إنما لا يجوز الفرق بين المسألتين إذا جمعهما طريق واحد وقد بينا أنه ليس يجمعهما طريق واحد


باب في لفظ الجمع العاري عن الألف واللام حكى قاضي القضاة رحمه الله في الشرح عن الشيخ أبي علي رحمه الله ان قول القائل رأيت رجالا يحمل على الاستغراق من جهة الحكمة وعند الشيخ أبي هاشم رحمه الله أنه لا يحمل على الاستغراق بل يحمل إذا تجرد على ثلاثة فصاعدا وحجة ذلك أن قولنا رجال يفيد جمعا من الرجال لأنك ترتقي من التثنية إليه فتقول رجلان وثلاثة رجال وأربعة رجال ولأنك تنعته بأي نعت شئت فتقول رجال ثلاثة وأربعة وخمسة رجال وإذا كان يفيد جمعا من الرجال وكان معنى الجمع قائما في الثلاثة فما زاد فمن قيل له اضرب رجالا فضرب ثلاثة رجال كان قد فعل ما يوصف بأنه ضرب رجال فسقط عنه الغرض كما أنه لوقيل له ادخل الدار فدخل أولها ولحقه اسم الداخل سقط عنه الأمر وقد احتج لذلك بأنه لو حمل ذلك على الاستغراق لم يستقر لأنه لا عدد من الرجال إلا ويمكن أن يوجد أكثر منه ولقائل أن يقول يحمل على الاستغراق لمن هو موجود من الرجال كلفظة من تحمل على أنها استفهام عن كل عاقل في الدار دون من لم يوجد وهذا يوجب أن لا يكون في اللغة لفظ يستغرق الرجال
وحجة أبي علي على وجوه
منها أن حمل هذه اللفظة على الاستغراق حمل لها على جميع حقائقها فكان أولى من حملها على البعض ويفارق ذلك الاسم المشترك في أنه لا يحمل على كلا معنييه لأنه ليس بحقيقة في مجموعهما وقولنا ناس ورجال يفيد كل جمع على سبيل الحقيقة والجواب أنه إن أراد أن قولنا رجال حقيقة في الثلاثة وفي الأربعة وفي كل عدد ابتداء فذلك غير مسلم لأنه لم يوضع للاعداد ابتداء وإن أراد أنه حقيقة في الجمع والجمع موجود في الثلاثة فصاعدا

فصحيح وذلك يمنعه أن يقول إذا حملته على الاستغراق كنت قد حملته على جميع حقائقه لأن الحقيقة واحدة وهي الجمع ثم يقال له ولم زعمت أنه ينبغي أن يحمل هذا الاسم على كل ما وجدت فيه حقيقة وما أنكرت أنه يحمل على أقل ما يوجد فيه معنى الجمع لأنه متحقق
ومنها قوله لو اراد المتكلم بلفظ الجمع المنكور البعض لبينه وإذا بطل حمله على البعض ثبت الاستغراق والجواب يقال له ولو أراد الكل لبينه على أن ما ذكرناه من وجوب حمله على الثلاثة وسقوط الأمر به بيانا بأن يكون البعض مرادا ويقال له إنما يجب أن يبين ذلك لو يدل عليه مطلق الكلام فبين أنه لا يدل على ذلك وقد تمت لك المسألة
ومنها قوله لو حمل على البعض لم يتميز البعض الذي يحمله عليه الجواب أنا إذا قصرنا الحكم على الثلاثة فقد حملناه على أمر متميز وإن كانت الثلاثة غير متعينة فان قال أفتجوزون لمن أمر بضرب رجال أن يضرب أكثر من ثلاثة قيل نعم ولا يجب عليه أما سقوط الوجوب فلانه بضرب ثلاثة يوصف بأنه قد ضرب رجالا وأما جواز الزيادة فلقيام معنى الجمع فيهم وهذا كمن قيل له ادخل الدار في أنه إن دخل أولها سقط عنه الأمر وإن أمعن في الدخول لم يلزمه فهذا هو الكلام في أسماء الجمع المنكر
فأما قول القائل افعلوا فذكر قاضي القضاة في الدرس أن أبا علي حمل ذلك على الاستغراق قال ولم يحمله قوله رايت رجالا على الاستغراق وذكر في الشرح ما حكيناه والأولى أن يقال إن قول القائل افعلوا لا بد من أن يتقدمه اسم فان كان الاسم مستغرقا نحو قوله يأيها الناس انصرف قوله افعلوا إلى الاستغراق وإن لم يكن مستغرقا نحو جمع منكر لم ينصرف ذلك إلى الاستغراق لأن الإنسان لو قال قلت لرجل افعلوا كذا وكذا لم يستغرق جميع الرجال


باب في أقل الجمع ما هو اعلم أن هذا الباب يشتمل على مسألتين إحداهما أن يقال قولنا جمع ما الذي يفيده والثاني أن يقال الألفاظ الموضوعة بأنها جمع هل تفيد الاثنين حقيقة أم لا نحو قولنا جماعة ورجال
أما قولنا جمع فانه يفيد من جهة الاشتقاق ضم الشيء إلى الشيء ويفيد في عرف أهل اللغة الفاظا مخصوصة نحو قولهم هذا اللفظ جمع وهذا اللفظ تثنية وأما قولنا جماعة وقولنا رجال فانه يفيد ثلاثة فصاعدا ولا يفيد الاثنين فقط لأنه لا ينعت ذلك بالاثنين وينعت بالثلاثة لأنه يقال رأيت رجالا ثلاثة وجماعة رجال ولا يقال رأيت رجالا اثنين وجماعة رجلين
وذهب قوم إلى أنه يفيد الاثنين حقيقة واحتجوا بأشياء
منها قوله تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إلى قوله وكنا لحكمهم شاهدين والجواب أن ما ذكرناه من الدلالة يقتضي أن ذلك مجازا لا حقيقة
ومنها قول النبي صلى الله عليه و سلم الاثنان فما فوقها جماعة والجواب أنه أراد أن حكمهما حكم الجماعة في انعقاد صلاة الجماعة بهما لما ذكرنا من الدلالة لأن كلام النبي صلى الله عليه و سلم يحمل على تعليم الحكم دون الاسم اللغوي وليس لأحد أن يقول إن الاثنين تفيدهما ألفاظ الجمع من جهة الشرع فيقال إن النبي صلى الله عليه و سلم عرفنا ذلك شرعا

ومنها أن اسم الجمع يفيد ضم الشيء إلى الشيء وهذا يصح في الإثنين كصجته في الثلاثة وإذا كان معنى الجمع قائما في الاثنين صح أن يفيدهما ألفاظ الجمع والجواب أن قولنا اسم الرجال موضوع للجمع ليس يقتضي أنه يفيد جمع شيء إلى شيء فيلزم أن يقع ما حصل فيه هذا المعنى وإنما يفيد أنه موضوع للاجتماع ثلاثة فصاعدا فلا يلزم أن يفيد اجتماع اثنين
باب في نفي مساواة الشيء للشيء هل يفيد نفي اشتراكهما في كل صفاتهما أم لا
اعلم أن من الشافعية من استدل بقول الله تعالى لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة اصحاب الجنة هم الفائزون على المنع من قتل المسلم بالذمي لأنه لو قتل به كما يقتل الذمي بالمسلم وكما يقتل المسلم بالمسلم كنا قد سوينا بين المسلم والذمي مع أن أحدهما من اصحاب النار والآخر من أصحاب الجنة والآية تمنع من استوائهما في كل الصفات وهذا لا يصح لأن استواء أهل النار وأهل الجنة هو أن يشتركا في جميع الصفات كما أن تساوي الجنسين هو أن يشتركا في جميع المقدار فنفي استوائهما هو نفي اشتراكهما في جميع الصفات ومتى افترقا في بعضهما صدق القول عليهما بأنهما لم يستويا ونحن نوقع بين الذمي والمسلم افترقا في كثير من الصفات سوى القصاص فبان أن قوله لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يعم جميع الصفات
إن قيل هلا كان المراد بذلك لا يستويان في صفة من الصفات قيل إن نفي الاستواء علق بأصحاب الجنة وأصحاب النار ولم يعلق بصفاتهم فلا يلزم ما قلته وإذا علق بالفريقين كفى في افتراقهما أن يتنافيا في بعض الصفات

وقد أجاب قاضي القضاة عن الاحتجاج بالآية بأنا قد علمنا استواءهم في صفات الذات فعلمنا أنه أراد لا يستويان في بعض الصفات فاذا لم يذكر ذلك البعض صارت الآية مجملة وقد ذكرنا في الآية الافتراق في الفوز فيجب حمل الآية عليه ولقائل أن يقول إن سلم لهم أن الآية تفيد نفي اشتراكهم في كل الصفات أجمع لم يضرهم اشتراكهم في كثير من الصفات لأن العموم إذا خرج بعضه لم يمنع من التعلق بباقيه
باب في خطاب المذكر هل يعم المذكر والمؤنث أم يختص بالمذكر فقط اعلم أن الخطاب الشامل ضروب أحدهما يختص بالمذكر فقط نحو قولنا رجال والآخر يختص بالمؤنث فقط كقولنا نساء والآخر يستعمل فيهما وهو ضربان أحدهما لا يبين فيه تذكير ولا تأنيث كقولك من وذلك يدخل فيه الرجال والنساء إلا لدلالة والآخر يبين فيه التذكير كقولك قاموا واختلف الناس في ذلك فقال بعضهم لا يدخل النساء فيه إلا بدليل لأن المذكر جمعا ينفصل به من جمع المؤنث ولأن الجمع هو تضعيف الواحد ومعلوم أن قولنا قام يفيد المذكر فقولنا قاموا يفيد تضعيف هذه الفائدة وهو المذكر وقال قوم ظاهر ذلك يفيد الرجال والنساء لأن أهل اللغة قالوا التذكير والتأنيث إذا اجتمعا غلب التذكير والجواب أن مرادهم بذلك أن الإنسان إذا أراد أن يعبر عن المؤنث والمذكر بلفظ وجب أن يعبر عنه بلفظ مذكر لا مؤنث وليس في هذا ما يدل على أن اللفظ يفيد ظاهره المؤنث وإذا قد أتينا على أبواب العموم فلنذكر ابواب الخصوص
باب في معنى وصفنا للكلام بأنه خاص وخصوص وبانه مخصوص ووصف المتكلم بأنه مخصص للخطاب والفصل بين التخصيص والنسخ
أما وصف الكلام بأنه خاص وبأنه خصوص فمعناه أنه وضع

لشيء واحد نحو قولنا البصرة وبغداد
وأما الخطاب المخصوص فهو ما عرض المتكلم به بعض ما وضع له اللفظ فقط وذلك أن المفهوم من قولنا إن الكلام مخصوص هو أنه قد قصر على بعض فائدته وإنما يكون مقصورا عليها بأن يكون المتكلم قد عني ذلك البعض فقط بكلامه وليس قولنا خصوص من قولنا مخصوص بسبيل لأن ما وضع لعين واحدة لا يوصف بأنه خطاب مخصوص وإنما يوصف بأنه خاص وبأنه مخصوص ويقل استعمال قولهم خصوص في العموم المخصوص وأما قولنا خاص فانه يستعمل فيما وضع لعين واحدة وفي العموم المخصوص وأما قولنا قد خص فلان العموم فقد يستعمل على الحقيقة ويراد به أنه جعله خاصا وإنما يجعله خاصا إذا استعمله في بعض ما تناوله ويستعمل على المجاز ويراد به أنه دل على تخصيصه أو نبه على الدلالة عليه أو اعتقد تخصيصه
فأما التخصيص فقد يستعمل على موجب اللغة وعلى موجب العرف واستعماله على موجب اللغة يفيد إخراج بعض ما تناوله الخطاب فعلا كان المخرج أو فاعلا أو زمانا على ما سيجيء بيانه وعلى هذا يكون النسخ داخلا تحت التخصيص لأن النسخ هو إخراج لبعض ما تناوله الخطاب ايضا وأما التخصيص في العرف فانه لا يفارق على موجب مذهب أصحابنا إلا بالمقارنة والتراخي لأن الله عز و جل لو قال لنا صلوا كل يوم جمعة ثلاث صلوات وقال عقيب ذلك باستثناء أو بغيره لا يصل زيد شيئا من هذه الصلوات كان ذلك مخصصا ولم يكن نسخا وكذلك لو قال لا تصلوا يوم الجمعة الفلانية أو لو قال لا تصلوا الصلاة الثالثة في الجمعة فلو قال هذه الأقاويل متراخيا عن قوله صلوا كل يوم جمعة لكان نسخا فبان أنه ليس يقع الفرق بينهما فإن أحدهما يخرج الوقت أو الشخص أو الفعل بل إنما يفترقان بالمقارنة والتراخي فاذا ثبت ذلك فالتخصيص على هذا هو إخراج

بعض ما تناوله الخطاب مع كونه مقارنا له ويدخل في ذلك إخراج واحد من النكرات والنسخ هو إخراج بعض ما تناوله دليل شرعي بنفسه أو بقرينة بدليل سمعي متراخ
باب فيما يجوز تخصيصه وفيما لا يجوز اعلم أن الكلام في ذلك يقع في موضعين أحدهما فيما يتصور تخصيصه ويمكن والآخر فيما يجوز قيام الدلالة على تخصيصه أما الأول فهو أن الأدلة ضربان أحدهما فيه معنى الشمول والآخر ليس فيه ذلك فالأخير لا يتصور دخول التخصيص فيه لأن تخصيص الشيء هو إخراج جزئه فما لا جزء له لا يتصور فيه ذلك ولا يمكن وذلك نحو قول النبي صلى الله عليه و سلم لأبي بردة بن نيار يجزئك ولا يجزىء أحدا بعدك لأنه لا يمكن أن يخرج من هذه الأجزاء شيء وأما ما فيه معنى الشمول فضربان أحدهما لفظ عموم والآخر ليس بلفظ عموم نحو قضية في عين دل الدليل على أنها تتعدى عنها أو فحوى القول أو دليل خطاب أو علة شاملة وكل ذلك يتصور دخول التخصيص فيه إذ كل واحد من ذلك له جزء يتصور إخراجه
فأما ما يجوز قيام الدلالة على تخصيصه فنقول فيه إن ما لا يتصور تخصيصه لا يجوز قيام الدلالة على تخصيصه وما يتصور تخصيصه وكان لفظ عموم فجائز قيام الدلالة على تخصيصه وما عدا الألفاظ فضربان علة وغير علة وما ليس بعلة فهو دليل خطاب على قول من جعله حجة والدلالة على تخصيصه يجوز أن ترد وأما العلة فضربان أحدهما تعليل بطريق الأولى وهو فحوى القول والآخر لا بطريق الأولى فالأول لا يجوز إخراج بعض الفحوى مع بقاء اللفظ فإن قول الله عز و جل فلا تقل لهما أف لو خص

منه الضرب فأبيح مع إيمانهما وحظر التأفيف كان قد أبيح ما يشارك المحظور في علة الحظر وزاد عليه فأما العلة التي لا يثبت فيها معنى الأولى فضربان منصوصة ومستنبطة وفي تحصيص كل واحدة منهما اختلاف
وإذ وقد ذكرنا ما لا يجوز تخصيصه وما يجوز تخصيصه فلنذكر الغاية التي اليها ينتهي تخصيص ما يجوز تخصيصه
باب في الغاية التي يجوز أن ينتهي التخصيص إليها حكي عن أبي بكر القفال أنه أجاز تخصيص لفظة من إلى أن يبقى تحتها واحد فقط ولم يجز ذلك في ألفاظ الجمع العامة وجعل نهاية تخصيصها أن يبقى تحتها ثلاثة كقولك الناس والرجال وأجاز غيره تخصيص جميع الفاظ العموم على اختلافها إلى أن يبقى تحتها واحد والأولى المنع من ذلك في جميع ألفاظ العموم وإيجاب أن يراد بها كثرة وإن لم يعلم قدرها إلا أن تستعمل في الواحد على سبيل التعظيم والإبانة بأن ذلك الواحد يجري مجرى الكبير فأما على غير ذلك فليس بمستعمل يبين ذلك أن رجلا لو قال أكلت كل ما في الدار من الرمان وكان قد أكل رمانة واحدة وفي الدار ألف رمانة عابه أهل اللغة وكذلك لو أكل ثلاثة فانما يزول اللوم عنه إذا كان قد أكل جميعها أو كثيرا منها وإن لم يحد ذلك بحد كذلك لو قال أكلت الرمان الذي في الدار وقد أكل ثلاثة وكذلك لو قال أكلت الرمان إلا أن يريد بقوله أكلت الرمان الجنس دون الاستغراق لأن المريض لو قال قد أكلت اللحم حسن ذلك وإن كان أكل اليسير منه لما كان مقصده أنه قد شرع في هذا الجنس ولو قال قائل من دخل داري ضربته أو قال لغيره من عندك وقال أردت زيدا وحده بالاستفهام والمجازاة عابه أهل اللغة

وحجة من أجاز أن ينتهي التخصيص إلى أن يبقى من العموم واحد هي أنه لو لم يجز ذلك لكان إما أن لا يجوز لأنه يصير به الخطاب مجازا أو لأنه إذا استعمل في الواحد لم يكن مستعملا في الجمع فلا يكون قد استعمل الخطاب في موضعه أصلا والأول يمنع من دخول التخصيص فيه على كل حال والثاني يمنع أيضا من ذلك لأن الاستغراق هو موضوع اللفظ العام لا غير والجمع تبع له وإن لم يجز أن يستعمل اللفظ في غير موضوعه لم يجز استعماله فيما دون الاستغراق والجواب أن الذي يمنع من ذلك أنه غير مستعمل في اللغة من الوجه الذي بيناه واحتجوا بقول الله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ومنزل الذكر هو الله الواحد عز و جل وبقول الشاعر
إنا وما أعني سواي
ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد أنفذ إلى سعد بن أبي وقاص القعقاع مع ألف فارس إني قد أنفذت إليك ألفي رجل وصفه بأنه ألف فاذا جاز ذلك في ألفاظ العدد فجوازه في ألفاظ العموم أولى والجواب أن ذلك خرج على طريق التعظيم أو الإخبار بقيام الواحد مقام الجماعة وذلك سائغ
باب في جواز استعمال الله سبحانه الكلام العام في الخصوص أمرا كان أو خبرا
حكي أن قوما منعوا من ذلك في الخبر دون الأمر والدليل على جواز ذلك فيهما أن القرآن قد ورد بخطاب عام والمراد به الخصوص كقوله سبحانه اقتلوا المشركين وقوله سبحانه وأوتيت من كل شيء

وجاءت السنة بذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يدخل بيتا فيه تصاوير وقال إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تصاوير ثم دخل بيتا فيه تصاوير بوطاء فكان ذلك تخصيصا ولأن المانع من ذلك إما أن يكون من جهة الإمكان أو من جهة اللغة أو من جهة الدواعي والحكمة ومعلوم أن ذلك ممكن من كل متكلم واللغة لا تمنع من ذلك لأنهم يتكلمون بالعموم ويريددون به الخصوص والحكمة أيضا لا تمنع من ذلك لأن أكثر ما فيه أنه يصير العموم باستعماله في الخصوص مجازا والحكمة لا تمنع من التكلم بالمجاز
إن قيل إن جاز ذلك لتكلم أهل اللغة به ليجوزن أن يامر الله سبحانه بشرط لأن أهل اللغة يأمرون بشروط قيل إنا لم نمنع من ذلك لأجل اللغة لكن لأن الأمر بالشرط موقوف على فقد العلم بحصول الشرط أو زواله إن قيل فالحكمة تمنع من أن يراد بالخبر العام بعضه لأنه يوهم الكذب قيل ليس يوهم ذلك إذا اقترن به بيان التخصيص ويلزم عليه المنع من دخول التخصيص في الأمر لأنه يوهم البداء فإن قالوا الخبر لا يجوز نسخه فلم يجز تخصيصه والجواب أنه يجوز نسخه على ما سنبينه
باب فيما يصير به العام خاصا اعلم أنه يفهم من ذلك ما به يصير خاصا عندنا ويفهم منه ما به يصير خاصا في نفسه فاذا أريد الوجه الأول فالجواب أنه يصير خاصا عندنا بالأدلة لأنا بها اعتقدنا أن العام مخصوص وإذا أريد الوجه الثاني وهو الحقيقة لأن المفهوم من ذلك أنه صار مخصوصا به في نفسه فالجواب أنه صار مخصوصا بأغراض المتكلم وإرادته لا بالأدلة لأن معنى قولنا إن العموم مخصوص هو أن المتكلم به استعمله في بعض ما تناوله ولا معنى لذلك إلا أنه قصد به بعض ما تناوله أو ما يجري مجرى القصد ولأنه إذا جاز أن يرد

الخطاب خاصا وجاز أن يرد عاما لم يكن بأحدهما أولى من الآخر إلا لما يرجع إلى أغراض المتكلم كما يذكره أصحابنا في الأمر والخبر ولهذا كان لفظ العموم مستعملا في الاستغراق بارادة المتكلم وأغراضه ولأن الدلالة على تخصيص العموم الذي تكلم به الواحد منا قد يكون متأخرا والمؤثر في الشيء لا يتأخر عنه ولأنه قد يتكلم الواحد منا بالعموم ويدل غيره على تخصيصه والمخصص للعموم هو المتكلم دون غيره وانصرف ذلك إلى أقوال المتكلم دون الدليل
باب فيما يعلم به تخصيص العام اعلم أنه يعلم تخصيص العم بما يتصل به وبما ينفصل عنه والمتصل به شرط وصفة وغاية واستثناء والمنفصل ضربان عقلي وسمعي والسمعي ضربان دلالة وأمارة فالدلالة هي الكتاب والسنة المقطوع بها والإجماع المقطوع به والأمارة خبر واحد وقياس
باب تخصيص الكلام بالصفة والغاية أما تخصيصه بالصفة فكقولك أكرم الناس الطوال فلو لم تقل الطوال لزوم إكرامهم أجمع فلما قلت الطوال لزم إكرام الطوال فقط ولم يلزم بهذا الكلام إكرام من عداهم فان تضمن الكلام شيئين عطف أحدهما على الآخر وقيد الثاني منهما بصفة فانه يتقيد الأول بالصفة في حال ولا يتقيد في حال على ما سنذكره في الاستثناء إذا تعقب جملا من الكلام
وأما تخصيصه بالغاية فكقولك أكرم بني تميم أبدا إلى أن يدخلوا الدار فلو لم تقل إلى أن يدخلوا الدار جاز أن يكرمهم بالأمر دخلوا

الدار أو لم يدخلوا فلما ذكرت الغاية تخصص الوجوب بما قبلها لأنه لو لزم الإكرام بعد الدخول خرج الدخول من كونه غاية ونهاية ودخل في أن يكون وسطا وذلك ينقض فائدة قوله إلى لأن هذه اللفظة تفيد الغاية وقد يدخل على الحكم الواحد غايتان إما على البدل وإنما على الجمع مثال الأول قولك اضرب زيدا أبدا تى يدخل الدار أو حتى تسلم على زيد فأيهما فعل سقط وجوب الضرب والغاية الثانية قد زادت في التخصيص لأنك لو اقتصرت على الغاية الأولى ما ارتفع الضرب إلا مع دخول الدار فلما ذكرت الثانية ارتفع وجوب الضرب مع فقد دخول الدار إذا وجد التسليم على زيد ومثال الثاني قولك اضرب بني تميم أبدا حتى يدخلوا الدار وحتى يسلموا على زيد فيصير فعل الثاني منهما هو الغاية في التحقيق والغاية الثانية قد رفعت بعض التخصيص لأنها لو لم تذكر سقط وجوب الضرب بدخول الدار فقط فلما ذكرت لم يسقط وجوب الضرب إلا بوجود السلام مع دخول الدار
باب التخصيص بالشرط اعلم أن الشرط يخص الكلام وهو ضربان أحدهما يخرج من الكلام ما علمنا خروجه منه بدليل آخر عقلي أو سمعي فيكون مؤكدا نحو قولك أكرم القوم أبدا إن أستطعت والضرب الآخلار يخرج من الكلام ما لا نعلم خروجه منه لولاه كقولك أكرم القوم ابدا إن دخلوا الدار فلو لم تذكر الشرط لزم إكرامهم وإن لم يدخلوا الدار ومع ذكرك للشرط سقط وجوب الإكرام إن لم يدخلوا الدار لأن لفظة إن للشرط والشرط يقف عليه المشروط وعلى بدله وإلا انتقض كونه شرطا على ما تقدم بيانه
وقد يشترط الحكم الواحد بشروط كثيرة على البدل وعلى الجمع فالأول كقولك أكرم القوم أبدا إن دخلوا الدار أو إن دخلوا السوق فأيهما

حصل استحق الإكرام والشرط الثاني قد رفع بعض التخصيص لأنك لما قلت إن دخلوا الدار أسقطت الإكرام بفقد الدخول وأخرجت ذلك من الكلام فلما قلت أو إن دخلوا السوق أوجبت إكرامهم بدخول السوق وإن لم يدخلوا الدار على حد ما اقتضاه مطلق الكلام ومثال الثاني قولك أكرم القوم أبدا إن دخلوا الدار ودخلوا السوق فلا يستحق الإكرام إلا بهما والشرط الثاني قد زاد في التخصيص لأنك لو اقتصرت على الشرط الأول ما كان يخرج من الإكرام من دخل الدار ولما ذكرت الشرط الثاني خرج من الإكرام من دخل الدار متى لم يدخل السوق
وقد يشرط للأحكام الكثيرة شرط واحد على البدل وعلى الجمع مثال الأول قولك أعط زيدا درهما أو دينار إن دخل الدار ومثال الثاني قولك أعط زيدا درهما واخلع عليه إن دخل الدار والشرط له صدر الكلام سواء تقدم أو تأخر لأن من حقه أن يتقدم الجزاء فاذا قلت أعط زيدا درهما أن دخل الدار معناه إن دخل الدار فأعطه درهما والشرط كالمشروط إن كان المشروط قد نقض فشرطه قد نقض ولا يكون الشرط مستقبلا ألا ترى أن دخول زيد الدار إذا تقدم وكان شرطه دخول عمرو فيجب أن يكون دخول عمرو قد تقدم وإن كان المشروط حاضرا فشرطه حاضر وإن كان مستقبلا فشرطه مستقبل والأصل في ذلك أن الشرط عليه يقف الحكم فلا يجوز أن يفارقه ولهذا إذا كان دخول زيد الدار شرطا في استحقاقه درهما وجب أن يقارن استحقاق الدرهم لأول فعل سمي دخولا
إن قيل أليس لو علم الله سبحانه أن زيدا إن دخل الدار يوم الخميس دخلها يوم الجمعة فيقول لنا زيد قد دخل الدار يوم الخميس إن دخلها يوم الجمعة فيكون الشرط متأخرا والمشروط متقدما قيل إنه إذا كان كذلك لم يكن دخوله يوم الجمعة شرطا في دخوله يوم الخميس وإنما يكون الدخول يوم الجمعة أو علمنا بذلك شرطا في علمنا بدخوله يوم الخميس فان قيل

فلو كانت الحال هذه ثم قال عز و جل قبل مجيء يوم الجمعة زيد سيدخل الدار يوم الجمعة ألسنا نعلم قبل مجيء يوم الجمعة أنه كان دخلها يوم الخميس قيل إنه إذا كان كذلك علمنا قبل يوم الجمعة أن زيدا سيدخل الدار يوم الجمعة وكان هذا العلم كالشرط في علمنا أنه قد دخلها يوم الخميس والشرط في هذين العلمين لم يتأخر عن المشروط منهما
باب في تخصيص الكلام بالاستثناء اعلم أن الاستثناء المتصل بالكلام يخصه إذ قد بينا أنه يخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحته وذلك نحو قول القائل لزيد عندي عشرة دراهم إلا درهما وأكرم الناس إلا الفاسقين ومن حقه أن يكون متصلا بما يخصه أو في حكم المتصل به أما اتصاله بالكلام فنحو قولك له علي عشرة إلا درهما وكقولك أكرم العرب الطوال البيض إلا الفاسقين لأن هذا الاستثناء يخرج الفاسقين من العرب البيض الطوال فلم يتأخر عن المستثنى منه على الحقيقة وأما الذي هو حكم المتصل فبأن يكون انفصاله وتأخره على وجه لا يدل على أن المتكلم قد استوفى غرضه من الكلام نحو أن يسكت قبل الاستثناء لانقطاع نفس أو بلع ريق وحكي عن ابن عباس أنه قال إن الاستثناء المنفصل يخص الكلام ويكون استثناء
واعلم أن القول بأنه يكون استثناء مع انفصاله إما أن يراد به أنه يكون على صورة الاستثناء ومعلوم أنه يكون كذلك أو يراد به أنه يمكن أن يقصد به المتكلم إخراج بعض المستثنى وهذا ايضا ممكن أو يراد به أن ذلك مستعمل في عادة العرب ومعلوم أن ذلك غير مستعمل لأن الإنسان لا يقول رايت الناس ويقول بعد شهر رأيت زيدا ولذلك استقرت العقود والإيقاعات كالعتاق والطلاق وغير ذلك وإما أن يراد به أن السامع لهذا

الاستثناء يعلم رجوعه إلى الكلام المتقدم منذ شهر ومعلوم أن السامع لا يعرف ذلك لأن الاستثناء غير مستقل بنفسه فهو كالخبر مع المبتدأ فكما أن الخبر إذا تأخر عن المبتدأ شهرا لم يستفد به السامع شيئا فكذلك الاستثناء المتأخر أو يراد بذلك أنه متعلق به حكم شرعي حتى إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق ثلاثا ثم قال بع شهر إلا أن تدخلي الدار فإنها لا تطلق إن دخلت الدار ومعلوم أنه كان يجوز ورود الشريعة بذلك لجواز تعلق المصلحة به غير أنها لم ترد به وإنما وردت بتعلق هذه الأحكام على المتعارف من خطاب العرب ولو تعلقت هذه الأحكام بغير ما تعارفوه من الكلام لبينته الشريعة فاذا ثبت ذلك لم يحسن الاستثناء المنفصل لأنه إن تجرد لم يفد والغرض بالكلام الإفادة فما لم يحصل به هذا الغرض قبح وإن اقترن به بيان نحو أن يستثني المتكلم من كلامه بعد شهر ثم يقول هذا راجع إلى كلامي الفلاني فانه يقبح لأنه استعمل ما لا يستعمله أهل اللغة فلم يجز مع أنه متكلم بكلامهم كما لا يحسن أن يأتي بالخبر بعد المبتدأ بشهر ويبين أنه خبر لذلك المبتدأ
باب في الاستثناء من غير الجنس أما استعمال ذلك فظاهر قال الله سبحانه وتعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس فاستثنى منهم إبليس وليس منهم وقال الشاعر
وما بالربع من أحد إلا أواري
ولا يقال للأواري أحد إلا أن ذلك مجاز لأن من حق الاستثناء أن يخرج من الكلام شيئا تناوله واسم الملائكة لم يتناوله إبليس فيكون قوله

إلا إبليس أخرجه من الكلام وكل استثناء من غير الجنس فإنه يخرج من معنى الكلام ولا بد من إضمار إما فيه أو في المستثنى منه أما الإضمار في الاستثناء فنحو قول القائل لزيد على عشرة أثواب إلا دينارا أي ما قيمته قيمة دينار فالاستثناء قد دخل على معنى المستثنى منه وهو القيمة ووقع الإضمار في الاستثناء وأما ما يقع الإضمار في المستثنى منه فنحو قول الله سبحانه فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أي فسجد الملائكة ومن أمر بالسجود إلا إبليس فلما وقعت الشركة بين الملائكة وبين إبليس في أنهم مأمورون بالسجود صح الاستثناء ومنه قول الله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا لما دل هذا الكلام على لحوق الإثم من قتل مؤمنا صار ذلك كالمضمر وكان قوله إلا خطأ استثناء منه
باب في استثناء الأكثر من الأقل أجازه قوم ومنع منه قوم آخرون وليس يخلو المانعون منه إما أن يمنعوا منه لأنه لا يفهم منه المراد أو لأنه غير مستعمل في اللغة أو لأن الحكمة تمنع من ذلك ومعلوم أن الإنسان إذا قال لزيد علي عشرة دراهم إلا تسعة فهم السامع في الحال أنه أقر بدرهم واحد وكيف لا يفهم بهذا الكلام ومفرده هو من لغة العرب وقد اتصل الاستثناء بالكلام ولم ينفرد عنه فبطل المنع من ذلك لأنه لا يفهم به المراد ولا يجوز أن يقال إنه ليس بمستعمل في كلامهم لأن ذلك دعوى بل لا يمتنع أن يكون لم يكثر في كلامهم لأن الحاجة لا تكاد تدعو إليه إلا في النادر فلهذا ندر في كلامهم فلم ينقل أو نقل نادرا

وأما القول بأن الحكمة تمنع من ذلك فبأن يقال إن الاستثناء إنما يفعل للاستدراك أو للاختصار فالاستدراك نحو أن يظن الإنسان أن لزيد عليه عشرة دراهم فيقر بذلك ويذكر في الحال أن له عليه تسعة فيستثني درهما وأما الاختصار فنحو أن يستطيل الإنسان أن يقر بتسعة دراهم وخمسة دوانيق فيقر بعشرة دراهم إلا دانقا وليس من الاختصار أن يقول الإنسان لزيد علي ألف درهم إلا تسع مائة وتسعة وتسعون ولم تجر العادة أن يكون على الإنسان درهم فيظن عليه ألف درهم ثم يذكر في الحال أن عليه درهما فيستدرك ذلك بالاستثناء والجواب أن الأكثر ما ذكرتم وقد يتفق خلافه فنحو أن يكون على الإنسان ألف درهم وقد قضي منها تسع مائة وتسعة وتسعين وينسى أنه قضي ذلك فيقر بالألف ويذكر في الحال القضاء ويستدرك بالاستثناء وقد يجوز أن يكون لزيد على عمرو درهم ولخالد على عمرو ألف درهم فيروم عمرو أن يقر لخالد بالألف فيسبق لسانه بالإقرار بالألف لزيد فلا يجد سبيلا إلى دفع ذلك عن نفسه إلا بالاستدراك وإذا جاز ما ذكرناه لم تمنع منه الحكمة ولهذا لو صرح المستثنى للاكثر بما ذكرناه لم يلمه العقلاء وإذا لم يمنع من هذا الاستثناء مانع صح حسنه ولا يجوز أن يستدل على جوازه بأن من حق الاستثناء أن يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه وذلك قائم في استثناء الأكثر من الأقل لأن لقائل أن يقول من أين لكم أنه ليس حقه إلا ما ذكرتم فاذا ثبت جواز هذا الاستثناء صح أن يتعلق به حكم وأن يتعلق به الإقرار
باب في الاستثناء الوارد عقيب كلامين هل يرجع إليهما أو إلى الثاني منهما قال أصحاب الشافعي يرجع إليهما وقال أصحاب أبي حنيفة يرجع إلى الثاني منهما وقالوا في الاستثناء بمشيئة الله وفي الشرط إنهما يرجعان إلى كلا الكلامين وحكى الحوري عن أهل الظاهر مثل مذهب أبي حنيفة وسوى بين

المشيئة والشرط والاستثناء وذكر أنه مذهبهم وقال قاضي القضاة إذا لم يكن الثاني منهما إضرابا عن الأول وخروجا عنه إلى قصة أخرى وصح رجوع الاستثناء إليهما وجب رجوعه إليهما وإن كان إضرابا عن الأول وخروجا عنه إلى قصة أخرى فانه يرجع إلى ما يليه
ويمكن أن نعتبر أيضا اعتبارا آخر وهو أن يضمر في الكلام الثاني شيء مما في الأول أو لا يضمر فيه شيء مما في الأول ويدخل فيما يكون الثاني من الكلام إضرابا عن الأول مسائل
منها أن يكون الكلام الثاني نوعا غير نوع الكلام الأول مع أنه خروج إلى قصة أخرى كقولك اضرب بني تميم والفقهاء هم أصحاب أبي حنيفة إلا أهل البلد الفلاني فالاستثناء يرجع إلى ما يليه لأن المتكلم لما عدل عن قصة وعن كلام مستقل بنفسه إلى قصة أخرى وإلى كلام مستقل بنفسه علم أنه قد استوفى غرضه من الأول لأنه لا شيء أدل على استيفاء الغرض بالكلام من العدول عنه إلى قصة أخرى ونوع آخر وفي رجوع الاستثناء إليه نقض للقول بأن المتكلم قد استوفى غرضه منه
ومنها أن يكون الكلام الثاني من نوع الكلام الأول غير أنه يباينه في الاسم والحكم كقولك اضرب بني تميم وأكرم ربيعة إلا الطوال الاستثناء في ذلك يرجع إلى ما يليه لاستقلال كل واحد من الكلامين بنفسه ومباينته له وعدول المتكلم عن الكلام الأول إلى الثاني
ومنها أن يشترك الكلامان في حكم ظاهر فيهما فقط أو في اسم ظاهر فيهما فقط ولا يكون قد أضمر في أحدهما شيء ما ليس في الآخر مثال الأول قولك سلم على بني تميم وسلم على ربيعة إلا الطوال الأشبه رجوع الاستثناء إلى ما يليه وإن لم يكن في الظهور كالذي تقدم وإنما رجع إلى ما يليه لعدول المتكلم عن الكلام الأول ودلالته على استيفاء غرضه منه

وأما إذا اشتركا في اسم ظاهر فقط فضربان أحدهما أن لا يشترك الحكمان في غرض من الأغراض والآخر أن يشتركا فر غرض مثال الأول قولك سلم على بني تميم واستأجر بني تميم إلا الطوال الأشبه أيضا رجوع الاستثناء إلى ما يليه لما ذكرناه
فأما إذا اشتركا في غرض من الأغراض فانه يدخل في القسم الذي سنذكره الآن وهو أن لا يكون الكلام الثاني إضرابا عن الأول وذلك ضربان أحدهما أن لا يكون إضرابا عن الأول من حيث اشترك الكلامان في حكمين يجمعهما غرض واحد فيصير كالحكم الواحد فيرجع الاستثناء إليهما كقولك سلم على ربيعة وأكرم ربيعة إلا الطوال لأن الحكمين قد اشتركا في الإعظام والثاني أن يكون قد أضمر في الكلام الثاني شيئا مما في الأول إما الاسم أو الحكم مثال الأول قولك أكرم ربيعة واستأجرهم إلا من قام ومثال الثاني قولك أكرم بني تميم وربيعة إلا من قام الاستثناء يرجع إليهما فأما قول الله عز و جل والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا فانه داخل في هذا القسم من حيث أضمر فيه ما تقدم فلم يكن الكلام الثاني عدولا عن الأول لأن القصة واحدة وهو داخل أيضا في القسم الذي قبل هذا القسم من حيث كان رد الشهادة مع الجلد والحكم بالفسق يجمعهما أمر واحد وهو الانتقام والذم
واعلم أنه ليس في هذا الكلام نص من المتكلم يقتضي رجوع الاستثناء إلى كلا الكلامين أو إلى الثاني منهما وإنما الذي يجب أن يدل عليه وجهان إما وجه منفصل كآيات في القرآن وعمل الصحابة وإما وجه متعلق بالاستثناء وراجع إليه وذلك ضروب منها اعتبار غرض المتكلم ومنها اعتبار حرف

العطف ومنها اعتبار فقد استقلال الاستثناء بنفسه ومنها قياس الاستثناء على غيره أما اعتبار الغرض واعتبار حرف العطف فيحتج به من قال إن الاستثناء يرجع إلى جميع ما تقدم وأما اعتبار فقد الاستقلال فيحتج به من قال إنه يرجع إلى ما يليه وإما قياسه على غيره فضربان أحدهما يحتج به من قال إنه يرجع إلى ما يليه والآخر يحتج به من قال إنه يرجع إلى الكلامين ونحن نورد ذلك على نسق إن شاء الله فالدلالة على رجوع الاستثناء إلى جميع ما تقدم إذا لم يكن بعضه إضرابا عن البعض أن القائل إذا قال لغيره سلم على بني تميم واستأجرهم علمنا أن غرضه من الكلام الأول لم يتم وأنه لم يضرب عنه لأنه قد أعلمه في الكلام الثاني ألا ترى أنه قد أضاف إلى الاسم حكما آخر وكذلك إذا قال سلم على بني تميم وربيعة لأنه قد عدى ذلك الحكم إلى اسم آخر فيصير الكلامان مع حرف العطف كالجملة الواحدة فرجع الاستثناء إليهما كرجوعه إلى الجملة الواحدة ويفارق ذلك إذا تميز كل واحد من الكلامين من الآخر
فصل الاستثناء كالشرط وكالاستثناء بمشيئة الله تعالى في أنه لا يستقل بنفسه فكما وجب رجوع الشرط والاستثناء بمشيئة الله إلى جميع ما تقدم فكذلك لفظ الاستثناء ولا وجه لأجله يقال بوجوب رجوع لفظ الاستثناء إلى ما يليه إلا وهو قائم في الشرط إن قيل إنما رجع الشرط الى جميع ما تقدم لأنه وإن تأخر فهو في معنى المتقدم لوجوب تقدم الشرط على الجزاء فالإنسان إذا قال اضربوا بني تميم وربيعة إن قاموا معناه إن قام بنو تميم وربيعة فاضربوهم وليس كذلك الاستثناء لأنه لا يجب تقدمه والاستثناء بمشيئة الله فلفظة لفظ الشرط ولقائل أن يقول هلا علقتم الشرط بما يليه وقدرتموه تقدير المتقدم عليه حتى يكون تقدير الكلام اضربوا بني تميم وإن دخل ربيعة الدار فاضربوهم
دليل الكلامان يجريان مع حرف العطف مجرى الجملة الواحدة لأن واو

العطف في الأسماء المختلفة تقوم مقام واو الجمع في الاسماء المتماثلة ولو قال الانسان أكرم العرب إلا بني تميم وربيعة رجع ذلك إلى بني تميم وربيعة وكذلك إذا قال أكرم بني تميم وربيعة إلا الطوال ولقائل أن يقول إن واو العطف تجري مجرى واو الجمع في اشتراك الاسمين في الحكم ولا تجريان مجرى واحد في رجوع الاستثناء إليهما يبين ذلك أن الكلامين وإن عطف أحدهما على الآخر فليس يخرجان من أن يكونا جملتين وينتقض ذلك بالجملتين المتباينتين نحو قولك أكرم ربيعة واضرب بني تميم فالوجه أن يذكر واو العطف مع أن المتكلم لم يعدل عن الكلام الأول ويحتج بمجموعهما
دليل وهو أن القائل لو قال بنو تميم وربيعة أكرموهم إلا الطوال رجع الاستثناء إليهما فكذلك إذا قال أكرموا بني تميم وربيعة إلا الطوال لأنه لا فرق بين تقديم الأمر وتأخيره ولقائل أن يقول إن في قولهم أكرموهم اسم للفريقين ينصرف إليهما معا والاستثناء متصل به فوجب أن يخرج الطوال من الاسم الذي هو اسم لهما كما لو قال أكرم العرب إلا الطوال وليس كذلك إذا قال أكرم بني تميم وربيعة إلا الطوال لأنه لم يصل الاستثناء باسم يشملهما
دليل وهو قوله إلا من قام معناه إلا من قام منهما فلا تضربوه ولقائل أن يقول ليس ذلك في لفظ الاستثناء فلستم بهذا التقدير أولى من أن نقدر قوله إلا من قام من ربيعة فلا تضربوه
دليل لو رجع الاستثناء إلى ما يليه فقط لكان الإنسان إذا قال لزيد علي خمسة دراهم وخمسة وخمسة إلا سبعة إن بلغوا لأن السبعة ليست بجزء الخمسة ولقائل أن يقول الاستثناء يرجع إلى ما يليه إلا أن يمنع منه مانع كما تقولون يرجع إلى جميع ما تقدم ما لم يمنع منه مانع والمانع من رجوع استثناء السبعة إلى ما يليها أن الاستثناء يخرج جزء من كل والسبعة ليست بجزء الخمسة

واحتج من لم يرد الاستثناء إلى جميع ما تقدم بأشياء
منها أن الاستثناء لما لم يستقل بنفسه وجب تعليقه بغيره ليستقل ولو استقل بنفسه لم يجب تعليقه بغيره ولا شبهة في وجوب تعليقه بما يليه وبهذا القدر يستقل ويفيد فتعليقه بما زاد على ذلك يجري مجرى تعليق الكلام المستقل بغيره لا من ضرورة والجواب أن هذا الكلام يمنع من رجوع الاستثناء إلى الكلام المتقدم لكي يستقل بنفسه ولا يمنع من رجوعه إليه لسبب آخر وليس يمتنع أن يكون للحكم الواحد أسباب فلا يمتنع أن يكون لرجوع الاستثناء إلى ما تقدم سبب آخر غير ما ذكر وينتقض ما ذكروه بالشرط والاستثناء بمشيئة الله لأن ذلك غير مستقل بنفسه ويدخل في الإفادة إذا علق بما يليه ومع ذلك فقد تعلق بجميع ما تقدم وقول بعضهم إن الشرط وإن تأخر فهو في الحكم متقدم ولا يخرجه من أن يكون نقضا لما ذكروه من العلة وقول بعضهم إن الاستثناء بمشيئة الله يقتضي إيقاف الكلام ولا يخرج البعض دون البعض لا يمنع من أن تنتقض به هذه الشبهة من حيث كان غير المستقل بنفسه وقد رجع إلى جميع ما تقدم ويقال لهم هلا رجع إلى ما يليه فأوقفه ولم يرجع إلى جميع ما تقدم
ومنها قولهم إن الاستثناء من الجمل في أنه يستقل بنفسه كالاستثناء من الاستثناء وإذا كان الاستثناء من الاستثناء يرجع إلى ما يليه ولا يفتقر في استقلاله إلى أكثر من ذلك فكذلك الاستثناء من الجمل والجواب أن الإنسان إذا قال لزيد علي عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما كان الدرهم مستثنى من الثلاثة فقط لأنه لو رجع إلى الثلاثة وإلى العشرة لكان استثنى درهمين درهما من الثلاثة ودرهما من العشرة وأيضا فالعشرة إثبات والاستثناء منها نفي والثلاثة نفي والاستثناء منها إثبات فلو رجع استثناء الدرهم إليهما لكان نفيا وإثباتا ولهذه العلة قلنا إنه لو قال له علي عشرة دراهم إلا ثلاثة درهمين أن الدرهمين يرجعان إلى الثلاثة ولا يرجع درهم إليهما ودرهم إلى العشرة فان قيل فلم رجع الاستثناء الثاني إلى الاستثناء الأول

دون العشرة بأولى من أن يرجع إلى العشرة فقط مع أنه في الحالين لا يكون الاستثناء نفيا وإثباتا معا قيل لأنه لو رجع إلى العشرة فقط كان الاستثناء الأول في رجوعه إلى العشرة وفي ذلك عطفه عليه حتى يقول له علي عشرة إلا ثلاثة درهما وأيضا فان الاستثناء الثاني متصل بالاستثناء الأول ولم يحصل الاستثناء الأول مع ما تقدم كجملة واحدة بحرف عطف أو غيره وليس كذلك إذا قال القائل أكرم بني تميم وربيعة إلا الطوال
ومنها قول بعضهم إن الكلام الأول عام فعلى من ادعى تحصيصه بالاستثناء إقامة الدلالة دون من لم يدع تخصيصه والجواب أن القائل بأن الاستثناء يرجع إلى ما تقدم فيخصه والقائل بأنه لا يرجع إليه ولا يخصه مدعيان إذ كل واحد منهما يدعي للاستثناء دعوى لا يوافقه عليها خصمه فكان على كل واحد منهما إقامة الدلالة
ومنها تعلقهم بآيات رجع الاستثناء فيها إلى ما يليه ومخالفهم يقول إن ذلك إنما علم بدليل لا بالظاهر
ومنها تعلقهم بأن الصحابة لم تخص الكلام المتقدم بما بعده لأنها قالت في قول الله تعالى وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن إن ذلك راجع إلى الربيبة دون أمهات النساء وقالت في أمهات النساء أبهموا ما أبهم الله فلم تشترط تحريم أمهات النساء بالدخول بالنساء والجواب أن ذلك ليس باستثناء فلم يجب في الاستثناء ما يجب فيه لأنهم لم يجمعوا بينهما بعلة وعلى أن قوله اللاتي في حجوركم من نسائكم نعت للربائب دون أمهات النساء لأن أمهات نسائنا لسن في حجورنا ولا هن من نسائنا وقوله اللاتي دخلتم بهن وإن رجع إلى

النساء فهو من تمام نعت الربائب فصح أن الكلام صريح في تقييد الربائب لا ما تقدم فكان أمهات النساء على الإبهام الذي ابهمه الله عز و جل
باب في تخصيص العموم بالأدلة المنفصلة اعلم أن الأدلة المنفصلة هي أدلة العقل وكتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم والإجماع
فالعقل يخص به عموم الكتاب والسنة وذلك أنا نخرج بالعقل الصبي والمجنون من أن يكونا مرادين بخطاب الله سبحانه بالعبادات في الحال ولا نخرجهما من أن يكونا مرادين بالخطاب إذا كملت عقولهما لأجماع المسلمين على أن الصبي إذا بلغ فالصلاة واجبة عليه لقول الله سبحانه أقيموا الصلاة ولإجماعهم على وجوب الصلاة عليه ولا دليل يدل على تجدد أمر له ولأنه لو لزمته الصلاة لأمر مجدد لوجب أن يسمعه ويعلمه أو يعلمه العلماء فأما أنه خارج من الخطاب في الحال لمكان دليل العقل فقد امتنع قوم من القول بأن أدلة العقل تخص الكتاب وقالوا إن العموم مرتب عليها وقم أطلقوا المنع من ذلك إطلاقا فيقال لهؤلاء أتعلمون بالعقل أن الله سبحانه لم يرد بقوله يأيها الناس اعبدوا ربكم المجانين والأطفال أم لا فان قالوا نعلم ذلك لكنا لا نسميه تخصيصا خالفوا في الاسم ووافقوا في المعنى وقيل لهم ليس للتخصيص معنى إلا أن يخرج من الخطاب بعض ما تناوله من الأشخاص وإن قالوا بالثاني فهو فاسد لأن الصبي والمجنون لا يمكنهما فهم المراد لا على جملة ولا على تفصيل فارادة الفهم مما لا يتمكن منه تكليف لما لا يطاق ويتعالى الله عن ذلك فان قالوا دليل العقل متقدم والمخصص لا

يتقدم قيل بل يجوز أن يتقدم إن قيل فلم كنتم بالتمسك بدليل العقل أولى من التمسك بعموم الكتاب وهلا شرطتم في دليل العقل أن لا يعارضه عموم الكتاب قيل إن دليل العقل دل على قبح إرادة الفهم ممن لا يتمكن منه دلالة مطلقة ولم يدل على قبحها في حال دون حال ألا ترى انا نعلم قبحها تناولهم لفظ كتاب أو لم يتناولهم إذ العلة في قبحها كونهم غير متمكنين فوجب التمسك به على الإطلاق وعموم الكتاب لما كان محتملا للتخصيص وكنا لا نعلم معه حسن إرادة ما لا يطاق ثبت أنه لا يدل على حسنها فوجب تخصيصه
إن قيل إذا كان من لا يتمكن من فهم المراد بالخطاب على جملة أو تفصيل ليس بمخاطب بالعبادات في الحال فما مراد الفقهاء بقولهم إن النائم في جميع وقت الصلاة مخاطب بالصلاة قيل ليس هذا مرادهم بذلك أنه قد أريد منه أن يصلي وهو نائم أو أن يزيل النوم عن نفسه لأنه لا يمكنه كلا الأمرين ولو فصل لهم ذلك أبوه فعلمنا ان مرادهم غير ذلك
وقد ذكر قاضي القضاة أن مرادهم بقولهم إن الإنسان مخاطب وجوه
منها أنه مكلف لما تضمنه الخطاب
ومنها أن سبب الوجوب حاصل فيه كالنائم لأنه قد اختص بسبب وجوب قضاء الصلاة بخلاف المجنون ولهذا يقولون إن الحائض مخاطبة بالصيام دون الصلاة
ومنها أن يكون المكلف إذا فعل ما تضمنه الخطاب صح منه وإن لم يكلف فعله كقولهم إن الفقير مخاطب بالحج دون الصبي
ومنها أن لا يكون بينه وبين أن يكون مخاطبا بالفعل إلا أن يزول عنه شيء قد عرض كالفقير متى زال عنه اسم الفقر صار مخاطبا بالحج

ومنها أن يلزمه حكم الخطاب نحو قولهم إن السكران مخاطب بأحكام الطلاق ومعنى ذلك انه يلزمه الفرقة إن قيل أليس الصبي قد دخل تحت الخطاب في أروش الجنايات قيل إنه لم يدخل في الخطاب باخراج الأرش وإنما الداخل تحت الخطاب وليه بأن يخرج الأرش من مال الصبي
وذكر قاضي القضاة أن الحقوق الثابتة في المال إن تبعت عبادة كالنفقة في الحج لم تجب في مال الصبي وإن لم تتبع عبادة ولم تفتقر إلى نية كأرش الجنايات وجب من ماله وإن احتاجت إلى نية كالزكاة فقد اختلف الفقهاء في وجوب ذلك في ماله
فان قيل وإذا لم يدخل الصبي في العبادات فلم فصل بين صلاته بلا طهارة وبطهارة وحكموا بصحتها بطهارة قيل مرادهم بذلك أنها إذا كانت بطهارة فهي على الصفة التي تسقط فرض البالغ وليس كذلك إذا كانت بلا طهارة أو لأنها إذا كانت بطهارة فقد وقعت الموقع الذي أمرنا أن نأخذه بها وليس كذلك إذا كانت بلا طهارة وليس مرادهم بذلك أنها إذا كانت على طهارة أسقطت الفرض عنه لإجماعهم على أنه لا فرض عليه إن قيل أفليس قد اختلفوا في صحة إسلامه وكيف لا يكون عندهم أهل التكليف قيل إن من يصحح إسلامه إنما يصححه إذا كان يعقل الإسلام وعنده أنه إذا كان كذلك كان مكلفا للإسلام لصحة الاستدلال منه وأيضا فلو لم يكن مكلفا في تلك الحال لم يمتنع ورود الشريعة بأنه إذ أظهر الإسلام في هذه الحالة أخذناه إذا بلغ كما نأخذه به إذا وقد أسلم أبواه قبل بلوغه
باب في تخصيص الكتاب والسنة بالكتاب والسنة وأما تخصيص الكتاب بالكتاب فانه إذا جاز أن يبين الله سبحانه بخطابه العام بعض ما تناوله فقط جاز أن يدلنا على ذلك بالكتاب كما جاز أن يدلنا

بالكتاب على غير ذلك من الأحكام وقد خص الله سبحانه قوله والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا بقوله وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وخص قوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن بقوله والمحصنات من الذين أوتو الكتاب من قبلكم وليس يمتنع قول الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه و سلم لتبين للناس ما نزل إليهم من أن يبين عز و جل بكلامه ما أنزله إلينا مع أن الله قد وصف كتابه بان فيه تبيانا لكل شيء فجاز كون بعضه بيانا لبعض
وأما تخصيص الكتاب بالسنة فجائز كما يجوز أن تدلنا السنة على غير ذلك من الأحكام وقد خص النبي صلى الله عليه و سلم بقوله لا يرث القاتل ولا يتوارث أهل ملتين قول الله سبحانه للذكر مثل حظ الأنثيين
وأما تخصيص السنة بالسنة فأكثر من أن يحصى وقد أبى قوم ذلك لأنه نصب صلى الله عليه و سلم مبينا فلم يجز أن تحتاج سنته إلى بيان والجواب أن كونه مبينا لا يمنع من أن يبين سنته
والكلام في تخصيص العام بالخاص يختلف بحسب المقارنة والتراخي فاذا بينا جواز وقوع تخصيص الكتاب والسنة بهما على الجملة فلنبين متى يقع التخصيص بهما ونذكر في ذلك قسمة يدخل فيها بناء الخاص على العام ويجوز تخصيص قول الله سبحانه بفعل النبي صلى الله عليه و سلم لأنه كقوله في الدلالة ولهذا خصصنا قول الله سبحانه الزانية والزاني يرجم النبي صلى الله عليه و سلم ماعزا

ويجوز تخصيص الكتاب بالإجماع لأنه إذا ثبت كونه حجة جاز أن يدل على كون الكتاب مخصوصا وقد خص إجماعهم على أن العبد كالأمة في تنصيف الحد لآية الجلد
باب في بناء العام على الخاص اعلم أنه إذا روي عن النبي صلى الله عليه و سلم خبران خاص وعام وهما كالمتنافيين فلا يخلو إما أن نعلم بينهما التأريخ أو لا نعلم فان علمنا ذلك فإما أن نعلم اقتران أحدهما بالآخر وإما أن نعلم تراخي أحدهما عن الآخر إما الخاص وإما العام فان علمنا اقترانهما نحو أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم أقتلوا الكفار ويقول عقيب ذلك لا تقتلوا اليهود أو يقول في الخيل زكاة ويقول عقيبه ليس في الذكور من الخيل زكاة فالواجب أن يكون الخاص مخصصا للعام لأن الخاص أقل احتمالا فيما يتناوله من العام واشد تصريحا به من العام ولهذا لو قال الرجل لعبده اشتر لي كل ما في السوق من اللحم ثم قال بعد ذلك لا تشتر لحم البقر فهم منه إخراج لحم البقر من كلامه الأول إما على سبيل البداء وإما أنه لم يرده بالعموم ولأن إجراء العام على عمومه يلغي الخاص واستعمال الخاص وإخراج ما تناوله من العام لا يلغي واحدا منهما فكان هذا أولى
وإن قيل هلا حملتم قوله في الخيل زكاة على التطوع وحملتم قوله لا زكاة في الذكور من الخيل على نفي الزكاة وهذا وإن كان استعمالا للعام على المجاز فان تخصيصه أيضا استعمال له على المجاز فلستم بأحد الاستعمالين بأولى من الآخر والجواب إن قوله في الخيل زكاة يقتضي وجوبها في الإناث كما يقتضيه خبر لو اختص بالإناث فلو حملناه على التطوع لكنا قد عدلنا باللفظ عن ظاهره في الإ ناث لدليل لا يتناوله الإناث وهو قوله لا زكاة في الذكور وليس كذلك إذا أخرجنا الذكور عن قوله في الخيل زكاة

لأنا نكون قد أخرجنا من العام شيئا لدليل قد تناوله واقتضى إخراجه منه وأيضا فما ذكره الخصم لا يتأتى في كل خبر لأن النبي صلى الله عليه و سلم لو قال اقتلوا الكفار وقال ليس ذلك باباحة ولا إطلاق وقال أيضا عقيبه لا تقتلوا اليهود فحملنا ذلك على نهي التحريم أو التنزيه لوجب على كل حال تخصيص قوله اقتلوا الكفار لأن هذا القول لو حمل على الوجوب أو على الندب لكان النهي عن قتلهم وجوبا أو تنزيها مخصصا له
فأما إن علمنا تراخي الخاص عن العام فانه إن كان ورد الخاص قبل ما يحضر وقت العمل بالعام فانه يكون بيانا للتخصيص ويجوز ذلك عند من يجيز تأخير بيان العام ولا يجوز عند المانعين من تأخير بيان العام وإن ورد الخاص بعد ما حضر وقت العمل بالعام فانه يكون نسخا وبيانا لمراد المتكلم فيما بعد دون ما قبل لأن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة وأما إن كان العام هو المتراخي عن الخاص فعند أصحاب الشافعي أن العام يبني على الخاص فيكون المراد بالعام ما لم يتناوله الخاص
ويمكن أن يحتجوا لذلك بأن الخبر الخاص نحو قول القائل لا تقتلوا اليهود يمنع من قتلهم أبدا وقوله من بعد أقتلوا الكفار يفيد قتلهم في حالة من الحالات والخبر الخاص يمنع من قتلهم في تلك الحالة وإذا تمانعا والخاص أخص باليهود وأقل احتمالا وجب القضاء به ولو قال اقتلوا اليهود ثم قال لا تقتلوا الكفار وقد بقيت بقية من اليهود لم يقتلوا فالأمر يقتضي قتلهم في حال من الحالات والنهي يمنع من ذلك فإذا تمانعا في تلك الحال قضي بالخاص وقد احتجوا لمذهبهم بأن الخاص معلوم دخول ما تناوله تحته ودخول ذلك تحت العام مشكوك فيه والعام لا يترك للشك وهذا لا يصح لأنهم إن أرادوا أن العام لو انفرد لم يعلم دخول ما تناوله تحته فذلك غير مسلم وإن ارادوا أنه لا يعلم ذلك لأجل الخبر الخاص ففي ذلك ينازعزن وهو ترك قولهم أيضا لأنهم يقطعون على خروج ذلك من العلوم ولا يشكون فيه وقالوا

أيضا تقدم الخاص على العام كالعهد بين المتكلم والمخاطب فانصرف الخطاب العام إليه والجواب أنه لا معنى لقولهم إنه كالعهد إلا أن المتكلم قد دل بالخاص المتقدم على أن مراده بالعام ما دون الخاص ولأنه لا يفهم السامع إلا ذلك وفي ذلك ينازعون
وذهب أصحاب أبي حنيفة وقاضي القضاة إلى أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم واحتجوا بأشياء
منها أن اللفظ العام في تناوله لآحاد ما وجد تحته يجري مجرى ألفاظ خاصة كل واحد منها يتناول واحدا فقط من تلك الآحاد لأن قوله اقتلوا المشركين يجري مجرى قوله اقتلوا زيدا المشرك أقتلوا عمرا أقتلوا خالدا ولو قال ذلك بعد ما قال لا تقتلوا زيدا لكان الثاني ناسخا فكذلك ما ذكرناه والجواب أن اللفظ العام يجري مجرى ألفاظ خاصة بآحاد ما تناوله في كونه متناولا لها فقط ولا يجري مجراها في امتناع دخول التخصيص عليه لأن اللفظ الخاص لشيء واحد لم يدخل تحته اشياء فيخرج بعضها والعام قد تناول أشياء يمكن أن يراد به بعضها فصح قيام الدلالة على ذلك ولهذا كان الخاص المقارن للعام مخصصا له وما ذكروه يمنع من تخصيصه له
ومنها أن الخاص المتقدم يتأتى نسخة والعام يمكن أن يرفعه فكان ناسخا له والجواب يقال لهم ولم إذا أمكن أن يرفعه وجب ذلك فيه وأيضا فكما يمكن أن يتصور فيه كونه رافعا للخاص المتقدم فيمكن أن يتصور فيه كونه مخصوصا بالخاص المتقدم فان قالوا كونه متأخرا يقتضي كونه ناسخا قيل لهم وهل نوزعتم إلا في ذلك وأيضا فإنما يمكن أن ينسخ المتقدم إذا لم يثبت كونه مخصوصا بالمتقدم فبينوا ذلك وقد تمت لكم المسألة
ومنها أن يقال تردد الخاص المتقدم بين كونه منسوخا ومخصصا يمنع من كونه مخصصا لأن البيان لا يكون ملبسا والجواب أن الخصم يقول ليس

يتردد عندي بين هذين بل قد صح كونه مخصصا وعلى أنه إن منع هذا التردد من كونه بيانا للتخصيص ليمنعن التردد بين كون العام ناسخا للخاص ومبنيا عليه من كونه بيانا للنسخ فصح أن العام يبني على الخاص المتقدم لما ذكرناه من الدلالة الأولى
فأما إذا لم يعرف التأريخ بينهما فعند أصحاب الشافعي أن الخاص منهما يخص العام وهذا سديد على أصولهم لأنه ليس للخاص مع العام إلا أن يقارنه أو يتأخر عنه أو يتقدمه وقد بان وجوب خروج ما تناوله الخاص من العام في الأحوال الثلاثة وأيضا فان فقهاء الأمصار في هذه الأعصار يخصون أعم الخبرين بأخصهما مع فقد علمهم بالتاريخ وليس يعترض ذلك بأن ابن عمر رضي الله عنه لا يخص قول الله سبحانه وأمهاتكم اللآتي أرضعنكم يقول النبي صلى الله عليه و سلم لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان لأنا إنما ادعينا إجماع أهل هذه الأعصار ويحتمل أن يكون ابن عمر امتنع من ذلك لدليل
وقد احتجوا للمسألة بأشياء لا تدل
منها قولهم إذا لم يعرف التأريخ بين الخبرين وجب حملهما على أنهما وردا معا كالغريقين اللذين لا يعرف اقتران غرقهما ولا يقدم أحدهما على الآخر فحمل أمرهما على أنهما غرقا معا والجواب أن الأمة لم تجمع على ذلك بل قد ورث بعض الصحابة رضي الله عنهم كل واحد منهما من الآخر ومنهم من جعل كل واحد منهما كأنه لم يخلق أبدا ولم يورث أحدهما من الآخر وهذا يمكن أن يحتج به مخالفهم لأنه لما اشتبه حالهما لم يورث أحدهما من الاخر فكذلك إذا اشتبه حال الخبرين يجب أن لا يعترض بأحدهما على الآخر وأن يرجع إلى أمر آخر
ومنها قولهم وإذا وجب تخصيص العموم بالاستثناء فكذلك بالخبر

الخاص والجواب أن هذا قياس بغير علة والفرق بينهما أن الاستثناء لما لم يستقل بنفسه علم أنه مقارن للعموم غير متقدم عليه ولا متراخ عنه فلم يمكن فيه أن يكون منسوخا وليس كذلك الخاص المستقل بنفسه لأنه يمكن أن يكون متقدما ونظير الاستثناء أن يقطع على مقارنة اللفظ الخاص فإن قالوا اللفظ الخاص إذا تقدم لم يكون منسوخا بل يكون مخصصا للعام المتأخر رجعوا الى ما ذكرناه أولا من بناء المسألة على ذلك
ومنها قولهم إن القياس يعترض به على العام فالخبر الخاص أولى بذلك والجواب أن أصل القياس إن كان متقدما على الخبر العام وكان منافيا له فانه لا يجوز القياس عليه عند الخصم لأنه منسوخ بالعام مثاله أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم لا تبيعوا البر ثم يقول بعد مدة أحللت لكم جميع البياعات فان المخالف ينسخ تحريم البر ولا يجيز قياس الأرز عليه في التحريم وإن اشتبه تقدمه لم يجز القياس عليه أيضا وإن كان اصل القياس غير متقدم للعام على وجه ينافيه صح القياس عليه وخص به العام مثاله إن نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع البر ثم قال بعد مدة أبحت لكم بيع ما سوى البر فان ذلك لا ينسخ النهي عن بيع البر فيجوز أن يقاس على البر المكيلات ويخص من جملة هذا العموم ولا يشبه هذا مسألتنا لأن في مسألتنا يمكن أن يكون المتقدم منسوخا بالعام
ومنها أنه لو لم يخص العام بالخاص كنا قد ألغيناه والجواب أن للخصم أن يقول إن أردتم بالغاء الخاص أن لا يستعمل أصلا فالحكمة تمنع منه ونحن لا نقول به وإن أردتم أنا لا نستعمله الآن وإن كان مستعملا في وقت فذلك جائز عندنا وهذه حالة المنسوخ
ومنها أنا لو لم نخص العام منهما بالخاص لوجب إما نسخ الخاص بالعام أو إلغاؤهما والنسخ لا يجوز مع فقد التأريخ وكلام الحكيم لا يجوز إلغاءه والجواب أن الخصم يحوج التخصيص أيضا إلى تأريخ لأنه لا يخص العام بخبر متقدم وأما إلغاؤهما فغن أريد به الرجوع إلى غيرهما أو إلى ترجيح وترك

استعمالهما بأنفسهما فذلك لا يأباه الخصم ويقول إنما لا يجوز ذلك إذا أمكن استعمال الكلامين فأما مع فقد الإمكان فلا يمتنع وقد علمنا أنه ليس حمل الحال فيهما على التخصيص أولى من النسخ ولا حمل الحال فيهما على النسخ أولى من التخصيص
فأما أصحاب أبي حنيفة فإنهم يقولون إنه إذا لم يعرف التأريخ بين الخبرين العام والخاص توقف فيهما ورجع إلى غيرهما أو إلى ما يرجح به أحدهما على الاخر وهذا سديد على أصولهم لأن عندهم أن الخبر العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم ويخص بالخاص المقارن له والمتأخر وإذا لم يعرفوا التأريخ جوزوا أن يكون الخاص متقدما فيكون منسوخا وجوزوا أن لا يكون متقدما فيخرج من العام ما تناوله فوجب التوقف فيها إذ ليس الحكم بأحد الأمرين أولى من الآخر فكذلك يلزم لو قيل بالوقف إذا علم تأخير الخبر العام لأنا إذا لم نعرف التأريخ لم نأمن أن يكون الخاص متقدما فنكون مترددين بين أن يكون مخصوصا وبين أن يكون منسوخا
وقد احتجوا بأشياء لا تدل
منها أن العام يجري تناوله للآحاد مجرى ألفاظ خاصة بالأعداد وهذه لا يعترضها الخاص فكذلك العام وقد تقدم الجواب عن ذلك
ومنها أنه لو خص أحد الخبرين أعمهما يخص أحد العلتين أعمهما والجواب أن ذلك قياس بغير علة ويلزم أن لا يخص العام بالخاص المقارن له وعلى أن تخصيص العلة لا يجوز أصلا وليس كذلك تخصيص العام فجاز أن يخصه الخاص وإذا لم نعرف بينهما التاريخ قالوا فاذا وجب التوقف في هذين الخبرين فالواجب الرجوع إلى الترجيح
وقد ذكر عيسى بن أبان وجوها من الترجيح منها أن يكون أحدهما متفقا على استعماله كخبر الأوساق ومنها أن يعمل معظم الأمة بأحدهما ويعيب على

من لم يعمل به كعيبهم على ابن عباس تركه العمل بخبر أبي سعيد في الربا ومنها أن تكون الرواية لأحدهما أشهر
وزاد الشيخ أبو عبد الله أن يتضمن أحدهما حكما شرعيا وأن يكون أحدهما بيانا للآخر باتفاق كاتفاقهم على أن قول النبي صلى الله عليه و سلم لا قطع إلا في ثمن المجن بيان لآية السرقة فوجب لذلك بناؤها عليه
وهذه الأمور أمارة لتأخر أحد الخبرين لأنه لو كان الخبر متقدما منسوخا ما اتفقت الأمة على استعماله ولا عابوا من ترك استعماله ولما كان النقل له أشهر ولما أجمعوا على أنه بيان له قد نسخه وكون الحكم غير شرعي يقتضي كون الخبر الذي يضمنه مصاحبا للعقل وأن الخبر المتضمن الحكم الشرعي متأخر وهذا الوجه يضعف
باب في العموم إذا خص هل يصير مجازا أم لا ذهبر قوم إلى أنه لا يصير مجازا بالتخصيص متصلا كان المخصص أو منفصلا لفظا كان أو غير لفظ وقال آخرون يصير مجازا في كل هذه الحالات وقال آخرون يصير مجازا في حال دون حال واختلفوا في تفصيل تلك الحال فقال بعضهم إن خص بدليل لفظي لم يصر مجازا متصلا كان الدليل أو منفصلا وإن خص بدليل غير لفظي كان مجازا وقال آخرون يكون مجازا إلا أن يخص بلفظ متصل وقال آخرون يكون مجازا إلا أن يكون مخصصه شرطا أو استثناء وقاضي القضاة يقول يكون مجازا إلا أن يكون مخصصه شرطا أو تقييدا بصفة وجعله مجازا بالاستثناء
واعلم أن القرينة المخصصة إما أن تستقل بنفسها في الدلالة أو لا تستقل

بنفسها فإن استقلت بنفسها فهي ضربان عقلية ولفظية أما العقلية فنحو الدلالة الدالة على ان غير القادر غير مراد بالخطاب بالعبادات وأما اللفظية فنحو أن يقول المتكلم بالعام أردت به البعض الفلاني فقط وفي هذين القسمين يكون العموم مجازا لأن القرينة دلت على أن المتكلم استعمل العام لا فيما وضع له وهذا معنى المجاز إن قيل هلا قلتم إن المتكلم أراد البعض فقط باللفظ العام وبالقرينة معا فلا يكون اللفظ العام مجازا قيل مجازا قيل أن القرينة قد تكون سابقة للفظ العام نحو خلق العلم فينا بأن العاجز لا يكلف أو نصب الدلالة على ذلك وهذا أسبق من العموم فلا يجوز أن يريد بهما البعض وقد تكون القرينة إشارة من المتكلم منا متأخرة عن كلامه بزمان يسير فلا يجوز أن يريد البعض بها والكلام العام وقد تكون القرينة من فعل غير المتكلم نحو أن يتكلم النبي صلى الله عليه و سلم بالعام فيخصه الله سبحانه ويلزم أن يكون اللفظ العام المقترن به القرينة لا حقيقة ولا مجازا لأنه ما أريد به ما وضع له ولا غير ما وضع له وإن جعلوا الحقيقة مجموع اللفظ والقرينة لزم كون المعاني من جملة الحقائق ويلزم أن لا يكون في الكلام مجازا بل يكون الكلام قد قصد به مع قرينته وجه المجاز فان قيل هلا قلتم وضعوا العموم للاستغراق مع فقد القرينة ووضعوا لما تقتضيه القرينة من التخصيص مع وجودها قيل إن القرائن كثيرة لا تحصى فلا يمكن أن تحصروها حتى تضعوا العموم مع كل واحدة منها لما تقتضيه وأيضا فيمكن أن يقال إن الألفاظ كلها وضعت مع وجود القرائن لما يدل عليه القرائن وفي ذلك رفع المجاز من الكلام وأيضا فان القرينة تدل على أن المتكلم استعمل لفظ العموم في البعض فان كانت إذا دلت ذلك فقد دلت على أن المتكلم استعمل لفظ العموم في البعض فان كانت إذا دلت على ذلك فقد دلت على أن المتكلم قد استعمله فيما وضع له فذلك رجوع إلى قول أصحاب الوقف وكان يجب لو أراد المتكلم باللفظ العموم مع أن العقل يدل على تخصيصه أن يكون متجوزا وغير مستعمل له على حقيقته

فان قالوا هلا قلتم إن القرينة كالعهد في وجوب انصراف العموم إلى ما يقتضيه ولا يكون مجازا كما لو انصرف إلى العهد والجواب إن لام التعريف وضعت لتقييد ما السامع به أعرف فان كان بينه وبين المتكلم عهد فهو به أعرف فانصرف أليه الكلام وإن لم يكن بينهما عهد فليس يعرف إلا الجنس فانصرف إليه وليس كذلك ما يدل عليه الأدلة العقلية لأنه إنما يعرف انصراف العموم إليه إذا علم بدليل عقلي أن بعض العموم لا يجوز أن يراد وعلم أن المتكلم حكيم وربما غمض الدليل على أنه لا يجوز أن يراد فجرى مجرى سائر الأدلة المخصصة سيما وما يفيده اللفظ في المواضعة لا يقف على حكمة المتكلم وأيضا فاذا ثبت أن الألف واللام تفيد الاستغراق فالأولى أن يقال إنهما ينصرفان إلى العهد بقرينة وهو معرفة السامع بقصد المتكلم ويجري ذلك مجرى جميع ألفاظ العموم التي تعلم من قصد المتكلم أنه استعملها في الخصوص ويكون مجازا
فأما إن كانت القرينة لا تستقل بنفسها نحو الاستثناء والشروط والتقييد بالصفة كقول القائل جاءني بنو تميم الطوال فقد ذهب قاضي القضاة إلى أن الاستثناء يجعل العموم مجازا ولم يقل ذلك في الشروط والصفة وعند الشيخ أبي الحسن الكرخي رحمه الله أن العموم لا يصير مجازا بهذه الأمور الثلاثة ولعله عني ما نذكره الآن وهو أن هذه الأمور الثلاثة تجعل لفظ العموم من جملة كلام ولا يكون لفظ العموم بانفراده حقيقة ولا مجازا ويكون العموم مع الاستثناء بمجموعها حقيقة وكذلك هو مع الشرط ومع الصفة والدليل على ذلك أن القائل إذا قال اضرب بني تميم الطوال أو قال إن كانوا طوالا أو قال إلا من دخل الدار فانه يرد بعضهم بلفظ العموم وحده لأنه لو كان كذلك ما كان قد أراد بالاستثناء أو الشرط أو الصفة شيئا لأن هذه الأشياء توضع لشيء يستقل في دلالتها عليه فيقال إن المتكلم قد أراد بها ذلك الشيء وأراد بالعموم وحده البعض ولأنه إذا أراد البعض بلفظ العموم لم يبق شيء يريده بالاستثناء والشرط والصفة فثبت أنه إنما

عنى البعض لمجموع الأمرين يبين ذلك أن النافين للعموم لما قالوا لو كان لفظ العموم مستغرقا لكان استعماله في البعض نقضا قلنا لهم إن المتكلم قد عنى البعض لمجموع العموم والاستثناء فاذا ثبت أن المتكلم لم يعن بلفظ العموم وحده الاستغراق ولا البعض ثبت أنه إذا كان مع هذه الأمور لم يكن بانفراده حقيقة ولا مجازا أو إذا ثبت أنه قد عني البعض بمجموع الأمرين وهما لا يفيدان إلا ذلك البعض ثبت أن مجموعهما حقيقة فيه
وقد فصل قاضي القضاة في الشرح بين التخصيص بالاستثناء وبالشرط فقال إن الشرط لا يخرج شيأ من آحاد العموم فلم يجعله مجازا وإنما يخرج حالا مم الحالات لأنك إذا قلت أكرم بني تميم إن كانوا دخلوا الدار لم يتعرض ذلك للاعيان وليس كذلك إذا استثنيت الآحاد والجواب أن يقال ولم كان ما تناول الآحاد يجعل العموم مجازا وما تناول الأحوال لا يجعله مجازا على أن الشرط إذا أخرج بعض الحالات فقد أخرج بعض الأعيان لأنك إذا قلت أكرم بني تميم إن كانوا دخلوا الدار فقد أخرجت الأعيان الذين لم يدخلوا الدار وقد يتناول الشرط الأعيان لأنك إذا قلت أكرم بني تميم إن كانوا من بني سعد فقد أخرج غيرهم من الأشخاص
باب في صحة الاستدلال بالعموم المخصوص اختلف الناس في العموم المخصوص هل يصح الاستدلال به فيما عدا المخصوص أم لا فلم يجز عيسى بن أبان وأبو ثور الاستدلال به على ذلك على كل حال وأجاز ذلك آخرون على كل حال وأجاز ذلك قوم في حال دون حال واختلفوا في تفصيل تلك الحال فقال الشيخ أبو الحسن إن خص العموم بشرط أو استثناء صح التعلق به فيما عدا المخصوص وإن خص بدليل منفصل لم يصح ذلك وقال الشيخ أبو عبد الله إن كان المخصص والشرط قد منعا من تعلق الحكم بالاسم العام وأوجبا تعلقه بشرط لا ينبىء عنه

الظاهر لم يجز التعلق به عنه وإن لم يمنعا من تعلقه بالاسم العام فانه يصح التعلق به ومثل القسم الأول بقول الله سبحانه والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وذلك لأن قيام الدلالة على اعتبار الحرز مقدار المسروق يمنع من تعلق القطع بالسرقة ويقتضي وقوعه على الحرز الذي لا ينبىء اللفظ عنه فلم يجز التعلق به ومثل للقسم الثاني بقول الله سبحانه فاقتلوا المشركين لأن قيام الدلالة على المنع من قتل معطي الجزية لا يمنع من تعلق القتل بالشرط فلم يمتنع التعلق به من قتل من لم يعط الجزية وقال قاضي القضاة إن كان العموم المخصوص والمشروط لو تركنا وظاهره من دون الشرط والتخصيص كنا نمتثل ما أريد منا ونضم إليه ما لم يرد منا احتجنا إلى بيان ما لم يرد منا ولم نحتج إلى بيان ما أريد إذ كنا نصير إليه من دون البيان ويصح التعليق بالظاهر فيه وإن كنا لو تركنا والظاهر من دون الشرط لم يمكننا امتثال ما أريد احتجنا إلى بيان ما أريد منا إذ لسنا نكتفي بالظاهر فيه وهذا الذي ذكره عقد مذهب ودلالة
وينبغي أن يزاد في القسم الأول أن لا يكون العموم قد خصص تخصيصا مجملا وذلك لأن الله سبحانه لو قال اقتلوا المشركين ثم قال لنا لم أرد بعضهم لكنا لو تركنا وقوله اقتلوا المشركين أمكننا أن نفعل ما اريد منا وما لم يرد منا ومع ذلك فانه لا يصح التعلق به فيما أريد منا وإن ما قلنا إنه يجوز أن يستدل بالعموم فيما عدا المخصوص هو أن معنى ذلك أنه يمكن التوصل بالعموم إلى العلم بحكم ما عدا المخصوص والدلالة على ذلك هو أن قول الله سبحانه فاقتلو المشركين إذا دل الدليل على أنه لا يقتل من أعطي الجزية من أهل الكتاب فاللفظ يتناول ما عدا هؤلاء في أصل

الوضع مفصلا ولم يرد عليه تخصيص مجهول فكل ما هذه حالة فإن المتكلم به إذا كان حكيما فلا بد من أن يعني ما تناوله اللفظ إلا أن يدلنا على أنه ما عناه وإنما قلنا إن اللفظ يتناول ما عدا المخصوص في أصل الوضع لأن اسم العموم يستغرق كل المشركين وليس كلهم سواء آحادهم فهو إذا عبارة عن كل واحد منهم ولهذا لو تركنا وظاهرة أمكننا قتل من أريد منا قتله وإنما قلنا إنه لم يرد عليه تخصيص مجهول لأن التخصيص المجهول هو إخراج بعض غير مفصل ونحن إنما نتكلم في عموم قد خص تخصيصا مفصلا وإنما قلنا إن كل لفظ يتناول أشياء في أصل الوضع ولم يخصص تخصيصا مجملا فلا بد من أن يريدها المتكلم الحكيم إلا أن يدل على أنه ما أراد بعضها لأن الحكيم إذا خاطب قوما بلغتهم فلا بد من أن يعني بخطابه ما عنوه وإلا كان ملتبسا عليهم وغير متكلم بلغتهم ولهذا وجب أن يعني بالعموم ظاهرة إذا لم يرد عليه تخصيص وإنما قلنا إنه لم يدلنا على أنه ما عناهم لأنه لو كان هناك دلالة لوجدها من استقصى الطلب ولأن المخالف يمنع من التعلق بالعموم المخصوص لكونه مخصوصا لا لأنه يجوز أن يكون في الأدلة ما يخصه تخصيصا ثانيا
يبين ما قلناه أن لفظ العموم متناول لما عدا المخصوص فلم لم يعلم أنه قد عني بالعموم لم يخل إما أن لا يعلم ذلك بمخصص مفصل أو مجمل وذلك مفقود فجرى مجرى سائر الألفاظ المتناولة من أهل الوضع لمعانيها إذا لم تدل دلالة على أنها لم ترد بها فقد صح الاستدلال بالعموم المخصوص بدليل منفصل أو متصل سواء سمي العموم مجملا أو غير مجمل أو سمي مجازا أو غير مجاز
ويدل عليه أيضا إجماع الصحابة لأن عليا رضي الله عنه تعلق في معنى الجمع بين الأختين بقوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم وبقوله وأن

تجمعوا بين الأختين وقال أحلتهما آية وحرمتهما آية
وكذلك قال عثمان رضي الله عنه ومعلوم أن قوله أو ما ملكت أيمانكم مخصوص منه البنت والأخت واحتج ابن عباس بقوله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وقال قضاء الله أولى من قضاء ابن الزبير وإن كان وقوع التحريم بالرضاع يحتاج إلى شروط
واحتج عيسى بن أبان بأن العموم المخصوص قد صار مجازا بالتخصيص فخرج أن يكون له ظاهر فلم يجز التعلق بظاهره ولأن العموم المخصوص يجري مجرى أن يقول الله سبحانه اقتلوا المشركين ثم يقول لا تقتلوا بعض المشركين فكما يمنع ذلك من التعلق بالظاهر فكذلك غيره من التخصيص والجواب عن الأول أنه إن أراد العموم صار مجازا من حيث لم يرد به بعض ما تناوله فذلك صحيح ولا يمنع من التعلق به فيما عدا المخصوص لأنه متناول له على وجه الحقيقة وإن أراد به أنه مجاز فيما عدا المخصوص فليس بصحيح لأنه متناول لذلك في أصل الوضع على أنا قد بينا أنه يصح التعلق به سمي مجازا أو لم يسم مجازا والجواب عن الثاني هو أنهم جمعوا بين التخصيص المفصل والتخصيص المجمل بغير علة والفرق بينهما هو أن الله إذا قال أقتلوا المشركين ثم قال لا تقتلوا بعضهم أو قال لم أرد بعضهم ولم يبين ذلك البعض كان من يريد قتله من المشركين يتناوله قوله اقتلوا المشركين فلم بأن يدخل تحت أحد الظاهرين أولى من أن يدخل تحت الآخر ولو قال لا تقتلوا اليهود أمكننا أن نقتل بالآية من أريد منا لأن كل مشرك إن علمنا يهوديا أدخلناه تحت المخصص وإن علمناه غير يهودي علمناه خروجه من التخصيص وأنه مراد بالآية

والأصل في ذلك أن الأشياء المعلومة إذا أخرج منها أشياء معلومة كنا عالمين بما عداها وإذا خرج منها أشياء مجهولة بقي الباقي مجهولا لا ينفصل مما عداها فلا ندري ما الذي خرج مما لم يخرج ألا ترى أن العشرة معلومة فاذا علمنا أنه قد خرج منها ثلاثة علمنا أنه قد بقي سبعة وإذا علمنا أنه قد خرج منها عدد لا نعلمه لم ندر ما بقي منها
ونحن من بعد ذاكرون أعيان الأدلة فنقول أما قول الله عز و جل فاقتلوا المشركين فقد مضى الكلام فيه حين جعلناه مثالا للجملة المتقدمة وأما قوله أقيموا الصلاة فانه لا يصح التعلق به في وجوب الصلاة الشرعية لأن اسم الصلاة في اللغة لا يتناول هذه الصلاة ولهذا لو خلينا وهذه الآية لم نعرف وجوبها ولا أمكننا فعلها بعينها إن قيل هلا يصح التعلق بقوله أقيموا الصلاة في وجوب الدعاء لأن اسم الصلاة يتناوله في اللغة فاذا دلت الدلالة على وجوب أشياء مع الدعاء وسقوط وجوب الدعاء مع فقد تلك الأشياء كان تخصيصا قيل هذا يقتضي أن يكون المراد بقوله اقيموا الصلاة الدعاء وهذا باطل لأنا قد بينا أن اسم الصلاة يتناول في الشريعة جملة هذه الأفعال الشرعية وليس بأن يقال إنه يتناول الدعاء وما عداه شرط في وقوع النص عليه بأولى من أن يقال إنه يتناول في الشريعة ما عدا الدعاء والدعاء شرط في وقوع الاسم عليه وعلى أن غرضنا أنه لا يصح الاستدلال بهذه الآية على وجوب جملة هذه الأفعال والسائل لم ينازع في ذلك
وأما قول الله عز و جل والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما فأنه عام في كل سارق سرق قليلا أو كثيرا من حرز أو من غير حرز فقيام

الدلالة على اشتراط الحرز وقدر مخصوص لا يمنعنا من العلم بوجوب قطع من سرق من حرز قدرا مخصوصا فان منع المخالف من التعلق بهذه الآية أصلا بعد قيام الدلالة على هذين الشرطين فقد أفسدناه وإن منع من أن يعلم بهذه الآية قطع أحد إلا بعد أن يعلم أنه سارق قدرا مخصوصا من حرز فذلك صحيح وسنتكلم فيه من بعد وإن أراد إن قطع من اختص بهذين الشرطين فقد احتجنا فيه إلى أن تقوم الدلالة على اشتراط هذين الشرطين فباطل لأنه لو لم يدل الدلالة على ذلك لعلمنا قطع من اختص بهذين الشرطين وإنما نفتقر إلى هذه الدلالة في أن لا يقطع من لم يختص بهما ونستطيع القول في هذه الأقسام عند ذكر أسألتهم إن قيل أليس بعد قيام الدلالة على اشتراط الحرز ومقدار المسروق لا يمكن أن يستدل بالآية على قطع من اختص بهذين الشرطين إلا بعد أن يضم إليهما ما دل على اشتراطهما فقد صح أنه يجوز التعلق بظاهر الآية قيل ليس كذلك لأنه يمكننا أن نستدل على قطع من علمناه مختصا بالشرطين بأن نقول إنه سارق فتناولته آية السرقة من غير أن يمنع مانع من كونه مرادا بها وهذا كاف في الدلالة على قطعة ألا ترى أنا لو لم نعلم هذين الشرطين لعلمنا مما ذكرناه وجوب قطع من اختص بهما وإن كنا نقطع من لم يختص بهما فبان أنا نحتاج إلى بيان الشرطين حتى لا نقطع بعض السراق لا لنقطع من يجب قطعه إلا أن البيان لذلك قد يرد بلفظ النفي بأن يقال لا تقطعوا من سرق من غير حرز وقد يرد بالإثبات بأن يقال الحرز شرط في القطع وكلا القولين إنما ينفي القطع من غير حرز لأن إثباته مع الحرز معلوم بتناول الآية له إن قيل أليس بعد قيام الدلالة على اشتراط المقدار والحرز لا يجوز لكم أن تقطعوا سارقا معينا وأنتم لا تعلمون أنه سارق من حرز مقدارا مخصوصا وإذا علمتم ذلك علمتم وجوب قطعة فقد بان أنه لا يكتفي بظاهر الآية قيل هذا صحيح غير أنه لا يمنع من الاكتفاء بالآية في قطع سارق اختص بكلا الشرطين من حيث تناولته الآية من غير مانع لأنا إنما نحتج بالآية في قطعة لا بما دل على أنه لا يقطع من

سرق من غير حرز وذلك لأن الآية تتناول هذا السارق ولا يتناوله ما دل على المنع من قطع السارق من غير حرز وإنما وجب أن نعلم أنه سارق قدرا مخصوصا من حرز لنعلم أنه لم يدخل تحت الدليل المخصص لا لنعلم أن الآية تناولته
والقول في ذلك كالقول في عموم مخصوص ولا وجه لتخصيص ذلك بأنه السرقة لأن الله عز و جل لما قال فاقتلوا المشركين ثم دل الدليل على المنع من قتل معطي الجزية فانا لا نقدم على قتل شخص مشرك إلا إذا علمنا أنه غير معط للجزية ولو قالوا لا تقتلوا زيدا المشرك لم يجز أن نقتل مشركا إلا إذا علمنا أنه غير زيد ومتى شككنا في ذلك لم يجز قتله وكذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم فيما سقت السماء العشر لا يمنع تخصيصه بأرض الخراج من التعلق به
إن قيل إن آية السرقة قد شرط فيها شرط لا ينبيء لفظه عنه فجرى مجرى أن يكون القطع المذكور غير المعروف وليس كذلك قول الله تعالى فاقتلوا المشركين لأن ما أخرج بعضهم هو دليل مخصص الجواب أن ذلك لو ثبت لم يمنع من الاستدلال بأن السرقة على قطع من اختص بكلا الشرطين من الوجه الذي ذكرناه على أنه لا فرق بين الاثنين لأن اشتراط الحرز والمقدار قد أخرج من الآية من لم يختص بهما وهذا تأثيره دون قطع من اختص بكلا الشرطين لأن ذلك مستفاد من الآية على ما بيناه كما أن ما دل على المنع من قتل معطي الجزية تاثيره المنع من قتله لا إيجاب قتل من لم يعط الجزية لأن من لم يعط الجزية إنما قتلناه بالآية من حيث اقتضت قتل كل مشرك ولا فرق بين أن يكون المخصص للآية واردا بلفظ الإثبات أو بلفظ النفي في أنه يفيد إخراج بعض ما اقتضته الآية على ما بيناه على أن ما

خص به آية السرقة قد ورد بلفظ النفي كقول النبي صلى الله عليه و سلم لا قطع إلا في ثمن المجن وقوله لا قطع في ثمر ولو كثر وقولهم إن هذه الأعيان لا تخرج أعيان السراق وليس كذلك ما خص آية المشركين لأنه يخرج الأعيان لا يمنع من الاستدلال على كل واحد منهما من الوجه الذي ذكرناه وأيضا فإن ما دل على اشتراط الحرز والمقدار قد أخرج الأعيان لأنه قد دل على أن من لم يختص بالشرطين لا يجوز قطعه وقولهم إن حد السرقة يدل على أن القطع يستحق لأجل السرقة وشتراط الحرز يمنع من استحقاق القطع بمجرد السرقة فكان مجملا لا يوجب الفصل بين الآيتين لأن قوله فاقتلوا المشركين بفيد استحقاق القتل لأجل الشرك فقط فاشتراط الامتناع من إعطاء الجزية يمنع من استحقاقه بالشرك وعلى أنهما لو انفصلا من هذا الوجه لم يمنع أن يتفقا في صحة الاستدلال بهما من الوجه الذي ذكرناه فإن فصلوا بينهما بأن أحد الدليلين إثبات والآخر نفي فهو فصل غير مؤثر وقد تكلمنا فيه وقد فصل الشيخ أبو عبد الله بين قول النبي صلى الله عليه و سلم فيما سقت السماء العشر وبين آية السرقة بأن ما دل على أنه لا عشر في أرض الخراج هو بيان لصفة الخارج لا لصفة العشر المأخوذ وهذا لا يمنع من انتقاض علته وهي أنه قد أخذ العشر بشرط لا ينبيء عنه الخبر ولا يمنع ذلك من التعلق باللفظ وعلى أن اشتراط الحرز والمقدار ليس هو بيان لصفة القطع وإنما هو بيان لمقدار المسروق وموضعه فلا فرق بينهما وقال أيضا إنما صح التعلق بخبر الأوساق لأن الأمة قد تعلقت به فيقال له إجماع الأمة على ذلك يدلنا على بطلان القول بأنه مجمل لا ينبيء عن المراد لأن الأمة لا تجمع على الاستدلال بما ليس بدليل

إذا ؤقد ذكرنا التخصص وما به يقع وأحكام العموم فلنذكر ما عدة قوم مخصصا وليس بمخصص
باب في دخول الكافر في الخطاب في الشرعيات ذهبت طائفة من الفقهاء إلى أنه غير مراد به وعند الشيخين رحمهما الله وأصحابهما وطائفة من الفقهاء أنه مراد به ومعنى ذلك أنه يلزمه الإقرار بالتوحيد والنبوات وأن يفعل بعد ذلك الشرعيات ومتى فعلها كانت مصلحة له ومتى لم يوحد الله سبحانه ويصدق الأنبياء عليهم السلام وأخل بالشرعيات كان إخلاله بها تفويتا لتلك المصلحة فاستحق العقاب على إخلاله بالتوحيد وبتصديق الأنبياء وبالشرعيات والخلاف إنما يظهر في استحقاق العقاب وفي ثبوته في العقليات مع كفره لأجل إخلاله بالشرعيات أم لا والناس متفقون على أنه لا يلزمه أن يفعل الشرعيات في حال كفره على أن يكون مضامة لكفره ومتفقون على أنه لا يلزمه القضاء إذا أسلم ودليلنا على لزوم الشرعيات له هو أن قول الله سبحانه ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا يتناول الكافر والمسلم إذ كل واحد منهما من الناس ولا مانع من دليل سمعي أو عقلي من دخوله تحته فكان مرادا به أما الدليل السمعي فإنه لو كان لظفرنا به عند الطلب وأما العقلي فهو فقد التمكن والكافر يتمكن من الحج بأن يقدم عليه قبله الإسلام وكان من تمكن من الفعل على بعض الوجوه فهو له مستطيع كما أن المحدث يتمكن من أداء الصلاة على الوجه الشرعي بأن يقدم قبلها الوضوء والعراقي يتمكن من الحج بأن يقدم قبله المشي ومما يدل على المسألة أن الأمة مجمعة على أن الكافر يحد على زناه على وجه النكال فلو لم يكن مكلفا بترك الزنا لم يكن الزنا معصية منه ولو لم

يكن معصية منه لم يعاقب على فعله فإن قيل إنما حد لأنه قد التزم أحكامنا قيل فمن أحكامنا أن لا يحد على المباح فلو كان الزنا منه مباحا لما حد عليه إن قيل قد كلف الكافر بترك الزنا لأنه مع كفره يمكنه تركه وليس كذلك الصلاة والصيام لأنه لا يمكنه مع كفره فعلهما فلم يخاطب بفعلهما قيل إنه لا يكلف بترك الزنا إلا وقد كلف أن يعلم قبحه ولا سبيل إلى العلم بقبحه إلا بشريعة الإسلام لأن ما عداها من الشرائع قد منع المكلفون من الرجوع إليه ولا يمكنه مع جحد الإسلام أن يعلم قبح شيء كما لا يمكنه فعل الصلاة في هذه الحال فلا فرق بينهما قيل لكم مثله في الصلاة والحج
دليل قول الله عز و جل وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ذم لهم على كفرهم واختلالهم بالزكاة كما أن قول القائل ويل للسراق الذين لا يصلون ذم على السرقة وترك الصلاة
دليل قول الله سبحانه فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى
ذم على كل ذلك
دليل قول الله سبحانه والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة فإذا ضوعف عليه العذاب لمجموع ذلك وقد دخل فيه الزنا فيثبت كونه محظورا عليه
دليل قول الله سبحانه قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين فذمهم على ذلك وإطعام الطعام يتعلق الذم بتركه هو الزكاة
إن قيل قوله لم نك من المصلين معناه لم نك من جملة المصلين يعني

المؤمنين والجواب أن ذلك لا يتأتى في قوله لم نك نطعم المسكين لأنه علق الذم على كونهم غير مطعمين على أن قوله لم نك من المصلين يفيد تعليق الذم عليهم لأنهم لم يصلوا كما أن قول القائل إنما عاقبني فلان لأنني لم أك من المطيعين يفيد أنه عاقبه لأنه لم يطعه إن قيل قوله لم نك من المصلين يجوز أن يكون إخبارا عن قوم كانوا ارتدوا بعد إسلامهم ولم يكونوا قد صلوا في حال إسلامهم لأن قوله تعالى لم نك من المصلين ليس يفيد أنهم لم يصلوا في جميع الزمان الماضي ألا ترى أن من صلى مرة واحدة يقال إنه قد صلى فيما مضى ولا يقال إنه ما صلى فيما مضى والجواب أن قوله سبحانه لم نك من المصلين هو جواب المجرمين المذكورين في قوله عز و جل يتساءلون عن المجرمين وذلك عام في المجرمين المرتدين وغير المرتدين على أن قوله قالوا لم نك من المصلين إما أن يفيد أنهم لم يصلوا في جميع الزمان الماضي أو في زمان غير معين ولا يفيد زمانا معينا كما أن قولنا فلان عوقب لأنه لم يحج إنما يدل على وجوب الحج في زمان غير معين ومن يحمل الآية على المرتد يحملها على وجوب الصلاة في زمان معين
دليل لو لم يلزم الكافر الشريعة لم يلزمه النظر في معجزة النبي صلى الله عليه و سلم لأنه إنما يلزمه ذلك خوفا من أن يكون شرعه مصلحة له تفوته إن لم ينظر في معجزته ولو كان الشرط في كون شرعه مصلحة له أن يعلم صدقه لما لزمه بالعقل أن يجعل هذا الشرط ليلزمه شرعه إذ كان جميع ما يفعله المسلم من الواجبات العقلية ويتركه من المقبحات العقلية لأجل فعله للشرعيات يفعله الكافر ويتركه وإن لم يفعل الشرعيات فإن قالوا إن الكافر قد يترك

الواجبات العقلية التي يفعلها المسلم ولو أسلم وفعل الشرعيات فعل تلك الواجبات قيل لهم قد سلمتم المسألة وقد وجب استحقاقه العقاب لأنه قد فوت نفسه مصلحة يمكنه التوصل إليها وهذا الدليل إنا يصح على قول من قال لا يجوز أن يكون علم المكلف بنبوة النبي صلى الله عليه و سلم بانفراده مصلحة في العقليات فأما من جوز ذلك فلا يمتنع ان يقول يلزمه ذلك لهذا الوجه فإذا علم نبوته لزمته شريعته ويدل عليه قوله سبحانه وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين الآية وهذا في الكافر
واحتج المخالف بأشياء
ومنها أنه لو كان الكافر مكلفا للشرعيات لكلف ما لا يطيقه لأنه يستحيل أن يفعل الشرعيات عبادة وقربة مع كفره والجواب أن المستحيل هو أن يضم الشرعيات إلى كفره ولم يكلف ذلك وإنما كلف الصلاة بأن يقدم الإسلام فإن قالوا كذلك نقول قيل أنتم تجعلون الشرط في كونها مرادة منه تقديم إسلامه وإذا لم يسلم لا يستحق العقاب على إخلاله بالصلاة ونحن نلحق به العقاب ونقول إن الله سبحانه قد اراد منه الصلاة بأن يقدم الإسلام عليها فإن وافقتم في العقاب فقد زال الخلاف في المسألة لأنه ليس للمسألة فائدة إلا في الاستحقاق للعقاب وفوات المصلحة ونظير ذلك تكليف المحدث للصلاة بأن يزيل الحدث فإن لم يفعل استحق العقاب على الإخلال بالوضوء والصلاة ويفارق تكليف الحائض الصلاة بأن تزيل الحيض لأن ذلك غير ممكن لها وإزالة الحدث مقدورة ويمكن أن يحتجوا ويقولوا لو كلف الكافر الشرعيات لم يخل إما أن يكلف إيقاعها مضامة للكفر وذلك غير ممكن أو يكلف فعلها بشرط أن لا يكفر فيجب أن يكون الله سبحانه قد كلف الشرعيات من يعلم أنه لا يؤمن بشرط يعلم أنه لا يحصل وذلك مستحيل عندكم

والجواب يقال لهم إنا لا نقول إنه كلف بشرط بل نقول إنه كلف الشرعيات والإيمان بالأنبياء معا والإيمان بهم وصلة إلى الشرعيات وله سبيل إلى كلا الأمرين فحمله هذا التكليف غير موقوف على شرط يعلم المكلف أنه لا يحصل وإنما ننكر أن يكلف العالم بالغيب من يعلم أنه لا يتمكن من الفعل ولا سبيل له إليه بوجه بشرط أن يتمكن وهذا غير قائم في مسألتنا
ومنها أنه لو كلف فعلهما ولم يحمل على أدائهما
ومنها قولهم لو كلف الشرعيات لوجب إذا أسلم أن يلزمه القضاء وهذا باطل لأن القضاء فرض ثان فهو موقوف على الدلالة ألا ترى أن الجمعة واجبة ولا يجب قضاؤها بعينها وصوم الحائض غير واجب ويجب قضاؤه
ومنها لو كلف الكافر أداء الزكاة لوجب إذا أسلم قبل حلول الحول بيوم أن تلزمه الزكاة لأنه قد كان مكلفا بفعلها وقد حصل عند وجوب الأداء بصفة يصح معها الأداء والجواب إنا لا نقول إنه إذا كان كافرا في ابتداء الحول فإنه خوطب بأن يزكي إذا أسلم قبل حلول الحول وإنما نقول إنه قيل له قبل ابتداء الحول أسلم واستمر إسلامك وإذا استمررت إلى آخره فزك فإن لم يفعل ذلك استحق العقاب على ترك الإسلام وعلى ترك الزكاة ومخالفنا يقول يستحق العقوبة على ترك الإسلام فقط فإن أسلم في تضاعيف الحول سقط ذمه المستحق على استدامة كفره بهذه التوبة ولما كان باستدامة كفره إلى تضاعيف الحول فقد فوت على نفسه بالزكاة يستحق الذم على ذلك إما في الحال وإما عند حضور وقت الأداء وجب إذا سقط ذم الكفر بالتوبة أن يسقط ذم ما تبعه من تفويته المصلحة لأنه ليس تفويته المصلحة بأكثر من أن لا يفعلها إذا حضر وقتها والتوبة تحبط ذم تركها إذا حضر وقتها فكذلك الندم على الكفر يحبط الذم المستحق على تفويت المصلحة

باستدامة الكفر إلى بعض الحول كما يقوله في التقدم على السبب قبل حدوث المسبب
باب في أن العبد لا يخرج من الخطاب بالعبادات إعلم أن الخطاب المشتمل على الحر والعبد يجب كونهما معنيين به إلا لمنع عقلي أو سمعي فمن الموانع أن تكون العبادة تترتب على ملك المال لأن ذلك لا يصح في العبد على قول بعض الفقهاء فأما ما عدا ذلك فليس مانع يمنع من كون العبد معنيا بالخطاب إن قيل هلا كان المانع من كون العبد معنيا بالخطاب هو ما ثبت من وجوب خدمته لسيده في الأوقات إذا استخدمه فيها وذلك يمنعه من العبادات في هذه الأوقات قيل إنه يلزمه خدمة سيده إذا فرغ من العبادات إن قيل لم كان الدليل الدال على وجوب خدمة سيده مخصوصا بما دل على وجوب خدمة سيده قيل لأن ما دل على وجوب خدمة سيده في حكم العام وما دل على وجوب العبادات في حكم الخاص لأن كل عبادة يتناولها لفظ مخصوص كآية الصلاة وآية الصيام وغير ذلك والخاص من حقه أن يعترض به على العام
باب في تخصيص العموم بالعادات اعلم أن العادة التي هي بخلاف العموم ضربان أحدهما عادة في الفعل والآخر عادة في استعمال العموم أما الأول فبأن يعتاد الناس شرب بعض الدماء ثم يحرم الله سبحانه الدماء بكلام يعمها فلا يجوز تخصيص هذا العموم بل يجب تحريم ما جرت به العادة لأن العموم دلالة فلا يجوز تخصيصه إلا لدلالة فلو خصصناه عند هذه العادة لم يخل إما أن يخص بالعادة أو لأن

الأصل إباحة شرب الدماء والعادة ليست بحجة لأن الناس يعتادون الحسن كما يعتادون القبيح والعقل في الأصل وإن اقتضى إباحة شرب الدماء فانه يقتضيها ما لم ينقلنا عنه شرع والعموم دليل شرعي فيجب أن ينتقل به وأما العادة في استعمال العموم فيجوز أن يكون العموم مستغرقا في اللغة ويتعارف الناس استعماله في بعض تلك الأشياء فقط نحو اسم الدابة فانه في اللغة لكل ما يدب وقد تعورف استعماله في الخيل فقط فمتى أمرنا الله سبحانه في الدابة بشيء حملناه على الخيل دون ما يدب من نحو الإبل والبقر لما بيناه من أن الاسم بالعرف أحق وليس ذلك بتخصيص على الحقيقة لأن اسم الدابة لا يصير مستعملا في العرف إلا في الخيل فيصير كأنه ما استعمل إلا فيه
باب في أن قصد المتكلم بخطابه إلى الذم والمدح لا يمنع من كونه عاما اعلم أن بعض الشافعية يمنع من عموم قول الله سبحانه والذين يكنزون الذهب والفضة وأحالوا التعلق به في ثبوت الزكاة في الحلي قالوا لأن المقصد بذلك إلحاق الذم بمن يكنز الذهب والفضة وليس القصد به العموم والجواب أن الذم إنما كان مقصودا بالآية لأنه مذكور فيها وهذه العلة قائمة في العموم لأن اللفظ عام فوجب كونه مقصودا وليس يمنع القصد إلى ذم من كنز الذهب والفضة من القصد إلى عموم ذم كل من كنزهما
باب في الخطاب الوارد على سبب ينبغي أن نذكر ما السبب الذي يرد عليه الخطاب ونذكر قسمة الخطاب

الوارد على سبب ونقيم الدلالة على كل قسم من ذلك
فسبب الخطاب هو ما يدعو إلى الخطاب وهو ضربان أحدهما سؤال سائل وهو مرادنا في هذا الموضع والآخر دنو وقت العبادة
فأما قسمة الخطاب الوارد على سؤال فهي أن الخطاب الذي هذا سبيله ضربان أحدهما إحالة على بيان ما تضمنه السؤال صريح أو غير صريح نحو ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الكلالة فقال يكفيك آية الصيف والآخر هو نفسه بيان لما تضمنه السؤال من غير إحالة إلى بيان وذلك ضربان أحدهما لا يستقل بنفسه والآخر مستقل بنفسه أما الذي لا يستقل بنفسه فهو الذي لا يفهم به شيء إذا انفرد على كل حال نحو ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال صلى الله عليه و سلم أينقص الرطب إذا يبس قالوا نعم قال فلا إذا ونحو أن يقول الإنسان لغيره تغد عندي فيقول لا والله
وأما الخطاب المستقل بنفسه فضربان أحدهما مساو للسؤال والآخر غير مساو له أما المساوي له فلا سبهة في كونه مقصورا عليه نحو أن يسأل النبي صلى الله عليه و سلم عن المجامع في شهر رمضان فيقول علىالمجامع في شهر رمضان الكفارة فلا يجوز خروج شيء من السؤال عن الجواب إلا أن تدل دلالة مقارنة أو متقدمة على خروج بعضه من الجواب وأما الجواب الذي لا يساوي السؤال فضربان أحدهما أعم من السؤال والآخر أخص منه
أما الأخص فيجوز من الحكيم في حال دون حال أما الحالة التي يجوز فيها فبأن يكون السائل من أهل الاجتهاد وقد بقي إلى زمان العبادة وقت يتسع للاجتهاد فيجيبه النبي صلى الله عليه و سلم عن بعض ما سأله وينبهه بذلك على جواب

البعض الآخر أو يدله بدلالة أخرى مبتدأة على بيان البعض الآخر لأنه قد يكون من المصلحة أن يعلم بعض الأشياء بالصريح في الحال وفي بعضها أن يعلمه بالتنبيه أو بالإشارة إلى دليل آخر وأما الحالة التي لا يجوز أن يجيب المسؤول فيها عن البعض فهو أن لا يكون السائل من أهل الاجتهاد أو يكون من أهله غير أن الحاجة قد حضرت حضورا لا يتمكن من الإجتهاد لأنه لو اقتصر على الجواب عن بعض السؤال والحال هذه لكان قد أخل بما يجب بيانه
وأما إن كان الخطاب أعم من السؤال فهو ضربان أحدهما أن يكون أعم منه في ذلك الحكم والآخر أن يكون أعم منه في حكم آخر مثال الأول أن يسأل النبي صلى الله عليه و سلم عن رجل اشترى عبدا فيقول النبي صلى الله عليه و سلم الخراج بالضمان فيكون ذلك عاما في كل عبد هذه سبيله ومثال الثاني سؤال النبي صلى الله عليه و سلم عن التوضىء بماء البحر وجوابه بقوله هو الطهور ماؤه الحل ميتته
والجواب المستقل بنفسه لا يجب قصره على سببه إلا لوجه يقتضي ذلك وأحد الوجوه العادات نحو أن يقول الرجل لغيره تغد عندي فيقول والله لا تغديت وذكر الشيخ أبو عبد الله أن العادة تقتضي قصره على الغداء عنده وإن كان الكلام في نفسه عاما ومستقلا
وأما الدلالة على قصر الخطاب الذي لا يستقل بنفسه على سببه فهي أن النبي صلى الله عليه و سلم لو سئل أيجوز بيع الرطب بالتمر فقال لا لكان قوله لا نفي لأمر مذكور ولم يجز في كلام النبي صلى الله عليه و سلم وكلام السائل إلا جواز بيع الرطب بالتمر فيجب كونه نفيا له إن قيل هلا كان قوله في الخبر المشهور فلا إذا معناه فلا يجوز بيع ما ينقص إذا جف بما قد جف قيل إن أردت أن ذلك معقول من جهة القياس فلا نأبى ذلك وإن أردت أن قول النبي صلى الله عليه و سلم فلا إذا نفي له فلا يصح لأن السائل لم يذكر بيع ما ينقص إذا

جف ببيع ما قد جف ولا جرت هذه الألفاظ بعينها في كلام النبي صلى الله عليه و سلم فينصرف النفي إليه
وأما الدلالة على أن الجواب المستقل بنفسه وهو أعم من السبب يجري على عمومه فهو أن اللفظ العام الصادر عن حكيم يجب إجراؤه على عمومه إلا لمانع ولا مانع إلا ما يحتج به المخالف وكلها باطلة
منها أن العادة تقتضي قصر على سببه كما ذكرناه وهذا باطل لأن العادة لا تقتضي في قول النبي صلى الله عليه و سلم الخراج بالضمان أن المراد به ذلك العبد الذي وقع السؤال عنه فعليهم أن يبينوا أن المفهوم من جواب النبي صلى الله عليه و سلم ما ذكرناه فاذا ادعى ذلك فهو موضع الخلاف
ومنها أن يقال ثبوت الحكم فيما وقع السؤال عنه يمنع من ثبوته فيما عداه إما لأنه ينافيه أو من جهة دليل الخطاب وهذان باطلان أما الأول فلأنه لا تنافي بين ثبوت الحكم في شيء وبين ثبوته في شيء آخر وأما الثاني فمبني على دليل الخطاب وليس بحجة عندنا على أن هذا ليس من دليل الخطاب في شيء لأن دليل الخطاب هو أن يعلق الحكم على صفة الشيء فيدل على نفيه عما عداها وليس في لفظ هذا الجواب تعليق الحكم على السبب فقط فيدل على نفيه عما عداه ولو كان كذلك لكان في حيز تعليق الحكم على الإسم على أن من قصر الجواب على السبب فإنما يقصره عليه لأجل السبب لا لدليل الخطاب لأن دليل الخطاب لو كان عاما لكان جوابا وابتداء وقصد الجواب ينافي قصد الابتداء والجواب إن أرادوا بقولهم جواب وابتداء أنه جواب عما وقع السؤال عنه وبيان لحكم ما لم يسأل عنه فصحيح والقصد إليه لا يتنافى
ومنها أن يقال لو تعدى الحكم إلى غير ما سئل عنه النبي صلى الله عليه و سلم لما أخر بيانه إلى تلك الحال والجواب أنه لا يمتنع أن يكون من المصلحة أن يبين حكمه الآن كما كان ذلك فيما سئل عنه وفيما تعدى الجواب إليه مما ليس من

جنس السؤال نحو قول النبي صلى الله عليه و سلم في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته على أنه لا يمتنع أن يكون قد بين حكم ما زاد على السؤال قبل ذلك وبينه الآن أيضا ودل عليه
ومنها قولهم من حق الجواب أن يكون مطابقا للسؤال وذلك إنما يكون بالمساواة قيل إن أردتم بالمطابقة مساواة الجواب للسؤال فغير مسلم أنه من شرط الجواب وإن أردتم بالمطابقة انتظام الجواب بجميع السؤال فذلك يحصل بالمساواة وحدها وبالمساواة مع المجاورة ويلزم أن لا يجوز مجاورة الخطاب لما وقع السؤال عنه إلى حكم آخر
باب في العموم إذا تعقبه تقييد بشرط أو استثناء أو صفة أو حكم وكان ذلك لا يتأتى إلا في بعض ما تناوله العموم هل يجب أن يكون المراد بذلك العموم ذلك البعض فقط أم لا
أعلم أن مذهب قاضي القضاة وكثير من الناس أنه لا يجب أن يكون المراد بالعموم تلك الأشياء فقط والأولى عندنا التوقف في ذلك مثال الاستثناء قول الله سبحانه لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون فاستثنى العفو وعلقه بكناية راجعة إلى النساء ومعلوم أن العفو لا يصح إلا في المالكات لأمورهن دون الصغيرة والمجنونة ولا يوجب ذلك عنده إلا أن لا يكون المراد بالنساء في أول الكلام الصغيرة والمجنونة

ومثال التقيد بالصفة قول الله سبحانه يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ثم قال لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا يعني الرغبة في مراجعتهن ومعلوم أن ذلك يتأتى في البائنة
ومثال التقييد بحكم آخر قول الله عز و جل والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ثم قال وبعولتهن أحق بردهن وهذا أيضا لا يتأتى في البائن
واحتج قاضي القضاة لمذهبه بأن اللفظ العام يجب إجراؤه على عمومه إلا أن يضطر ناشيء إلى تخصيصه وكون آخر الكلام مخصوصا لا يضطر إلى تخصيص أوله والجواب أن هذا التخصيص يقتضي تخصيص أول الكلام لأن الكناية رجعت إلى جميع ما تقدم لأن قول الله تعالى إلا أن يعفون معناه إلا أن يعفو النساء اللواتي طلقتموهن ولو أن الله سبحانه صرح بذلك لدل ذلك على أن النساء المذكورات في أول الكلام هن اللواتي يصح منهن العفو والذي يبين أن الظاهر يفيد رجوع ذلك إلى جميع النساء هو أن العفو معلق بكناية والكناية يجب رجوعها إلى المذكور المتقدم والمذكور المتقدم هن المطلقات لا بعضهن فقط يبين ذلك أن الإنسان إذا قال من دخل الدار من عبيدي ضربته إلا أن يتوبوا انصرف ذلك إلى جميع العبيد وجرى مجرى أن يقول إلا أن يتوب عبيدي الداخلون الدار
وأما الدلالة على التوقف فهو أن ظاهر العموم المتقدم يقتضي الاستغراق وظاهر الكناية يقتضي الرجوع إلى كل ما تقدم وليس التمسك بظاهر العموم والعدول عن ظاهر الكناية بأولى من التمسك بظاهر الكناية والعدول عن ظاهر العموم وإذا لم يكن أحدهما أولى من الآخر وجب التوقف فان قيل التمسك

بالعموم أولى لأنه اسم ظاهر قيل ليس هذا القول بأولى ممن قال بل التمسك بالكناية أولى لأنها كناية
باب في المعطوف هل يجب أن يضمر فيه جميع ما يمكن إضماره فيما في المعطوف عليه أم لا وهل إذا وجب ذلك وكان المضمر في المعطوف عليه مخصوصا وجب أن يكون المعطوف عليه مخصوصا أم لا
اختلف الناس في ذلك فقال العراقيون بذلك كله ولم يقل به الشافعيون ومثاله استدلال الشافعية بقول النبي صلى الله عليه و سلم لا يقتل مؤمن بكافر على أن المسلم لا يقتل بالذمي فقال العراقيون إن النبي صلى الله عليه و سلم عطف على ذلك قوله ولا ذو عهد في عهده وحكم المعطوف حكم المعطوف عليه فوجب أن يكون معناه ولا يقتل ذو عهد في عهده بكافر ومعلوم أن ذا العهد يقتل بالكافر الذمي ولا يقتل بالكافر الحربي فكان قوله لا يقتل مؤمن بكافر معناه بكافر حربي لأن المضمر في المعطوف هو المظهر في المعطوف عليه فأضمروا في المعطوف ما هو مظهر في المعطوف عليه من القتل والكافر ولما رأوا أن ذلك إن أضمر في المعطوف كان مخصوصا في الحربي وأوجبوا تخصيص المعطوف عليه أيضا بالحربي وقد أجيبوا عن ذلك بأن المعطوف قيد بصفة لم يجب أن يضمر فيه من المعطوف عليه إلا ما يصير به مستقلا ألا ترى أن الإنسان لو قال لا تقتلوا اليهود بالحديد ولا النصارى في الأشهر الحرم لم يجب أن يضمر فيه إلا القتل حتى يكون معناه ولا تقتلوا النصارى في الأشهر الحرم ولا يكون معناه ولا تقتلوا النصارى بالحديد في الأشهر الحرم وإنما لم يجب ذلك لأنه لما قيد المعطوف بزيادة ليست في المعطوف عليه علمنا أنه أراد أن يخالف بينهما في كيفية القتل وأن يشرك بينهما في القتل فقط لا في الزيادة التي في المعطوف عليه

فان قال العراقيون قوله في عهده كالتأكيد لقوله ولا ذو عهد وليس يفيد حكما آخر يبين ذلك أنه لو لم يقل في عهده لعلمنا بقوله ولا ذو عهد أنه لا ينبغي أن يقتل في عهده لأن زوال العهد يخرجه من أن يكون ذا عهد وإذا أفادت هذه الزيادة فائدة قوله ولا ذو عهد في عهده وكان هذا يفيد ولا ذو عهد بكافر فكذلك قوله ولا ذو عهد في عهده وليس لكم أن تقولوا إن قوله في عهده يفيد فائدة متجددة وهي أن المانع من قتله هو العهد لأن ذلك لو استقل من قوله في عهده لاستفيد من قوله ولا ذو عهد والجواب أن هذا السؤال يقتضي أنه لو قال لا يقتل مؤمن بكافر ولا رجل في عهده لم يضمر فيه الكافر حتى يكون معناه ولا يقتل رجل في عهده بكافر لأنه يكون قوله في عهده قد استفيد منه فائدة متجددة فيجب أن يكون قوله ولا عهد يمنع من أن يضمر فيه بكافر لأنه ينزل منزلة قوله ولا رجل بكافر في إفادة صفة قد منع من القتل معها فاذا كان قوله في عهده كالتأكيد لم يضمر في المنع من هذا الإضمار فاذا أمتنا اضمار الكافر فيه امتنع تخصيص ما تقدم
وقد أجاب قاضي القضاة عن اعتراض الحنفية على هذا الخبر بجوابين
أحدهما أن المعطوف إنما يضمر فيه من المعطوف عليه ما يصير به مستقلا لأن فقد استقلاله هو الذي أوجب الإضمار ومعلوم أن قوله ولا ذو عهد في عهده يصير مستقلا باضمار القتل لأنه لو قال ولا يقتل ذو عهد في عهده لكان مستقلا ولقائل أن يقول ليس يقف الإضمار على ما يستقل به الكلام لأن الإنسان لو قال لا تقتلوا اليهود بالحديد ولا النصارى لكان معناه ولا تقتل النصارى بالحديد ولا يقتصر فيه على إضمار القتل فقط ولو قال الرجل لغيره لا يشترى اللحم بالدراهم الصحاح ولا الخبز لأفاد ولا يشترى الخبز بالدراهم الصحاح وإنما وجب ذلك لأن العطف يفيد اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في حكم المعطوف عليه وحكم المعطوف عليه ها

هنا هو الشرى بالدراهم الصحاح دون المنع من الشرى بالدراهم على الإطلاق لأن المنع من الشرى بالدراهم على الإطلاق ليس بمذكور وإذا كان كذلك فلو قلنا إن قوله لا يشترى اللحم بالدراهم الصحاح ولا الخبز معناه ولا يشترى الخبز أصلا لم يكن قد اشتركا بينهما في الحكم المذكور
وأما الجواب الثاني فهو أنا لو أضمرنا الكافر في قوله ولا ذو عهد حتى يكون معناه ولا يقتل ذو عهد بكافر ثم وجب أن يكون ذلك مخصوصا في الحربي لم يجب أن يكون قوله لا يقتل مؤمن بكافر مخصوصا في الكافر الحربي ألا ترى أن النبي صلى الله عليه و سلم لو قال ولا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده بكافر ثم علمنا بدلالة أن ذلك مخصوص في الحربى لم يجب أن يكون أول الكلام كذلك
ولقائل أن يقول إن العطف يفيد اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في حكمه وحكمه هو الذي عناه المتكلم وأراده دون ما لم يعنه فلو جعلنا الكافر المذكور في المعطوف عليه عاما وجعلناه في المعطوف خاصا لم نجعل العطف مفيدا لاشتراكهما فيما قصده المتكلم لأنه قصد بأول الكلام العموم وبآخره الخصوص ولوجب أن يكون الكلام الثاني معطوفا على بعض الأول وظاهر العطف يمنع من ذلك وليس لقائل أن يقول العطف يفيد اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في لفظ الكافر وذلك لأن اللفظ ليس بموجود في المعطوف وإنما حكم المعطوف عليه يوجد فيه يبين ذلك أن المتكلم يقصد بالعطف اشتراكهما في معنى قصده دون اللفظ فصح أن ظاهر العطف يقتضي أن لا يفترق المعطوف والمعطوف عليه في خصوص ما اشتركا فيه وعمومه بل يجب إذا كان الكافر المضمر في المعطوف مخصوصا أن يكون الكافر المذكور في أول الكلام مخصوصا ولقائل أن يقول إن وجب إضمار الكافر في المعطوف فالأولى القول بالوقف لأنه ليس التمسك بظاهر العطف وترك ظاهر عموم أول الكلام وحمله على الخصوص بأولى من التمسك بظاهر العموم

وترك ظاهر العطف في وجوب اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في خصوص ما اتفقا فيه
باب في أن ذكربعض ما شمله العموم لا يخص به العموم اعلم أن العموم إذا علق حكما على أشياء وورد لفظ يفيد تعليق ذلك الحكم على بعضها فانه لا يجب انتفاء الحكم عما عدا ذلك البعض وحكى أن أبا ثور أوجب ذلك لأنه قال إن قول النبي صلى الله عليه و سلم في شاة ميمونة دباغها طهورها يخص قول النبي صلى الله عليه و سلم أيما إهاب دبغ فقد طهر والذي يبطل ذلك أن التخصيص موقوف على التنافي فلو خص قوله دباغها طهورها قوله أيما إهاب دبغ فقد طهر لكان إنما يخصه من حيث كان تعليق الطهارة على تلك الشاة يدل على نفيه عما سواها من جهة دليل الخطاب وهذا باطل لأنا قد بينا أن تعليق الحكم بالاسم وبالصفة لا يدل على انتفائه عما عداهما ولو دل على ذلك لكان صريح العموم أولى منه لأن الصريح أولى من دليل الصريح وقوله صلى الله عليه و سلم دباغها طهورها من حيز دليل الاسم وتعليق الحكم على الاسم أضعف في الدلالة على نفيه عما عداه من تعليقه بالصفة
باب في المطلق والمقيد اعلم أن الكلامين إذا قيد الثاني منهما بصفة فاما أن يكون أحدهما متعلقا بالآخر أو لا يكون متعلقا به فان كان متعلقا به كان الكلام الأول مقيدا بتلك الصفة على حسب ما ذكرناه في رجوع الاستثناء إلى جميع الكلام وإن لم يكن أحد الكلامين متعلقا بالآخر سواء كان منه قريبا أو بعيدا فانه لا يخلو حكماهما إما أن يكونا مختلفين أو غير مختلفين فان كانا مختلفين فمثاله أن نؤمر بالصلوات مطلقا ونؤمر بالصيام متتابعا فلا شبهة في أنه لا يجب لذلك

تقييد الصلوات بالتتابع وإن كان الحكمان غير مختلفين نحو أن يكون الحكم عتقا أو صياما فلا يخلو إما أن يكون سبباهما مختلفين أو غير مختلفين فان كانا غير مختلفين فمثاله العتق في كفارة اليمين ولا يخلو التعبد بهما إما أن يكونا أمرين أو نهيين فان كانا أمرين فمثاله أن يقال إذا حنثتم فاعتقوا رقبة ويقال في موضع آخر إذا حنثتم فاعتقوا رقبة مؤمنة فمتى تركنا وظاهر الأمرين وجب على الحانث عتق رقبتين إن كان الأمر المتكرر يفيد تكرار المأمور به وإن علمنا ان العتق في الموضعين واحد غير متكرر وجب تقييده بالإيمان أن العتق واحد والأمر المقيد بالإيمان قد اقتضى اشتراطه إن قيل لم قيدتم المطلق لأجل المقيد ولم تحملوا الأمر بعتق المؤمنة على الندب لأجل المطلق قيل لأن الأمر المقيد تصريح الإيمان وهو أشد اختصاصا به فكان الاعتراض به على المطلق أولى لأن الخاص أولى من العام على أن هذا السؤال لا يمكن إذا ورد التعبد بالمقيد بلفظ الإيجاب وإن كانا نهيين مثل أن يقول إذا حنثتم فلا تكفروا بالعتق ويقال في موضع آخر إذا حنثتم للا تكفروا بعتق كافره فمتى تركنا وهذين النهيين وجب إجراء المطلق على إطلاقه في المنع من العتق أصلا على التأبيد لأن النهي يفيد التأبيد فلا يخصه النهي المقيد بالإيمان لأنه بعض ما دخل تحته والعموم لا يصير مخصوصا بذكر بعض ما دخل تحته وإن علمنا أن المنهي عنه بأحد النهيين هو المنهي عنه بالآخر لا افتراق بينهما في خصوص ولا عموم وجب أن يقيد بالكفر فيصير المكلف منهيا في الموضعين من الكفارة بالكافرة
وإن كان سببا التكفير مختلفين فمثاله إطلاق العبد في كفارة الظهار وتقييده بالإيمان في كفارة القتل وقد ذهب قوم من أصحاب أبي حنيفة إلى أنه يقيد المطلق منهما بالإيمان أصلا وقال جل أصحاب الشافعي بل يقيد المطلق منهما واختلف الأولون في سبب المنع من تقييد المطلق بالمقيد من جهة القياس فقال قوم سبب ذلك أن تقييده بالإيمان زيادة على النص والزيادة على النص نسخ والنسخ لا يجوز بالقياس ومنهم من قال تقييده بالإيمان زيادة على حكم

قد قصد استيفاؤه ومنهم من قال تقييده بالإيمان هو تخصيص لحكم قد قصد استيفاؤه
واختلف من قال إن المطلق يقيد بالمقيد فقال قوم يقيد المطلق لأجل تقييد المقيد وقال قوم بل إنما يقيد بالقياس عليه واختلفوا في الحكم المطلق في موضع إذا قيد مثله في موضعين بتقييدين متنافيين نحو تقييد صوم الظهار بالتتابع وتقييد صوم التمتع بالتفريق وإطلاق قضاء صوم رمضان فمن لا يرى تقييد المطلق بالمقيد أصلا فإنه لا يقيد هذا المطلق بأحد التقييدين فلا يجعل من شرط قضاء شهر رمضان التتابع ولا التفريق ومن يرى تقييد المطلق بالمقيد لأجل التقييد لا يرى ذلك أيضا ها هنا لأنه ليس بأن يقيد بأحد التقييدين أولى من أن يقيد بالآخر وأما من يرى تقييده بالقياس فانه يقيد المطلق بأحد التقييدين إذا كان القياس عليه أولى من القياس على الآخر
والدليل على أن المطلق لا يقيد لأجل تقييد المقيد أن ظاهر المطلق يقتضي أن يجري الحكم على إطلاقه فلو خص بالمقيد لوجب أن يكون بينهما وصلة وإلا لم يكن بأن يقيد به أولى من أن لا يقيد به والوصلة إما أن ترجع إلى اللفظ أو إلى الحكم أما اللفظ فبأن يكون بين الكلامين تعلق بحرف عطف إو إضمار كما ذكرناه في صدر الباب وهذا غير حاصل في مسألتنا وأما الراجع إلى الحكم فضربان أحدهما أن يتفق الحكمان في علة التقييد بالصفة وهذا تقييد في كفارة وغير مقيد بهما في كفارة أخرى وليس هذا بممتنع كما يجوز أن تكون المصلحة فيهما التقييد يجوز أن تكون المصلحة فيهما أن يختلفا في التقييد فاذا ثبت ذلك فلو جاز مع فقد الوصلة أن يقيد أحدهما بما يقيد به الآخر جاز أن نثبت لأحدهما بدلا لأن للآخر بدلا أو نخص أحد

العمومين لأن الآخر مخصوص وقولهم إن الشهادة لما قيدت بالعدالة في موضع قيد بها الشهادة المطلقة في موضع آخر فالجواب عنه أنا لم نستفد تقييد المطلقة لأن الشهادة الأخرى قيدت في موضع آخر بل استفيد ذلك بشيء آخر وقوله إن القرآن كله كالكلمة الواحدة فيجب أن يقيد بعضه لما قيد به البعض الآخر ولهذا كان قول الله عز و جل والذاكرين الله كثيرا والذاكرات معناه والذاكرات الله والجواب أنهم إن أرادوا بقولهم إن القرآن كالكمة الواحدة في وجوب تقييده بما قيد به البعض الآخر فلا نسلمه ولهذا لا يقيد بعضه بما يقيد بعض له في الحكم فإن أرادوا أنه كالكلمة الواحدة في أنه لا تناقض فيه فصحيح ويقال لهم وإذا لم يكن فيه تناقض وكان كله صحيحا قيد بعضه بما قيد به البعض الآخر وأما قوله عز و جل والذاكرين الله كثيرا والذاكرات فانما كان المراد والذاكرات الله لأن الكلام خرج مخرج المدح لهن والحث لهن على ذكر الله بما ذكره من قوله أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما فلم يجز والحال هذه انصرافه إلى جميع أنواع الذكر وانصرف إلى ذكر الله لأنه مذكور فيما تقدم والكلام الثاني معطوف عليه وليس هذا حال مسئلتنا
فأما من أبى تقييد المطلق بالقياس فأما أن أبى ذلك لأن المطلق لا يتأتى فيه التخصيص كما لا يتأتى في العين الواحدة وهذا باطل لأن المطلق يشتمل على جميع صفات الشيء وأحواله أو لأن القياس غير دليل أو هو دليل لكنه لا يخص به العام وإفساد ذلك في القياس وإما لأن تقييد المطلق زيادة في النص وهو نسخ وسنبين في الناسخ والمنسوخ القول في ذلك وإما لأن الله عز و جل استوفى حكم المطلق والخصم مخالف في ذلك ويقول قيام الدلالة على صحة علة القياس يدلني على أن الله لم يستوف حكم المطلق بهذا الكلام كما نقوله في العموم


الكلام في المجمل والمبين
باب في ذكر فصول المجمل والمبين اعلم أن الكلام في المجمل والمبين يقع في موضعين أحدهما العبارة والآخر المعنى أما العبارة فبأن نذكر ما معنى قولنا مجمل وبيان ومبين ومفسر وظاهر ونص وأما المعنى فمنه ما يرجع إلى المجمل ومنه ما يرجع إلى البيان أما الراجع إلى المجمل فيدخل فيه ذكر ما يحتاج إلى بيان وما لا يحتاج إليه ويدخل في ذلك الوجود التي يحتاج فيها إلى بيان ويدخل فيه ما يحتاج من الأفعال إلى بيان ويدخل فيه ما أخرج من المجمل وهو داخل فيه كالاسم المشترك وما أدخل فيه وهو خارج عنه وأما الكلام في البيان فضربان أحدهما مختص بالبيان والآخر يتعلق بالمبين له أما الأول فيدخل فيه ابواب منها الأمور التي يقع بها البيان ويدخل في ذلك البيان بالأفعال ومنها ترجيح القول على الفعل في وقوع البيان ومنها هل يجب أن يكون البيان كالمجمل في القوة أم لا وأما ما يتعلق بالمبين له فوجوه منها تأخير التبليغ ومنها تأخير البيان عن وقت الحاجة ومنها تأخيره عن وقت الخطاب ومنها من الذي يجب أن يبين له الخطاب ومنها هل يجوز أن يسمع المكلف لفهم الخطاب العام قبل أن يسمع بيانه أم لا وأما دليل الخطاب فليس بداخل في أبواب المجمل والمبين لأن الناس لم يختلفوا فيه هل هو دليل مجمل أو مبين وإنما اختلفوا فيه هل هو دليل أم لا


باب في ذكر ألفاظ تستعمل في الكلام في المجمل والبيان فمن ذلك المجمل والبيان والمبين والمفسر والمفصل والنص والظاهر
أما قولنا مجمل فقد يراد به ما أفاد جملة من الأشياء ومن ذلك قولهم أجملت الحساب وعلى هذا يوصف العموم بأنه مجمل بمعنى أن المسميات قد أجملت تحته وقد يراد به ما لا يمكن معرفة المراد به ويمكن أن يقال المجمل هو ما أفاد شيئا من جملة أشياء هو متعين في نفسه واللفظ لا يعينه ولا يلزم عليه قولك اضرب رجلا لأن هذا اللفظ أفاد ضرب رجل وليس هو بمتعين في نفسه بل أي رجل ضربته جاز وليس كذلك اسم القرء لأنه يفيد إما الطهر وحده أو الحيض وحده واللفظ لا يعينه وقول الله سبحانه أقيموا الصلوة يفيد وجوب فعل يتعين في نفسه غير شائع
وأما البيان فانه يكون عاما ويكون خاصا أما العام فهو الدلالة تقول بين لي فلان كذا وكذا بيانا حسنا وبيانا واضحا فتوصف دلالته وكشفه بأنه بيان ويقال دللت فلانا على الطريق وبينته له فلما اطرد ذلك كان حقيقة
وأما الخاص فهو ما يتعارفه الفقهاء وهو كلام أو فعل دال على المراد بخطاب لا يستقل بنفسه في الدلالة على المراد ويدخل في ذلك بيان العموم والمحكي عن شيخينا أبي على وأبي هاشم رحمهما الله أن البيان هو الدلالة وأرادا بذلك البيان العام وقال الشيخ أبو عبد الله إن البيان هو العلم الحادث

لأن البيان هو ما به يتبين الشيء والذي به يتبين هو العلم الحادث كما أن ما به يتحرك الشيء هو الحركة ولهذا لا يوصف الله سبحانه متبين لما كان عالما لذاته لا بعلم حادث والصحيح هو الأول لأن البيان العام هو الكشف والإيضاح ألا ترى أنه يقال بين لي فلان كذا وكذا إذا دل عليه فهذا هو أظهر في العرف من العلم لأنه لا يوصف العلم بأنه بيان وإنما يوصف بأنه تبين وقال الشافعي البيان اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول متشعبة الفروع وأقل ما فيه أنه بيان لمن نزل القرآن بلسانه وهذا ليس بحد وإنما هو وصف للبيان بأنه يجمعه أمر جامع وهو أنه يتبينه أهل اللغة وأنه يتشعب إلى أقسام كثيرة فإن حده بأنه بيان لمن نزل القرآن بلغته كان قد حد البيان بأنه بيان وذلك حد الشيء بنفسه وإن كان قد حد البيان العام فانه يخرج منه الأدلة العقلية وإن حد البيان الخاص الذي يتعارفه الفقهاء فانه يدخل فيه الكلام المبتدأ إذا عرف به المراد كالعموم والخصوص وغيرهما وهذا ليس هو العام والخاص وقال قوم البيان هو الكلام والخط والإشارة وهذا ليس بحد وإنما هو تعديد وليس هو بمستوف لجميع أعداده لأنه يخرج منه الأدلة العقلية وقال الصيرفي البيان هو إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي والوضوح وهذا قريب إذا كان حد للبيان العام وإن كان حدا لما تعارفه الفقهاء فليس بصحيح لأنه يدخل فيه الأدلة العقلية والأدلة السمعية المبتداة على أن إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي هو حد للتبيين لا حد للبيان
فأما المبين فقد يراد به ما احتاج إلى بيان وقد ورد عليه بيانه وقد يراد به الخطاب المبتدأ المستغني عن بيان
وقولنا مفسر قد يراد به ما احتاج إلى تفسير وقد ورد تفسيره ويراد به الخطاب المبتدأ المستغني عن تفسير لوضوحه في نفسه
وأما النص فقد حده الشافعي بأنه خطاب يعلم ما أريد به من الحكم

سواء كان مستقلا بنفسه أو علم المراد به بغيره وكان يسمي المجمل نصا وبهذا حده الشيخ أبو الحسن وذكر قاضي القضاة أن النص هو خطاب يمكن أن يعرف المراد به واعلم أن النص يجب أن يشتمل على ثلاث شرائط أحدها أن يكون كلاما والآخر أن لا يتناول إلا ما هو نص فيه وإن كان نصا في عين واحدة وجب أن لا يتناول سواها وإن كان نصا في أشياء كثيرة وجب أن لا يتناول سواها والآخر أن تكون إفادته لما يفيده ظاهرا غير مجمل وأما اشتراط كون النص عبارة فلأن أدلة العقول والأفعال لا تسمي نصوصا وأما اشتراط ظهور دلالته فلأن المفهوم من قولنا إن العبارة نص في هذا الحكم أنها تفيده على جهة الظهور ولأن النص في اللغة مأخوذ من الظهور ومن ذلك قولهم منصة العروس لما ظهرت وارتفعت وأما اشتراط إفادة ما هو نص فيه فقط فلأن الإنسان إذا قال لغيره اضرب عبيدي لم يقل أحد إنه قد نص على ضرب زيد من عبيده لما أفاده وأفاد غيره ويقال إن كلامه نص في ضرب جملة عبيده لما لم يفد سواهم فاذا ثبت أن هذا هو المعقول من النص وجب بأن يحد بأنه كلام تظهر إفادته لمعناه لا يتناول أكثر مما قيل إنه نص فيه فإن قيل أليس يقال إن الله قد نص على وجوب الصلاة وإن كان قوله أقيموا الصلاة مجملا قيل إنه ليس بمجمل في إفادة الوجوب وإنما هو مجمل في إفادة الصلاة ولا يجوز أن يسمى مع البيان نصا في إفادة الصلاة لأن قولنا نص عبارة عن خطاب واحد دون ما يقترن به ولأن البيان قد يكون غير لفظ وقولنا نص عبارة عن الأقوال
وأما الظاهر فهو ما لا يفتقر في إفادة ما هو ظاهر فيه إلى غيره وهو مفارق للنص من هذه الجهة ويشاركه في وجوب كونه كلاما وفي اختصاصه بالكشف ونفي العموم وقال قوم إن الظاهر هو ما ظهر المراد به وظهر فيه غير المراد إلا أن المراد أظهر والأول أصح لأن الكلام متى وضح المراد به فقد ظهر سواء كان محتملا لغيره أن لم يكن محتملا لغيره


باب فيما يحتاج فيه إلى بيان وما لا يحتاج فيه إلى بيان قد ذكرنا أن البيان منه عام وهو الدلالة المطلقة ومنه خاص وهو الدلالة الشرعية على المراد بأدلة الشرع فان كان في الأول فالذي نحتاج في العلم به إلى الدلالة وهو ما صح العلم به ولم نعلمه باضطرار لأن ما لا يعلم باضطرار لا سبيل إلى العلم به إلا بالدليل وما علمناه باضطرار فقد استغنينا عن العلم به لأن الإنسان مستغن عن تحصيل ما هو حاصل له
وإن كان الكلام في النوع الثاني من البيان فانا نقول فيه إن الدلالة الشرعية فيه ضربان مستنبطة وغير مستنبطة أما المستنبطة كالقياس فلا إجمال فيها فيقال إنه يحتاج إلى بيان وأما الدلالة غير المستنبطة فهي أقوال وأفعال والأفعال كلها لا تنبيء عن الوجوه التي وقعت عليها إلا أن منها ما يقترن به دلالة تدل على الوجه الذي وقعت عليه فلا تحتاج مع ذلك إلى بيان آخر ومنها ما لم يقترن به دليل فيحتاج إلى بيان أما الأول فنحو صلاة النبي صلى الله عليه و سلم بأذان وإقامة فان ذلك قد تقرر في الشرع أنه أمارة لوجوب الصلاة ويجوز أن يتعمد أفعالا كثيرة في الصلاة فيركع ركوعين قبل السجدة فنعلم أن ذلك من أفعال الصلاة لأنه لا يجوز أن يتعمد في الصلاة أفعالا كثيرة ليست منها فأما الثاني فنحو أن يقوم النبي صلى الله عليه و سلم في الركعة الثانية ولا يجلس قدر التشهد فإنه يجوز أن يكون قدسها في ذلك ويجوز أن يكون قد تعمد ذلك ليدل على جواز ترك هذه الجلسة
وأما الأقوال فضربان أحدهما يكفي نفسه وصريحه في معرفة المراد به فلا يحتاج إلى بيان لأنه لو احتاج إلى بيان لنقض قولنا إنه يكفي نفسه في معرفة المراد وذلك نحو قول الله سبحانه وكان الله بكل شيء

عليما والآخر لا يكفي نفسه وصريحه في معرفة المراد وهو ضربان أحدهما لا يختل بيانه على السامع والثاني قد يختل بيانه على السامع فالأول ضربان أحدهما أن يكون بيانه بالتعليل والآخر لا بالتعليل أما التعليل فضربان أحدهما بطريق الأولى والآخر لا بطريق الأولى أما الأول من هذين فقول الله عز و جل فلا تقل لهما أف في دلالته على المنع من ضربهما لأن كل عاقل يعلم أن ذلك يخرج مخرج التعظيم والإكرام فعلم أن المنع من التأفيف إنما كان لأنه أذى والضرب قد شارك التأفيف في الأذى وزاد عليه ومقرر في العقل أن من منع من شيء لغرض فإنه يمنع مما سواه وزاد عليه في معنى ذلك الغرض وهذه الأمور في النفس لا تختل على عاقل والكلام يدل معها على المنع من الضرب وإن كان الكلام ما وضع له وأما الثاني وهو التعليل لا بطريق الأولى فقول النبي صلى الله عليه و سلم في الهرة إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات نعلم بذلك أنه علة في طهارتها ونعلم أن كل ما هذه سبيله فظاهر لأن العلة يتبعها حكمها
وأما البيان الذي لا يختل وليس هو بتعليل فضربان أحدهما أن يكون الخطاب أمرا بشيء فيعلم وجوب ما لا يتم إلا به لما تقرر في العقل أن وجوب الشيء يتبعه وجوب ما لا يتم إلا به وإلا كان إيجابا لما لا يطاق ولهذا يعلم كل عاقل أن أمر السيد غلامه بشري اللحم من السوق يدل على وجوب مشيه إلى السوق والآخر أن يظهر في العقل كون ظاهر الخطاب غير مراد ويعلم بالعادة أنه مستعمل في وجه من وجوه المجاز فيعلم أنه مراد المتكلم نحو قول الله سبحانه وسئل القرية ولو قيل إن ذلك حقيقة عرفية لجاز
فأما الخطاب الذي يحتاج إلى بيان وقد يختل بيانه على السامع فضربان أحدهما يحتاج إلى بيان لوضع اللغة والآخر لا لوضع اللغة والأول ضربان

أحدهما أن يكون الكلام مفيدا لشيء ما لا تفيد صفته نحو قول الله سبحانه وءاتوا حقه يوم حصاده فإن اسم الحق يفيد شيئا ما له صفة ولا يفيد تلك الصفة بعينها فاحتجنا إلى بيانها والآخر أن يكون الكلام موضوعا لشيء على صفة ولشيء آخر على صفة أخرى وليس بموضوع لهما معا بل يفيد كل واحد منهما بانفراده وهو الاسم المشترك كاسم القرء وذلك أنه موضوع للطهر ويفيد فيه صفة وهو كونه طهرا وهو موضوع للحيض ويفيد فيه أنه حيض فقد أفاد كل واحدة من الصفتين غير أنه يفيدها على البدل فاحتجنا فيه إلى بيان ولو كان موضوعا لهما معا ووجب إذا انفرد أن يحمل عليهما يجري مجرى العموم ولما احتجنا فيه إلى بيان فأما الذي يحتاج إلى بيان لا لوضع اللغة فهو ما كان غير مجمل إلا أنه قد استعمل لا لما وضع له وهو ضربان أحدهما أن يكون قد استعمل في بعض ما وضع له والآخر أن يكون قد استعمل في غير ما وضع له أصلا أما الأول فكالعام المخصوص والمطلق المنسوخ والعام المخصوص ضربان أحدهما أن يكون قد علمنا ما خص منه بعينه والآخر أن لا نعلم ذلك بعينه فما علمناه بعينه فإنا قبل العلم به نحتاج إلى بيان ما لم يرد منا دون ما أريد وإذا علمنا ما لم يرد منا بعينه استغنينا عن البيان فأما ما لم نعلم ما خص بعينه فانا قبل بيان تخصيصه نحتاج إلى بيان ما لم يرد منا فاذا خص هذا النوع من التخصيص احتجنا إلى بيان ما أريد منا وما لم يرد أيضا وذلك إنما يكون باجمال المخصص وهو ضربان أحدهما أن يكون المخصص متصلا بالخطاب والتقييد بالصفة المجهولة فالتقييد بالصفة المجهولة كقول الله سبحانه وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم لو اقتصر على ذلك لم يحتج فيه إلى بيان فلما قيده بقوله محصنين ولم يدر ما الإحصان لم ندر ما أبيح

لنا فأما الاستثناء المجهول فقول الله سبحانه أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم لما كان الاستثناء مجهولا كان المستثنى منه كذلك فاحتجنا فيه إلى بيان وأما ما كان تخصيصه منفصلا فنحو أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم إن قول الله سبحانه اقتلوا المشركين مخصوص ليس المراد به بعض المشركين ولا نعلم ما المراد به لأنه لا مشرك إلا وقد تناوله قوله اقتلوا المشركين وتناوله قول النبي صلى الله عليه و سلم ليس المراد بالآية بعض المشركين فليس بأن يدخل تحت أحدهما بأولى من أن يدخل تحت الآخر فافتقرنا فيه إلى بيان
وأما الخطاب المستعمل في غير ما وضع له أصلا فضربان أحدهما أن يكون الشرع قد ورد باستعماله في ذلك الشيء والآخر لم يرد الشرع بذلك أما الأول فالأسماء الشرعية كقولنا صلاة فمتى أمرنا بالصلاة ونحن لا نعلم بالشرع انتقال هذا الاسم إلى هذه الأفعال احتجنا فيه إلى بيان وأما الثاني فالأسماء المستعملة في مجازها وبيانها غير ظاهر نحو كثير من الآيات التي ظاهرها التشبيه والجبر وصيغة الأمر المستعملة في التهديد إلى غير ذلك
وقد ذكر قاضي القضاة في العمد والشرح قسمة غير هذه القسمة وقد ذكرناها في شرحنا لكتاب العمد
وقد دخل في هذه الجملة أنه لا يجوز أن يراد بالاسم المشترك كلا معنييه وأنه مجمل يحتاج إلى بيان فيجب ذكر ذلك إذ كان من يقول إنه يجوز أن ينفرد فيراد به كلا المعنيين قد أخرجه عن المجمل ودخل فيها أن فحوى القول قياس والكلام في ذلك يأتي في باب القياس إن شاء الله


باب فيما أخرج من المجمل وهو منه كإرادة المعنيين المختلفين بالاسم المشترك
اعلم أن الاسم الواحد إذا كان اسما لأشياء فإما أن يفيد فيها فائدة واحدة أو أكثر من فائدة واحدة فالأول لا خلاف في جوازها كلها في حالة واحدة بالاسم واختلف الناس في الثاني فقال الشيوخ أبو هاشم وابو الحسن وأبو عبد الله رحمهم الله بالمنع من ذلك سواء أفادت العبارة تلك الأشياء كلها على الحقيقة أو أفادت بعضها على الحقيقة وبعضها على المجاز كالنكاح المفيد للوطىء حقيقة وللعقد مجازا وكناية وشرط الشيخ أبو عبد الله في المنع من ذلك شروطا أربعة أحدها أن يكون المتكلم واحدا والآخر أن تكون العبارة واحدة والآخر أن يكون الوقت واحدا والآخر أن يكون أراد المعنيين المختلفين لا تنظمهما فائدة واحدة فمتى انخرم شرط من هذه الشروط جاز أن يراد ولأجل اشتراط كون المتكلم واحدا نحو أن يتكلم الإنسان بالقرء ويريد به الحيض ويتكلم به آخر ويريد به الطهر ولأجل اشتراط الفائدتين جاز أن يريد الله عز و جل بقوله فلم تجدوا ماء فتيمموا الماء القراح والنبيذ لأنه يحمعهما فائدة واحدة عنده وهي المائية ولهذا الوجه لم يسم ماء ولأجل اشتراط الوقت جوز أن يتكلم الله سبحانه بالقرء فيريد به الطهر ويتكلم به في وقت آخر فيريد به الحيض ولأجل اشتراط كون ما يريده بالمعنيين المختلفين عبارة واحدة جوز أن يريد النبي صلى الله عليه و سلم الفخذ وبعض الركبة عند قوله الفخذ عورة لأنه إنما أراد الفخذ بهذه الكلمة وأراد بعض الركبة لما تعذر عند العقل من أن ستر الفخذ لا يمكن إلا بستر بعض الركبة وأن الشيء يجب إذا لم يتم الواجب إلا به وقال إن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكره تحريم الأشياء المقيسة على الستة بنصه على الستة بل أراد الستة بالنص وأراد ما يقاس عليها

بدليل القياس وقال الشيخ أبو علي وقاضي القضاة إن اللفظة الواحدة إذا كانت موضوعة لكل واحد من شيئين حقيقة أو لأحدهما حقيقة وللآخر مجازا ولم تفد فيهما فائدة واحدة فانه يجوز أن يريدهما المتكلم بها في حالة واحدة إلا أن يتنافى ذلك نحو استعمال لفظة افعل في الأمر بالشيء والتهديد عنه وذلك أن استعمالها في التهديد لا يكون إلا بكراهة ذلك الفعل واستعمالها في الأمر به لا يكون إلا بارادته وإرادة الشيء وكراهته تتضادان وكذلك لا يجوز استعمال اللفظة الواحدة في الاقتصار على الشيء ومجازته إلى غيره نحو استعمال قوله وايديكم إلى المرافق من الاقتصار على المرافق ومجاوزتها لأن ذلك إما أن يفيد إرادة مجاوزتها أو يفيد إرادة مجاوزتها وكراهته ونحو الخبر عن وجوب الشيء وكونه ندبا لأن الخبر عن وجوبه يفيد كراهة تركه والخبر عن كونه ندبا يفيد ترك هذه الكراهة من البارىء عز و جل وكذلك الخبر عن إباحته وعن كونه ندبا يدل أحدهما على إرادة الله سبحانه ويدل الآخر على نفي هذه الإرادة
وعندنا أن الاسم المشترك بين شيئين حقيقتين أو مجازين أو أحدهما حقيقة والآخر مجازا يجوز في الإمكان أن يراد به ولا يجوز في اللغة والدليل على إمكان ذلك أنه ليس بين إرادة اعتداد المرأة بالحيض وبين إرادة اعتدادها بالطهر ما يمنه من اجتماعهما لو لم يكن المريد بذلك متكلما باسم القرء فيجب أن لا يكون فيهما ما يمنع من اجتماعهما إذا تكلم المتكلم بهذا الاسم لأن الكلام لا يجعل ما ليس بممتنع ممتنعا إذا كان لا يكسب الإرادات وغيرها تنافيا ولا ما يجري مجراه وكذلك القول في استعمال لفظ النكاح في الوطء والعقد
واحتج الشيخ أبو عبد الله بأن الإنسان يجد من نفسه تعذر استعمال اللفظة في مجازها وحقيقتها معا قال وجرى ذلك مجرى تعظيم زيد والاستخفاف به في حالة واحدة والجواب أن ما ذكره من تعذر ذلك دعوى بل المعلوم من

أنفسنا صحة ذلك وإجراؤه ذلك مجرى تعظيم زيد والاستخفاف به دعوى أيضا على أن تعظيم زيد والاستخفاف به مفارقان لما نحن بسبيله لأنه يجيز أن يريد المتكلم الحقيقة والمجاز بخطابين في وقت واحد ولا يجيز أن يعظم عمرا ويستخف به بفعلين في وقت واحد وعلى أن الفرق بين الموضعين أن الاستخفاف ينبىء عن إيضاع حال الغير والتعظيم ينبىء عن ارتفاع حاله ومحال أن يكون الإنسان في حالة واحدة مرتفع الحال متضع الحال فيمتنع أن يحصل الداعي إليهما في حالة واحدة مع العلم بتنافيهما وليس كذلك إرادة الاعتداد بالأطهار وإرادة الاعتداد بالحيض
واحتج أيضا بأن المتكلم لو استعمل الكلمة الواحدة في حقيقتها ومجازها لكان قد أراد استعمالها فيما وضعت له وأراد العدول بها عما وضعت له وذلك يتنافى كما يستحيل إرادة الاقتصار على الشيء والمجاوزة عنه إلى غيره والجواب أن المتكلم إذا استعمل اسم النكاح في العقد وفي الوطىء فانه يكون قد أراد به الوطىء وأراد به العقد فان عنى بقوله إنه قد أراد المتكلم العدول بالكلمة عما وضعت له أنه أراد استعمالها في غير ما وضعت له كما أراد استعمالها فيما وضعت له فذلك صحيح وإن أراد بذلك أنه قد أراد أن لا يستعملها فيما وضعت له وهو المفهوم من كلامه فذلك لا نقول به فان قال يلزمكم أن تقولوا به قيل ومن اين يلزمنا إذا قلنا قد اراد معنى الحقيقة وأراد معنى المجاز أن يكون قد أراد أن يستعملها في الحقيقة وهل هذا إلا أنك ألزمتنا على قولنا قد أراد شيئين أنه لم يرد أحدهما
واحتجوا بأن المستعمل للكلمة فيما هي مجاز فيه لا بد أن يضمر فيها كاف التشبيه والمستعمل لها فيما هي حقيقة فيه فلا يضمر كاف التشبيه فيها ومحال أن يضمر الشيء ولا يضمره والجواب أن الإنسان إذا قال رأيت السباع وأراد به أنه رأى أسدا ورجالا شجعانا فانه لا يمتنع أن يضمر كاف التشبيه في بعضهم دون بعض لأن معنى إضمار كاف التشبيه هو أن يقصد بإسم

الأسد إلى ما هو كالأسد فأما الكلام في أنه لا يجوز من جهة اللغة أن يريد بالاسم الواحد المعنيين المختلفين فهو أن الاسم إما أن يكون مفردا أو مجموعا فان كان مفردا فالدلالة على أن اللغة يحظر أن يراد به كلا معنييه أن أهل اللغة وضعوا قولهم حمار للبهيمة المخصوصة وحدها ويجوزنه في البليد وحده ولم يستعملوه فيها معا ألا ترى أن الإنسان إذا قال رأيت حمارا لم يفهم منه أنه رأى البهيمة والبليد معا ولو قال رايت حمارين لم يعقل منه أنه رأى أربعة أشخاص بهيمتين وبليدين وكذلك قولنا قرء وضعوه للحيض وحده وللطهر وحده ولم يضعوه لهما لأنهم لو وضعوه لهما معا لكان المستعمل له في أحدهما متجوزا لأنه لم يستعمله على ما وضع له على التحقيق وكان يجب أن نفهم من قول القائل قرءان أربعة طهرين وحيضين ومن ثلاثة أقراء ستة والأمر بخلاف ذلك فصح أن المتكلم إذا قال للمرأة اعتدي بقرء لا يكون مريدا منها أن تعتد بالطهر والحيض معا وإنه إنما أراد أحدهما فلا يخلو إما أن يكون أراد منها أن تعتد إما بالطهر أو بالحيض بحسب اختيارها وإما أن يكون أراد الحيض فقط أو أراد الطهر فقط ويجري مجرى أن يقول لها قد أردت منك الاعتداد بالطهر وأردت منك الاعتداد بالحيض والأول باطل ثم لأن لفظه القرء لم توضع للطهر والحيض وإنما وضعت للطهر وحده وللحيض وحده ويفارق ذلك قول القائل لغيره اضرب رجلا لأنه إذا قال ذلك كان مريدا منه أن يضرب أي رجل شاء إما هذا وإما هذا لأن قولنا رجل لم يوضع لهذا الشخص وحده ولهذا وحده وإنما وضع لما اختص بمعنى الرجولية وهو معنى واحد شائع في كل شخص من أشخاص الرجال فكأنه قال اضرب شخصا ممن اختص بمعنى الرجولية ولو قال ذلك لدل على أنه قد أراد منه ضرب الرجال على البدل وليس كذلك اسم القرء لأنه ليس يفيد في الطهر والحيض فائدة واحدة فيكون دالا على أن المتكلم به قد أراد ما اختص بتلك الفائدة من الطهر والحيض فان قيل أيجوز أن يقول الرجل لغيره اضرب

رجلا وهو يريد ضرب رجل معين قيل لا يجوز ذلك إلا أن يدل عليه دليل ويكون قد عدل باللفظ إلى غير موضوعه في الأصل لأن قولنا رجل لم يوضع لرجل مخصوص دون غيره فإن قيل أليس يجوز أن يقول الرجل لغيره رأيت رجلا وإن كان قد اراد رجلا بعينه فكيف قلتم إن هذا الإسم لا يفيد شخصا معينا قيل هذا دليلنا على أنه لا يفيد شخصا معينا ألا ترى أنه إذا قال ذلك لم يفهم منه الرجل الذي رآه بعينه وإنما ساغ أن يقول رأيت رجلا وإن كان قد رأى رجلا بعينه لأن اسم الرجل يفيد ما يختص بالمعنى الذي يتميز به الرجل مما ليس برجل ومن رأى رجلا بعينه فقد رأى ما اختص بمعنى الرجولية وزيادة فصح أن يخبر عن ذلك المعنى بقوله رايت رجلا ولا يخبر عن الزيادة التي اختص بها ذلك الرجل بعينه فأما إذا قال المتكلم للمرأة لا تعتدي بقرء فانه يفيد أنه أراد أن لا تعتد بواحد معين إما أن يكون أراد الطهر وإما أن يكون أراد الحيض لأنه لو أراد مجموعهما كان قد أراد ما لم يوضع له اللفظ وإن أراد أن لا تعتد بما يقع عليه اسم قرء بما فيه معنى من معاني القرء فان ذلك ليس في ظاهر الكلام لأنه إنما علق الحكم بالقرء لا بما سمي قرء ولا بما فيه معنى من معاني القرء
فأما الاسم المشترك المجموع نحو قولنا أقراء فاما أن يكون قد علق عليه إثبات أو نفي فالإثبات نحو قول القائل للمرأة اعتدي بالأقراء وذلك يفيد أنه قد اراد منها إما ثلاث حيض أو ثلاثة أطهار أو أراد منها أن تعتد بثلاثة بعضها أطهار وبعضها حيض والدليل على ذلك أن جمع الاسم يفيد جمع مقتضاه وإذا كان قولنا قرء موضوعا للحيض وحده وللطهر وحده ويدل على أن المتكلم به إما أن يكون قد اراد الحيض أو أراد الطهر فيجب أن يكون قولنا أقراء يفيد أنه قد أراد إما جمعا من الحيض أو جمعا من الطهر أو جمعا منهما ويجري مجرى أن يقول اعتدى بقرء وبقرء وبقرء في أنه يجوز أن يكون أراد بالكل الحيض أو أراد بالكل الطهر أو أراد ببعضها الطهر وببعضها الحيض

ويفارق ذلك قول القائل لغيره اضرب رجالا في أنه يفيد ضرب أي ثلاثة من الرجال شاء من العرب أو من العجم أو منهما ولا يكون مريدا لثلاثة من العجم فقط أو ثلاثة من العرب فقط لأن قولنا رجال يفيد جمع فائدة قولنا رجل وقد قلنا إن قولنا اضرب رجلا يفيد أن المتكلم به أراد ضرب ما اختص بمعنى الرجولية أي رجل كان فيجب أن يكون جمعه يفيد جمعا من الأشخاص يختص كل واحد منها بمعنى الرجولية أي جمع من ذلك كان وليس كذلك الاقراء لما بيناه من قبل فان قيل أليس لو قال الرجل للمرأة اعتدي بما يسمى أقراء جاز أن تعتد بالحيض وجاز أن تعتد بالطهر قيل أجل ويفارق مسألتنا لأنه قد علق الاعتداد بما يسمى أقراء والطهر والحيض متفقان في فائدة وصفنا لهما بأنهما يسميان أقراء وغير مختلفين في ذلك فجرى مجرى قوله اضرب رجلا في أنه أمر بضرب ما اختص بمعنى الرجولية وليس كذلك قولنا اعتدى بالأقراء لأن معنى الأقراء في الطهر والحيض مختلف وكذلك لو أمكنت الإشارة إلى الطهر والحيض فقال للمرأة اعتدي من هذا بثلاثة لأن قوله من هذا واقع عليهما لا على سبيل الاشتراك ألا ترى أنه لا يفيد فيهما فائدتين مختلفتين وليس كذلك اسم القرء
فأما إذا علق على الاسم المشترك المجموع حكما منفيا نحو أن يقول القائل للمرأة لا تعتدي بالأقراء فانه يفيد أنه كره أن تعتد بجمع من الأقراء إما حيض كله وإما طهر كله أو بعضه طهر وبعضه حيض لأن ذلك يجري مجرى أن يقول لها لا تعتدي بقرء ولا بقرء ولا بقرء فكما أنه يجوز أن يعني بها أجمع الحيض ويجوز أن يعنى بها أجمع الطهر ويجوز أن يعنى ببعضه الحيض وببعضه الطهر على ما بيناه فكذلك جمعه في هذا القسم بعض الاشتباه وكذلك إذا قال لها لا تعتدي بقرء لأنه يجوز أن يقال إن ذلك يفيد نفي الاعتداد بالحيض والطهر معا والأول أشبه
واحتج المخالف بأشياء

منها أن سيبويه قال إن قول القائل لغيره الويل لك خبر ودعاء فجعله مفيدا لكلا الأمرين والجواب أنه ليس في وضع اللغة ذلك في كلا الأمرين ما يدل على أن اسم القرء موضوع للطهر والحيض معا وأيضا فليس ذلك دلالة على أنه مستعمل في كلا الأمرين معا بل لا يمتنع أن يكون هذا الكلام موضوعا للخبر مستعملا على سبيل المجاز في الدعاء ولم يقل سيبويه أن يجوز أن يستعمل فيهما
ومنها قولهم إن عمر رضي الله عنه قال إن قبلة الرجل امرأته تنقض الطهر وقال إن الجنب يلزمه التيمم وهذا يدل على أنه عقل من قول الله عز و جل أو لامستم النساء الوطىء والمباشرة باليد والجواب أن هذا لا يمتنع أن يكون علم وجوب التيمم على الجنب من السنة لا من الآية
ومنها أن قول الله عز و جل والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء قد أريد به الحيض والطهر لأن للمرأة تقليد من يرى الاعتداد بالأطهار وتقليد من يرى الاعتداد بالحيض وأي ذلك فعلت فقد أراده الله منها فإذن قد أرادهما الله سبحانه على البدل بشرط أن تختار أي المجتهدين شاءت وكذلك قد أراد منها الاعتداد بكل واحد منهما إذا كانت من أهل الاجتهاد بشرط أن يؤديها اجتهادها إلى هذا وإلى هذا والجواب أن الشيخ أبا هاشم رحمه الله يقول إن الله عز و جل تكلم بالآية مرتين فأراد مرة الطهر ممن يؤديه اجتهاده إلى ذلك أو تقليد من يرى ذلك واراد في الأخرى الاعتداد بالحيض ممن يؤديه اجتهاده إلى ذلك أو يختار تقليد من يرى ذلك وكره في كل واحد من الدفعتين ترك الاعتداد بكل واحد منهما وليس يجب إذا تكلم بها مرتين أن تثبت في المصحف مرتين على أنه لا يمتنع أن يريد كلا المعنيين في وقت واحد بعبارتين مثلين يفعلهما في مكانين على أنه لا يمتنع أن

يكون الله قد أراد به كلا الاثنين في دفعة واحدة ويكون قيام الدلالة على ذلك دلالة على الشريعة قد جاءت بنقل هذا الاسم إلى مجموع الأمرين كما ينقل الشرع الأسماء الشرعية إلى معان غير معانيها في اللغة فاذا صح أن الاسم المشترك لم يوضع لكلا معنييه لم يجب أن يريدهما المتكلم بذلك الاسم واحتاج إلى بيان إذ كان لا يدل على المراد ولا يجوز أن يقال تجرده عن دلالة يدل على أنه قد أريد به كلا المعنيين على البدل أو على الجمع لأن اللفظ إذا لم يكن موضوعا للجمع ولا للتخيير لم يجز تجرده عن قرينة وإنما يتجرد عن قرينة إذا كان موضوعا لأمر يكفي ظاهره في الدلالة عليه
باب فيما الحق بالمجمل وليس منه من ذلك التحليل والتحريم المتعلقين بالأعيان كقول الله سبحانه حرمت عليكم أمهاتكم ذكر الشيخ ابو الحسن رحمه الله وأبو عبد الله رحمه الله أن ذلك مجمل لا يصح التعلق بظاهره لأن التحريم متعلق بنفس الأمهات وليس ذلك في مقدورنا لو كان معدوما فكيف وهو موجود فلم يجز أن تحرم علينا ووجب أن يكون المراد به فعل من أفعالنا يتعلق بالأمهات وإذا لم يكن ذلك الفعل مذكورا في الآية لم يمكن أن يستدل بها على تحريم فعل دون فعل ولأن الآية لو اقتضت تحريم فعل معين لكان المراد بتعليق التحريم بالأعيان تحريم ذلك الفعل بعينه ولا يختلف ذلك الفعل بحسب اختلاف الأعيان وليس الأمر كذلك لأن المراد بقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم تحريم الاستمتاع والمراد بقوله تعالى حرمت عليكم الميتة تحريم الأكل فأحد الفعلين مخالف للآخر
وقال أبو علي وابو هاشم وقاضي القضاة رحمهم الله إن ذلك ليس

بمجمل بل هو ظاهر من جهة العرف في تحريم الاستمتاع بالأمهات وتحريم أكل الميتة لأن قوله حرمت عليكم أمهاتكم وإن كان التحريم فيه متعلقا بنفس الأمهات فانه يفيد بالعرف تحريم الاستمتاع لأنا عند سماع هذه اللفظة نفهم تحريم الاستمتاع وعند سماع قول القائل حرمت عليك طعامي وحرمت الميتة نفهم أكلها وهذه أمارة كون الاسم منتقلا بالعرف ألا ترى أنا لما فهمنا الخيل عند سماعنا اسم الدواب قلنا إنه يفيدها وحدها من جهة العرف وليس يمتنع أن يكون العرف قد نقل التحريم المتعلق بالأعيان فجعله حقيقة في تحريم أفعال مختلفة بحسب اختلاف الأسماء فيفهم بالعرف من قول القائل حرمت عليك فلانة الاستمتاع بها ويفهم من قوله حرمت عليك طعامي أكله
ومن ذلك قول العراقيين إن قول الله سبحانه فامسحوا برؤوسكم مجمل لأنه يحتمل مسح جميع الرأس ويحتمل مسح بعضه فاذا احتمل مسح كل واحد منهما بدلا من الآخر افتقر إلى بيان فاذا روي أن النبي صلى الله عليه و سلم مسح بناصيته كان ذلك بيانا للآية ووجب مسح ذلك المقدار من الرأس وذكر قاضي القضاة أن ظاهر الباء في اللغة للإلصاق وقوله وامسحوا برؤوسكم يفيد من جهة اللغة مسح جميع الرأس لأن الباء المفيدة للإلصاق دخلت على المسح وقرنته بالرأس والذي يسمى رأسا هو الجميع لا البعض لأنه لا توصف الناصية رأسا فكانت الآية إيجابا لمسح جميع الرأس من جهة اللغة قال والعرف قال مسحت يدي بالمنديل عقل منه أنه ألصق المسح بالمنديل ويجوز السامع أنه مسحه بجميعه ويجوز أنه مسحه ببعضه وكذلك إذا قال الإنسان الغيره امسح يدك بالمنديل فانه يعقل منه أنه قد أوجب عليه إلصاق يده بالمنديل إن شاء بجميعه وإن شاء

ببعضه وأيهما فعل سقط عنه الأمر وإذا أفادت هذه اللفظة في العرف ما ذكرناه حملت الآية عليه
ومن ذلك حرف النفي إذا دخل على الفعل متى لم يكن الفعل على صفة من الصفات وذلك ضربان أحدهما يمكن انتفاء الفعل متى لم تحصل تلك الصفة والآخر لا يمكن انتفاء ذلك الفعل فمثال الأول قول النبي صلى الله عليه و سلم لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فحرف النفي دخل على الصلاة الشرعية لأن كلام النبي صلى الله عليه و سلم يحمل على معانيه الشرعية فظاهره إذا يقتضي نفي الصلاة الشرعية مع انتفاء الفاتحة وذلك ممكن فوجب حمل الكلام عليه وذلك يقتضي كون قراءة الفاتحة شرطا ويقتضي أن يكون قولنا صلاة فاسدة مجازا أعني وصفنا لها بأنها صلاة ويكون المراد أنها على صورة الصلاة وكذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل وقوله لا نكاح إلا بولي وكان الشيخ أبو عبد الله يجعل هذه الألفاظ مجملة قال لأن المنفي موجود مع انتفاء الشرط فعلمنا أنه أراد نفي أحكامه وليس بعض الأحكام بأن يكون هو المنفي أولى من حكم آخر إذ اللفظ لا يتناول الأحكام على جهة العموم ولا على جهة الخصوص ولأنه يتناقض حمل ذلك على نفي الكمال ونفي الإجزاء لأن في ضمن نفي الكمال إثبات الإجزاء والذي ذكره إنما يصح لو لم يصح أن يكون المنفي هو الذي دخل عليه حرف النفي وقد بينا ذلك وأما مثال القسم الثاني فقول النبي صلى الله عليه و سلم الأعمال بالنيات أعظم متأول هذا الكلام أن يجري مجرى قوله لا عمل إلا بالنية ومعلوم أنه ليس يخرج العمل من كونه عملا إذا فقدت النية فعلمنا أن المراد به أحكام العمل من الإجزاء أو الكمال وليس بأن يحمل على أحدهما أولى من الآخر وليس لأحد أن يقول إن قوله الأعمال بالنيات يفيد في العرف نفي كونه عملا مجزئا إذا لم يكن نية لأنا لا نعقل ذلك من جهة العرف ألا ترى أنا قد حملنا كثيرا من هذا النفي على نفي الفضل والكمال وليس لأحد أن يقول المعقول في العرف من قول القائل لا عمل إلا بنية هو لا عمل مجزىء ولا كامل إلا بنية لأنه إذا لم يجزء لم

يكمل وذلك لأنه يكون قد عقل منه نفي الكمال تبعا لنفي الإجزاء فقد عاد الكلام إلى الأول وكذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان لأن الخطأ واقع منهم فاذا المرفوع هو أحكام الخطأ فاحتاج إلى بيان ذلك الحكم وقد علمنا أنه لم يرد الإثم لأنه لا مزية لأمته في ذلك على سائر الأمم
ومن ذلك قول بعضهم إن قول الله سبحانه فاقطعوا أيديهما مجمل لأنه يحتمل اليد من المنكب إذ جملتها تسمى يدا ويحتمل قطعها من الكوع لأنه يسمى هذا القدر يدا ويحتمل قطعها من المرفق لأن هذا يسمى يدا ويمكن أن يحتجوا لذلك ايضا بأنه قد يقال قطعت يد فلان ويراد بها إبانتها وقد يراد إيصال قطع بها وإن لم تنفصل من البدن كما يقال برى فلان القلم فقطع يده وإنما يعلم إبانة العضو إذا قيد القطع بالجملة فقيل قطعت يد فلان من جملته كما يقال قطعت الغصن من الشجرة
والجواب عن الأول أن اسم اليد يتناول الجملة إلى المنكب فيجب حمل اليد عليه لولا قيام الدلالة على خلافه فقبل قيام الدلالة على ذلك تكون الآية مجملة إذ قد أريد بها غير ظاهرها لأن اسم اليد لا يتناول الكف وحده حقيقة لأنه لا يقال قطعت يد فلان كلها وجميعها إذا قطع الكف فلو كان اسم الكف يتناول هذا المقدار وحده حقيقة لصح أن يقال ذلك لأن الكف كل وجميع ولو تناول الكف حقيقة وجميع اليد حقيقة لحمل على أقل ما يقع عليه الاسم كما أن قول القائل لغيره اضرب رجلا يفيد ضرب ما يقع عليه اسم رجل ولمفرق أن يفرق بينهما بأن معنى الرجولية قائم في كل شخص من الرجال فالاسم قد تناول جميعهم على البدل وليس كذلك قولنا يد لأنه لو تناول الكف وتناول من أطراف الأصابع إلى المفرق لكان قد أفاد في ذلك فوائد مختلفة ولكان اسما مشتركا

والجواب عن الثاني أن القطع هو الإبانة فاذا علق باليد أفاد إبانة ما يسمى يدا والشق إذاحصل في الجلد لم يكن المسماة يدا قد أبينت فلم يدخل تحت الظاهر وهذا يدلنا على أن قول القائل بريت القلم فقطعت يدي مجاز ويكون اقتران ذلك ببري القلم قرينة تدل على المجاز لأن العادة ما جريت بابانة عند بري القلم
باب فيما تكون للاحكام الشرعية اعلم أن بيانها يكون بكل ما يقع التبيين به وهو ضربان أحدهما يكون دلالة بالمواضعة والآخر لا بالمواضعة أما الأول فالكلام والعقد والكناية والبيان بالكلام فأكثر من أن يحصى وقد بين النبي صلى الله عليه و سلم بأن كتب إلى عماله في الصدقات وبين الله تعالى لملائكته بما كتبه في اللوح المحفوظ وأما الضرب الآخر فضربان أحدهما تتبعه المواضعة والآخر يتبع المواضعة فالأول هو الإشارة لأن المواضعة على الكلام إنما تكون بالإشارة وقد بين النبي صلى الله عليه و سلم بالإشارة حين قال الشهر هكذا وهكذا وأشار بيديه والثاني ضربان أحدهما أمارة القياس والآخر الأفعال وأما أمارة القياس فهي كيفية ثبوت الحكم من نحو ثبوته عند صفة ونفيه عن نفيها وهذا إنما يثبت بالخطاب وأما الأفعال فانها تتعلق بما هي بيان له بالقول نحو أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم هذا الفعل بيان لهذه الآية ويقول صلوا كما رأيتموني أصلي
وقال بعض الناس إن الأفعال لا تكون بيانا وليس يخلو إما أن يريد أنه لا يصح وقوع البيان بها أو أنه لا يحسن أن يبين بها المجمل من جهة الحكمة والأول ضربان أحدهما أن يقال إن الفعل لا يؤثر في وقوع الشيء أصلا والآخر أن يقال إنه لا يؤثر في ذلك إلا مع غيره نحو أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم هذا بيان لهذا الكلام أما إذا قيل لا يحسن أن يقع البيان بالأفعال فبأن

يقال إنه لا يقع عقيب الكلام المجمل فان وقع عقيبه فانه يطول وفي كلا الحالتين يتأخر البيان فان قالوا بالأول فقد أبطلوا لأن فعل النبي صلى الله عليه و سلم للصلاة وللحج أدل على صفتها من وصفه لها لما في المشاهدة للشيء من المزية على الخبر عن الشيء ولهذا بين النبي صلى الله عليه و سلم الحج بفعله وقال خذوا عني مناسككم وقال صلوا كما رأيتموني أصلي وبين أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم الوضوء بفعلهم وإن أرادوا أنه لا يقع به البيان إلا مع غيره نحو أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم إن هذا بيان للآية أو يضطر من قصده إلى ذلك أو يتلو كلاما مجملا ثم يفعل فعلا يجوز أن يكون بيانا له ولا تجد بيانا غيره فذلك مما لا خلاف فيه إلا أن البيان هو الفعل لأنه المتضمن لصفة الفعل دون القول المعلق للفعل بالمبين وإن أرادوا الوجه الثالث من أن ذلك يؤدي إلى تأخير البيان فباطل لأنه يمكن أن يتعقب الفعل القول كما يتعقبه القول والفعل وإن طال فالقول قد يكون طويلا أيضا فصح وقوع البيان بكل واحد منهما وأما المخالف فأنه يحتج بهذه الأقسام التي ذكرناها
باب في تقديم القول على الفعل في البيان اعلم أن هذا الباب يتضمن مسألتين إحداهما أن يقال إذا كان القول بيانا والفعل بيانا فأيهما أكشف والجواب أن الفعل أكشف لأنه ينبىء عن صفة المبين مشاهدة والقول إخبار عن صفته وليس الخبر كالعيان والأخرى أن يرد بعد الآية المجملة فعل وقول يحتمل أن يكون كل واحد منهما بيانا لها فيقال أيهما قصد به البيان والجواب أنه ليس يخلو إما أن يتنافى حكم البيانين أو لا يتنافى فان لم يتنافى فضربان أحدهما علم تقدم أحدهما على الآخر فيكون المتقدم هو الذي قصد به البيان المبتدأ لأن البيان لا يتأخر ويكون المتأخر تأكيدا للبيان والآخر لا يعلم تقدم أحدهما على الآخر

فيجوز في كل واحد منهما أن يكون هو المتقدم وهو الذي قصد به البيان ابتداء وإن يتنافى حكمهما فمثاله آية الحج وقوله صلى الله عليه و سلم من قرن حجا إلى عمرته فليطف لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا وروي أنه صلى الله عليه و سلم قرن فطاف طوافين وسعى سعيين فإن كان قوله هو البيان فالطواف الثاني غير واجب وإن كان فعله هو البيان فالطواف الثاني واجب فمتى علمنا تقدم أحدهما كان هو البيان لأن الخطاب المجمل إذا تعقبه ما يجوز أن يكون بيانا له كان بيان له فان لم يجز تأخير البيان فالأمر في كون ذلك بيانا أكشف وأظهر وإن لم نعلم تقدم أحدهما على الآخر جعلنا القول هو البيان لأنا لو جعلنا الفعل هو البيان لأوجبنا إثبات ما تعلقه بالمبين من قول النبي صلى الله عليه و سلم إن هذا بيان لهذا وإن لم يعلم ذلك باضطرار من قصده ولا يجوز إثبات ذلك إلا عن ضرورة ولا ضرورة إلى ذلك مع إثبات قول يمكن أن يكون بيانا وليس لأحد أن يقول جوزوا أن يكون الفعل هو الذي قصد به البيان وإن لم تقطعوا عليه لأنا لا نجوز ذلك إلا لضرورة ولا ضرورة وليس الغرض بما ذكرناه من المثال إلا التمثيل دون تصحيح مسألة الطوافين لأن النبي صلى الله عليه و سلم قد قال خذوا عني مناسككم فقد علق بهذا القول فعله على الآية
باب في أن البيان كالمبين هذا الباب يشتمل على شيئين أحدهما هل البيان كالمبين في القوة والآخر هل كالمبين في حكمه أم لا أما الأول فقال الشيخ أبو الحسن إن المبين إذا كان لفظا معلوما وجب كون بيانه مثله وإلا لم يقبل ولهذا لم يقبل خبر الأوساق مع قول النبي صلى الله عليه و سلم فيما سقت السماء العشر والصحيح أنه يجوز أن يكون البيان والمبين دليلين معلومين ويجوز أن يكونا أمارتين ويجوز أن يكون==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

وصف جنات النعيم والطريق الموصل اليها للشيخ عبد الله بن جار الله

وصف جنات النعيم والطريق الموصل اليها للشيخ عبد الله بن جار الله بن إبراهيم آل جار الله غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين بسم الله...