العاقية يا ربي والعتق في الدارين

اللَّهُمَّ عافني في جَسَدِي، وَعافني في سمعي وعافني في بَصَرِي، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنِّي، لا إِلهَ إِلَّا أنْتَ الحَلِيمُ الكَرِيمُ، سُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ العَظِيمِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ

اللهم! فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين !.

.

Translate

الاثنين، 24 أبريل 2023

ج2.فصل في ذكر نسبه المنيف إلى آدم -عليه الصلاة والسلام-، وانتقال نوره الشريف إلى آبائه الكرام




 ج2. 

فصل في ذكر نسبه المنيف إلى آدم -عليه

  الصلاة والسلام-، وانتقال نوره الشريف إلى آبائه الكرام&

قال محمد بن سعد في كتابه "الطبقات الكبرى":

أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء العجلي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل إذا أراد أن يبعث نبيا نظر إلى خير أهل الأرض قبيلة، فيبعث خيرها رجلا».

وبلغنا عن إبراهيم بن المنذر الحزامي الإمام رحمه الله أنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف ولد آدم حسبا وأفضلهم نسبا من قبل أبيه وأمه. انتهى.

فالنبي صلى الله عليه وسلم سيد العالمين وخير الخلائق أجمعين، هو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.


#6#

قال يعقوب بن سفيان في "التاريخ" حين ذكر النسب الشريف إلى "عدنان" وزاد: "ابن أدد"، فقال: سمعت أبا بشر زيد بن بشر الحضرمي يذكر هذا النسب عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود: محمد بن عبد الرحمن الأسدي –يتيم عروة بن الزبير وغيره.

قلت: وهكذا ساقه إلى عدنان: أبو عبد الله البخاري في باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم من "صحيحه"، وذكره كذلك في "تاريخه الصغير"، وذكره الجم الغفير، لا يختلفون فيه ولا يعرفون فيه خلافا.

قال الإمام أبو بكر البيهقي في كتابه "دلائل النبوة": وكان شيخنا أبو عبد الله الحافظ رحمه الله يقول: نسبة النبي صلى الله عليه وسلم صحيحة إلى "عدنان"، وما وراء "عدنان" فليس فيه شيء يعتمد عليه. انتهى.

وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبي: علمني أبي وأنا غلام نسب النبي صلى الله عليه وسلم: محمد الطيب المبارك [محمد] بن عبد الله، وساقه إلى "عدنان".

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل في كتاب "العلل": وجدت في كتاب أبي بخط يده قال: حدثنا محمد بن إدريس –يعني: الشافعي-


#7#

قال:النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وعبد المطلب شيبة، واسم هاشم: "عمرو بن عبد مناف"، واسم "عبد مناف": المغيرة بن قصي، واسم "قصي": زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر.

إلى هنا رواه أحمد عن الشافعي.

وإلى "عدنان" أجمع النسابون على صحته، واتفقوا على إيراده هكذا، وعليه إجماع الأمة.

قال محمد بن سعيد أبو بكر القاضي بعسقلان: حدثنا صالح بن علي النوفلي, حدثنا عبد الله بن محمد بن ربيعة قال: قال مالك بن أنس، عن الزهري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار، وما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في الخير منهما، حتى خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأمي، فأنا خيركم نسبا وخيركم أبا».


#8#

حدث به الحاكم أبو عبد الله الحافظ عن أبي علي الحسين بن علي الحافظ، عن محمد بن سعيد هذا.

وشيخ صالح: غير صالح، يقال: القدامي المصيصي، له أفراد عن مالك، هذا منها، والله أعلم، وقد ضعفه أبو أحمد بن عدي وغيره، ولم يذكره القدماء بجرح ولا تعديل.

وروى هذا الحديث أبو جعفر أحمد بن موسى بن سعيد إملاء سنة ست وتسعين ومائتين، حدثنا أبو جعفر محمد بن أبان القلانسي، حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن ربيعة القدامي، حدثنا مالك، عن الزهري، عن أنس وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجالا من كندة يزعمون أنهم منه أو أنه منهم، فقال: «إنما كان يقول ذلك العباس وأبو سفيان بن حرب إذا قدما المدينة ليأمنا» الحديث بنحوه.

وقال أبو جعفر محمد بن عبد الله بن طاهر الحسيني: حدثنا


#9#

أبو سليمان أحمد بن محمد المكي بالمدينة سنة تسع وتسعين ومائتين، حدثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ابن أبي ذئب، عمن لا يتهم، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن امرأة من بني هاشم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن زوجي قال: إنما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل سدرة نبتت في كباء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة جامعة»، فجلس على المنبر ، وإن وجهه ليكاد يتوقد توقدا من الغضب حتى رضي من الناس، ثم قال: «إن الله اختار العرب على الناس، واختار قريشا على العرب، واختارني على من أنا منه».

ثم قال: «أنا محمد بن عبد الله» حتى بلغ النضر بن كنانة ثم قال: «فمن قال غير هذا كذب».

وحدث به محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى" عن معن بن عيسى، حدثني ابن أبي ذئب، عمن لا يتهم، عن عمرو. فذكره مختصرا.

ووجدت بخط الحافظ الضياء أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي رحمه الله، فيما قرأه على الإمام أبي المظفر عبد الرحيم بن أبي سعد عبد الكريم بن محمد السمعاني بإجازته عن والده إن لم يكن سمعه منه، قال: أخبرنا محمد بن غانم، أخبرنا أبو القاسم الفضل بن عبد الواحد بن محمد بن قدامة الباجي في سنة تسع وستين، أخبرنا أبو طاهر الحسين بن علي بن سلمة الشاهد الهمذاني بها بقراءة عبد الرحمن بن منده وإفادته، أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن مت


#10#

الأسبجي بـ "صفد"، حدثنا الحسن بن صاحب الشاشي، حدثنا عمران بن موسى النصيبي، حدثنا أبي: موسى بن أيوب، حدثنا إسماعيل بن يحيى، عن سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أمية، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن عابر بن شالخ بن نبت بن إسماعيل بن إبراهيم بن آذر بن تارح بن ناحور بن شارغ بن فالغ بن غابر –وهو: هود النبي- بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن خنوخ –وهو: إدريس- بن أدد بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم» صلوات الله على الأنبياء.

قال الحداد –يعني: شيخ أبي سعد بن السمعاني وهو: أبو عبد الله محمد بن غانم بن أحمد بن محمد بن أحمد البيع الحداد الأصبهاني-: رواه الهيثم بن خالد، عن موسى بن أيوب.

وقال محمد بن سعد: أخبرنا هشام، أخبرني أبي، عن أبي


#11#

صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب لم يجاوز في نسبه معد بن عدنان بن أدد، ثم يمسك ويقول: «كذب النسابون»، قال الله عز وجل: {وقرونا بين ذلك كثيرا}.

قال ابن عباس: ولو شاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه لعلمه.

ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه انتسب إلى عدنان وقال: «كذب النسابون»، قال الله تعالى: {وقرونا بين ذلك كثيرا}.

ولا يصح إسناد هذا كالذي قبله، وفي كلام أبي القاسم السهيلي أنه صح، وأنى ذلك!

قال أبو عمر ابن عبد البر في كتابه "الإنباه على قبائل الرواة": وكان قوم من السلف –منهم: عبد الله بن مسعود، وعمرو بن ميمون الأودي، ومحمد بن كعب القرظي. إذا تلوا: {والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله} قالوا: كذب النسابون.


#12#

وجاء عن أبي الأسود يتيم عروة، عن عروة وغيره: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إنما نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدنان.

وقال ابن سعد في "الطبقات": حدثنا خالد بن خداش، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة أنه قال: ما وجدنا أحدا يعرف ما وراء "معد بن عدنان".

وروي عن عروة عن عائشة نحوه قالت: ما وجدنا أحدا يعلم ما وراء "معد بن عدنان" ولا "قحطان" إلا تخرصا.

وروي عن عمر وعكرمة وغيرهما نحوه.

وقال ابن سعد: أخبرنا خالد بن خداش، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن أبي الأسود، سمعت أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة يقول: ما وجدنا في علم عالم ولا شعر شاعر أحدا يعرف ما وراء "معد بن عدنان" بثبت.

وقال الطبراني في "معجمه الأوسط" حدثنا موسى بن جمهور، حدثنا دحيم، حدثنا عبد الله بن يزيد البكري، حدثنا محمد بن


#13#

إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: استقام نسب الناس إلى "معد بن عدنان".

لم يرو هذا الحديث عن يزيد بن رومان إلا محمد بن إسحاق، تفرد به عبد الله بن يزيد. قاله الطبراني.

$* وقد ورد أن من "نوح" إلى "آدم" عشرة آباء، ومن "إبراهيم" إلى "نوح" عشرة آباء$

قال آدم بن أبي إياس العسقلاني في كتاب "الثواب": حدثنا الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن أبي عبد الملك، عن أبي عائذ، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس، فجلست إليه، فقال: «يا أبا ذر، هل صليت؟»، فقلت: لا. قال: «قم فاركع ركعتين» وذكر الحديث.

وفيه: فقلت: يا رسول الله، من أول الأنبياء؟ فقال: «آدم». فقلت: يا رسول الله، وإنه لنبي؟ فقال: «نعم، مكلم، ثم نوح، وبينهما عشرة آباء، ثم إبراهيم، وبينهما عشرة آباء» الحديث.

"أبو عبد الملك" هذا اسمه: محمد بن أيوب، وقد تقدم مصرحا باسمه في رواية أبي الحسن أحمد بن عمير بن جوصا.

[ .. .. ] من طريق معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام، أنه سمع


#14#

أبا سلام، حدثني أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: أن رجلا قال: يا رسول الله، أنبي كان "آدم" قال: «نعم». قال: كم كان بينه وبين "نوح"؟ قال: «عشرة قرون»، قال: كم بين "نوح" و"إبراهيم"؟ قال: «عشرة قرون» الحديث.

وهو من أفراد "معاوية"، وسيأتي –إن شاء الله تعالى.

وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": حدثنا محمد بن عمر بن واقد، عن غير واحد من أهل العلم قالوا: كان بين "آدم" و"نوح" عليهما السلام عشرة قرون، القرن مائة سنة، وبين "نوح" و"إبراهيم" عشرة قرون القرن مائة سنة، وبين "إبراهيم" و"موسى" عليهما السلام عشرة قرون، والقرن مائة سنة.

ولا خلاف بين أهل النسب أن "عدنان" من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الله، من غير شك.

وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": ولم أر بينهم اختلافا أن "معدا" من ولد "قيدر بن إسماعيل"، وهذا الاختلاف في نسبته يدل على أنه لم يحفظ، وإنما أخذ ذلك من الكتاب وترجموه لهم، فاختلفوا فيه، ولو صح ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس به، فالأمر عندنا على الانتهاء إلى "معد بن عدنان" ثم الإمساك عما وراء ذلك إلى "إسماعيل بن إبراهيم" عليهما السلام.

وقال محمد بن عبدة بن سليمان النسابة في كتاب"النسب": ثم


#15#

أجمعوا –يعني: النسابين- على أن "عدنان" من ولد "إسماعيل بن إبراهيم" صلى الله عليهما وسلم.

وقال أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الإشبيلي في كتابه "الأوسط في الأحكام" حين ذكر النسب الشريف إلى "عدنان"، قال: إلى هنا انتهى النسب الصحيح، وما فوق "عدنان" فمختلف فيه، ولا خلاف بينهم أن "عدنان" من ولد "إسماعيل" الذبيح بن "إبراهيم" الخليل صلى الله عليه وسلم.

وجزم عبد الحق هنا: أن "إسماعيل" هو الذبيح، وقد اختلف في الذبيح من هو؟ فذهب طائفة إلى أنه "إسحاق"، وطائفة إلى أنه "إسماعيل".

قال أبو جعفر محمد بن جرير في تاريخه "سير العالم": واختلف السلف من علماء أمة نبينا صلى الله عليه وسلم في الذي أمر إبراهيم بذبحه من ابنيه، فقال بعضهم: هو "إسحاق بن إبراهيم"، وقال بعضهم : هو "إسماعيل بن إبراهيم"، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم كلا القولين، لو كان فيهما صحيح لم يعده إلى غيره، غير أن الدليل من القرآن على صحة الرواية التي رويت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هو "إسحاق"».


#16#

وذكر ابن قتيبة في "المعارف" أن على ذلك أكثر أهل العلم، قال: ووجدته في التوراة: الذبيح.

ثم روى من حديث سلم بن قتيبة، حدثنا مبارك، حدثنا الحسن، عن الأحنف، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: الذبيح "إسحاق".

وروي مثله عن ابن مسعود، وابن عباس في أحد قوليه، ومسروق، وكعب، و[ابن] أبي الهذيل، وغيرهم.

وقال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، حدثنا محمد بن مصفى، حدثنا بقية بن الوليد، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: من أكرم الناس؟ قال: «يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله».


#17#

وخرج أبو جعفر محمد بن جرير في "تاريخه" من حديث يحيى بن يمان، عن إسرائيل، عن ثوير، عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: الذبيح: "إسماعيل".

وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذبيح "إسماعيل".

وعلى هذا القول علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وممن قاله: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن سلام، وعبد الله بن عباس، وأبو الطفيل، وغيرهم.

وجاء عن: محمد بن كعب القرظي، والتيمي، ومجاهد، وأبي صالح، وسعيد بن المسيب، والحسن، وعبد الرحمن بن سابط، ويوسف بن مهران، وغيرهم.

وروينا في "فوائد الخلعي أبي الحسن علي بن الحسين القاضي": أخبرنا أبو محمد بن النحاس قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا أبو الحسن شعبة بن الفضل بن سعيد البغدادي قراءة عليه، حدثنا أحمد بن علي بن


#18#

مسلم الأبار، حدثنا إسماعيل بن عبيد بن [أبي] كريمة الحراني، حدثني عمرو بن عبد الرحيم الخطابي، حدثني عبيد الله بن محمد العتبي –من ولد عتبة بن أبي سفيان- [عن أبيه، حدثني عبد الله بن سعيد، عن الصنابحي قال: كنا عند معاوية بن أبي سفيان] رضي الله عنهما، فتذاكر القوم "إسماعيل" و"إسحاق" ابني إبراهيم –صلى الله عليهم وسلم، فقال بعض القوم: "إسماعيل" الذبيح، وقال بعضهم: بل "إسحاق"الذبيح.

فقال معاوية: سقطتم على الخبير، كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرابي عنده فقال: يا رسول الله، خلفت البلاد يابسا والمال عابسا، هلك العيال وضاع المال، فعد علينا مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكره عليه.


#19#

قال: فقلنا: يا أمير المؤمنين، من الذبيحان؟ قال: [إن] عبد المطلب لما أمر بحفر "زمزم" نذر لله عز وجل إن سهل أمرها أن ينحر بعض ولده، فأخرجهم، فأسهم بينهم، فخرج السهم على عبد الله، فأراد ذبحه، فمنعه أخواله بنو مخزوم، فقالوا: ارض ربك وافد ابنك. ففداه بمائة ناقة، وهو الذبيح، و"إسماعيل عليه السلام" الذبيح الثاني.

حدث به أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" عن إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة- به.

وقاسم بن ثابت في "الدلائل" عن أبي بكر أحمد بن مالك الشعيري، عن إسماعيل- به.

وخرجه أبو جعفر محمد بن جرير في "تاريخه" .


#20#

ويذكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا ابن الذبيحين» يعني: "إسماعيل" و"عبد الله".

وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح: أكان "إسحاق" أم "إسماعيل"؟ فقال: أين ذهب عقلك؟! متى كان "إسحاق" بمكة؟! وإنما كان بها "إسماعيل"، وهو الذي بنى البيت مع أبيه، والنحر "بمنى" لا شك فيه.

قال أبو الخطاب بن دحية رحمه الله في كتابه "التنوير": قال ابن السائب الكلبي والواقدي وأبو الفرج بن الجوزي والمؤرخ النسابة الحافظ أبو عبد الله محمد بن جرير الطبري: العجب ممن عزا إلى بعض الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم من ولد "إسحاق"، والصحابة –رضوان الله عليهم- أهل بيت الوحي، في أبياتهم نزل، وعن المختار صلى الله عليه وسلم أخذوا، وقد اتضح السند الصحيح أن إسماعيل عليه السلام كان رجلا عربيا، وولده، ولا خلاف بين أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم عربي، فثبت بذلك أنه من ولده، والقرآن الذي نزل عليه بلسان قومه، قال الله تعالى: {قرءانا عربيا غير ذي عوج}، وسائر الألسنة لا تخلو من التصحيف والاعوجاج إلا العربي، فإنه بين صحيح، وأكثر النقلة الثقات ذكروا أنه هو أفصح الألسنة بلا خلاف في ذلك، وأن الله تعالى يوم الفصل بين عباده يخاطب عباده به، وسائر الأمم في ذلك اليوم العظيم لسانهم عربي، واتضح أن إسحاق كان رجلا عبرانيا وولده، فحصل الفارق بينهما بهذا الدليل الواضح، فاكتف بهذا.


#21#

وهذا من تساهل ابن دحية في نقله. والله أعلم.

وقول ابن عباس الثاني: أن الذبيح هو "إسماعيل" روي عنه من طرق:

منها ما رواه أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا يحيى بن معين، حدثنا يحيى –أراه: ابن يمان- حدثنا سفيان، عن بيان، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: الذبيح "إسماعيل".

وهو عند ابن علية عن داود بن أبي هند، زعم أن الشعبي قال: قال ابن عباس في الآية: يعني {وفديناه}: هو "إسماعيل".

وقال ابن أبي خيثمة في "التاريخ": حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي عاصم الغنوي، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس قال: هو "إسماعيل". يعني: الذبيح.

حدثناه يحيى بن معين، حدثنا ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن أبي عاصم الغنوي، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس –مثله.

ورواه يحيى بن واضح، حدثنا أبو حمزة محمد بن ميمون


#22#

السكري، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: الذي أمر بذبحه إبراهيم: "إسماعيل" عليهما السلام.

ورواه هشيم، عن علي بن زيد، عن عمار مولى بني هاشم، أو عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: هو "إسماعيل". يعني: {وفديناه بذبح عظيم}.

وهو عند مبارك بن فضالة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران –من غير شك.

رواه ابن أبي خيثمة في "تاريخه"، عن موسى بن إسماعيل، عن مبارك بن فضالة.

ورواه ابن علية، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس.

وقال ابن وهب: أخبرني عمر بن قيس، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: المفدى: "إسماعيل"، وزعمت يهود أنه "إسحاق"، وكذبت اليهود.


#23#

وجاء عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: إن الذي أمر الله –عز ذكره- إبراهيم بذبحه من ابنيه: "إسماعيل"، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله في قصة الخبر عن إبراهيم وما أمر به من ذبح ابنه "إسماعيل"، وذلك: لأن الله –عز ذكره- يقول حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين}. يقول: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب}، يقول: بابن وابن ابن، فلم يكن يأمره بذبح إسحاق وله فيه من الله من الموعود ما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل.

خرجه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه" وقال عقب ذلك: حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، حدثني محمد بن إسحاق، عن بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم: أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة، إذ كان معه بالشام، فقال له عمر: إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديا، فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك –قال محمد بن كعب القرظي: وأنا عند عمر بن عبد العزيز-، فقال له عمر: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ قال: "إسماعيل"، والله يا أمير المؤمنين إن يهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله


#24#

فيه، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به، فهم يجحدون ذلك، ويزعمون أنه "إسحاق"؛ لأن "إسحاق" أبوهم.

وللإمام أبي بكر بن العربي رحمه الله في ذلك تأليف بديع حسن جمع فيه كلام الفريقين وحجج كل من الطائفتين، وجنح بظاهر الدليل وصحيح التأويل من غير تمريض ولا تعليل أن الذبيح ولا بد "إسماعيل" عليه السلام.

وقد سئل أبو سعيد الضرير عن الذبيح، فأنشأ يقول:

إن الذبيح -هديت- إسماعيل ... نطق الكتاب بذاك والتنزيل

شرف به خص الإله نبينا ... وأبانه التفسير والتأويل

وذكر أبو عبد الله محمد بن القيم في كتابه "الهدي" أن القول بأنه "إسحاق" باطل من أكثر من عشرين وجها، وحكى عن شيخه أبي العباس بن تيمية رحمه الله أنه سمعه يقول: هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم، فإن فيه: أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره –وفي لفظ: وحيده- ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن "إسماعيل" هو بكر أولاده، والذي غر أصحاب هذا القول أن في التوراة التي بأيديهم: "اذبح ابنك إسحاق".

قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم، لأنها تناقض قوله: "اذبح


#25#

بكرك" أو: "وحيدك"، ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، فأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويحتازوه دون العرب، ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله.

قال ابن القيم: ويدل عليه أن الله تعالى لما ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة الصافات، قال: {فلما أسلما وتله للجبين . وناديناه أن يا إبراهيم . قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين}.

ثم قال: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين}، فهذه بشارة من الله له، شكرا له على صبره على ما أمر به، وهذا ظاهر جدا في أن المبشر به غير الأول، بل هو كالنص فيه.

فإن قيل: فالبشارة الثانية وقعت على نبوته، أي: لما صبر الأب على ما أمر به وأسلم الولد لأمر الله جازاه على ذلك بأن أعطاه النبوة؟

قيل: البشارة وقعت على المجموع على ذاته ووجوده، وأنه يكون نبيا، ولهذا نصب {نبيا} على الحال المقدرة بعدها، أي: تقدير نبوته، فلا يمكن إخراج البشارة أن تقع على الأصل، ثم تخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضل.

هذا محال من الكلام، بل إذا وقعت البشارة على نبوته فوقوعها على وجوده أولى وأحرى.

وأيضا؛ فلا ريب أن الذبح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعي بين الصفا والمروة بها ورمي الجمار تذكرا بشأن "إسماعيل" وأمه، وإقامة الذكر لله.


#26#

ومعلوم أن "إسماعيل" وأمه هما اللذان كانا بمكة دون "إسحاق" وأمه.

وهذا أفضل مكان الذبح وزمانه، فالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه "إبراهيم" و"إسماعيل" عليهما السلام، فكان النحر بمكة من تمام حج البيت الذي كان على يد "إبراهيم" وابنه "إسماعيل" زمانا ومكانا.

ولو كان الذبح بالشام كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقي عنهم لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة.

وأيضا؛ فإن الله تعالى أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالد ممن بعدهم، وإبراهيم لما سأل ربه الولد ووهبه له تعلقت له شعبة من قلبه بمحبته، والله تعالى قد اتخذه خليلا، والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها، فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد جاءت غيرة الخلة تنزعها من قلب الخليل، فأمر بذبح المحبوب، فلما أقدم على ذبحه وكانت محبة الله عنده أعظم من محبة الولد خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة، فلم يبق في الذبح مصلحة، إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس، فقد حصل المقصود، فنسخ الأمر وفدي الذبيح، وصدق الخليل الرؤيا، وحصل مراد الرب تعالى.

ومعلوم أن هذا الامتحان والاختبار إنما حصل عند أول مولود، ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول، بل لم تحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة ما يقتضي الأمر بذبحه، وهذا في غاية الظهور.

انتهى قوله.


#27#

وذكر ابن قتيبة في "المعارف" أن في التوراة: أن "هاجر" ولدت "إسماعيل" وإبراهيم ابن ست وثمانين سنة، وولدت "سارة" "إسحاق" وإبراهيم ابن مائة سنة.

و"إسماعيل" تفسيره: مطيع الله. ذكره السهيلي.

وقال محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا يحيى بن إسحاق أبو زكريا السيلحيني ومحمد بن معاوية النيسابوري، قالا: حدثنا ابن لهيعة، عن ابن أنعم، قال: أخبرني بكر بن سويد، أنه


#28#

سمع علي بن رباح اللخمي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام».

وقال أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه": أخبرنا الزبير بن بكار، أخبرنا إبراهيم بن المنذر، حدثني عبد العزيز بن عمران، حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أول من نطق بالعربية فوضع الكتاب على لفظه ومنطقه ثم جعله كتابا واحدا مثل: "بسم الله الرحمن الرحيم" الموصول، حتى فرق بينه ولده إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليهما وسلم.

وقال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنيه إسماعيل بن أبي أويس، عن أبيه، عن أبي [الجارود] ربيع الغطفاني، عن عقبة بن المغيرة


#29#

الأشعري قال: سألت محمد بن علي بن حسين قلت: يا أبا جعفر، من أول من تكلم بالعربية؟ قال: إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وهو يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة. قال: قلت: فما كان كلام الناس قبل ذلك؟ قال: العبرانية.

وهذا، والذي قبله مشكل؛ لأنه ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن "إسماعيل" عليه السلام تعلم العربية من جرهم، وأنفسهم وأعجبهم.

وقال محمد بن السائب الكلبي: لم يتكلم "إسماعيل" بالعربية، ولم يستحل خلاف أبيه، وأول من تكلم بالعربية من ولده: بنو رعلة بنت يشجب بن يعرب بن لوذان بن جرهم بن عامر بن سبأ.

وروى أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد [بن] الأعرابي من حديث عبد الرحمن بن [مغيث، عن] كعب الأحبار قال: أول


#30#

من وضع الكتاب العربي والسرياني والحضوري والكتب كلها آدم صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث مائة سنة، كتبها في الطين ثم طبخه، فلما أصاب الأرض الغرق أصاب كل قوم كتابهم فكتبوه، فكان إسماعيل بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أصاب كتاب العرب.

وقال ابن سعد في كتابه "الطبقات الكبرى": أخبرنا موسى بن داود، حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن يحيى بن عبد الله قال: بلغني أن إسماعيل –عليه الصلاة والسلام- اختتن وهو ابن ثلاث عشرة سنة.

وذكر أبو جعفر محمد بن جرير في "تاريخه" وابن قتيبة في "معارفه" واللفظ له: أن إسماعيل عليه السلام عاش مائة وسبعا وثلاثين سنة، ودفن في الحجر، وفيه أمه هاجر.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا خالد بن خداش بن عجلان، حدثنا عبد الله بن وهب المصري، حدثني حرملة بن عمران، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة أنه قال: ما يعلم قبر نبي من الأنبياء إلا ثلاثة: قبر إسماعيل عليه السلام، فإنه تحت الميزاب بين الركن والبيت، وقبر هود عليه السلام، فإنه في حقف تحت جبل من جبال اليمن،


#31#

عليه شجرة تندى، وموضعه أشد الأرض حرا، وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه قبورهم بحق.

وقال أبو الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة": حدثني جدي، عن عبد الرحيم بن مسلمة المخزومي، حدثني ابن المبارك بن حسان قال: رأيت عمر بن عبد العزيز في الحجر، فسمعته يقول: شكا إسماعيل عليه السلام إلى ربه عز وجل حر مكة، فأوحى الله عز وجل إليه: أني أفتح لك بابا من الجنة يجري عليك منه الروح إلى يوم القيامة، وفي ذلك الموضع توفي.

قال خالد: فيرون أن ذلك الموضع ما بين الميزاب إلى باب الحجر الغربي.

$*و"إبراهيم" عليه السلام من ولد أرفخشد بن سام بن نوح:$

قال محمد بن عبدة بن سليمان النسابة في كتاب "النسب" له: أجمع النسابون العدنانية والقحطانية والأعاجم على أن إبراهيم خليل الرحمن من ولد عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح.

وكذا نقل غيره الإجماع على ذلك.

وزاد أبو جعفر بن جرير في "تاريخه" في نسب إبراهيم عليه السلام بين "شالخ" و"أرفخشد": "قينان".


#32#

وذكر هذا عن ابن إسحاق أنه قال: وترك "أرفخشد بن سام" ابنه "قينان"، ولا ذكر له في التوراة، وهو الذي قيل: إنه لم يستحق أن يذكر في الكتب المنزلة؛ لأنه كان ساحرا، وسمى نفسه إلها، فسيقت المواليد في التوراة على أرفخشد بن سام بن نوح، ثم على "شالخ بن قينان بن أرفخشد" من غير أن يذكر قينان في نسب لما ذكر من ذلك. انتهى.

$* وقد اختلفوا فيما بين "عدنان" و"إسماعيل" من الآباء:$

فذكرت طائفة أن بينهما سبعة آباء.

وعن طائفة: تسعة.

وأخرى: خمسة عشر أبا.

وذكر أبو بشر الدولابي بين عدنان وإبراهيم أربعة آباء.

قال أبو القاسم السهيلي: والمدة بين عدنان وإبراهيم طويلة، ويستحيل في العادة أن يكون بينهما أربعة آباء أو سبعة كما خرجه ابن إسحاق، أو عشرة، فإن المدة أطول من ذلك كله، وذلك أن معد بن عدنان كان في مدة بخت نصر ابن اثنتي عشرة سنة.

ثم ذكر السهيلي ما ذكره أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: أن الله


#33#

تعالى أوحى إلى "أرميا بن حلقيا" أن اذهب إلى بخت نصر فأعلمه أني قد سلطته على العرب، واحمل معدا كي لا تصيبه النقمة فيهم، وأني مستخرج من صلبه نبيا أختم به الرسل، فاحتمل معدا إلى أرض الشام، فنشأ مع بني إسرائيل وتزوج هناك امرأة معانة، ويقال: ناعمة.

وقال الزبير بن بكار: بنت جوشن.

وذكر ابن جرير أيضا نسب [النبي صلى الله عليه وسلم] عدنان إلى إسماعيل، فذكر في أكثرها نحوا من أربعين أبا باختلاف في الألفاظ؛ لأنها نقلت من كتب اليهود، فوقع فيها التخليط.

قال محمد بن عبدة بن سليمان النسابة: وأما الذين جعلوا بين "عدنان" و"إسماعيل" أربعين أبا، فإنهم استخرجوا ذلك من كتاب رخيا، وهو: "يورخ بن ناريا" كاتب أرميا النبي عليه السلام، وكانا قد حملا معد بن عدنان من جزيرة العرب ليالي بخت نصر، فأثبت "رخيا" في كتبه نسبة عدنان، وهو معروف عند أحبار العرب وعلمائهم مثبت


#34#

في أسفارهم، وقد وجدنا طائفة من علماء العرب تحفظ لـ "معد" أربعين أبا بالعربية إلى إسماعيل عليه السلام، وتحتج في أسمائهم بالشعر من شعر أمية بن أبي الصلت وغيره من علماء الشعراء بأمر الجاهلية ومطالعة الكتب، انتهى.

وسيأتي –إن شاء الله تعالى- عن هشام بن الكلبي، عن رجل من أهل "تدمر" نحو ذلك.

وحدث ابن سعد عن هشام بن الكلبي قال: قال أبي: وبين "معد" و"إسماعيل" نيف وثلاثون أبا. وكان لا يسميهم ولا ينفذهم.

وجميع من ذكر نسب معد إلى إبراهيم قالوا: معد بن عدنان بن أدد، غير أبي مسهر عبد الأعلى بن مسهر الدمشقي وجماعة فقالوا: عدنان بن أد بن أدد، وكذلك قاله الشريف أبو علي محمد بن أسعد بن علي بن معمر الحسيني الجواني النسابة.

وقال ابن قتيبة في "المعارف": وقال بعضهم: هو عدنان بن ميدع بن ميتع بن أدد بن كعب بن يشجب بن يعرب بن الهميسع بن قيذر بن إسماعيل.


#35#

وقال البخاري في "تاريخه الصغير": حدثنا عبيد بن يعيش، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق أنه قال: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وذكر نسبه إلى عدنان كما مر، ثم قال: "ابن أدد بن المقوم بن ناحور بن تارح بن يعرب بن يشجب بن ثابت بن إسماعيل بن إبراهيم بن آزر".

ورواه أبو عمر أحمد بن عبد الجبار العطاردي، عن يونس في المغازي.

وزاد بعضهم بين أدد ومقوم: يحثوم.

وقال ابن إسحاق: وبعضهم يقول: عدنان بن أدد بن أنيحب بن أيوب بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم.

وذكر إسماعيل بن أبي أويس نسب شيخه "محمد بن طلحة بن عبد الرحمن التيمي القرشي" إلى "عدنان" ثم قال: ابن أدد بن الهميسع بن ثابت بن إسماعيل بن إبراهيم النبي عليهما السلام.

ذكره البخاري في "تاريخه الكبير" عن ابن أبي أويس فيما قاله له.

وحدث يعقوب بن سفيان في "تاريخه" عن إبراهيم بن المنذر قال: قال عبد العزيز –يعني: ابن عمران-: وحدثني موسى بن يعقوب الزمعي من بني أسد بن عبد العزى، أخبرني عمي أبو الحويرث، عن أبيه، عن أم


#36#

سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "معد بن عدنان بن أدد بن زند بن يرى بن أعراق الثرى" قالت أم سلمة: فـ"معد": معد، و"عدنان": عدنان، و"أدد": أدد، و"زند"، هميسع ، و"يرى": نبت، و"إسماعيل بن إبراهيم": أعراق الثرى.

وذكر أبو القاسم السهيلي هذا [عن] أم سلمة مرفوعا بمعناه، وذكر أنه أصح شيء روي، وفيه نظر؛ لأن "موسى بن يعقوب" ضعفه ابن المديني والنسائي، ووثقه ابن معين، وقال أبو داود: صالح، وقال ابن عدي: لا بأس به وبرواياته.

واسم عمه أبو الحويرث: عبد الرحمن بن معاوية بن الحويرث الزرقي الأنصاري المديني.


#37#

قال ابن معين وغيره: لا يحتج به. وقال مالك: ليس بثقة.

ولو قال السهيلي بدل قوله: أصح شيء روي: أشبه شيء أو نحوه كان أسلم له.

هذا، وقد قدمنا عنه آنفا فيما ذكر: أنه يستحيل أن يكون بين عدنان وإبراهيم أربعة آباء أو سبعة أو عشرة أو عشرون، فإن المدة أطول من ذلك كله.

وقد عبر بنحو ما قلناه أبو عمر بن عبد البر في كتابه "الإنباه على القبائل الرواه" حين ذكر الحديث من رواية موسى بن يعقوب بن عبد الله بن وهب بن زمعة الزمعي، عن عمه، عن أم سلمة قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: معد بن عدنان بن أدد بن زند بن يرى بن أعراق الثرى. قالت أم سلمة: وزند هو: الهميسع، و"يرى" هو: نبت، و"أعراق الثرى" هو: إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم.

قال أبو عمر: فهذا أرفع ما روي في ذلك، وأولى ما قيل به. والله أعلم.

فهذه العبارة أسلم من عبارة السهيلي. والله أعلم.


#38#

ورواية موسى بن يعقوب: حدث بها أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" عن الزبير بن بكار، عن يحيى بن المقداد الزمعي، عن عمه: موسى بن يعقوب الزمعي كذلك.

ورواه النضر بن سلمة، حدثنا محمد بن الحسن المخزومي، حدثني موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة، عن عمه: أبي الحارث، عن أبيه، سمعت أم سلمة. فذكره بنحوه.

ورواه خالد بن مخلد القطواني، حدثنا موسى بن يعقوب، عن عمه الحارث بن عبد الله بن زمعة، عن أبيه، عن أم سلمة.

أخبرنا المشايخ: أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن الشيخ أبي بكر بن قوام البالسي، وأم أحمد فاطمة بنت الشيخ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن المنجا التنوخية، وأم عبد الله عائشة بنت محمد بن عبد الهادي بقراءتي على الأولين بدار الحديث الشقيشقية بدمشق، وقراءة على الأخيرة بمنزلها في صالحية دمشق وأنا أسمع.


#39#

قال الأول وعائشة: أخبرنا الملك أبو محمد عبد القادر بن المغيث عبد العزيز بن المعظم عيسى قراءة عليه ونحن نسمع.

وقالت التنوخية: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الزراد إجازة، قالا: أخبرنا محمد بن إسماعيل الخطيب سماعا، أخبرنا هبة الله بن يحيى بن علي ح.

وقالت أم أحمد التنوخية أيضا: وأنبأنا القاضي أبو الفضل سليمان بن حمزة وأبو زكريا يحيى بن محمد بن سعد المقدسيان، وأبو محمد القاسم بن المظفر الدمشقي، قالوا: أنبأنا أبو صادق الحسن بن يحيى بن محمد المخزومي.

قال هو وهبة الله بن يحيى: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن رفاعة السعدي.

قال هبة الله: سماعا. وقال الآخر: إجازة.

أخبرنا القاضي أبو الحسن علي بن الحسن الخلعي سماعا، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن النحاس البزار. ح.

وقال ابن قوام والتنوخية أيضا: أنبأنا أبو العباس أحمد بن أبي طالب البناني.

زادت أم أحمد التنوخية فقالت: وأنبأنا القاضي سليمان، وابن سعد، وابن المظفر الدمشقي، المذكورون، وأبو بكر بن أحمد بن عبد الدائم وعيسى بن عبد الرحمن المطعم.


#40#

قالوا ستتهم: أنبأنا أبو الفضل جعفر بن علي الهمداني.

زاد القاضي وابن سعد فقالا: وأنبأنا أيضا أبو محمد عبد الوهاب بن طاهر الأزدي.

وقال القاضي وابن المظفر الدمشقي أيضا: وأنبأنا أبو القاسم عبد الله بن الحسين بن رواحة.

قالوا ثلاثتهم: أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد الحافظ سماعا، أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد فاتك الأيلي بمصر، حدثنا أبو محمد عبد الله بن الوليد بن سعد بن بكر الأنصاري، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد اللماي قراءة عليه بالقيروان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.

قال هو وابن النحاس: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن الورد بن زنجويه البغدادي، حدثنا أبو سعيد عبد الرحيم بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي، حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام قال:

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "محمد بن عبد الله بن عبد المطلب".

واسم "عبد المطلب": "شيبة بن هاشم".

واسم "هاشم": عمرو بن عبد مناف.

واسم "عبد مناف": المغيرة بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهد بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة.

واسم مدركة: عامر بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل ابن إبراهيم خليل الرحمن بن تارح، وهو: آزر بن ناحور بن ساروح بن


#41#

راعو بن فالخ بن عيبر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ –وهو: إدريس النبي فيما يزعمون، وهو أول بني آدم أعطي النبوة وخط بالقلم- بن يرد بن مهليل بن قينن بن يانش بن شيث بن آدم عليه السلام.

قال ابن البرقي: حدثني أبي، حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام، قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي بهذا الذي ذكرت من نسب محمد صلى الله عليه وسلم، وما فيه من حديث إدريس وغيره.

قلت: وذكر الذهبي في "تاريخ الإسلام" أن سياق هذا النسب هو الذي عليه أئمة هذا الشأن.

قلت: وذكر أبو القاسم الحسين بن علي بن الحسين بن علي الوزير: أن إجماع أهل النسب على تقديم "يشجب" على "يعرب" قال: وهذا إغراب تفرد به ابن إسحاق في تقديم "يعرب" يعني: على "يشجب".

وهكذا حدث بهذا النسب أبو عمر أحمد بن عبد الجبار العطاردي، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق في "المغازي" إلا أنه قال: ابن أخنوخ بن يرد بن مهلائل بن قمعان بن قوش بن شيث بن آدم عليه السلام.

ورواه عبيد بن يعيش، عن يونس بن بكير، بخلاف في بعض الأسماء، اختلف على "ابن إسحاق" في ذلك.


#42#

وقد وجدت النسب الشريف بخط العز النسابة محمد بن أحمد بن محمد بن عساكر، وذكر أنه نقله. يعني: من نسخة خلف بن عبد الله بن هبة الله بن حريز السعدي المصري في سنة ثمان عشرة وست مائة، وذكر خلف أنه نقلها في سنة ثمان وثلاثين وخمس مائة شكلا ومعنى، ومن حواشي نسخة الوزير أبي القاسم الحسين بن علي بن الحسين بن علي المعري في سنة سبع وتسعين وثلاث مائة، وهو النسب على لفظ التوراة على ما أخذناه من العلماء بها:

إبراهيم خليل الرحمن بن تارح بن ناحور بن سروغ بن بالغ –بإمالة "الباء" إلى الكسر، وهي مع ذلك بين الباء والفاء- بن عابر بن شالح بن أربخشد

-و"الباء" في "أربخشد" بين الباء والفاء- بن شام –بإمالة الشين- بن نوح بن لامخ بن متوشلخ –بإمالة الشين- بن خنوخ بن يازد بن ماهللأل –بوزن: ما على الأل، ولكن الهمزة فيه ممالة إلى الكسرة- بن قينان بإمالة النون إلى الكسر- بن أنوش بن شاث –بإمالة الشين إلى الكسر- بن آدم عليه السلام.

[قال أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه": وأخبرنا مصعب ابن عبد الله قال: وقال بعضهم: معد بن عدنان بن أدد بن أمين بن ساحب بن ثعلبة بن عتر بن يربح بن محلم بن العوام بن المجتمل بن زائمة بن العقان بن علة بن سحدود بن الضريب بن عبقر بن إبراهيم بن إسماعيل بن رزن بن أعوج بن المطعم بن الطمح بن القسور بن عبور ابن رعدع بن محمود بن الزائد بن ندوان بن أبامه بن دوس بن حصن بن


#43#

النزال بن القمير بن المحشر بن معذر بن صيفي بن نبت بن قيذر بن إسماعيل ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله (صلى الله عليهما وسلم).

[قال]: وأخبرنا مصعب بن عبد الله قال: وأجمع أهل النسب لا اختلاف بينهم: أن إبراهيم بن آزر بن الناحر بن الشارع بن الراع بن القاسم –الذي قسم الأرض بين أهلها- بن يعبر بن السائح بن الرافد بن السائم –وهو: سام بن نوح- نبي الله- بن ملكان بن مثوب بن إدريس- نبي الله- بن الزائد بن مهلهل بن قيان بن الطاهر هبة الله بن شيث بن آدم أبو البشر عليه السلام غير أنهم يحرفون الأسماء ويأتون بالعدد سواء.

[قلت]: [1] وهكذا ساقه الزبير بن بكار وقال: اختلفوا في الأسماء وحروفها .

[قلت][2]: ومن الغريب في ذلك: ما قال محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى": قال هشام: أخبرني مخبر عن أبي، ولم أسمعه منه: أنه كان ينسب معد بن عدنان بن أدد بن الهميسع بن سلامان بن عوص بن بور بن قموال بن أبي بن العوام بن ناشد بن حزا بن بلداس بن تدلاف بن طابخ بن جاحم بن ناحش بن ماخى بن عيقى بن عبقر بن عبيد بن الدعاء بن حمدان بن سنين بن شربي بن محزر بن يلحن بن أرعوى بن عيفى بن ديشان بن عيصر بن أقناد بن أبهام بن مقصى بن ناحث بن زارح بن شمي بن مري بن عوص بن عرام بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.


#44#

وقال ابن سعد: أخبرنا هشام بن محمد قال: وكان رجل من أهل "تدمر" يكنى أبا يعقوب من مسلمة بني إسرائيل قد قرأ من كتبهم وعلم علما، فذكر أن يورخ بن ناريا مكاتب أرميا –أثبت نسب معد بن عدنان عنده، ووضعه في كتبه، وأنه معروف عند أحبار أهل الكتاب وعلمائهم، مثبت في أسفارهم، وهو مقارب لهذه الأسماء، ولعل خلاف ما بينهما من قبل اللغة؛ لأن هذه الأسماء ترجمت من العبرانية.

وقد وجدت النسب الشريف متصلا إلى آدم عليه السلام بخط أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي رحمه الله في كتابه "منتخل المنتخب في الوعظ" مقيدا بخطه فذكر بعد عدنان بن أد بن أدد بن زيد بن يقرر بن قوم بن الهميسع بن نبت بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم بن تارح بن ناحور بن ساروع بن أرعو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لمك بن متوسلخ بن أخنوخ بن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام.


#45#

ثم قال ابن الجوزي: هكذا ضبط هذه الأسماء بعض المحققين من العلماء.

وقال ابن الجوزي أيضا في كتابه "تلقيح فهوم أهل الأثر"، وهو من أجل مصنفاته، صنفه في حياة شيخه أبي الفضل بن ناصر، قال فيه:

ومن أثبت ما رأيت في ذلك ما نقلته من خط أبي محمد بن السمرقندي الحافظ قال: نقلت من خط علي بن عبيد الكوفي –وهو صاحب ثعلب: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب.

وذكر نسبه صلى الله عليه وسلم إلى "عدنان"، ثم ذكر نسب "عدنان" إلى آدم عليه السلام كما سقناه آنفا عن خطه في كتابه "المنتخل".

وذكر النسابة أبو علي محمد بن أسعد بن علي الجواني بن "عدنان": بن أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيذار ابن الذبيح إسماعيل ابن الخليل إبراهيم بن تارح –وهو: آزر- بن ناحور بن ساروع بن أرغو بن فالخ بن عابر –وهو: هود النبي عليه السلام- جماع قيس ويمن –بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ –وهو: إدريس النبي عليه السلام بن يارد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث وهو: هبة الله بن آدم أبي محمد- عليهما أفضل الصلاة والسلام.

حكاه الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، فيما أنبأنا عنه أبو عبد الله بن محمد بن عوض وغيره، عن أبي علي


#46#

الجواني. وقال: قال: وهذه أصح الطرق وأوضحها وأحسنها، وهي رواية شيوخنا في النسب.

وذكر عنها أبو الفتح بن سيد الناس في كتابه "عيون الأثر" فيما أنبأنا عنه غير واحد: أن هذا النسب بهذا السياق سوى تفسير "عابر" بـ "هود" هو الذي رجحه بعض النسابين.

قال أبو القاسم السهيلي: إدريس عليه السلام قد قيل: إنه "إلياس"، وإنه ليس بجد لنوح عليه السلام، ولا هو في عمود هذا النسب، وكذلك سمعت شيخنا الحافظ أبا بكر رحمه الله ويستشهد بحديث الإسراء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كلما لقي نبيا من الأنبياء عليهم السلام الذين لقيهم ليلة الإسراء قال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح، وقال له آدم: "مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح"، وكذا قال له إبراهيم عليه السلام، وقال له إدريس: والأخ الصالح، فلو كان في عمود نسبه لقال له كما قال أبوه إبراهيم وأبوه آدم، ولخاطبه بالبنوة لا بالأخوة.

قال: وهذا القول عندي أقبل، والنفس إليه أميل؛ لما عضده من هذا الدليل، انتهى.


#47#

والذي قاله شيخ السهيلي الحافظ أبو بكر بن العربي –رحمه [الله]- واستشهد به ذكره في كتابه "أحكام القرآن" قال فيه: نوح أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات، وسائر الفرائض.

ثم قال: ومن قال إن إدريس كان قبله من المؤرخين، فقد وهم، والدليل على صحة وهمه في اتباعه صحف اليهود وكتب الإسرائيليات: الحديث الصحيح في الإسراء حين لقي النبي صلى الله عليه وسلم آدم و"إدريس" فقال له آدم: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح، وقال إدريس: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح، ولو كان إدريس أبا لـ "نوح" عن صلب "محمد" لقال له: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح، فلما قال له: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح دل على أنه يجتمع معه في أبيهم نوح عليه السلام.

وما قاله السهيلي وابن العربي –رحمهما الله- ليس لهما عليه دليل يسلم من الاعتراض، والله أعلم.

وغالب النسابين فسروا أخنوخ أنه "إدريس".

وقال ابن قتيبة في "المعارف": وولد لـ ليارد: حنوح وهو إدريس، ثم قال: وولد لـ إدريس: متوشالخ على ثلاثمائة سنة من عمره، وولد لـ متوشالخ: لمك، وولد لـ لمك غلام فسماه: "نوحا".


#48#

هكذا حكى أبو جعفر بن جرير في "تاريخه" بمعناه مطولا عن ابن إسحاق وغيره.

وتقدم ما ساقه النسابة أبو علي الجواني، وصححه الحافظ الدمياطي كما مر آنفا من أن "أخنوخ" هو: إدريس عليه السلام.

وقد جاء عن سفيان الثوري أنه قال: قال –يعني: إدريس- للنبي صلى الله عليه وسلم: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح، قال ذلك تلطفا وتأدبا.

فهذا ما تيسر من ذكر الخلاف بين الأعلام في نسب عدنان إلى آدم عليه السلام، والمتفق على صحته وثبوته وقوته من غير شك في زيادة ولا نقصان نسب النبي صلى الله عليه وسلم من أبيه عبد الله إلى عدنان.

$*أما "عبد الله بن عبد المطلب" فهو:$

أبو محمد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعض الأخباريين من المتقدمين وكان يكنى عبد الله: أبا العباس، وباسمه وكنيته سمي عبد الله بن عباس، وكني كذلك.

ذكره عن يحيى بن معين.

و"عبد الله" هو الذبيح الثاني، ولهذا يقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن الذبيحين.

وكان عبد الله أجمل أهل زمانه وأحب ولد عبد المطلب إليه.


#49#

قال الزبير بن بكار: وكان عبد الله أحسن رجل رؤي في قريش قط. انتهى.

وقيل: إنه كان أصغر بني أبيه.

قاله مصعب بن محمد بن الحسين.

وهكذا رواه زياد البكائي وغيره عن ابن إسحاق.

قال السهيلي: وهذا غير معروف، ولعل الرواية: أصغر بني أمه، وإلا فـ حمزة كان أصغر من "عبد الله"، و"العباس" كان أصغر من "حمزة" رضي الله عنهما.

وروي عن العباس رضي الله عنه أنه قال: أذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاثة أعوام أو نحوها، فجيء بي حتى نظرت إليه، وجعل النسوة يقلن لي: "قبل أخاك قبل أخاك"، فقبلته.

قال: فكيف يصح أن يكون "عبد الله" هو الأصغر مع هذا؟! ولكن رواه البكائي كما تقدم، ولروايته وجه وهو: أن يكون أصغر ولد أبيه حين أراد نحره، ثم ولد له بعد ذلك "حمزة" و"العباس" رضي الله عنهما. انتهى.

ولم يكن لـ عبد الله ولد ذكر ولا أنثى غير رسول الله.


#50#

وأمه فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وهي أقرب الفواطم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جداته الفواطم.

وأمها: صخرة بنت عبد بن عمران بن مخزوم.

وأمها: تخمر بنت عبد بن قصي.

وأمها: سلمى بنت عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر.

وأمها: عاتكة بنت عبد الله بن وائلة بن ظرب بن عباد بن عمرو بن بكر بن يشكر بن الحارث وهو: عدوان بن عمرو بن قيس.

وقيل فيها: عاتكة بنت عبد الله بن حرب بن وائلة.

وتوفي عبد الله بالمدينة، كما سيأتي –إن شاء الله تعالى.

وقال أبو محمد عبد الله بن عمرو بن أبي سعد الوراق في "كتاب الأسخياء والأجواد": حدثني علي بن محمد بن الحارث القرشي قال: سمعت أبي وعلي بن عيسى بن عبد الله –وكان علامة بني هاشم يذكر أن عبد الله بن عبد المطلب سابق فتيانا من قريش من الطائف إلى مكة، فسبقهم، فأنشأ يقول:


#51#

ألم تعلمي يا أم أحمد أنني ... أجد مطايا القوم بالدلح الملس

وإني إذا ضن البخيل بماله ... أهين كريم المال أكرم به نفسي

$*[ذكر عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم]$

وأما "عبد المطلب" فاسمه: عامر، ذكره غير واحد، منهم ابن قتيبة في "المعارف".

وقيل: اسمه: "شيبة" ، سمي بذلك؛ لأنه ولد في رأسه شيبة.

وقيل: إن "هاشما" أوصى زوجته "سلمى": إن أنت وضعت ذكرا فسميه "شيبة".

وسبب تسميته بـ "عبد المطلب": أن أباه تركه بالمدينة عند أخواله بني النجار، وكان أخو "هاشم": المطلب بن عبد مناف قد أوصى إليه أخوه هاشم، وكان شريفا في قومه سيدا مطاعا كريما، كان يسمى "الفيض" لجوده، وكانت إليه السقاية والرفادة بعد أخيه "هاشم".

وشب "عبد المطلب" عند أخواله، ثم قدم فيما ذكره الواقدي:


#52#

ثابت بن المنذر بن حرام –وهو أبو "حسان" شاعر الإسلام- قدم مكة معتمرا فلقي المطلب، وكان له خليلا فقال: لو رأيت ابن أخيك "شيبة" فينا لرأيت جمالا وهيبة وشرفا، لقد نظرت إليه وهو يناضل فتيانا من أخواله، فيدخل مرماتيه جميعا في مثل راحتي هذه، ويقول كلما خسق: "أنا ابن عمرو العلى".

فقال المطلب: لا أمسي حتى أخرج إليه فأقدم به.

قال ثابت: ما أرى "سلمى" تدفعه إليك ولا أخواله، هم أضن به من ذاك، وما عليك أن تدعه فيكون في أخواله حتى يكون هو الذي يقدم عليك إلى هاهنا، فيكون راغبا فيك.

فقال المطلب: يا أبا أوس، ما كنت لأدعه هناك ويترك مآثر قومه، وسطته ونسبه وشرفه في قومه ما قد علمت.

فخرج المطلب فورد المدينة فنزل في ناحية وجعل يسأل عنه حتى وجده يرمي في فتيان من أخواله، فلما رآه عرف شبه أبيه فيه، ففاضت عيناه، وضمه إليه، وكساه حلة يمانية، وأنشأ يقول:

عرفت شيبة والنجار قد حفلت ... أبناؤها حوله بالنبل تنتضل


#53#

عرفت أجلاده منا وشيمته ... ففاض مني عليه وابل سبل

فأرسلت سلمى إلى "المطلب" فدعته إلى النزول عليها.

فقال: شأني أخف من ذلك، ما أريد أن أحل عقدة حتى أقبض ابن أخي وألحقه ببلده وقومه.

فقالت: لست بمرسلته معك. وأغلظت عليه.

فقال المطلب: لا تفعلي؛ فإني غير منصرف حتى أخرج به معي، ابن أخي، وقد بلغ، وهو غريب في غير قومه، ونحن أهل بيت شرف قومنا، والمقام ببلده خير له من المقام هاهنا، وهو ابنك حيث كان.

فلما رأت أنه غير مقصر حتى يخرج به استنظرته ثلاثة أيام، وتحول إليهم، فنزل عندهم فأقام ثلاثا، ثم احتمله، وانطلقا جميعا، فروي أن أم عبد المطلب قالت:

كنا ولاة ثمه ورمه ... حتى إذا قام على أتمه

انتزعوه عنوة من أمه ... وغلب الأخوال حق عمه

قال الواقدي: ودخل به "المطلب" مكة ظهرا، فقالت قريش: هذا عبد [المطلب، فقال: ويحكم، إنما هو ابن أخي شيبة بن


#54#

عمرو فلما رأوه قالوا: ابنه لعمري! فلم يزل عبد المطلب مقيما بمكة حتى أدرك، وخرج المطلب بن عبد مناف تاجرا إلى أرض اليمن فهلك بردمان من أرض اليمن، فولي عبد المطلب بن هاشم بعده الرفادة والسقاية.

فلم يزل ذلك بيده يطعم الحاج ويسقيهم في حياض من أدم بمكة، فلما سقي زمزم ترك السقي في الحياض بمكة وسقاهم من زمزم حين حفرها، وكان يحمل الماء من زمزم إلى عرفة فيسقيهم.

وكانت زمزم سقيا من الله، أتي في المنام مرات فأمر بحفرها ووصف له موضعها فقيل له: احفر طيبة، قال: وما طيبة؟

فلما كان الغد أتاه فقال: احفر برة، قال: وما برة؟

فلما كان الغد أتاه وهو نائم في مضجعه ذلك فقال: احفر المضنونة، قال: وما المضنونة؟ أبن لي ما تقول.

قال: فلما كان الغد أتاه فقال: احفر زمزم، قال: وما زمزم؟

قال: لا تنزح ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم –قال: وكان غراب أعصم لا يبرح عند الذبائح مكان الفرث والدم- وهي شرب لك ولولدك من بعدك.

قال: فغدا عبد المطلب بمعوله ومسحاته معه ابنه الحارث بن عبد المطلب، وليس له يومئذ ولد غيره، فجعل عبد المطلب يحفر بالمعول ويغرف بالمسحاة في المكتل فيحمله الحارث فيلقيه خارجا، فحفر ثلاثة أيام ثم بدا له الطوي فكبر وقال: هذا طوي إسماعيل، فعرفت قريش أنه قد أدرك الماء.

فأتوه فقالوا: أشركنا فيه.

فقال: ما أنا بفاعل، هذا أمر خصصت به دونكم فاجعلوا بيننا وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه.


#55#

قالوا: كاهنة بني سعد هذيم، وكانت بمعان من أشراف الشأم، فخرجوا إليها وخرج مع عبد المطلب عشرون رجلا من بني عبد مناف، وخرجت قريش بعشرين رجلا من قبائلها.

فلما كان بالغفير من طريق الشأم أو حذوه فني ماء القوم جميعا فعطشوا فقالوا لعبد المطلب: ما ترى؟

فقال: هو الموت، فليحفر كل رجل منكم حفرة لنفسه فكلما مات رجل دفنه أصحابه حتى يكون آخرهم رجلا واحدا فيموت ضيعة أيسر من أن تموتوا جميعا.

فحفروا ثم قعدوا ينتظرون الموت، فقال عبد المطلب: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا لعجز، ألا نضرب في الأرض فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض هذه البلاد! فارتحلوا.

وقام عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به انفجر تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه وشربوا جميعا، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلموا إلى الماء الرواء فقد سقانا الله، فشربوا واستقوا.

وقالوا: قد قضي لك علينا، الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم، فوالله لا نخاصمك فيها أبدا!

فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبين زمزم.

قال: أخبرنا خالد بن خداش، أخبرنا معتمر بن سليمان التيمي


#56#

قال: سمعت أبي يحدث عن أبي مجلز: أن عبد المطلب أتي في المنام فقيل له احتفر، فقال: أين؟ قيل له: مكان كذا وكذا، فلم يحفر، فأتي فقيل له: احتفره عند الفرث عند النمل عند مجلس خزاعة ونحوه، فاحتفر، فوجد غزالا وسلاحا وأظفارا.

فقال قومه لما رأوا الغنيمة: كأنهم يريدون أن يغازوه، قال: فعند ذلك نذر: لئن ولد له عشرة لينحرن أحدهم، فلما ولد له عشرة وأراد ذبح "عبد الله" منعته بنو زهرة وقالوا: أقرع بينه وبين كذا وكذا من الإبل، وإنه أقرع فوقعت عليه سبع مرات وعلى الإبل مرة –قال: لا أدري السبع عن أبي مجلز أم لا- ثم صار من أمره أن ترك ابنه ونحر الإبل.

ثم رجع الحديث إلى حديث محمد بن عمر، قال: وكانت جرهم حين أحسوا بالخروج من مكة دفنوا غزالين وسبعة أسياف قلعية وخمسة أدراع سوابغ فاستخرجها عبد المطلب، وكان يتأله ويعظم الظلم والفجور فضرب الغزالين صفائح في وجه الكعبة، وكانا من ذهب، وعلق الأسياف على البابين يريد أن يحرز به خزانة الكعبة، وجعل المفتاح والقفل من ذهب.


#57#

وأخبرنا هشام بن محمد عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان الغزال لجرهم، فلما حفر عبد المطلب زمزم استخرج الغزال وسيوفا قلعية فضرب عليها بالقداح فخرجت للكعبة فجعل صفائح الذهب على باب الكعبة، فغدا عليه ثلاثة نفر من قريش فسرقوه.

قال: وأخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه وعن عبد المجيد بن أبي عبس وأبي المقوم وغيرهم قالوا: وكان عبد المطلب أحسن قريش وجها وأمده جسما وأحلمه حلما وأجوده كفا وأبعد الناس من كل موبقة تفسد الرجال، ولم يره ملك قط إلا أكرمه وشفعه، وكان سيد قريش حتى هلك، فأتاه نفر من خزاعة فقالوا: نحن قوم متجاورون في الدار، هلم فلنحالفك، فأجابهم إلى ذلك وأقبل عبد المطلب في سبعة نفر من بني عبد المطلب والأرقم بن نضلة بن هاشم والضحاك وعمرو ابني أبي صيفي ابن هاشم، ولم يحضره أحد من بني عبد شمس ولا نوفل، فدخلوا دار الندوة فتحالفوا فيها على التناصر والمواساة وكتبوا بينهم كتابا وعلقوه في الكعبة.

وقال عبد المطلب في ذلك:

سأوصي زبيرا إن توافت منيتي ... بإمساك ما بيني وبين بني عمرو


#58#

وأن يحفظ الحلف الذي سن شيخه ... ولا يلحدن فيه بظلم ولا غدر

هم حفظوا الإل القديم وحالفوا ... أباك فكانوا دون قومك من فهر

قال: فأوصى عبد المطلب إلى ابنه الزبير بن عبد المطلب، وأوصى الزبير إلى أبي طالب، وأوصى أبو طالب إلى العباس بن عبد المطلب.

قال: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، عن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة الزهري، عن أبيه، عن جده، قال: كان عبد المطلب إذا ورد اليمن نزل على عظيم من عظماء حمير، فنزل عليه مرة من المرات فوجد عنده رجلا من أهل اليمن قد أمهل له في العمر، وقد قرأ الكتب، فقال له: يا عبد المطلب! تأذن لي أن أفتش مكانا منك؟ قال: ليس كل مكان مني آذن لك في تفتيشه، قال: إنما هو منخراك، قال: فدونك، قال: فنظر إلى يار، وهو الشعر في منخريه، فقال: أرى نبوة وأرى ملكا، وأرى أحدهما في بني زهرة، فرجع عبد المطلب فتزوج هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة وزوج ابنه عبد الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فولدت محمدا صلى الله عليه وسلم، فجعل الله في بني عبد المطلب النبوة والخلافة، والله أعلم حيث وضع ذلك.

قال: وأخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه قال:


#59#

أخبرني رجل من بني كنانة يقال له ابن أبي صالح ورجل من أهل الرقة مولى لبني أسد وكان عالما قالا: تنافر عبد المطلب بن هاشم وحرب بن أمية إلى النجاشي الحبشي فأبى أن ينفر بينهما، فجعلا بينهما نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، فقال لحرب: يا أبا عمرو أتنافر رجلا هو أطول منك قامة] وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة، وأقل منك لامة، وأكثر منك ودا، وأجزل منك صفدا، وأطول منك مذودا، فنفره عليه، فقال حرب: إن من انتكاث الزمان أن جعلناك حكما.

وقد جاءت صفة "عبد المطلب" في حديث خرجه ابن أبي الدنيا في كتابه "دلائل النبوة" فقال: أخبرني العباس بن هشام بن محمد، عن أبيه، حدثنا الوليد بن عبد الله القرشي، عن ابن لعبد الرحمن بن موهب الأشعري –حليف بني زهرة، عن أبيه، حدثني مخرمة بن نوفل بن أهيب الزهري، سمعت أختي: رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم تحدث -وكانت لدة عبد المطلب- قالت: تتابعت على قريش سنون، ذهبن بالأموال، وأشفين على الأنفس.

قالت: وسمعت قائلا يقول في المنام: يا معشر قريش، إن هذا النبي المبعوث فيكم، هذا إبان خروجه، وبه يأتيكم الحيا والخصب،


#60#

فانظروا رجلا من وسطكم نسبا، طوالا عظاما أبيض، مقرون الحاجبين، أهدب الأشفار، جعدا، سهل الخدين، دقيق العرنين، أشم، فليخرج هو وجميع ولده، وليخرج منكم من كل بطن رجل، فتطهروا وتطيبوا، ثم استلموا الركن، ثم ارقوا "أبا قبيس"، ثم يتقدم هذا الرجل فيستسقي، وتؤمنون، فإنكم ستسقون، فأصبحت فقصت رؤياها عليهم، فنظروا فوجدوا هذه الصفة صفة عبد المطلب، فاجتمعوا إليه، وخرج من كل بطن منهم رجل، ففعلوا ما أمرهم به ثم علوا على "أبي قبيس" ومعهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام شاب، فتقدم عبد المطلب فقال: لا هم؛ هؤلاء عبيدك، وبنو عبيدك، وإماؤك وبنات إمائك، وقد نزل بنا ما ترى، وتتابعت علينا هذه السنون؛ فذهبت بالظلف والخف، وأشفت على الأنفس، فأذهب عنا الجدب، وائتنا بالحيا والخصب، فما برحوا حتى سالت الأودية، وبرسول الله صلى الله عليه وسلم سقوا.

فقالت رقيقة بنت أبي صيفي:

بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ... وقد فقدنا الحيا واجلوذ المطر


#61#

فجاد بالماء جوني له سبل ... دان فعاشت به الأنعام والشجر

منا من الله بالميمون طائره ... وخير من بشرت يوما به مضر

مبارك الأمر يستسقى الغمام به ... ما في الأنام له عدل ولا خطر

في هذه الرواية: قال مخرمة: "سمعت أختي".

وقد رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" فقال: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب، حدثني الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري، عن ابن لعبد الرحمن بن موهب بن رباح الأشعري –حليف بني زهرة، عن أبيه، حدثني مخرمة بن نوفل الزهري، سمعت أمي: رقيقة بنت أبي صيفي. فذكره.

وهذا هو الصواب، ولفظة "أختي" تصحيف من لفظة "أمي"، تصحفت على الناس، لكن النسخة التي خرجت منها هذا الحديث فيها سقم، وقد تداولها الحفاظ، وقرأها شيخنا الحافظ أبو بكر بن المحب رحمه الله وأصلح فيها أماكن، ولم يتعرض لهذه اللفظة، وهذا غلط صريح؛ لأن رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف أم مخرمة بن نوفل.

وقد روى هذا الحديث على الصواب: أبو السكين زكريا بن


#62#

يحيى بن عمر بن حصن بن حميد بن منهب بن حارثة بن خريم بن أوس بن حارثة بن لام الكوفي، أخبرنا عم أبي زحر بن حصن، عن جده حميد ابن منهب، حدثني عمي عروة بن مضرس، قال: تحدث مخرمة بن نوفل، عن أمه: رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم –وكانت لدة عبد المطلب- قالت: تتابعت على قريش سنون أقحلت الضرع وأدقت العظم، فبينما أنا راقدة اللهم أو مهومة، إذا هاتف يصرخ بصوت صحل يقول: يا معشر قريش، إن هذا النبي المبعوث منكم، أيئست، قد أظلتكم أيامه، وهذا إبان نجومه فحي هلا بالحيا والخصب، ألا فانظروا رجلا منكم وسيطا عظاما جساما أبيض بضا أوطف


#63#

الأهداب، سهل الخدين، أشم العرنين، له فخر يكظم عليه وسنة تهدي إليه، فليخلص هو وولده، وليهبط إليه من كل بطن رجل، فليشنوا من الماء، وليمسوا من الطيب، ثم ليستلموا الركن، ثم ليرتقوا أبا قبيس، ثم ليدع الرجل، وليؤمن القوم، فغثتم ما شئتم، فأصبحت علم الله مذعورة قد اقشعر جلدي، ووله عقلي، واقتصصت رؤياي، ونمت في شعاب مكة، فوالحرمة والحرم ما بقي بها أبطحي إلا قال: هذا شيبة الحمد، وتنامت إليه رجالات قريش، وهبط إليه من كل بطن رجل، فشنوا ومسوا واستلموا، ثم ارتقوا أبا قبيس، وأطفقوا حوله ما يبلغ سعيهم مهله، حتى إذا استووا بذروة الجبل قام عبد المطلب ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام قد أيفع –أو:


#64#

كرب، فرفع يديه وقال: لاهم، ساد الخلة، وكاشف الكربة، أنت معلم غير معلم، ومسئول غير مبخل، وهذه عبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك: يشكون إليك سنتهم أذهبت الخف والظلف، فاسمعن اللهم، وأمطرن غيثا مغدقا مريعا، فوالكعبة، ما راموا حتى تفجرت السماء بمائها واكتظ الوادي بثجيجه، فلسمعت شيخان قريش وجلتها: عبد الله بن جدعان، وحرب بن أمية، وهشام بن المغيرة، يقولون لعبد المطلب: هنيئا لك أبا البطحاء، عاش بك أهل البطحاء، وفي ذلك تقول رقيقة:

بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ... وقد فقدنا الحيا واجلوذ المطر


#65#

فجاد بالماء جوني له سبل ... دان فعاشت به الأنعام والشجر

منا من الله بالميمون طائره ... وخير من بشرت يوما به مضر

مبارك الأمر يستسقى الغمام به ... ما في الأنام له عدل ولا خطر

رواه محمد بن موسى البربري، وعلي بن الحسين بن حرب القاضي واللفظ له، عن أبي السكين.

ورواه أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتابه "مجابي الدعوة" وكتاب "المطر" عن أبي السكين هذا بنحوه.

وخرجه الحافظ أبو نعيم في كتابه "معرفة الصحابة" من حديث محمد بن يوسف بن الطباع، حدثني أبو حبيب العمير بن عثمان بن عباد بن معبد بن عبيد بن عمير، حدثني محمد بن زيد بن خالد، حدثني عثمان بن بشير، عن أبيه، عمن سمع المسور بن مخرمة يقول: قال مخرمة: حدثتني أمي: رقيقة. فذكره.


#66#

وخرجه أيضا من حديث يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري، حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن ابن حويصة، أن مخرمة بن نوفل، يحدث عن أمه: رقيقة بنت أبي صيفي –وكانت لدة عبد المطلب بن هاشم- قال: تتابعت على قريش سنون الحديث.

ورقيقة هذه قال ابن سعد: أسلمت وأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو نعيم أحمد بن عبد الله في ترجمتها في "معرفة الصحابة": ذكرها سليمان في من لها صحبة، وما أراها بقيت إلى البعثة والدعوة. انتهى.

و"سليمان" هذا هو –والله أعلم: الحافظ الكبير أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الطبراني، نزيل أصبهان، وقد حدث بالحديث أبو نعيم عنه، عن محمد بن موسى البربري.

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" كذلك.

وقد ورد أن عبد المطلب استسقى بالنبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى بعد هذه،


#67#

وهو ما ذكره أبو هاشم بن ظفر في كتابه "أنباء نجباء الأبناء": أن بلاد قيس ومضر أجدبت، وأتت عليهم سنة ذات حطمة شديدة، فاجتمعوا إلى زعمائهم، فتشاوروا، فقام أحدهم خطيبا فقال: يا معشر مضر، إنكم أصبحتم في أمر ليس بالهزل، وقد بلغنا أن صاحب البطحاء استسقى فسقي، وشفع فشفع، فاجعلوا قصدكم إليه واعتمادكم عليه.

فارتحلت "قيس" و"مضر" ومن داناهم، حتى أتوا مكة، ودخل سادتهم على عبد المطلب فحيوه، فقال: أفلحت الوجوه، وسألهم عما قصدوا إليه، فقام خطيبهم فقال: أبا الحارث، نحن ذوو رحمك الواشجات، أصابتنا سنون مجدبات، وقد بان لنا أثرك، ووضح عندنا خبرك، فاشفع لنا إلى مشفعك.

فقال: موعدكم جبل عرفات.

ثم خرج من مكة هو وولد ولده، وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست سنين أو نحو ذلك، فركب عبد المطلب ناقة وسدل من عمامته ذؤابتين


#68#

على غارب ناقته، وكأن ترائبه صفائح الفضة، حتى انتهى إلى عرفات، فنصب له كرسي، فنزل عليه وجلس متربعا، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الكرسي، فأخذه عبد المطلب فأجلسه في حجره، وقال:

اللهم، رب البرق الخاطف، والرعد القاصف، ورب الأرباب، ومسبب الأسباب، هذه قيس ومضر خير البشر، قد شعثت شعورها، وحدبت ظهورها، يشكون شدة الهزال وذهاب الأموال، فأزج اللهم لهم سحابا خوارة وسماء خرارة تضحك أرضهم وتذهب ضرهم.

فما استتم كلامه حتى نشأت سحابة دكناء فيها ودي.

فقال عبد المطلب مخاطبا للسحابة: هذا أوانك، سحي سحا، ثم قال: يا معشر قيس ومضر، ارجعوا إلى بلادكم، قد سقيتم، فرجعوا وقد كثرت أمواهها، واخضرت صحاريها.


#69#

قال ابن ظفر: إنما كانت السقيا ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحسب أن عبد المطلب تعمد أخذه في حجره لذلك، وقد صنع أبو طالب مثل هذا حين استسقى لمضر بعد موت عبد المطلب، فإنه قام على قدميه، واحتمل النبي صلى الله عليه وسلم على كتفيه، وكان قد أربى على تسع سنين، لم يكن مثله يحمل على الكتف لغير ضرورة. انتهى.

واستسقاء أبي طالب بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أشار إليه ابن ظفر: خرجه أبو بكر أحمد بن مروان المالكي في كتابه "المجالسة"، فقال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن مولى بني هاشم، حدثنا إبراهيم بن محمد الشافعي، عن أبيه، عن أبان بن الوليد، عن أبان بن تغلب، قال: حدثني جلهمة بن عرفطة، قال: إني لبالقاع من "نمرة" إذ أقبلت عير من أعلى نجد، فلما حاذت الكعبة إذا غلام قد رمى بنفسه من عجز بعير، فجاء حتى تعلق بأستار الكعبة، ثم نادى: يا رب البنية أجرني.

[وإذا شيخ جندعي عشمة قمدود قد جاء فانتزع يده من أسجاف الكعبة]، فقام إليه شيخ وسيم عليه بهاء الملك ووقار الحكماء، فقال: ما شأنك يا غلام؛ فأنا من آل الله وأجير من استجار به؟


#70#

قال: إن أبي مات وأنا صغير، وإن هذا استعبدني، وقد كنت أسمع أن لله بيتا يمنع من الظلم، فلما رأيته استجرت به.

فقال له القرشي: قد أجرناك يا غلام.

قال: وحبس الله يد الجندعي إلى عنقه.

قال جلهمة بن عرفطة: فحدثت بهذا الحديث عمرو بن خارجة –وكان قعدد الحي- فقال: إن لهذا الشيخ لنبأ –يعني أبا طالب.

قال: فهويت رحلي نحو تهامة أكسع بها الجدود وأعلو بها إلى الكذان، حتى انتهيت إلى المسجد الحرام، وإذا قريش عزين قد ارتفعت لهم ضوضاء يستسقون، فقائل منهم يقول: اعمدوا اللات والعزى. وقليل منهم يقول: اعمدوا المناة الثالثة الأخرى.

فقال شيخ وسيم قسيم حسن الوجه جيد الرأي: أنى تؤفكون وفيكم باقية إبراهيم وسلالة إسماعيل –صلى الله عليهما وسلم-؟!

قالوا: كأنك عنيت أبا طالب؟ قال: إيها.

فقاموا بأجمعهم وقمت معهم، فدققنا عليه بابه، فخرج إلينا رجل حسن الوجه مصفر، عليه إزار قد اتشح به، فثاروا إليه، فقالوا: أبا طالب، أقحط الوادي، وأجدب العباد، فهلم فاستق. فقال: رويدكم زوال الشمس وهبوب الريح.


#71#

فلما زاغت الشمس خرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجن، تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بأصبعه للغلام، وبصبصت الأغيلمة حوله، وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا، وأغدق واغدودق، وانفجر له الوادي، وأخصب النادي والبادي، ففي ذلك يقول أبو طالب:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل

يطيف به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل

وميزان عدل لا يخيس شعيرة ... ووزان صدق وزنه غير عائل


#72#

$*[عود إلى ترجمة عبد المطلب]:$

رجعنا إلى ذكر عبد المطلب:

وكان أحد الذين حرموا الخمر في الجاهلية، وأول من خضب بالسواد من أهل مكة، وقيل: من العرب مطلقا.

قال هشام بن محمد بن السائب ابن الكلبي: حدثني أبي، وأخبرني رجل من أهل المدينة، عن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، قالا: كان أول من خضب بالوسمة من قريش بمكة عبد المطلب بن هاشم، وكان إذا ورد اليمن نزل على عظيم من عظماء "حمير" فقال له: يا عبد المطلب، هل لك أن تغير هذا البياض فتعود شابا؟ قال: ذاك إليك.

قال: فأمر به فخضب بحناء ثم علي بالوسمة.

فقال له عبد المطلب: زودنا من هذه. فزوده فأكثر.

فدخل مكة ليلا ثم خرج عليهم بالغداة كأن شعره حلك الغراب، فقالت له نتيلة بنت جناب بن كليب أم العباس بن عبد المطلب: يا شيبة الحمد، لو دام هذا لك كان حسنا، فقال: عبد المطلب في ذلك:
فلو دام لي هذا السواد حمدته ... وكان بديلا من شباب قد انصرم


#73#

تمتعت منه والحياة قصيرة ... ولا بد من موت نتيلة أو هرم

وما ذا الذي يجدي على المرء عزة ... ونعمته يوما إذا عرشه انهدم

فموت جهيز عاجل لا شوى له ... أحب إلي من مقالهم حلم

قوله: "حلم" يقال: "حلم الرجل": انتهت سنه وعقل.

وقوله: "لا شوى له": لا مهلة ولا بقاء.

و"نتيلة" هي كما تقدم: بنت جناب بن كليب، أم العباس، وقيل: أم سليمان، من بني النمر بن قاسط، وهي أول عربية كست البيت الحرام الحرير والديباج.

ويروى بدل "نتيلة" في البيت "نبيلة"، ويروى: "ظعينة"، وقيل: "بثينة"، وقيل: "بسيلة". فالله أعلم.

و"أم عبد المطلب": سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن حذيفة بن حازم بن حارثة بن عدي بن النجار.


#74#

قاله أبو بكر الصديق فيما رواه سعيد بن سالم القداح، حدثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب الزهري، عن عثمان بن أبي سليمان بن أبي حثمة وعن أبي بكر بن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن جبير بن مطعم، عن أبي بكر –فذكره.

وقال ابن الكلبي في "الجمهرة": سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار.

وقيل: إن أم عبد المطلب سلمى من شرفها في قومها، كانت لا تنكح رجلا حتى تشترط أن أمرها بيدها، إذا كرهته فارقته.

و"أم سلمى": عميرة بنت صخر بن حبيب بن الحارث بن ثعلبة بن مازن بن النجار.

وأمها: سلمى بنت عبد الأشهل بن حارثة بن دينار بن النجار.

وأمها: أثيلة بنت زعوراء بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار.

عاش عبد المطلب فيما قيل مائة وأربعين سنة؛ لأنه كان لدة عبيد


#75#

[بن] الأبرص الشاعر، وبلغ "عبيد" مائة وعشرين سنة، وعاش عبد المطلب بعده عشرين سنة.

ذكره أبو الربيع بن سالم.

وقيل: عاش مائة.

وقيل: خمسا وتسعين سنة، وذكر أبو الربيع بن سالم أن ذلك أدنى ما انتهى إليه ووقف عليه.

وقيل: عاش نحوا من تسعين سنة.

وقيل: عاش اثنتين وثمانين سنة.

وقال أبو حسان الحسن بن عثمان: أخبرني من سأل عبد الله بن جعفر الزهيري عن متوفى عبد المطلب، فأخبره عن أهله، عن مخرمة بن نوفل قال: شهدت وفاة عبد المطلب وأنا غلام وهو ابن بضع وثمانين سنة، معتدل القناة.

قيل: كانت وفاته سنة تسع من عام الفيل بثماني سنين.

وأضر عبد المطلب في آخر عمره، وتوفي وعمر النبي صلى الله عليه وسلم ثمان


#76#

سنين وشهران وعشرة أيام على خلاف في ذلك، سنذكره إن شاء الله تعالى، ودفن بالحجون.

قال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": وقرأت على إبراهيم بن المنذر، حدثني محمد بن معن الغفاري قال: لما مات عبد المطلب وحمل على سريره قالت قريش: من يقول لنا شعرا على قدره فينا؟ فقال الحارث بن أمية الأصغر بن عبد شمس:

ألا هلك الراعي العشيرة ذو الفقد ... وساقي الحجيج والمحامي عن المجد

أبو الحارث الفياض خلى مكانه ... فلا تبعدن وكل حي إلى بعد

كسبت وليدا خير ما يكسب الفتى ... فلم تنفكك تزداد يا شيبة الحمد

$[ترجمة هاشم بن عبد مناف]:$

وأما أبوه هاشم فاسمه: "عمرو"، ويقال: "عمر"، وكنيته: "أبو يزيد"، وقيل: كني بابنه أسد.


#77#

وقيل له "هاشم" لهشمه الخبز بمكة لقومه؛ لأنه أول من أطعم الثريد بمكة بعد جده إبراهيم خليل الله، وذلك أن قريشا أصابتهم سنة فنالت منهم، وارتحل هاشم بن عبد مناف إلى الشام، فأوقر عيرا له من الكعك والفتيت، فقدم بها مكة، ونحر الإبل، فاطبخ لحومها، ثم هشم ذلك الكعك والفتيت، فاتخذ منه الثريد، فأطعمه الناس حتى أحيوا، فسمي بذلك هاشما.

وفيه يقول عبد الله بن الزبعري:

عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف

سنت إليه الرحلتان كلاهما ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف

كانت قريش بيضة فتفلقت ... فالمح خالصه لعبد مناف


#78#

الرائشين وليس يعرف رائش ... والقائلون: هلم للأضياف

والضاربين الكبش يبرق بيضه ... والمانعين البيض بالأسياف

لله درك لو نزلت بدارهم ... منعوك من ذل ومن أقراف

قال بعضهم: المشهور البيت الأول، ولكن ابن هشام حكى ذلك عن بعض أهل العلم بالشعر من أهل الحجاز على ما تقدم.

وقد روي أن الشعر لـ"مطرود بن كعب الخزاعي".

وكان جاور في بني سهم في سنة شديدة، وله بنات فتبرموا به تبرما أظهروه له، فخرج هو وبناته يحملون أثاثهم متحولين عنهم، فقال في ذلك:

يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا نزلت بآل عبد مناف

الآخذون العهد من آفاقها ... والظاعنون لرحلة الإيلاف


#79#

والملحقون فقيرهم بغنيهم ... حتى يعود فقيرهم كالكافي

والرائشون وليس يوجد رائش ... والقائلون: هلم للأضياف

والضاربون الجيش يبرق بيضه ... والمانعون البيض بالأسياف

ويقابلون الريح كل عشية ... حتى تغيب الشمس في الرجاف

لم تر عيني مثلهم وهم الألى ... ليسوا فعال التلد والأطراف

عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف

وإذا معد حصلت أنسابها ... فهم لعمرك جوهر الأصداف


#80#

وقال البخاري في "تاريخه الصغير": حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: قال محمد بن إسحاق بن يسار: إنما سمي هاشما لهشمه الثريد، فقال مسافر بن أبي عمرو:

عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... وقريش في سنة وفي إعجاف

وقوله في الأبيات المتقدمة "سنت إليه الرحلتان كلاهما" وفي الأبيات بعدها: "والظاعنون لرحلة الإيلاف": هما رحلتان: "رحلة الشتاء" و"رحلة الصيف"، وهاشم أول من سنهما.

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: والله لقد علمت قريش أن أول من أخذ لها الإيلاف وأجاز لها العيرات لهاشم، والله ما شدت قريش خيلا لسفر ولا أناخت بعيرا لحضر إلا بهاشم.

وقد ذكر الله عز وجل في كتابه العزيز الإيلاف، فقال تعالى: {لإيلاف قريش} السورة.

و"الإيلاف": قال أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي في كتابه "الغريبين":


#81#

سمعت الأزهري يقول: الإيلاف شبه الإجازة بالخفارة، يقال: آلف يؤلف وألف يؤلف: إذا أجاز الحمائل بالفارة.

قلت: الحمائل جمع حمولة.

قال: والتأويل: أن قريشا كانوا سكان الحرم ولم يكن لهم زرع ولا ضرع، وكانوا يمتارون في الشتاء والصيف آمنين، والناس متخطفون من حولهم، فكانوا إذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله، فلا يتعرض لهم. انتهى.

فـ الإيلاف هو: أمان الطريق، لأن قريشا كانت تجارتهم لا تتعدى مكة، إنما يقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم، ثم يتنازعونها بينهم، فكانوا كذلك حتى حصل الإيلاف لهم.

قال أبو عبيد الهروي في كتابه "الغريبين": قال أبو منصور –يعني: الأزهري-: وروى ثعلب عن ابن الأعرابي قال: كان هاشم مؤلفا إلى الشام، وعبد شمس إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس، وكان هؤلاء الإخوة يسمون "المجيزين"، فكان تجار قريش يختلفوا إلى هذه الأمصار بحيال هؤلاء الإخوة، فلا يتعرض لهم. انتهى.

وقد جاءت هذه القصة مطولة، وهي: أنه ركب هاشم بن عبد مناف إلى الشام، فكان يذبح كل يوم شاة، ويضع جفنة ثريد، فيجتمع من حوله


#82#

فيأكلون، وكان هاشم من أجمل الناس وأتمهم، فذكر ذلك لقيصر، قيل له: هاهنا رجل من قريش يهشم الخبز، ثم يصب عليه المرق ويفرغ عليه اللحم، وإنما كانت الأعاجم تصب المرق في الصحاف ثم تأتدم في الخبز، فدعا به قيصر، فلما رآه وكلمه أعجب به، فجعل يبعث إليه كل يوم فيدخل عليه، فلما رأى هاشم مكانه عنده قال: أيها الملك، إن قومي تجار العرب ، فإن رأيت أن تكتب لي كتابا تؤمن تجاراتهم فيقدمون عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه، فيباع عندكم فهو أرخص عليكم، فكتب له كتاب أمان لمن أقبل منهم، فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فجعل كلما مر بحي من العرب بطريق الشام أخذ من أشرافهم إيلافا –وهو: أمان الطريق- على أن قريشا يحمل لهم بضائع فيكفونهم حملها ويؤدون إليهم رؤوس أموالهم وربحهم، فأصلح هاشم ذلك إيلافا بينهم وبين الشام، حتى قدم مكة، فأتاهم بأجل شيء أتوا به، فخرجوا بتجارة، وخرج هاشم معهم يوفيهم إيلافهم الذي أخذ لهم من العرب، حتى أوردهم الشام، فمات في ذلك السفر بـ "غزة" من بلاد الشام، فخرج أخوه "المطلب بن عبد مناف" إلى اليمن، فأخذ من ملوكهم عهدا وإيلافا كفعل أخيه "هاشم" ومات بـ "ردمان" من أرض اليمن، وخرج شقيقهما عبد شمس إلى الحبشة، فأخذ لقريش إيلافا


#83#

كفعل أخويه، ومات بـ "مكة" ودفن بـ الحجون، وقيل: بـ أجياد، وخرج نوفل أخوهم لأبيهم، فأخذ عهدا من كسرى وإيلافا لقريش ولمن مر به من العرب، ثم قدم مكة، ورجع إلى العراق فمات بها.

واتسعت قريش في التجارة، وكثرت أموالها بالإيلاف، وكان سببه هاشما، فهو أعظم الخلق بركة على قريش في الجاهلية والإسلام.

ذكره بنحوه دحية وقال: روى يعقوب بن شيبة في "سيره" عن ابن سوادة قال: كنت عسيفا لعقيلة من عقائل العرب، لا أرى بابا فيه فضل يعم إلا أتيته، فقدمت إلى الشام، فدخلت مكة ليلا، فلما نثر عني قميص الليل إذا قباب مضروبة مع شعف الجبال عليها أنطاع الطائف وإذا رجل أزهر كأن الشعرى تتوقد في جبينه على كرسي سأسم –يعني: أبنوس-، بيده قضيب مخصر به، وإذا بين يديه ثلاثون كهلا، لا يفيضون بكلمة، وإذا غلمان مشمرون إلى أنصاف سوقهم، وإذا جزائر تنحر، وجزائر تساق، وجزائر تطبخ، وإذا وكلة وحثثة


#84#

على الطهاة، وإذا قائل يقول: يا وفد الله، من تغدى فليرجع إلى العشاء، وقد كان حبر بالشام نما إلي أن النبي المبعوث قد طلعت نجومه، فظننته ذلك الرجل، فوقفت بين يديه فقلت: السلام عليك يا نبي الله. فقال لي: صه. فقلت لرجل إلى جنبي: من هذا الرجل؟ فقال لي: هذا أبو نضلة هاشم بن عبد مناف. قال: فقلت: هذا المجد لا مجد بني جفنة.

وروى أيضا من طريق أخرى عن دغفل النسابة: أنه دخل على معاوية رضي الله عنه فقال: حدثني بعض أحاديثك، فقال: سمعت نهار بن عبيد العشاء يحدث قال: كنت عسيفا لعقيلة من عقائل الحي أركب لها الصعب والذلول، لا ألقى مطرحا في متجر فيه ربا إلا أتيته يلفظني السهل إلى الحزن، فانحدرت من الشام بحرث وأثاث كثير، أريد به العرب ودهماء الموسم، فإذا بقباب شامية مع شعف الجبال مجللة بأنطاع الطائف، وإذا جزر تنحر وأخرى تساق، وإذا وكلة وحثثة على الطهاة يقولون لهم: ألا اعجل ألا اعجل، وإذا أنا برجل جهوري الصوت يقول: اعجلوا، وإذا آخر على نشز من الأرض ينادي: يا وفد الله، الغداء. وإذا آخر على مدرجة يقول: ألا من تغدى فليخرج


#85#

للعشاء، فأعجبني ما رأيت، فمضيت أريد عميد الحي، فإذا أنا به جالس على عرش سأسم –وهو: الأبنوس- وقد اتزر بيمنية، وتردى حبرة، وإذا على رأسه عمامة سوداء، يظهر من تحتها جمة فينانة، وكأن "الشعرى" تطلع من وجهه، وإذا بمشيخة جلة خفوت ماسكي الأذقان، ما يفيض أحدهم بكلمة، وإذا خوادم حواسر عن أنصاف سوقهن، فأكبرت ما رأيت، وقد كان نما إلي حبر من أحبار يهود: أن النبي التهامي هذا أوان مبعثه ووقت توكفه، فخلته إياه، وقلت: عله. وعسيت أن أفوز به، فدنوت فقلت: يا رسول الله. فقال: صه، لست به وليتني به.

فسألت رجلا من هذا؟

فقال لي: هذا هاشم بن عبد مناف.

فقلت: هذا والله والله السناء والمجد، لا ها الله إذن.

"أم هاشم": عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن الحارث بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان بن مضر.

قال ابن الكلبي في "الجمهرة": وهي أول القوابل اللاتي ولدن رسول الله صلى الله عليه وسلم.


#86#

وأمها: ماوية –ويقال: "صفية"- بنت حوزة بن عمرو بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، وأمها: رقاش بنت الأسحم بن منبه بن أسد بن عبد مناة بن عائذ الله بن سعد العشيرة من –مذحج-.

وأمها: كبشة بنت الرافقي بن مالك بن الحماس بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب.

وقد تقدم أن هاشما مات بـ غزة، وذلك لما خرج في أصحابه إلى الشام، فلما بلغ "غزة" اشتكى فأقام أصحابه عليه حتى مات فدفنوه بـ "غزة" ورجعوا بتركته إلى ولده.

ويقال: إن الذي رجع بها أبو رهم بن عبد العزى العامري عامر بن لؤي، وهو يومئذ غلام ابن عشرين سنة.

هذا قول الواقدي، وقد تقدم عن بعضهم خلافه.

وجاء: أن الشفاء بنت هاشم قالت ترثي أباها:

عين جودي بعبرة وسجوم ... واسفحي الدمع للجواد الكريم

عين واستعبري وسجي وجمي ... لأبيك المسود المعلوم

هاشم الخبز ذي الجلالة والمجد ... وذي الباع والندى والصميم


#87#

وربيع للمجتدين وحرز ... ولزاز لكل أمر عظيم

$*[سياق ترجمة عبد مناف]$

وأما "عبد مناف" فاسمه: المغيرة.

قاله ابن الكلبي في "الجمهرة"، وابن قتيبة في "المعارف"، والبرقي، وغيرهم. وكان يقال له: "قمر البطحاء" لجماله.

وكان عنده لواء نزار، وقوس إسماعيل، وسقاية الحاج.

وإليه أفضت رئاسة قريش بعد أبيه "قصي"، فجاد وزاد وساد، واستحكمت رئاسته بجوده وسياسته، وكانت الركاب تضرب إليه من أطراف الأرض يتحفونه تحف الملوك، فيكرمهم.

وذكر الزبير بن بكار عن موسى بن عقبة: أنه وجد في حجر فيه: أنا المغيرة بن قصي، آمر بتقوى الله وصلة الرحم.

واختلف في تسميته [بـ "عبد مناف"].

فقيل: لطوله، لأن الإنافة: الإشراف والزيادة.


#88#

وقيل: إن أمه حبا بنت حليل الخزاعي –الذي كان في يده مفتاح الكعبة، فأخذه بعده على خلاف فيه "قصي بن كلاب"- كانت جعلت عبد مناف لمناة –صنم من أصنامهم-، فدعي "عبد مناة"، ثم نظر أبوه قصي، فإذا هو موافق لـ "عبد مناة بن كنانة بن خزيمة" فحوله "عبد مناف".

وكان أول ولد لقصي في قول.

وأم عبد مناف: حباء بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، من خزاعة.

وأمها: هند بنت عامر بن النضر بن عمرو بن عامر بن خزاعة.

وأمها: ليلى بنت مازن بن كعب بن عمر بن عامر، من خزاعة.

وقيل: إن أم عبد مناف عاتكة بنت هلال بن فالج بن ذكوان.

وقيل في اسمها غير ذلك.

روى عبد الله بن المبارك في كتاب "الجهاد" عن أبي بكر بن أبي مريم الغساني، عمن حدثه من الأشياخ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه: أن سرح المدينة أغير عليه، فخرج في الخيل، فلم يكن من ذلك شيء،


#89#

فتوجهوا منصرفين، فأقبل القوم على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن شئت يا رسول الله استبقنا. قال: «ما شئتم»، قالوا: نعم فاستبقوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس حمراء، فبرز عليهم في السبق، فالتفت إليهم فقال: «أنا ابن العواتك».

وقال أبو العباس الأصم: حدثنا الربيع، حدثنا أيوب، عن السري بن يحيى، عن حرملة بن أسير –ابن عم له- عن الفضل بن عبد الرحمن الهاشمي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتزي في الحرب ويقول: «أنا ابن العواتك».

وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "معرفة الصحابة": حدثنا حبيب بن الحسن، حدثنا الحسن بن علي الفسوي، حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا هشيم، عن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، حدثني سيابة بن عاصم السلمي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: «أنا ابن العواتك».


#90#

وهو في "معجم الصحابة" لعبد الباقي بن قانع، ولفظه: «أنا ابن العواتك من سليم».

وحدث به عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، عن لوين، حدثنا هشيم، عن شيخ من قريش يقال له: يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، عن سيابة السلمي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: «أنا ابن العواتك من سليم».

قال لوين: لا أدري، لعل قد أدخل بينهما رجل حتى أنظر فيه.

قلت: حدث به الدارقطني في كتابه "المختلف والمؤتلف" فقال: حدثنا أبو محمد بن صاعد، حدثنا لوين محمد بن سليمان، حدثنا هشيم، عن عمرو بن يحيى بن سعيد بن العاص، عن رجل، عن سيابة السلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا ابن العواتك من سليم».

وقال أبو عمر بن عبد البر في "الاستيعاب" في ترجمة "سيابة": حديثه عند هشيم، عن يحيى بن سعيد بن عمرو بن العاص، عن أبيه، عن جده، عن سيابة، عن عاصم السلمي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: «أنا ابن العواتك»، فسئل هشيم عن "العواتك" فقال أمهات له


#91#

صلى الله عليه وسلم كن من قيس.

قال أبو عمر بن عبد البر: يعني: جدات لآبائه وأجداده.

وقد روي في هذا الحديث عن سيابة بن عاصم، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا ابن العواتك بن سليم»، ولا يصح ذكر "سليم".

قال أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري في كتابه "المجالسة": حدثنا إبراهيم الحربي وعبد الله بن مسلم بن قتيبة قالا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا ابن العواتك من سليم»، [العواتك ثلاث نسوة من سليم] تسمى كل واحدة عاتكة:

[إحداهن: عاتكة] بنت هلال بن فالج بن ذكوان، وهي أم عبد مناف بن قصي. والثانية: عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان، وهي أم هاشم بن عبد مناف والثالثة: عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان، وهي أم وهب أبي "آمنة" أم النبي صلى الله عليه وسلم.

فالأولى من العواتك عمة الوسطى، والوسطى عمة الأخرى.

وحكى ابن عبد البر نحو هذا، وذكر قولا آخر في تفسير الحديث، فقال: والقول الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنسوة أبكار من بني سليم، فأخرجن ثديهن فوضعنها في في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدرت.


#92#

$*[سياق ترجمة قصي]:$

وأما "قصي" فهو تصغير "قاص" فيما ذكره ابن دريد؛ لأنه قصى عن قومه، أي: تبعد.

وقيل: تصغير "قصي" بمعنى: بعيد؛ لأن أمه قصت به في بلاد أخواله، أي: بعدت.

واسمه: "زيد".

وحكى الحاكم أبو أحمد في "الكنى" عن الشافعي أن اسمه "يزيد".

وهو وأخوه "زهرة" صريحا ولد آدم عليه السلام.

قال الإمام أبو بكر أحمد بن السني في كتابه "رياضة المتعلمين".

أخبرني أبو عروبة، حدثنا عبد الوهاب بن الضحاك، حدثنا إسماعيل ابن عياش، عن عبد الله بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن عبد الله بن يزيد مولى المنبعث، عن أبيه، عن أبي سعيد


#93#

الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، إن صريح ولد آدم عليه السلام من الأولين والآخرين: ابنا كلاب بن مرة؛ قصي وزهرة لفاطمة بنت سعد بن سيل الأزدي، وهو أول من جدد البيت بعد كلاب بن مرة».

و"أم قصي": فاطمة بنت سعد بن سيل، وهو خير بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر بن عمرو بن جعثمة بن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نصر بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد.

وأمها: طريفة بنت قيس بن ذي الرأسين، واسمه: أمية بن جشم بن كنانة بن عمرو بن القين بن فهد بن عمرو بن قيس بن غيلان.

وأمها: صخرة بنت عامر بن كعب بن أفرك بن نذير بن قيس بن عبقر بن أنمار.

وسبب تسمية "قصي" بـ"قصي": أن أمه فاطمة المذكورة تقصت به مع زوجها.

ذكره البرقي.

وقيل: لأنه تقصى مع أمه ونشأ مع أخواله من "كلب" في باديتهم، فبعد في مغيبه ذلك عن مكة، وهو صاحب "دار الندوة" وهي في المسجد الحرام في غربيه.

قاله الجمهور.


#94#

وقيل: إن الدار –دار الندوة- كانت لعبد الله بن جدعان، والأكثر أنها كانت لـ"قصي".

وهي أول دار أسست بمكة فيما قاله صاحب كتاب "صورة الأرض وصفة أشكالها ومقارها في الطول والعرض".

وهذه الدار انتقلت بعد بني عبد الدار إلى حكيم بن حزام رضي الله عنه، فباعها في الإسلام بمائة ألف درهم، وذلك في زمان معاوية رضي الله عنه، فلامه معاوية في ذلك، فقال حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى، والله لقد اشتريتها في الإسلام بزق خمر، وقد بعتها بمائة ألف، وأشهدكم أن ثمنها في سبيل الله، فأينا المغبون؟!

ذكر هذه القصة الدارقطني في "أسماء رجال الموطأ" له.

وهذه الدار كانوا في الجاهلية لا يتشاورون إلا فيها، ولا يعقدون لواء حرب إلا منها، ولا يعذر غلام إلا فيها، ولا تدرع جارية من قريش إلا في "دار الندوة" يشق عنها درعها ثم يدرعها ثم تنطلق إلى أهلها، ولا تخرج عير لقريش فيرحلون إلا من تلك الدار، ولا يقدمون إلا نزلوا بها، وما ينكح رجل من قريش ولا امرأة إلا في تلك الدار تيمنا بـ"قصي" إذ هو جمع قريشا بعد تفرقها، ولذلك كان يدعى "مجمعا".

قال الشاعر –وهو: حذافة بن غانم، وقيل: ابن جمح العدوي –يخاطب أبا لهب:


#95#

أبوكم قصي كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر

هم ملأوا البطحاء عزا وسؤددا ... وهم طردوا عنا غواة بني بكر

ويروى: أليس أبوكم كان يدعى مجمعا

ويروى أيضا:

قصي لعمري كان يدعى مجمعا - البيت.

وسبب جمع "قصي" القبائل: ما روي أن كلابا أبا قصي لما مات ترك ولديه: زهرة –جد "آمنة"- وقصيا وهو فطيم مع أمهما: فاطمة بنت سعد بن سيل المذكورة، ثم قدم مكة حاج من "قضاعة"، فتزوجها منهم: ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد بن كبير بن عذرة البطن –الذين ينسب إليهم الغزل والرقة والهوى- بن سعد هذيم بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، واحتملها إلى بلاده من أرض عذرة من أشراف الشام إلى "سرغ" فما دونها، فأخذت قصيا معها لصغره وكان فطيما أو في سن الفطيم وتركت زهرة في قومه لكونه


#96#

رجلا بالغا، فولدت لربيعة "رزاحا"، وأقام "قصي" بأرض قضاعة حتى بلغ –ينسب إلى ربيعة بن حرام فقط.

فناضل يوما رجلا من قضاعة يدعى "رفيعا"، فنضله "قصي"، فغضب "رفيع" فوقع بينهما شر حتى تقاولا وتنازعا.

فقال رفيع: ألا تلحق ببلدك وقومك فلست منا.

فرجع "قصي" إلى أمه، وقد وجد في نفسه من ذلك، فقال لأمه: من أبي؟

فقالت: أبوك "ربيعة".

فقال: لو كنت ابنه ما نفيت.

قالت: وقد قال هذا؟! فوالله ما أحسن الجوار ولا حفظ الحق، أنت والله يا بني أكرم منه نفسا ووالداً ونسبا وأشرف منزلا، أبوك "كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي"، وقومك بمكة عند البيت الحرام فيما حوله، وقد قالت لي كاهنة رأتك صغيرا: إنك ستلي أمرا جليلا.

فأجمع "قصي" اللحوق بقومه وكره الغربة، فأقام بأمر أمه، حتى خرج حاج قضاعة، فخرج معهم وهم يظنونه يريد الحج، فقدم مكة و"زهرة" يومئذ حي وكان أشعر، و"قصي" أشعر، فأتاه، فقال له قصي: أنا أخوك.

فقال: ادن مني. وكان قد ذهب بصره وكبر، فلمسه فقال: أعرف والله الصوت والشبه.

فلما فرغ من الحج عالجه القضاعيون على الرجوع معهم، فأبى، وكان جلدا، فأقام ثم خطب إلى "حليل بن حبشية" –وهو يومئذ يلي أمر مكة والحكم فيها- ابنته "حبا" فزوجه إياها لنسبه، فولدت له:


#97#

"عبد الدار بن قصي" وهو أكبر ولده وبكره، و"عبد مناف" و"عبد العزى" و"عبد قصي".

ولما حضر "حليلا" الموت جعل ابنه "المخترش" حاجبا للبيت، وهو: "أبو غبشان"، وكانت العرب تجعل له جعلا في كل موسم، فقصروا به في بعض المواسم ومنعوه بعض ما كانوا يعطونه، فغضب، فدعاه "قصي" فسقاه، ثم اشترى منه البيت بأذواد، وقيل بغير ذلك.

وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن عمرو بن زهير، عن عبد الله بن خراش بن أمية الكعبي، عن أبيه، قال: فحدثتني فاطمة بنت مسلم الأسلمية، عن فاطمة الخزاعية، وكانت قد أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: لما تزوج "قصي" إلى "حليل بن حبشية" ابنته "حبا" وولدت له أولاده، قال حليل: إنما ولد "قصي" ولدي، وهم بنو ابنتي.

فأوصى بولاية البيت والقيام بأمر مكة إلى "قصي" وقال: أنت أحق به.

وقيل: لما هلك حليل بن حبشية وانتشر ولد "قصي" وكثر ماله وعظم شرفه رأى أنه أولى بالبيت وأمر مكة من "خزاعة" و"بني بكر"؛ لأن قريشا فرع "إسماعيل" وصريح ولده، فدعا قريشا وبني كنانة إلى إخراج خزاعة وبكر من مكة، فأجابوه إلى ذلك، فكتب عند ذلك لأخيه لأمه "رزاح القضاعي" يدعوه إلى نصرته والقيام معهن فأجابه إلى


#98#

ذلك، وكان يحب "قصيا".

ومما قال (شعرا):

وإني في الحياة أخي قصي ... إذا ما نابه ضيم أبيت

إذا يجني علي صبرت نفسي ... ويفعل مثل ذاك إذا حنيت

ثم خرج "رزاح" ومعه أخواه لأبيه: "حن" و"محمود" أبناء ربيعة، و"جلهمة بن حرام" عمهم –وقيل: هو أخوهم- فيمن تبعهم من قضاعة وهم مجمعون لنصر "قصي" والقيام معه، فلما فرغ أمر الحج ولم يبق إلا أن يصدر الناس، كان أول ما تعرض له "قصي" من المناسك أمر الإجازة للناس بالحج، وكان "صوفة" هو الذي يلي ذلك مع الدفع بهم من عرفة ورمي الجمار.

و"صوفة" هو: "الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر". ويقال لولده أيضا: "صوفة".

وسبب لقبه بذلك ما قال هشام بن محمد ابن الكلبي في "جمهرة النسب": كانت أمه نذرت –وكان لا يعيش لها ولد-: لئن عاش هذا


#99#

لتربطن برأسه صوفة، ولتجعلنه ربيط الكعبة، ففعلت، وجعلته خادما للكعبة، حتى بلغ، ثم نزعته، فسمي "الربيط". انتهى.

واسم أمه هند بنت كعب، أخت الحارث بن كعب، وقيل: كانت من "جرهم"، وكانت لا تلد، فنذرت لله إن هي ولدت غلاما أن تصدق به عبدا للكعبة يخدمها ويقوم عليها، فولدت "الغوث" فكان يقوم على الكعبة في الدهر الأول مع أخواله من "جرهم"، وهو أول من ولي إجازة الناس من عرفات، وكان إذا دفع بالناس يقول:

لاهم إني تابع تباعة ... إن كان إثم، فعلى قضاعه

وولي الإجازة بعده ابنه أخزم بن الغوث، وقيل هو أول من ولي الإجازة، وهو الذي يقول:

من لا يذد عن حوضه يهدم

ليس الرقاد للفتى بمغنم

شنشنة معروفة من أخزم

وولي الإجازة بنوه إلى أن انقرضوا فوليها بنو سعد بن زيد بن مناة بن تميم، فكان آخرهم الذي قام الإسلام عليه: كرب بن صفوان بن


#100#

الحارث بن شجنة.

وقيل: إن صفوان بن جناب بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، ولهم يقول أوس بن مغراء:

لا يبرح الناس ما حجوا معرفهم ... حتى يقال أجيزي آل صفوانا

وهذا في الإفاضة من عرفات.

وأما الإفاضة من "مزدلفة" فكانت في عدوان يتوارثونها كابرا عن كابر، حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام: أبو سيارة عميلة بن الأعزل، فيما ذكره ابن إسحاق، وهو: عميلة بن الأعزل بن خالد بن سعد بن الحارث بن رائش بن زيد بن عدوان، وهو: الحارث بن عمرو بن قيس بن غيلان.

وقول: "الغوث الذي تقدم: "إن كان إثم فعلى قضاعة" وذلك أن قضاعة كان منهم أحياء يستحلون الحرمة في الجاهلية، وكانت "صوفة" تدفع بالناس من عرفة وتجيزهم إذا نفروا من "منى" إذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار، ورجل من "صوفة" يرمي للناس، لا يرمون


#101#

حتى يرمي، ولا يرمي حتى تميل الشمس، فإذا فرغوا من الرمي وأرادوا النفر من "منى" أخذت "صوفة" بجانبي العقبة، فحبسوا الناس وقالوا: "أجيزي صوفة"، فلم يجز أحد من الناس حتى يمروا.

فلما كان ذلك العام فعلت "صوفة" كما كانت تفعل، فأتاهم "قصي" بمن معه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة، فقال: "لنحن أولى بهذا الأمر منكم"، فقاتلوه فاقتتل الناس قتالا شديدا، ثم انهزمت "صوفة" وغلبهم "قصي"، وقال رزاح: أجز قصي، فأجاز بالناس وغلبهم على ما كان بأيديهم من ذلك.

وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن "قصي" وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع "صوفة"، ويحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة، فلما انحازوا عنه بادأهم بحربهم، فخرجت له خزاعة وبنو بكر، فالتقوا بالأبطح، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعا، وفشت الجراحة فيهم، وأكثر ذلك في خزاعة، ثم إنهم تداعوا إلى الصلح وإلى أن يحكموا فيهم رجلا من العرب، فحكموا يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة.

فقضى بينهم بأن قصيا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه من خزاعة وبني بكر موضوع يشدخه تحت قدميه، وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وكنانة وقضاعة ففيه الدية مؤداة، وأن يخلى بين "قصي" وبين الكعبة ومكة، فسمي "يعمر الشداخ" لذلك.

وقد رويت هذه القصة على غير ما تقدم.


#102#

وقال ابن الكلبي في "جمهرة النسب": إن "قصيا" لما جمع لحرب خزاعة "رزاحا" أخاه ومن معه أتاه من "قضاعة" ومن "ضوى" إلى "قصي" من بني بكر بن عبد مناة بن كنانة، وذاك: أن خزاعة أخذت مفتاح الكعبة حين مات حليل بن حبشية –جد ولد قصي- وأبوا أن يدفعوه إلى "قصي" وولده، فلما أتاه "رزاح" بمن معه ناهضهم "قصي" فقاتلهم بـ "مفضي المأزمين" بعد منصرف الحاج من عرفة، فسمي ذلك الموضع "المفجر" لما فجر فيه من الدماء، وحجاج العرب ينظرون إلى قتال الفريقين لا يدخلون بينهم ثم تداعوا إلى الصلح وحكموا "يعمر بن عوف" فقال: "موعدكم الكعبة".

فلما صاروا إلى الكعبة قال: قد قضيت لـ"قصي" بالحجابة، ولخزاعة بإقرارهم في الحرم، وأن لا يخرجوا منه، وقد شدخت الدماء فكافأ بينها –وحمل الفضل لأهله، فسمي "الشداخ".

وروي في القصة غير هذا.

وحدث الواقدي عن موسى بن يعقوب الزمعي، عن عمته، عن أمها كريمة بنت المقداد، عن أبيها قالت: لما فرغ قصي ونفى خزاعة وبني بكر عن مكة تجمعت إليه قريش، فسميت "قريش" يومئذ "قريشا" لحال تجمعها، و"التقرش": التجمع، فلما استقر أمر قصي انصرف أخوه


#103#

لأمه رزاح بن ربيعة العذري بمن معه من إخوته وقومه، وهم ثلاث مائة رجل إلى بلادهم وذكر بقيته.

وروي: أن "قصيا" قال وهو يشكر لأخيه رزاح بن ربيعة:

أنا ابن العاصمين بني لؤي ... بمكة مولدي وبها ربيت

إلى البطحاء قد علمت معد ... ومروتها رضيت بها رضيت

وفيها كانت الآباء قبلي ... فما شويت أخي ولا شويت

فلست لغالب إن لم تأثل ... بها أولاد قيذر والنبيت

رزاح ناصري وبه أسامي ... فلست أخاف ضيما ما حييت

ولما استقر أمر "قصي" أقر العرب على ما كانوا عليه؛ لأنه يراه دينا لا ينبغي تغييره، فأقر آل صفوان وعدوان والنساة ومرة بن عوف على


#104#

ما كانوا عليه، حتى جاء الإسلام، فهدم الله به ذلك كله.

و"قصي" أول من أطعم الحاج وسقاهم، وفيه يقول قائلهم:

آب الحجيج طاعمين دسما ... بجر الحشا مستحقبين شحما

أوسعهم زيد قصي لحما ... ولبنا محضا وخبزا هشما

قال أبو عثمان محمد بن أحمد بن ورقاء الأصبهاني الصوفي: أخبرنا محمد بن الحسن الشيرازي، أخبرنا أبو الحسن إسماعيل بن أحمد بن أيوب البالسي، أخبرنا أبو الفضل محمد بن حرب القاضي بالرقة، حدثنا محمد –يعني: ابن الوليد البغدادي- حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا أبو حمزة السكري، وحدثنا أبو عوانة، جميعا: عن


#105#

عاصم بن كليب، عن عبد الله بن الزبير، عن عمر بن الخطاب، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبيا قط إلا وقد أمر بعض قرابته». وقد قدمناه قبل.

ولما مات "قصي" دفن بالحجون، وقالت ابنته تخمر بنت قصي ترثي أباها:

طرق النعي بعيد نوم الهجد ... فنعى قصيا ذا الندى والسؤدد

فنعى المهذب من قريش كلها ... فانهل دمعي كالجمان المفرد

فأرقت من حزن وهم داخل ... أرق السليم لوجده المتفقد

$*[سياق ترجمة كلاب]:$

وأما "كلاب" واسمه: "حكيم"، قال الشاعر:

حكيم بن مرة ساد الورى ... ببذل النوال وكف الأذى

وقيل: اسمه "عروة".

وهو أول من جعل في الكعبة السيوف المحلاة بالذهب والفضة ذخيرة


#106#

للكعبة.

وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أبيه وأمه؛ لأنه أبو "قصي"، و"زهرة" جد "آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب".

هذا هو المشهور الصحيح، وسيأتي –إن شاء الله تعالى- فيه خلاف لا يعتد به.

وأم كلاب: هند، وقيل: نعم بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة.

وأمها: أمامة بنت عبد مناة بن كنانة.

وأمها: هند بنت داودان بن أسد بن خزيمة.

وأما "مرة" فأمه: مخشية بنت شيبان بن محارب بن فهر بن مالك بن النضر.

وأمها: وحشية بنت وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة.

وأمها: ماوية بنت ضبيعة بن ربيعة بن نزار.


#107#

$*[سياق ترجمة كعب بن غالب]$

وأما كعب: فهو أول من جمع يوم العروبة في قول، ويقال: "عروبة" بالتنكير، قال بعضهم: هي أفصح. انتهى.

وقال أبو الحسن بن سيده في كتابه "المحكم": "العروبة" و"عروبة": كلتاهما الجمعة.

وذكر بعدهما بيتين فيهما أسماء الأيام السبعة عربية أيضا، فقال:

أؤمل أن أعيش وإن يومي ... بأول أو بأهون أو جبار

أو التالي دبار فإن أفته ... فمؤنس أو عروبة أو شيار

قال ابن سيده: قال أبو موسى الحامض: قلت لأبي العباس: هذا الشعر موضوع. قال: لم؟ قلت: لأن "مؤنسا" و"جبارا" و"دبارا" و"شيارا" تنصرف، وقد ترك صرفها. فقال: هذا جائز في الكلام فكيف في الشعر؟!


#108#

إنما سمي "عروبة" يوم الجمعة، قيل: لاجتماع المسلمين فيه في المسجد. قاله قوم.

وقال ثعلب: إنما سمي "يوم الجمعة"؛ لأن قريشا كانت تجتمع إلى "قصي" في "دار الندوة".

حكاه ابن سيده في "المحكم" قال فيه: وزعم ثعلب أن أول من سماه به كعب بن لؤي، وكان يقال لها: "العروبة". انتهى.

وعلى هذا جماعة، أن كعبا أول من سمى "يوم العروبة" الجمعة.

كانت قريش تجتمع إليه في هذا اليوم فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلمهم أنه من ولده، وأمرهم باتباعه والإيمان به.

وكان من كلامه فيما رواه محمد بن الحسن بن زبالة، عن محمد بن طلحة، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي سلمة قال: كان كعب بن لؤي يجمع قومه يوم الجمعة، وكانت قريش تسميه "العروبة" فيخطبهم فيقول:

"أما بعد، فاسمعوا وتعلموا وافهموا" –وذكر خطبته، وفيها: "حرمكم زينوه وعظموه وتمسكوا به، فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم"، ثم يقول:

نهار وليل كل يوم بحادث ... سواء علينا ليلها ونهارها


#109#

وفيها:

على غفلة يأتي النبي محمد ... فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها

ثم يقول: والله لو كنت فيها ذا سمع وبصر ويد ورجل، لتنصبت فيها تنصب الجمل، ولأرقلت فيها إرقال الفحل.

يا ليتني شاهد، فحواء دعوته ... حين العشيرة تبغي الحق خذلانا

وقال أبو عبيد الله المرزباني في ترجمة كعب من "معجم الشعراء": ويروى له من قصيدة بشر فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن:


#110#

نهار وليل كل أوب وحادث ... سواء علينا سدفة وسفورها

يؤوبان بالأحداث حتى تأوبا ... وبالنعم الضافي علينا ستورها

صروف وأنباء تقلب أهلها ... لها عقة ما يستحل مريرها

على غفلة يأتي النبي محمد ... فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها

ثم قال: أما والله، لو كنت فيها ذا سمع وبصر ويد ورجل، لتنصبت فيها تنصب الجمل، ولأرقلت فيها إرقال الفحل، ثم قال:

يا ليتني شاهد فحواء دعوته ... حين العشيرة تبغي الحق خذلانا


#111#

وبين موت كعب بن لؤي وبين الفيل خمس مائة سنة وعشرون سنة.

كذا علقه المرزباني.

وكعب أول من قال: "أما بعد" في قول، وقيل: داود النبي عليه الصلاة والسلام، وقيل: قس بن ساعدة، والقول الثاني عليه الجمهور. والله أعلم.

وكنية كعب أبو هصيص.

وأمه: ماوية ابنة كعب بن القين، وهو النعمان بن جسر بن شيع اللات ابن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.

وأمها: عاتكة بنت كاهل بن عذرة.

وقد روي من خطب "كعب" أنه قال:

"أيها الناس، اسمعوا وعوا، وافهموا وتعلموا، ليل ساج، ونهار


#112#

ضاح، والسماء بناء، والأرض مهاد، والنجوم أعلام، لم تخلق عبثا فتضربوا عن أمرها صفحا, الآخرون كالأولين، والدار أمامكم، واليقين غير ظنكم، صلوا أرحامكم، واحفظوا أصهاركم، وأوفوا بعهدكم، وثمروا أموالكم فإنها قوام مروءاتكم، ولا تصونوها عما وجب عليكم، وعظموا هذا الحرم وتمسوا به، فسيكون له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم، وينشد:

صروف وأنباء تقلب أهلها ... له عقة ما يستحل مريرها

على غفلة يأتي النبي محمد ... فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها

$*[سياق ترجمة لؤي بن غالب]:$

وأما "لؤي" فهو تصغير "اللأى" وهو: الثور الوحشي، قال الطرماح:

كظهر اللأى لو تبتغى رية [بها] ... نهارا لعيت في بطون الشواجن


#113#

ويقال: "اللأى" هو: الترس.

قاله أبو الحسين بن فارس.

وقال: فأما قول الآخر:

وليس يغير خيم الكريم ... خلوقات أثوابه واللأى

فإنه يريد: بعد لأواء العيش. انتهى.

ويحتمل أن يكون "لؤي" تصغير "لأي" وهو: البطء، يقال: "لأيا عرفت ذلك".

وكنية "لؤي": أبو غالب.

وأمه: سلمى بنت كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، من خزاعة.

وقيل: "أم لؤي": عاتكة بنت يخلد بن النضر بن كنانة.

وأمها: أنيسة بنت شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.

وأمها: تضامر بنت الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة.

وأمها: رهم بنت كاهل بن أسد بن خزيمة، وقيل: عاتكة بنت يخلد بن النضر بن كنانة.

ويروى: أن لؤي بن غالب قال لأبيه وهو غلام حدث: يا أبة، من


#114#

رأى معروفه قل أخلانه ونضب ماؤه، ومن أخلفه أخمله، وإذا خمل الشيء لم يذكر، وعلى المولى له تكبير صغيره ونشره، وعلى المولى تصغير كبيره وستره.

فقال له أبوه غالب: إني لأستدل بما أسمع من قولك على فضلك، وأستدعي به لك الطول على قومك، فإن ظفرت بطول فعد على قومك بفضلك، وكف عزب جهلهم بحلمك، ولم شعثهم برفقك، وإنما تفضل الرجال بأفعالها ومن قايسها على أوزانها أسقط الفضل، ولم تعل به درجة على أحد، وللعلياء أبدا على السفلى الفضل.

$*[سياق ترجمة غالب بن فهر]:$

وأما "غالب" فكنيته: أبو تيم.

وأمه: ليلى بنت الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة، ويقال: بل هي ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر.

وأمها: عاتكة بنت الأسد بن الغوث.

وأمها: زينب بنت ربيعة بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى.

$*[سياق ترجمة فهر بن مالك]:$

وأما "فهر" فأمه: جندلة بنت عامر بن الحارث بن مضاض بن زيد بن مالك، من "جرهم".


#115#

ويقال بل هي: جندلة بنت الحارث بن جندل بن مضاض بن الحارث –وليس بالأكبر- بن عوانة بن عاموق بن يقطن "جرهم".

وأمها: هند بنت الظليم بن مالك بن الحارث، من "جرهم".

و"فهر" لقب فيما قيل، واسمه: "قريش".

روى الزبير بن بكار عن مصعب بن عبد الله بن مصعب أنه قال: إن اسم "فهر بن مالك" قريش، وإنما "فهر" لقب.

وروى أيضا عن الزهري: أن الذي سمته به أمه: "قريش"، وإنما نبز "فهرا"، كما يسمى الصبي "غرارة" و"سملة" وأشباه ذلك.

وقيل: "قريش" لقب، واسمه: فهر.

و"الفهر" في اللغة: حجر يدق به الشيء، وهو مؤنث.

قاله الزبيدي في "مختصر العين".

وذكر غيره: أنه يذكر أيضا، وأنه حجر على مقدار ملء الكف، وزاد غيره: أملس.

وقد كان رئيس مكة في زمانه.


#116#

وروي: أنه قصد مكة في زمان فهر: حسان بن عبد كلال في "حمير" وقبائل اليمن، ليهدم الكعبة وينقل أحجارها إلى اليمن ليبني بها بيتا في اليمن يجعل حج الناس إليه، فنزل بنخلة وأغار على سرح مكة، فسار إليه فهر في بني كنانة وأحلافهم من قبائل مضر، فانهزمت "حمير" وأسر الحارث بن فهر: "حسان بن عبد كلال"، فبقي في يد "فهر" ثلاث سنين أسيرا، حتى فدى نفسه، وخرج فمات بين مكة واليمن.

فعظم بهذا الحرب شأن فهر، فاعتزت إليه قريش حين حمى مكة، ومنع من هدم الكعبة، وكانت من أشباه عام الفيل.

ذكره أبو الحسن الماوردي في "أعلام النبوة" –تأليفه.

قال الزبير بن بكار: وقد أجمع النساب من قريش وغيرهم: أن قريشا إنما تفرقت عن فهر، والذي عليه من أدركت من نساب قريش: أن ولد فهر بن مالك، قريش، ومن جاوز "فهر بن مالك" بنسبه فليس من "قريش".

وحكى أبو عمر بن عبد البر عن علي بن كيسان الكوفي صاحب كتاب "أنساب العرب قاطبة": أن فهرا أبو قريش، ومن لم يكن من ولد "فهر" فليس من قريش.

قال أبو عمر: وهذا أصح الأقاويل في النسبة لا في المعنى الذي من أجله سميت قريش قريشا، والدليل على صحة هذا القول: أنه لا يعلم اليوم قرشي في شيء من كتب أهل النسب ينتسب إلى أب فوق فهر دون لقاء فهر.


#117#

ولذلك قال مصعب، وابن كيسان، والزبير بن بكار وهو من أعلم الناس بهذا الشأن وأوثق من ينسب علم ذلك إليه: إن "فهر بن مالك" جماع قريش بأسرها.

قال هشام بن محمد ابن الكلبي في "جمهرة النسب": وولد مالك بن النضر فهرا، وإليه جماع قريش.

وقال أيضا في ولد كنانة بن خزيمة والنضر بن كنانة: فهم قريش.

ونقل عن الشعبي مثله.

وقال سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق: "النضر" هو قريش.

وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: منتهى من وقع عليه اسم "قريش": النضر بن كنانة، فولده قريش، دون سائر بني كنانة بن خزيمة بن مدركة وهو عامر بن إلياس بن مضر.

وكذلك روي عن أبي عبيد القاسم بن سلام: أن النضر: قريش.


#118#

قال الحافظ عبد الغني المقدسي فيما وجدته بخطه: وعلى ذلك أكثر الناس، والقول الأول أشهر وأثبت، والقائلون به أعلم. انتهى.

وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: وإنما سمي بنو النضر قريشا لتجمعهم؛ لأن "التقريش" هو: التجمع.

وهذا أحد الأقوال في تسميتهم بـ"قريش"، وهو قول محمد بن كعب القرظي أيضا.

قال الشاعر –وهو: أبو جلدة اليشكري:

إخوة قرشوا الذنوب علينا ... في حديث من دهرنا وقديم

وقال المبرد: أول من سماهم بهذا الاسم قصي بن كلاب. انتهى.

وذلك لأنهم كانوا متفرقين في كنانة، فجمعهم "قصي" من كل أوب، فأنزلهم بطاح مكة وظواهرها كما سيأتي –إن شاء الله تعالى.

وقال الواقدي: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، أن عبد الملك بن مروان


#119#

سأل محمد بن جبير بن مطعم: متى سميت قريش قريشا؟ فقال: حين تجمعت إلى الحرم من تفرقها، فذلك التجمع التقرش، فقال عبد الملك: ما سمعت هذا، ولكني سمعت أن قصيا كان يقال له: "القرشي"، ولم يسم "قريش" قبله.

وقيل: سموا بذلك؛ لأنهم يتقرشون البياعات فيشترونها، والتقرش: الاكتساب.

ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "غريب المصنف" عن بعضهم وقال: به سميت "قريش". انتهى.

وقيل: جاء النضر بن كنانة في ثوب له، فقالوا له: قد تقرش في ثوبه.

وقيل: بل جاء النضر إلى قومه، فقالوا: جاء كأنه جمل قرش –أي: شديد-، فسمي بذلك.

وذكر عن الشعبي: أن النضر إنما سمي بذلك؛ لأنه كان تقرش عن خلة الناس وحاجتهم فيسدها بماله، و"التقريش": التفتيش، وكان بنوه يقرشون أهل الموسم فيرفدون ذا الحاجة.

وقال معروف بن خربوذ: كانوا يفتشون الحاج، فيطعمون جائعهم، ويكسون عاريهم، ويحملون المنقطع به.

وقال أبو عمر المطرز: "قريش" مأخوذ من القرش وهو: وقع الأسنة بعضها على بعض؛ لأن قريشا أحدق الناس بالطعان.


#120#

وأنشد غيره شاهدا على ذلك للقطامي:

قوارش بالرماح كأن فيها ... شواطن ينتزعن بها انتزاعا

وقال ابن جعيل:

ولما دنا الرايات واقترش القنا ... وطار من القوم القلوب الرواجف

وحكى أبو عمر بن عبد البر في كتابه "الإنباه على القبائل الرواة": عن بعض قريش قال: إنما سميت قريش قريشا بـ"قريش بن الحارث بن مخلد بن النضر بن كنانة"، وكان دليل بني النضر، وصاحب ميرتهم، وكانت العرب تقول: "قد جاءت عير قريش" و"قد خرجت قريش".

قال: وابنه: "بدر بن قريش"، به سميت "بدر" التي كانت بها الواقعة المباركة، هو الذي كان احتفرها.

ويروى: أن عمرو بن العاص رضي الله عنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما: لم سميت [قريش] قريشا؟ قال: بالقرش، وهي: دابة في البحر تأكل الدواب لشدتها.


#121#

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث موسى بن عبد الملك بن عمير، عن أبيه، عن ربعي بن حراش، قال: استأذن عبد الله بن عباس على معاوية –رضي الله عنهم- وقد تحلقت عنده بطون قريش و"سعيد بن العاص" جالس عن يمينه، فلما نظر إليه "معاوية" مقبلا قال: يا سعيد، والله لألقين على ابن عباس مسائل يعيى بجوابها. فقال له سعيد: ليس مثل ابن عباس من يعيى بمسائلك، فلما جلس قال له معاوية –وذكر الحديث.

وفي آخره: قال معاوية: فلم سميت قريش قريشا؟ قال –يعني: ابن عباس-: بدابة تكون في البحر هي أعظم دواب البحر خطرا، لا تظفر بشيء من دواب البحر إلا أكلته، فسميت قريشا؛ لأنها أعظم العرب فعالا، فقال: هل تروي في ذلك شيئا؟ فأنشده قول الجمحي:

وقريش هي التي تسكن البحر ... بها سميت قريش قريشا

تأكل الغث والسمين ولا تترك ... فيه لذي جناحين ريشا

هكذا في الكتاب حي قريش ... يأكلون البلاد أكلا كشيشا


#122#

ولهم آخر الزمان نبي ... يكثر القتل فيهم والخموشا

تملأ الأرض خيله ورجال ... يحشرون المطي حشرا كميشا

فقال معاوية: صدقت يا ابن عباس، أشهد أنك لسان أهل بيتك، فلما خرج ابن عباس من عنده قال لمن عنده: ما كلمته قط إلا وجدته مستعدا.

وحدث به أبو بكر أحمد بن محمد بن الفضل الأهوازي في كتابه "المنور من وفود القبائل" عن الحسين بن الحسن السمسار، حدثني نسيم بن عوف العتكي، حدثنا مسلم الخواص، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي ريحانة العامري قال: دخل عبد الله بن عباس على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم فذكر الحديث بطوله.

وخرجه أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الختلي في كتابه "الديباج" من حديث مسلم بن إبراهيم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي ريحانة العامري قال: أقبل ابن عباس إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم، وذكر الحديث بطوله.

وفي آخره: قال: فأمر له بأربعة آلاف دينار، فقبضها ثم صرفها في بني عبد المطلب، فقالوا له: إنا لا نقبل صدقة. قال: إنها ليست بصدقة، وإنما هي هدية.


#123#

قال: يعني: ففرقها حتى لم يبق منها شيء، فبلغ ذلك معاوية، فكتب إليه يلومه يقول:

بخيل يرى بالجود عارا وإنما ... على المرء عار أن يضل ويبخلا

إذا المرء أثرى ثم لم يرج نفعه ... صديق فلاقته المنية أولا

والحديث في "دلائل النبوة" للبيهقي من طريق وكيع بن الجراح، عن هشام بن عروة –بنحوه مختصرا.

وقد رويت الأبيات المذكورة للمشمرج بن عمرو الحميري وهو جاهلي قديم، ورويت أيضا لغيره.

وحكى أبو الحسين بن فارس في "مجمله": و"تقرش الرجل" إذا تنزه عن الأدناس، فلعلهم سموا بـ"قريش" لهذا المعنى. والله أعلم.

[قال]: "قريش" يقال لها: "الحمس" و"الأحامس" و"الأحمس"، تقال لمن هو صلب في الدين أو شديد في القتال.


#124#

قال أبو الحسين بن فارس: و"الحمس": قريش، لأنهم كانوا يتشددون في دينهم، وقال بعضهم "الحمسة": الحرمة، وإنما سموا حمسا لنزولهم بالحرم. انتهى.

وكانت قريش فرقتين: "قريش الأباطح" ويقال: الأباطح أشرف الفريقين، ولهذا ينسب النبي صلى الله عليه وسلم فيقال له: "الأبطحي" لأنه من خيار "قريش الأباطح" بني هاشم بن عبد مناف. وقال ذكوان الشاعر مولى عمر بن الخطاب للضحاك بن قيس الفهري حين ضربه:

فلو شهدتني من قريش عصابة ... قريش البطاح لا قريش الظواهر

وقريش الأباطح: بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، وبنو نوفل بني عبد مناف، وبنو أمية بن [عبد] شمس بن عبد مناف، وبنو عبد الدار، وعبد بن قصي، وبنو عبد انقرضوا وبادوا، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة بن كعب، وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب، وبنو عدي بن كعب، وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو أخيه سهم بن عمرو، وبنو حسل بن عامر بن لؤي وبنو هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر، وبنو الحارث بن فهر.

وبعضهم يعد بني الحارث من الظواهر.


#125#

وأما قريش الظواهر فهم: بنو معيص بن عامر بن لؤي بن غالب، وبنو أسامة بن لؤي، وبنو ناجية وهي أمهم، ويقال لهم: قريش العورات، وبنو خزيمة بن لؤي، وبنو أخيه سعد بن لؤي وهم بنانة، وبنانة كانت تحت سعد، وقيل: بنو أسامة وخزيمة وسعد بني لؤي ليسوا بأبطحية ولا ظاهرية، وإنما بنو أسامة لحقوا بنعمان، وبنو خزيمة لحقوا ببني شيبان، وبنو سعد لحقوا بغطفان.

ومن الظواهر أيضا: بنو تيم الأدرم بن غالب بن فهر، وبنو الأدرم فيما قاله ابن قتيبة في "المعارف" من أعراب قريش، ليس منهم بمكة أحد، وفيهم يقول الشاعر:

إن بني الأدرم ليسوا من أحد ...

ولا توفاهم قريش في العدد ...

ومنهم بنو محارب بن فهر بن مالك، وبنو الحارث بن فهر في قول.

وسبب قسمة قريش الأباطح والظواهر أن مكارم قريش كلها كانت لقصي بن كلاب: الحجابة والرفادة والندوة واللواء والسقاية وحكم مكة، فقسم مكارمه بين ولده، فأعطى عبد مناف السقاية والندوة، وأعطى عبد الدار الحجابة واللواء، وأعطى عبد العزى الرفادة،


#126#

وأعطى عبد قصي جلهمة الوادي وهو جانبه، والوادي: مكة، وقطع قصي مكة رباعا بين قريش، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة، وكانت مكة كثيرة الشجر والعضاه، فشكوا ذلك إلى "قصي" فأمرهم بقطعه، فهابوه، فقطعه هو وقطع الناس بأمره، فأخذ لنفسه وجه الكعبة فصاعدا، وبنى "دار الندوة" فكانت مسكنه، وأعطى بني مخزوم أجيادين، وبني جمح المسفلة، وبني سهم الثنية، وبني عدي أسفل الثنية فيما بين حي بني جمح وبني سهم، وأعطى ظواهر مكة محاربا والحارث في قول لبني فهر بن مالك، ومن هناك من جيرانهم بني عامر بن لؤي، و"تيما" الأدرم.

وقيل: إن بني الحارث بن فهر دخلت مكة بعد أن نزلت الظواهر، فأين نزلت قريش البطاح من الأباطح أو الظواهر فهم قريش البطاح، وأين نزلت قريش الظواهر من الأباطح أو الظواهر فهم قريش الظواهر.

$*[سياق ترجمة مالك بن النضر]:$

وأما "مالك" فكنيته: أبو الحارث، وأمه: عكرشة –وقيل: عاتكة- بنت عدوان، وهو: الحارث بن عمرو بن قيس بن غيلان بن مضر.

$*[سياق ترجمة النضر بن كنانة]:$

وأما "النضر" فاسمه: قيس، وكنيته: أبو يخلد، ولقب "النضر" لوضاءته وجماله وحسن خلقه وخلقه، لأن النضر: الذهب الأحمر.


#127#

قال ابن قتيبة: فهو أبو قريش، وولده: مالك والصلت، فأما الصلت فصاروا في اليمن، ويقول قوم: إنه أبو خزاعة، ورجعت قريش إلى مالك ابن النضر فهو أبوها كلها. وقال مرة: لأن قريشا من النضر تقرشت.

قلت: "النضر" عند طائفة: جماع قريش، فمن كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي، وقد ذكرنا الخلاف في ترجمة فهر.

وأم النضر: برة بنت مر –أخت تميم بن مر- بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر.

ويحكى: أن برة بنت مر لما أهديت إلى كنانة قالت له: رأيت في المنام كأني ولدت غلامين، فبينما أنا أتأملهما، وإذا أحدهما أسد يزأر، وإذا الآخر كأنه قمر أنور، فقص منامها على كاهنة فقالت:

إن صدق منامها فلتلدن غلاما يكون لولده عدد وعدد وقدوم مجد وعز الأبد، فولدت له "النضر".

$*[سياق ترجمة كنانة بن نزار]:$

وأما كنانة، فأمه: عوانة، واسمها: هند بنت سعد بن قيس بن غيلان، وأمها: دعد بنت إلياس بن مضر.


#128#

وروي عن أبي عامر العدواني أنه قال لابنه في وصيته:

يا بني، أدركت كنانة وخزيمة، وكان شيخا مسنا عظيم القدر، وكانت العرب تحج إليه لعلمه وفضله، وقال: إنه قد آن خروج نبي بمكة يدعى: أحمد، يدعو إلى الله تعالى وإلى البر والإحسان ومكارم الأخلاق، فاتبعوه تزدادوا شرفا إلى شرفكم وعزا إلى عزكم.

وسبب تسميته "كنانة" فيما قيل: لما ولدته أمه خرج أبوه على جواد له ينظر في البرية شيئا يسميه به على عادتهم، فرأى كنانة –وهي جعبة السهام- في الأرض، فرفعها وسماه بها.

وقال بعضهم: سماه "كنانة" لستره على قومه ولين جانبه لهم وحفظه لأسرارهم.

قلت: في هذا نظر.

وقال أيضا: وذكر المطرز عن الأصمعي: أن أهل الحجاز يفتحون الكاف من "كنانة" وابن الكلبي يكسرها.


#129#

قلت: "الكنانة" التي هي جعبة السهام من أدم بالكسر، وهو المعروف.

وكان "كنانة" هذا كريما يأنف أن يأكل وحده، فإذا لم يجد أحدا أكل لقمة ورمى أخرى إلى صخرة بين يديه أنفة من أن يأكل وحده.

قال أهل النسب: وخلف "كنانة" هذا على زوجة أبيه –بعد موته- برة بنت أد بن طابخة بن إلياس، على ما كانت الجاهلية تفعله، وقد أشكل هذا على بعض النسابين مع قوله صلى الله عليه وسلم: «ولدت من نكاح، ولم أولد من سفاح»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لم يصبني من عهر الجاهلية شيء».

وعللوا ذلك، ولكن قد ورد النقل الصريح أن كنانة بن خزيمة خلف على زوجة أبيه من بعده، وهي برة بنت أد بن طابخة بن إلياس، ولم تلد له ولدا لا أنثى ولا ذكرا، وكانت عنده أيضا ابنة أخيها برة بنت مر بن أد بن طابخة، وهي أخت تميم بن مر، فولدت له النضر بن


#130#

كنانة، والذين أشكل عليهم أمر "برة بنت أد" لم يعلموا –والله أعلم-: أنها لم تلد لكنانة شيئا، وإنما النضر من ابنة أخيها "برة بنت مر بن أد"، فزال الإشكال واتضح الحال.

وممن ذكر أن "مرة بنت أد" لم تلد لـ"كنانة" شيئا: أبو عثمان الجاحظ عمرو بن بحر في كتابه المصنف في "الأصنام" فيما بلغنا، فقال أبو عثمان: وخلف بن كنانة بن خزيمة بن مدركة على زوجة أبيه بعد وفاته وهي "برة بنت أد بن طابخة بن إلياس بن مضر" وهي "أم أسد بن الهون بن خزيمة"، ولم تلد لـ"كنانة" ولدا، وكانت ابنة أخيها وهي "برة بنت مر بن أد بن طابخة" تحت "كنانة بن خزيمة"، فولدت له "النضر بن كنانة".

قال: وإنما غلط كثير من الناس لما سمعوا أن "كنانة" خلف على زوجة أبيه؛ لاتفاق اسمهما وتقارب نسبهما.

قال: هذا الذي عليه مشايخنا من أهل العلم والنسب.

قال: ومعاذ الله، أن يكون أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقت نكاح.


#131#

قال: ومن اعتقد غير هذا فقد أخطأ وشك في الخبر.

ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «تنقلت في الأصلاب الزكية إلى الأرحام الطاهرة».

$*[سياق ترجمة خزيمة بن مدركة]:$

وأما "خزيمة"، فكنيته: أبو أسد، قال بعضهم: هو مصغر من "الخزم" الذي هو: شد الشيء وإصلاحه، وقيل غير ذلك.


#132#

وأمه فيما قيل: "سلمى بنت سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة".

وفي "خزامة" يقول الشاعر:

"خزيمة" خير "بني خازم" ... و"خازم" خير "بني دارم"

و"دارم" خير "معد" ومن ... مثل معد في بني آدم

$*[سياق ترجمة مدركة بن إلياس]:$

وأما "مدركة"، فاسمه: عامر، وكان له أخوان: "عمرو" ويلقب: طابخة، و"عمير" ويلقب: قمعة.

وأمهم: "ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة"، وقيل: اسمها: "تماضر بنت حلوان بن الحاف بن قضاعة" ولقبها: "خندف".

وسيأتي -إن شاء الله تعالى- قصة لقبها بـ"خندف" ولقب أولادها المذكورين.

وأمها : "ضرية بنت ربيعة بن نزار"، وبها سمي "ضرية" الذي بين "مكة" و"النباح".

وأما "إلياس"، فكان وصي أبيه.


#133#

وكان جميلا دينا حليما حكيما عدلا، تعظمه العرب قاطبة، وتسلم له في الحكمة تسليمها لـ"لقمان".

وكان ولد إسماعيل قد غيرت كثيرا من عهد إسماعيل عليه السلام فلما انتهى الناس أنكر على ولد إسماعيل عليه السلام ما أحدثوا، وردهم إلى ما كانوا عليه، وأقامهم على منهاج إسماعيل عليه السلام ورضوا به رضى لم يرضوه بأحد من ولد إسماعيل بعد "أدد".

ويروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا إلياس؛ فإنه كان مؤمنا».

ويحكى عن إلياس: أنه كان يسمع في صلبه تلبية النبي صلى الله عليه وسلم بالحج.

وإلياس أول من أهدى البدن إلى بيت الله الحرام، وأول من وضع الركن بعد الطوفان فيما قيل.

وقيل: هو أول من وضعه بعد "إبراهيم" و"إسماعيل" عليهما السلام.

وهذا أشبه بالصحة، والله أعلم.

وأمه: "الرباب بنت حيدة بن معد بن عدنان"، وقيل: "الحنفاء بنت إياد بن معد".

مات "إلياس" بداء السل، وما سمي داء السل "داء ياس" إلا به.


#134#

قال ابن أبي عاصية:

فلو كان داء الياس بي وأغاثني ... طبيب بأرواح العقيق شفانيا

و"لإلياس" أخ اسمه "الناس" بالنون، قيل: وتشديد السين المهملة، وهو "قيس عيلان"، ويقال: "ابن عيلان".

وقيل: "قيس عيلان" سمي بفرس له تسمى "عيلان".

وقيل: بكلب له اسمه "عيلان".

وقيل: "عيلان" اسم جبل ولد عنده.

وقيل: اسم غلام لمضر حضن "قيسا".

وقيل: كان "قيس" جوادا أتلف ماله فأدركته عيلة فسمي "قيس عيلان"، والله أعلم.

وجميع نسل "مضر" المنسوبين إليه من هذين الجذمين: "إلياس"


#135#

ويقال لامرأته: "خندف"؛ لأن امرأته كان يقال لها: "خندف: و"الناس".

ويقال لولده: قيس عيلان.

ولفظ "إلياس" مختلف فيه، فمنهم من يقول فيه: "اليأس" على لفظ المصدر من "يئست من الأمر يأسا"، وعليه الجمهور.

وطائفة يقولون: "إلياس" بكسر الهمزة وإسكان اللام.

ويشبه أن يكون من قولهم: "ليساء" إذا أتاها غير حوارها يرضعها لا تمنع من إرضاعه، وهي أكرم الإبل، وحلبها وخيارها.

وقال بعضهم: يكون إفعالا من "الأليس"، و"الأليس" في اللغة: الشجاع الذي لا يروعه شيء.

وقيل: الذي لا يبرح في الحرب شدة.

وقيل: إنه اسم أعجمي على مثال "إسحاق" ترك صرفه، قال الله تعالى: {وإن إلياس لمن المرسلين} بغير صرف، ولو كان عربيا لانصرف.


#136#

$*[سياق ترجمة مضر بن نزار]:$

وأما "مضر" فأمه: سودة بنت عك بن الديث بن عدنان بن أدد، وقيل: عك بن عدنان بن عبد الله بن نصر بن زهران بن الأسد.

وكان أفضل أهل زمانه جميلا حسنا، يفك العاني، ويطعم الطعام، ويهب الآلاف، وكان على دين إسماعيل عليه السلام.

ومما يروى من وصاياه وحكمه: أنه قال: "من يزرع الشر يحصد ندامة، وخير الخير أعجله؛ فاحملوا نفوسكم على مكروهها فيما أصلحكم، واصرفوها عن هواها فيما يفسدها، فليس بين الصلاح والفساد إلا صبر فواق".

وكان "مضر" أحسن الناس صوتا، وهو أول من سن حداء الإبل، قيل: إنه سقط عن بعيره فوتئت يده.

وكان يمشي خلف الإبل ويقول بصوت حنين: "وايداه، وايداه سرتم" فأعنقت الإبل وذهب كلالها، فمن هنالك اتخذت العرب الحداء تنشيطا للإبل فيما زعموا.


#137#

وقال ابن قتيبة في "المعارف": قال مجاهد: رأى النبيص ركبا ولهم حاد يحدو لهم فقال: "ممن القوم؟"، فقالوا: من "مضر"، فقال: "ما لحاديكم؟" فقال رجل منهم: إن أول من حدا لنحن. قال: "وما ذاك؟" قال: كان رجل منا في إبله أيام الربيع، فأمر غلاما له ببعض أمره، فاستبطأه، فضربه بالعصى، فجعل يشتد في الإبل ويقول: "يا يداه، يا يداه"، فقال له: "الزم الزم" فاستفتح الناس الحداء إذ ذاك.

وسمي "مضر"، "مضرا" من قولهم: "لبن مضير" و"ماضر": أي: حامض.

وقيل: سمي بذلك لبياضه، والعرب تطلق الأحمر على الأبيض، ولذلك قيل: "مضر الحمراء".


#138#

وقيل: بل أوصى إليه أبوه بقبة حمراء وأوصى لأخيه ربيعة بفرس، فقيل: "مضر الحمراء" و"ربيعة الفرس".

قال محمد بن عبد الكريم –صاحب الهيثم بن عدي: إنما سمي "ربيعة الفرس" لأن أباه "نزار بن معد" كان له فرس وفيه من أدم وحمار، فجعل الفرس لأكبر ولده "ربيعة"، والقبة للذي يتلوه، وهو "مضر"، والحمار للثالث وهو "إياد"، فلذلك يقال: "ربيعة الفرس" و"مضر الحمراء" وإياد، وأنمارا.

قال: فلما حضرته –يعني: نزارا- الوفاة وصاهم فقال: يا بني، هذه القبة الحمراء وما أشبهها لمضر، وهذا الخباء الأسود وما أشبهه لربيعة، وهذه الخادمة وما أشبهها لإياد، وهذه الندوة والمجلس وما أشبهه لأنمار، فإن أشكل عليكم واختلفتم فعليكم بالأفعى الجرهمي بـ"نجران"، فاختلفوا –يعني: بعد موته- في القسمة، فتوجهوا إليه، فبينما هم يسيرون إذ رأى "مضر" كلأ قد رعي، فقال: إن البعير الذي رعى هذا الكلأ لأعور، وقال "ربيعة": هو أزور، وقال"إياد": هو أبتر، وقال "أنمار": هو شرود، فلم يسيروا إلا قليلا، حتى لقيهم رجل يوضع على راحلته، فسألهم عن البعير.

فقال "مضر": هو أعور؟ قال: نعم.

وقال "ربيعة": هو أزور؟ قال: نعم.


#139#

وقال "إياد": هو أبتر؟ قال: نعم.

وقال "أنمار": هو شرود؟ قال: نعم، وهذه والله صفة بعيري، فدلوني عليه.

فقالوا له: والله ما رأيناه.

قال: قد وصفتموه بصفته، فكيف لم تروه؟! وسار معهم إلى "نجران" حتى نزلوا بالأفعى الجرهمي، فناداه صاحب البعير: هؤلاء أصحاب بعيري، وصفوه لي بصفته وقالوا: لم نره.

فقال لهم الأفعى الجرهمي: كيف وصفتموه ولم تروه؟

فقال"مضر": رأيته يرعى جانبا ويدع جانبا، فعرفت أنه أعور.

وقال "ربيعة": رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والأخرى فاسدة الأثر، فعرفت أنه أزور.

وقال "إياد": رأيت بعره مجتمعا فعرفت أنه أبتر.

وقال "أنمار": رأيته يرعى المكان الملتف ثم يجوز إلى غيره، فعرفت أنه شرود.

فقال الجرهمي لصاحب البعير: ليسوا أصحاب بعيرك، فاطلبه من غيرهم. ثم سألهم: من هم؟ فأخبروه أنهم بنو نزار بن معد. فقال: أتحتاجون إلي وأنتم كما أرى فدعا لهم بطعام فأكلوا وأكل، وبشراب فشربوا وشرب.

فقال "مضر": لم أر كاليوم خمرا أجود، لولا أنها تنبت على قبر.

وقال "ربيعة": لم أر كاليوم لحما أطيب، لولا أنه ربي بلبن كلب.


#140#

وقال "إياد": لم أر كاليوم رجلا أسرى، لولا أنه يدعى إلى غير أبيه.

وقال "أنمار": لم أر كاليوم كلاما أنفع في حاجتنا، لولا أن الملك يسمع.

وسمع الجرهمي الكلام، فتعجب لقولهم، وأتى أمه فسألها، فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا ولد له، فكرهت أن يذهب الملك، فأمكنت رجلا من نفسها كان نزل به، فوطئها، فحملت به.

وسأل القهرمان عن الخمر، فقال: من كرمة غرستها على قبر أبيك.

وسأل الراعي عن اللحم، فقالت: شاة أرضعتها بلبن كلبة، ولم يكن ولد في الغنم شاة غيرها.

فقيل "المضر": من أين عرفت الخمر ونباتها على قبر؟ قال: لأنه أصابني عليها عطش شديد.

وقيل "لربيعة": من أين عرفت أن الشاة أرضعت من لبن كلبة؟ فقال: لأني شممت منه رائحة الكلب.

وقيل "لإياد": من أين عرفت أن الرجل يدعى إلى غير أبيه؟ قال: لأني رأيته يتكلف ما يعمله.

ثم أتاهم الجرهمي فقال: صفوا لي صفتكم. فقصوا عليه ما أوصاهم به أبوهم نزار، فقضى لمضر بالقبة الحمراء والدنانير والإبل وهي حمر، فسمي "مضر الحمراء"، وقضى لربيعة بالخباء الأسود والخيل الدهم، فسمي "ربيعة الفرس"، وقضى لإياد بالخادمة الشمطاء والماشية البلق، وقضى لأنمار بالأرض والدراهم.


#141#

قال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا خالد بن خداش، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن عبد الله بن خالد: قال رسول الله ِصلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا مضر؛ فإنه كان قد أسلم».

وجاء عن ميمون بن مهران، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا مضر وربيعة، فإنهما كانا مسلمين».

و"مضر" هو شعب رسول الله، لأن العرب على ست طبقات: شعب، وقبيلة، وعمارة، وبطن، وفخذ، وفصيلة، قيل: وعشيرة، وقيل: الفصيلة هي العشيرة.

وسميت الشعوب؛ لأن القبائل تتشعب منها، وسميت القبائل؛ لأن العمائر تقابلها، فـ"الشعب" يجمع القبائل، و"القبيلة" تجمع العمائر، و"العمارة" تجمع البطون، و"البطن" يجمع الأفخاذ، و"الأفخاذ" تجمع الفصائل.

فيقال: "مضر" شعب رسول الله صلى الله عليه وسلم، و"كنانة" قبيلته، و"قريش" عمارته، و"قصي" بطنه، و"هاشم" فخذه، و"بنو العباس" فصيلته.


#142#

قال أبو الفتح ابن سيد الناس في كتابه "عيون الأثر" بعد أن ذكر هذا: هذا قول الزبير.

قال: وقيل: "بنو عبد المطلب" فصيلته، و"عبد مناف" بطنه. وسائر ذلك كما تقدم. انتهى.

$*[سياق ترجمة نزار بن معد]:$

وأما "نزار"، فأمه: معانة بنت جوشم بن جلهمة بن عمرو بن مرة بن جرهم.

وأمها: سلمى بنت الحارث بن مالك بن غنم، من "لخم".

وهو مأخوذ من "النزر" وهو: القليل، وفي سبب تسميته بذلك قولان:

أحدهما: أن "نزارا" أراد العز به بعد أبيه "معد" وانبسطت به اليد، وتقدم عند ملك الفرس، واجتباه "شيسف" ملك الفرس، وكان اسمه: "خلدان"، وكان مهزول البدن، فقال الملك: "ما لك يا نزار؟" وتفسيره في لغتهم: "يا مهزول". فغلب عليه هذا الاسم، فسمي "نزارا"، وفيه يقول قمعة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان:

جديسا خلفناها وطسما بأرضها ... فأكرم بنا عند الفخار فخارا


#143#

فنحن بنو عدنان خلدان جدنا ... فسماه تشتف الهمام نزارا

فسمي نزارا بعدما كان اسمه ... لدى العرب خلدان بنوه خيارا

قاله أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة".

والقول الثاني:

أنه لما ولد نظر أبوه إلى نور بين عينيه، وهو نور النبوة الذي كان ينتقل، حتى وصل إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ففرح لما رأى ذلك النور فرحا شديدا ونحر وأطعم وقال: "إن هذا كله نزر لحق هذا المولود"؛ فسمي نزارا لذلك.

وولده أربعة: "مضر" و"إياد"، وأمهما: سودة بنت عك بن الديث بن عدنان.

و"ربيعة" و"أنمار" وأمهما: الحذالة بنت وعلان بن جوشم بن جلهمة بن عمرو بن هلينية بن دوة، من "جرهم".

و"مضر" و"ربيعة" هما الصريح من ولد إسماعيل، و"أنمار" ولده "خثعم" و"بجيلة" وصاروا باليمن، وولد إياد: "دعمياء" و"زهراء" و"نمارة" و"ثعلبة"، فتفرقت منهم قبائل عدة.


#144#

$*[سياق ترجمة معد بن عدنان]:$

وأما "معد"، فـ"المعد" في اللغة: الجنب. حكاه ابن سيده عن اللحياني.

وقال ابن سيده: و"المعد": موضع عقب الفارس قال: وقال اللحياني: "هو موضع رجل الفارس"، فلم يخص عقبا من غيرها، و"المعد": عرق في منسج الفرس.

قال: "ومعد" حي، سمي بأحد هذه الأشياء وغلب عليه التذكير، وهو مما لا يقال فيه: "من بني فلان"، وما كان على هذه الصورة فالتذكير عليه أغلب، وقد يكون اسما للقبيلة، أنشد سيبويه رحمه الله:

ولسنا إذا عد الحصا بأقلة ... وإن معد اليوم مؤذ ذليلها

والنسب إليه: معدي.

ومراد ابن سيده بقوله: "ومعد: حي"؛ "معد" هذا أبو قضاعة، واسم قضاعة: عمرو، وهو: بكر معد فيما قيل، وقيل: "نزار" بكره.

وولد "معد" ثمانية، منهم أربعة تعرف أعقابهم:


#145#

"قضاعة"، وهم آل حمير تعد من اليمن.

و"قنص"، ومنهم: آل المنذر ملك الحيرة فيما قيل.

و"إياد" ينسبون إلى القبيل الأكبر ليست لهم قبائل مشهورة، وقيل: إن "ثقيفا" منهم، والمشهور: أن "ثقيفا" من "قيس عيلان".

و"نزار"، وولده ثلاثة: "مضر" و"ربيعة" و"أنمار".

ومن أولاد معد: "الضحاك".

روي عن "مكحول الدمشقي" قال: أغار "الضحاك بن معد" على بني إسرائيل في أربعين رجلا من بني معد، عليهم دراريع الصوف، خاطمي خيولهم بحبال الليف، فقتلوا وسبوا وظفروا .. .. الحديث، وتقدم بطوله.

وقد قال أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة".

ولما تفرع الملك عن إبراهيم واختصت النبوة بولده انحازت إلى ولد "إسحاق" دون "إسماعيل"، فصارت في بني إسرائيل؛ لكثرتهم بعد القلة، وقوتهم بعد الذلة، فبدأت النبوة بموسى وانختمت بعيسى عليهما السلام، ولما كثر ولد إسماعيل وانتشروا في الأرض تميز بعد الكثرة ولد "قحطان" عن ولد "عدنان"،

واستولت "قحطان" على الملك، فانحازت النبوة إلى ولد "عدنان" فأول من أسس لهم مجدا وشيد لهم ذكرا "معد بن عدنان" حين اصطفاه "بخت نصر" وقد ملك أقاليم الأرض، وكان قد هم بقتله حين غزا بلاد العرب، فأنذره نبي كان في وقته بأن النبوة في ولده، فاستبقاه وأكرمه ومكنه واستولى على "تهامة" بيد عالية


#146#

وأمر مطاع، وفيه يقول مهلهل الشاعر:

غنيت دارنا تهامة بالأمس ... وفيها بنو معد حلولا

انتهى.

والنبي الذي أنذر "بخت نصر" هو: "أرميا بن حلقيا"، وكان نبي بني إسرائيل ذلك الزمان.

وأم معد بن عدنان: مهدد بنت اللهم بن جلحب بن جديس بن جابر بن إرم.

$*[سياق ترجمة عدنان]:$

وأما "عدنان"، فعلان، من "عدن": إذا أقام، وجميع العرب ترجع إلى جذمين:

فأحدهما: "عدنان"، وتقدم نسبه.


#147#

والآخر: "قحطان"، واسمه: مهزم بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح.

هذا هو المشهور، وقيل: قحطان بن الهميسع بن تيمن بن نبت بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم.
وقيل غير ذلك.

قال أبو محمد بن قتيبة: أجمع النسابون على أن "اليمن" من ولد "قحطان".

قال: وابنه "يعرب بن قحطان" أول من تكلم بالعربية ونزل أرض "اليمن"، فهو أبو اليمن كلهم، وهو أول من حياه ولده بتحية الملوك: "أنعم صباحا". و"أبيت اللعن". انتهى.

وإلى هذين الجذمين "عدنان" و"قحطان" ينتمي كل عربي على وجه الأرض.

$*[سياق ترجمة آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم]:$

وأم النبي صلى الله عليه وسلم: هي "آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي"، أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا.

وأبوها: "وهب" سيد بني زهرة.

وأمه: عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان، من "سليم".

قاله ابن قتيبة وغيره.


#148#

وقال غيره: أم وهب بن عبد مناف: قيلة بنت أبي كبشة وجز بن غالب بن الحارث بن عمرو بن ملكان بن أفصى بن حارثة الخزاعي.

و"أبو كبشة" هذا هو الذي نسب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه وغيره، وإنما نسبوه إليه؛ لأن "أبا كبشة" هذا خالف دين العرب وعبد "الشعرى"، فنسبوا إليه النبي صلى الله عليه وسلم لإظهاره لدين الإسلام ومخالفته لدينهم كما خالفهم جده "أبو كبشة" في دينهم.

وقيل: "أم وهب" اسمها: هند بنت أبي قيلة، وهو "وجز بن غالب" المذكور.

وأمها: سلمى بنت لؤي بن غالب بن فهر.

وأمها: ماوية بنت كعب بن القين من قضاعة.

وأم وجز بن غالب: السلافة بنت أوهب بن البكير بن مجدعة بن عمرو بن عوف، من "الأوس".

وأمها: بنت قيس بن ربيعة، من "بني مازن بن بوي بن ملكان بن أفصى" أخي سلمة بن أفصى.

وأمها: النجعة بنت عبيد بن الحارث، من بني الحارث بن الخزرج.

وأم عبد مناف: جمل، فيما ذكره هشام بن محمد الكلبي النسابة في "جمهرة النسب" وهي: بنت مالك بن فصية بن سعد بن مليح بن عمرو، من خزاعة.


#149#

وقد قدمنا الخلاف في اسمها.

وقال ابن قتيبة: وأم عبد مناف: "زهرة"، وإليها ينسب ولدها دون الأب، ولا أعرف اسم الأب، وقد أقيمت بالتذكير مقام الأب.

قاله في "المعارف" .

وقال في موضع آخر من الكتاب في ترجمة "كلاب بن مرة" و"قصي بن كلاب": و"زهرة" امرأة نسب ولدها إليها دون الأب، وهم أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وما قاله ابن قتيبة: أن "زهرة" امرأة وأن ولدها أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيه نظر، ولا أعرفه لغيره، اللهم إلا أن أبا نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، كأنه تبع ابن قتيبة، فقال في كتابه "صحاح اللغة":

و"زهرة" أيضا حي من قريش، وهو اسم امرأة كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، نسب ولده إليها، وهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم


#150#

وهذا غريب، والمشهور الصحيح: أن "زهرة" هو "ابن كلاب بن مرة"، وهو والد الزهريين أخوال النبي صلى الله عليه وسلم، لأن "آمنة" والدة النبي صلى الله عليه وسلم هي: بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة، لم يخالف في هذا أحد من أئمة الحديث والنسب.

وأم "زهرة بن كلاب" أم "قصي"، وهي: "فاطمة بنت سعد بن سيل" من "الأزد".

وأم "آمنة" جدة النبي صلى الله عليه وسلم: سماها أبو بكر رضي الله عنه فيما روي عنه: "فاطمة بنت عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة".

وقيل: اسمها: "برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب".

ذكرها هشام بن الكلبي، وذكر اسم أمها وهي: "أم حبيب بنت أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب".

وأمها: "برة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي".

وأمها: "قلابة بنت الحارث بن مالك بن حباشة بن غنم بن لحيان بن عادية بن صعصعة بن كعب بن هند بن طابخة بن لحيان بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر".


#151#

وأبوها: "الحارث" هو الشاعر أقدم شعراء "هذيل" فيما قيل، وهو القائل:

لا تأمنن وإن أمسيت في حرم ... إن المنايا بجنبي كل إنسان

واسلك طريقك تمشي غير مختشع ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني

والخير والشر مقرونان في قرن ... بكل ذلك يأتيك الجديدان

و"أم قلابة بنت الحارث" المذكورة: "أميمة بنت مالك بن غنم بن لحيان بن عادية بن صعصعة بن كعب".

وقيل: اسمها: "آمنة بنت مالك".

وقيل: هي: "هند بنت يربوع" من "ثقيف".

وأمها: "دب بنت ثعلبة بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة"، وقيل: "بنت لحارث بن لحيان بن عادية بن صعصعة بن كعب".

وأمها: "عاتكة بنت غاضرة بن حطيط بن جشم بن ثقيف"، قيل: هي: "بنت كهف الظلم".


#152#

وأمها: "ليلى بنت عوف بن ثقيف".

وفيما ذكرناه دلالة على أن قبائل العرب على اختلافها لها ولادة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونقل عن ابن عباس معناه فيما خرجه محمد بن سعد في كتابه "الطبقات الكبرى" فقال:

حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {رسول من أنفسكم عزيز} قال: قد ولدتموه يا معشر العرب.

وخرجه أبو نعيم في كتابه "دلائل النبوة" من حديث محمد بن كناسة، حدثنا الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم} قال: ليس من العرب قبيلة إلا ولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، مضريها وربيعتها ويمانيها.

وهذا معلوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم من ولد "سام بن نوح".

قال ابن قتيبة: والأنبياء كلها عربيها وعجميها، والعرب كلها يمانيها ونزاريها من ولد "سام بن نوح".


#153#

قال الترمذي في "جامعه": حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد ابن خالد بن عثمة، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {وجعلنا ذريته هم الباقين} قال: حام وسام ويافث.

كذا قال، قال الترمذي: يقال: "يافت" و"يافث" بالتاء والثاء، ويقال: "يفت". قال: وهذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث سعيد بن بشير.

حدثنا بشر بن معاذ العقدي، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سام: أبو العرب، وحام: أبو الحبش، ويافث: أبو الروم».

وحدث به أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" عن عياش بن الوليد


#154#

الرقام، حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين وعن سمرة بن جندب: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «سام: أبو العرب، وحام: أبو الحبش، ويفث: أبو الروم».

ثم قال: وسمعت يحيى بن معين يقول: لم يسمع "الحسن" من "سمرة بن جندب".

قلت: وكذا قال علي بن المديني: "الحسن" لم يسمع من "عمران بن حصين"، وليس يصح ذلك من وجه يثبت، وأنكره أحمد بن حنبل أيضا في رواية ابنه "صالح" عنه.

وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: "الحسن" لا يصح له [سماع عن] "عمران بن حصين"، يدخل "قتادة" عن "الحسن": هياج بن عمران البرجمي، عن "عمران بن حصين" و"سمرة".


#155#

وقال أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا أبو طالب عبد الجبار بن عاصم، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، سمعت سعيد بن المسيب يقول: ولد نوح ثلاثة، وولد كل واحد ثلاثة: "سام" و"حام" و"يافث"، فولد "سام": العرب وفارس والروم، وفي كل هؤلاء خير، وولد "يافث": الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج، وليس في أحد من هؤلاء خير، وولد "حام": القبط والسودان والبربر.

في هذا الأثر اضطراب، منه: ما رواه مكحول محمد بن عبد الله، حدثنا أبو فروة يزيد بن محمد بن يزيد بن سنان، حدثني أبي، عن أبيه، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. بنحوه.


#156#

قال الدارقطني في كتابه "العلل" عن يزيد بن سنان قال: وغيره يرويه عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب من قوله. انتهى.

وحدث به أبو محمد الحسن بن رشيق، فقال: حدثنا أبو هارون، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، فذكره مرفوعا، والمحفوظ وقفه على سعيد بن المسيب كما تقدم من رواية إسماعيل بن عياش.

تابعه معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد كذلك.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "العلل": وجدت في كتاب أبي بخط يده قال:

حدثنا إسماعيل بن أبان –يعني: الوراق- أبو إسحاق، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: ولد نوح ثلاثة نفر: "يافث" و"سام" و"حام"، فـ"يافث": أبو العرب والروم وفارس، و"سام": أبو يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة، و"حام": أبو بربر والقبط والسودان.

وهذا الأثر واه لا يقاوم الحديث الأول، ولا يقوى، والمصير إلى حديث سمرة أولى والأخذ به أصوب وأحرى، وعليه الأئمة والجمهور؛ لأن ساما أبو العرب قاطبة، ليس أبا يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة، وأظن الآفة فيه من إسماعيل بن أبان راويه،


#157#

لا سيما وقد دخل في كتاب "العلل" فانحط بذلك، ونزل، وهو من قول سعيد بن المسيب من التابعين.

والحديث الأول مرفوع إلى سيد المرسلين –صلى الله عليه وعليهم أجمعين.

وذكر أبو عبد الله القضاعي في "تاريخه" فقال: وكان "سام" الأوسط، وكان "يافث" أسن منه، وإنما قدم لأن الأنبياء من نسله، ولد له "إرم" و"أشوذ" و"أرفخشد" و"غويلم" و"لاوذ".

قلت: وأخوهم "عابر بن سام".

وذكر القضاعي قبل هذا أن العرب والأنبياء كلهم عربيهم وعجميهم من ولده، كما ذكرنا عن ابن قتيبة قبل.

وذكر القضاعي أيضا فقال: و"اليمن" كلها من ولده، و"عاد" و"ثمود" و"طسم" و"جديس" و"الفرس" من ولده، ومات وعمره ستمائة سنة. انتهى.

وهذا هو الصحيح أن "ساما" أبو العرب قاطبة، كما أن "آدم" عليه السلام أبو البشر قاطبة.


#158#

&[خلق آدم عليه السلام]&

قال أبو عبد الله محمد بن سلام البيكندي –شيخ البخاري- في كتابه "السنة" في "باب ما خلق الله بيده": حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، عن سليمان بن مسهر، عن خرشة بن حر، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: قال النبي صلى الله عليه وسلم لي: «أتدري كيف خلق الله عز وجل الخلق؟» قلت: لا، قال: «خلق الله عز وجل آدم عليه السلام، قال: يلد فلانا ويلد فلانة، ويلد فلان فلانا ويلد فلانة، وتلد فلانة فلانة، أجله كذا، وعمره كذا، ورزقه كذا وكذا، ثم ينفخ فيه الروح، فـ"آدم" –عليه الصلاة والسلام- خلقه الله بيده من أديم الأرض».

خرج أبو محمد الدارمي في "مسنده" من حديث أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن المديني، عن عون بن عبد الله بن نوفل، عن أخيه عبد الله ابن عبد الله، عن أبيه: عبد الله بن الحارث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:


#159#

«خلق الله –تبارك وتعالى- ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده، وغرس الفردوس بيده، وكتب التوراة بيده» وذكر الحديث.

وإسناده ضعيف من قبل "أبي معشر"، ضعفه يحيى بن معين، والنسائي، والدارقطني، قال البخاري: منكر الحديث.

وروى أبو عوانة، عن عطاء بن السائب، عن ميسرة قال: إن الله لم يمس شيئا من خلقه غير ثلاث: خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده.

وقال يزيد بن زريع: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، عن كعب قال: لم يخلق الله بيده غير ثلاث: خلق آدم بيده، وذكر نحو ما تقدم.


#160#

وقال عبد الواحد بن زياد: حدثنا عبيد المكتب –هو: ابن مهران- حدثنا مجاهد، قال ابن عمر رضي الله عنهما: خلق الله عز وجل أربعة أشياء بيده: العرش، والقلم، وآدم، وجنة عدن. ثم قال لسائر الخلق: كن، فكان.

خرجه الدارمي فقال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد –فذكره نحوه.

وإسناده جيد.

ورواه العلاء بن سالم، حدثنا إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن عبيد المكتب. بنحوه.

خرجه أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "العظمة" فقال: حدثنا إبراهيم –يعني: ابن محمد بن الحسن، حدثنا العلاء. فذكره.

$*وخلق آدم عليه السلام كان في آخر يوم الجمعة:$

أخبرنا أبو هريرة عبد الرحمن ابن الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد ابن الذهبي –قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا يحيى بن سعد سماعا، وأبو الفضل سليمان بن حمزة الحاكم وعيسى بن عبد الرحمن المطعم وأبو أحمد إبراهيم بن محمد الطبري إجازة، قالوا سوى الطبري: أخبرنا أبو الفضل جعفر بن علي الهمداني –قراءة عليه ونحن نسمع،


#161#

قال ابن سعد: وأنا شاهد، في الخامسة، وقال الطبري: أخبرنا علي بن هبة الله سبط الجميزي سماعا. ح.

وقال ابن سعد أيضا: وأنبأنا أبو الحسن علي بن الصابوني ومرتضى بن حاتم الحارثي ويوسف بن محمود الساوي وعبد الرحيم بن الطفيل وعبد الوهاب بن رواح، قالوا كلهم: أخبرنا أبو طاهر أحمد ابن الحافظ قراءة عليه ونحن نسمع، أخبرنا القاسم بن الفضل الثقفي، حدثنا أبو أحمد عبد الله بن بندار المديني، حدثنا أبو جعفر محمد بن إسماعيل الصائغ، حدثنا حجاج بن محمد.

قال: وقال ابن جريج: أخبرنا إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: «خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد صلاة العصر من يوم الجمعة آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل».

تابعه جماعة، منهم: يحيى بن جعفر بن الزبرقان، عن حجاج، قال: قال ابن جريج.

وحدث به أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه": فقال: حدثنا أبو معمر إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا الحجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج. فذكره.


#162#

حديث غريب.

وقد خرجه مسلم في "صحيحه" فقال: حدثني سريج بن يونس وهارون بن عبد الله، قالا: حدثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية. فذكره.

وزاد أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان الراوي عن مسلم، ووهم من جعل الزيادة من كلام مسلم، قال: وحدثنا البسطامي –وهو: الحسين بن عيسى- وسهل بن عمار وإبراهيم ابن بنت حفص وغيرهم، عن حجاج بهذا الحديث.

وخرجه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" فقال: أخبرنا أحمد ابن علي بن المثنى، حدثنا سريج بن يونس، حدثنا حجاج بن محمد، حدثنا ابن جريج، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد –فذكره.

والتصريح في هذا بقول حجاج: "حدثنا ابن جريج" غريب.

وحدث به أبو الفضل عباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين في "تاريخه" الذي ألفه فقال: حدثنا يحيى بن معين، حدثنا هشام بن يوسف، عن ابن جريج. بنحوه.

وخرجه أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم، وأبو بكر بن مردويه


#163#

في تفسيريهما وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه" وأبو القاسم الطبراني في "معجمه الأوسط"، إلا أن عنده: "عن إسماعيل بن أمية عن عبد الله بن رافع" دون ذكر أيوب، وقال عقب الحديث: لم يرو هذا الحديث عن عبد الله بن رافع إلا: إسماعيل بن أمية، تفرد به ابن جريج. انتهى.

وخرجه النسائي عن إبراهيم بن يعقوب، عن محمد بن الصباح، عن أبي عبيدة الحداد، عن الأخضر بن عجلان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيده فقال: «إن الله عز وجل خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يوم السابع، وخلق التربة يوم السبت» وذكر الحديث بنحوه.

وذكر علي بن المديني والبخاري وغيرهما من الحفاظ أن هذا الحديث من كلام "كعب الأحبار"، وأن أبا هريرة إنما سمعه من "كعب".


#164#

قال البخاري في "التاريخ الكبير": وقال بعضهم: أبو هريرة عن كعب، وهو أصح. انتهى.

قيل: فاشتبه على بعض الرواة فجعله مرفوعا.

وقيل: إن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن "إبراهيم بن أبي يحيى، عن أيوب"، لكن صار في عداد الصحيح.

وقد تابعه موسى بن عبيدة الربذي –وهو ضعيف- عن أيوب.

وقال النسائي في تفسير {السجل}: حدثنا إبراهيم بن يعقوب، حدثني محمد بن الصباح، حدثنا أبو عبيدة الحداد، حدثنا أخضر بن عجلان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيدي فقال: «يا أبا هريرة، إن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يوم السابع، وخلق التربة يوم السبت، والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين، والتقن يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، والدواب يوم الخميس، وآدم يوم الجمعة في آخر ساعة من النهار بعد العصر، خلقه الله من أديم الأرض بأحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها، من أجل ذلك جعل الله من آدم الطيب والخبيث».

حديث غريب، تفرد به الأخضر بن عجلان الشيباني التيمي –تيم بني شيبان- وقد وثقه يحيى بن معين، وقال أبو حاتم: يكتب


#165#

حديثه، ولينه الأزدي، وحديثه في السنن الأربعة.

ذكره الذهبي.

وخرجه القاسم بن ثابت في "الدلائل" وهو أول حديث في الكتاب، حدث بنحوه عن أحمد بن شعيب –هو: النسائي- قال: أخبرني إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق –فذكره.

وقال: قوله: «خلق التقن يوم الثلاثاء»: يقال: إنه الشيء الذي يقوم به المعاش ويصلح عليه التدبير مثل: الحديد والآنك والرصاص وجواهر الأرض، وكذلك كل شيء يقوم به صلاح شيء فهو "تقنه"، ومنه: قيل لرساية الماء –وهو الذي يخرج به الماء من الخثورة: "التقن"، يقال: "تقنوا أرضهم": أرسلوا فيها الماء الخاثر لتجود، و"الإتقان": الإحكام للأشياء، وقول الله –تبارك وتعالى-: {أتقن كل شيء} أي: أحكمه، و"رجل تقن" ورواه بعضهم: "تقن" وهو: الحاذق الأشياء.

انتهى.

ويروي الحديث أبو صالح عبد الله بن صالح –كاتب الليث، عن خالد بن حميد ورشدين بن سعد، عن أبي مطيع معاوية بن يحيى، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو موقوفا.


#166#

$*[سياق ما روي في أول يوم خلق الله فيه الخلق]:$

وفي هذا الحديث دليل على: أن أول يوم بدأ الله فيه الخلق يوم السبت.

قال ابن الجوزي: وهو اختيار محمد بن إسحاق، قال ابن الأنباري: وهذا إجماع أهل العلم.

وقيل: ابتداء الخلق يوم الأحد.

قاله كعب والضحاك ومجاهد.

واختاره أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، وجعله أولى القولين عنده، ثم ذكر في "تاريخه" إجماع السلف من أهل العلم على ذلك.

انتهى.

وبه يقول أهل التوراة، وجاء عن عبد الله بن سلام.

قال ابن جرير في "تاريخه" سير العالم: حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، حدثنا الفضل بن سليمان، حدثني محمد بن زيد، حدثني أبو سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف، أخبرني ابن سلام وأبو هريرة رضي الله عنهما، فذكرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الساعة التي في الجمعة، وذكر أنه قال: فقال عبد الله بن سلام: أنا أعلم أي ساعة هي، بدأ الله الخلق يوم الأحد، وفرغ في ساعة من يوم الجمعة، فهي آخر ساعة من يوم الجمعة.


#167#

وقال أيضا في "تاريخه" هذا وفي "تفسيره" –ولفظه في "التاريخ"- قال: حدثني المثنى بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: إن الله عز وجل بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات في الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من الجمعة، فخلق فيها آدم على عجل، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.

وروى نحوه عثمان بن عمر بن فارس، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن عبد الله بن سلام. نحوه.

ورواه يحيى بن معين، عن حماد بن خالد الخياط، عن ابن أبي ذئب.

وحدث به أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا أبو رجاء قتيبة بن سعيد، ثنا ليث بن سعد، عن محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن عبد الله بن سلام أنه قال: خلق الله عز وجل الأرض يوم الأحد والاثنين وقدر فيها أقواتها، وجعل فيها رواسي من


#168#

فوقها يوم الثلاثاء والأربعاء، ثم استوى إلى السماء وهي دخان، فخلقها يوم الخميس والجمعة، وأوحى في كل سماء أمرها، وخلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة على عجل، ثم تركه أربعين ينظر إليه ويقول: تبارك الله أحسن الخالقين. ثم نفخ فيه من روحه، فلما دخل في بعضه الروح ذهب ليجلس، قال الله تعالى: {خلق الإنسان من عجل}، فلما تتابع فيه الروح عطس، فقال الله له: قل: الحمد لله. قال: الحمد لله. قال الله –تبارك وتعالى-: يرحمك ربك.

وحدث به النسائي في كتابه "عمل اليوم والليلة" عن قتيبة مختصرا ولفظه: «خلق الله عز وجل آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة، ثم نفخ فيه من روحه، فلما تتابع فيه الروح عطس» وذكر الحديث.

وخرج ابن جرير نحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ومن طريق السدي عن عبد الله بن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن جرير أيضا في "تاريخه": حدثنا هناد بن السري، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي سعد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال هناد: وقرأت سائر الحديث: أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض؟ فقال: «خلق الله –تبارك وتعالى- الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم


#169#

الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، فهذه أربعة، فقال: {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين . وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين}، لمن سأل، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة: النجوم والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقيت منه، فخلق في أول ساعة من هذه الثلاث ساعات الآجال من حي وميت، وفي الثانية: ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة: خلق آدم صلى الله عليه وسلم وأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة» الحديث.

وخرجه الحاكم وصححه، وأنى له الصحة و"البقال" ضعيف عن ابن معين وغيره؟! واسمه: سعيد بن المرزبان، سماه مسلم في كتابه "الكنى".

وقيل: ابتدأ الخلق يوم الاثنين. قاله ابن إسحاق، وبهذا يقول أهل الإنجيل.

حكاه ابن الجوزي.

قال: وقد اختلف: هل خلق الليل قبل النهار؟ على قولين،


#170#

أصحهما أن الليل أسبق؛ لأن النهار من ضوء الشمس. انتهى.

وذكر الأيام هنا إنما هو مقدار ذلك ومدته؛ لأن اليوم إنما يعرف بطلوع الشمس وغروبها، ولم تكن الشمس حينئذ ولا القمر اللذان يعرف بهما الليل والنهار.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: مقدار كل يوم من تلك الأيام –أي: الستة- التي خلق الله فيها السموات والأرض، مقدار اليوم ألف سنة من سني الدنيا.

وبه قال كعب ومجاهد والضحاك.

قال ابن الجوزي: ولا نعلم خلافا في ذلك.

قلت: جاء عن الحسن وابن سيرين: أن مدة كل يوم مقدار يوم من أيام الدنيا.

قال ابن الجوزي في كتابه "المبدأ والقصص": والذي أراه: أن الستة أيام التي خلقت فيها الأشياء على مثال أيامنا هذه، بدليل النقل والمعنى:

أما النقل: فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خلق الله التربة يوم السبت، وبث فيها الجبال يوم الأحد»، ونحن نعرف مقدار يوم السبت والأحد.


#171#

وأما المعنى: فإن المراد الإخبار بسرعة الإيجاد، فإذا كان اليوم كألف سنة لم يحصل المقصود.

قال: وكنت أرى أني قد خالفت بهذا الرأي أهل التفسير، حتى رأيت الحسن البصري قد قال: هذه الأيام مثل أيام الدنيا.

والعجب من أبي الفرج –رحمة الله عليه- كيف خالف مقالته هذه في كتابه "زاد المسير" فقال فيه:

ولو قال قائل: "إنها كأيام الدنيا" كان بعيدا من وجهين:

أحدهما: خلاف الآثار.

والثاني: أن الذي يتوهمه من الإبطاء في ستة آلاف سنة يتوهمه في ستة أيام عند تصفح قوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}.

فإن قيل: "فهلا خلقها في لحظة، فإنه قادر"؟

فعنه : خمسة أجوبة:

أحدها: أنه أراد أن يوقع في كل يوم أمرا تستعظمه الملائكة ومن يشاهده. ذكره ابن الأنباري.

والثاني: أن التثبت في تمهيد ما خلق لآدم عليه السلام وذريته قبل وجوده أبلغ في تعظيمه عند الملائكة.

والثالث: أن التعجيل أبلغ في القدرة، والتثبت أبلغ في الحكمة، فأراد إظهار حكمته في ذلك، كما تظهر قدرته في قول: "كن" فيكون.


#172#

والرابع: أنه تعالى علم عباده التثبت، فإذا تثبت من لا يزل، كان ذو الزلل أولى بالتثبت.

والخامس: أن ذلك الإمهال في خلق شيء بعد شيء أبعد من أن ذلك وقع بالطبع أو بالاتفاق.

ذكره أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "زاد المسير".

قال سلمة بن شبيب: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا أسد بن موسى، عن يوسف بن زياد، عن أبي إلياس –ابن بنت وهب بن منبه-، عن وهب قال: إن الله عز وجل حين فرغ من خلقه نظر إليهم حين مشوا على وجه الأرض، فقال: أنا الله الذي لا إله إلا أنا، الذي خلقتك بقوتي وأتقنتك بحكمتي، حق قضائي، ونافذ أمري، وأنا أعيدك كما خلقتك، وأفنيك حتى أبقى وحدي، فإن الملك والخلود لا يحق إلا لي، أدعو خلقي وأجمعهم لقضائي يوم يحشر أعدائي وتجل القلوب من خوفي، وتجف الأقدام من هيبتي، وتبرأ الآلهة ممن عبدها دوني.

قال: وذكر وهب أن الله عز وجل لما فرغ من جميع خلقه يوم الجمعة أقبل يوم السبت فمدح نفسه بما هو أهله، فمدحها وذكر عظمته وجبروته وكبرياءه وسلطانه وقدرته وملكه وربوبيته، فأنصت كل شيء، وأقبل وأطرق له كل شيء خلقه، فقال: "أنا الملك، لا إله إلا أنا،


#173#

ذو الرحمة الواسعة والأسماء الحسنى، أنا الله لا إله إلا أنا ذو العرش المجيد والأمثال العلى، أنا الله لا إله إلا أنا ذو المن والطول والآلاء والكبرياء، أنا الله لا إله إلا أنا بديع السموات والأرض وما فيهن، ملأت كل شيء عظمتي، وقهر كل شيء علمي، ووسعت كل شيء رحمتي، وبلغ في كل شيء لطفي.

قال الله: يا معشر الخلائق، فاعرفوا مكاني، ليس في السموات والأرض إلا أنا، وخلقي كلهم لي، لا تقوم ولا تدوم إلا بي، وتتقلب في قبضتي، وتعيش في رزقي، وحياته وموته وبقاؤه وفناؤه بيدي، فليس له محيص، ولا ملجأ غيري، لو تخليت إذا لدهر كله، وإذا لكنت أنا على حالي لا ينقصني ذلك شيئا ولا يزيدني ولا يهدني فقده، وأنا مستغن بالعز كله في جبروتي وملكي، وبرهان نوري، وسعة بطشي، وعلو مكاني، وعظمة شأني، فلا شيء مثلي، ولا إله غيري، وليس ينبغي لشيء خلقته يوم خلقته بيدي أن يعدل بي ولا ينكرني، وكيف ينكرني من خلقته يوم خلقته على معرفتي؟! أم كيف يكايدني من قد قهره ملكي؟! فليس له خالق ولا باعث ولا وارث غيري، أم كيف يعارضني من ناصيته بيدي؟! أم كيف يعدل بي من أعمره وأسقم جسمه وأنقص عقله وأتوفى نفسه وأخلقه وأهرمه فلا يمتنع عني؟! أم كيف يستنكف عن عبادتي عبدي وابن عبادي وابن إمائي، لا ينسب إلى خالق ولا وارث غيري؟! أم كيف يعبد دوني من تخلقه الأيام ويفني


#174#

أجله اختلاف الليل والنهار، وهما شعبة يسيرة من سلطاني، فإلي إلي يا أهل الموت والفناء لا إلى غيري، فإني كتبت الرحمة على نفسي، وقضيت العفو والمغفرة لمن استغفرني، أغفر الذنوب جميعا صغيرها وكبيرها، ولا يكبر ذلك علي، ولا تلقوا بأيديكم، ولا تقنطوا من رحمتي، فإن رحمتي سبقت غضبي، وخزائن الخير كلها بيدي ولم أخلق شيئا مما خلقت لحاجة كانت مني إليه، ولكن لأبين به قدرتي، ولينظر الناظرون في ملكي، وتدبير حكمتي، ولتدين الخلائق كلها لعزتي، ويسبح الخلق كلهم بحمدي، ولتعنوا الوجوه كلها لوجهي".

خرجه أبو نعيم في "الحلية" لسلمة بن شبيب، وفيه: "إن الله فرغ من جميع خلقه يوم الجمعة".

وخرج أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه" من حديث زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري، عن أبي لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيد الأيام يوم الجمعة، وأعظمها، وأعظم عند الله عز وجل من يوم الفطر ويوم النحر، وفيه خمس خلال:

خلق الله تبارك وتعالى فيه آدم عليه السلام، وأهبطه فيه إلى الأرض، وفيه توفى الله عز وجل آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبد الله عز وجل فيها شيئا إلا أعطاه إياه، ما لم يكن حراما، وفيه تقوم الساعة، وما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا جبل ولا رياح ولا بحر إلا وهو مشفق من يوم الجمعة أن تقوم فيه الساعة».


#175#

وخرج أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة في "مصنفه" فقال: حدثنا يحيى بن أبي بكير، حدثنا زهير بن محمد. فذكره بنحوه.

وحدث به أحمد في "مسنده" عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو، حدثنا زهير بن محمد فذكره.

وخرجه ابن ماجه في "سننه".

وهو عند زهير، عن ابن عقيل أيضا، عن عمرو بن شرحبيل، عن سعيد بن سعد بن عبادة، عن أبيه، عن جده، عن سعد بن عبادة قال: إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أخبرنا عن يوم الجمعة ماذا فيه من الخير؟ فقال: «فيه خلق الله آدم» وذكر الحديث نحو ما تقدم.

خرجه أحمد في "مسنده" عن أبي عامر عن زهير.

وقال مسلم في "صحيحه": حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا المغيرة –يعني: الحزامي، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة».


#176#

وخرجه مسلم أيضا من حديث يونس، عن ابن شهاب، عن الأعرج نحوه.

وخرجه ابن جرير في "تاريخه" من حديث ابن وهب، أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن موسى بن عثمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيد الأيام يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة».

وخرجه أيضا من حديث شعيب بن الليث، حدثنا ابن سعد، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم تطلع الشمس على يوم مثل الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أخرج من الجنة، وفيه أعيد فيها».

وقد جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنه سمع "كعبا" يقول: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة.

خرجه ابن جرير في "تاريخه" أيضا من حديث شيبان –وهو: ابن عبد الرحمن النحوي-، عن يحيى –هو: ابن أبي كثير-، عن أبي سلمة عن أبي هريرة.

وقد قرئ على أبي هريرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله محمد بن الذهبي وأنا أسمع يوم السبت السابع والعشرين من ذي قعدة سنة ثمان وتسعين وسبع مائة بمنزله من كفر بطناء –من قرى دمشق- قيل له:


#177#

أخبركم أبو بكر بن أحمد بن عبد الدائم –قراءة عليه وأنت شاهد فأقر به- أخبرنا أبو الغنائم سالم بن أبي المواهب الحسن بن صصري قراءة عليه وأنا أسمع في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وستمائة، أخبرنا أبو الفتح عبيد الله بن شاتيل بقراءتي وأنا أسمع يوم السبت رابع شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وخمسمائة ببغداد، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن العلاف المقرئ، أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد الحمامي المقرئ في صفر سنة ست عشرة وأربع مائة، أخبرنا محمد بن عبد الله الشافعي، حدثني إسحاق بن الحسن، حدثنا القعنبي، عن مالك، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجت إلى "الطور" فلقيت "كعب الأحبار"، فجلست معه، فحدثني عن التوراة وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيما حدثته أن قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مسيخة يوم الجمعة من حين تصيح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة، إلا الجن


#178#

والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله عز وجل شيئا إلا أعطاه إياه» الحديث بطوله.

ورجال إسناده كلهم ثقات، و"إسحاق بن الحسن" هو: الحربي، وثقه إبراهيم الحربي رفيقه، والدارقطني وغيرهما.

والحديث وقع لنا عاليا ولله الحمد.

وقد تابع "مالكا" بكر بن مضر؛ فرواه عن ابن الهاد –بطوله.

قوله صلى الله عليه وسلم: «فيه خلق آدم» أي: جمع خلقه ونفخ فيه الروح، وهذا فضل.

وقوله: «وفيه أهبط» قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله: يخفى وجه الفضل فيه. ولكن العلماء أشاروا إلى وجه التفضيل فيه: أنه تيب عليه من ذنبه، وهبط إلى الأرض لوعد ربه عز وجل حين قال: {إني جاعل في الأرض خليفة}، فلما سبق الوعد به حققه الله له في ذلك اليوم ونفاذ الوعد خير كثير وفضل عظيم.

ووجه الفضل في موته: أن الله –تعالى- جعل ذلك اليوم للقائه.

فإن قيل: فقد جعل الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وقتا للقائه؟


#179#

قلنا: يكون هذا أيضا فضلا يشترك فيه مع يوم الجمعة، ويبقى ليوم الجمعة فضله الذي أعطاه الله زائدا على سائر أيام الجمعة، ومن شارك شيئا في وجه وساواه فيه لا يمتنع أن يفضله في وجوه أخر سواه.

وأما وجه تفضيله في قيام الساعة فيه: فلأن يوم القيامة أفضل الأيام، فجعل قدومه في أفضل الأوقات، وتكون فاتحته في أكرم أوقات سائر الأيام.

ومن فضله: استشعار كل دابة له، وتشوفها إليه لما يتوقع فيه من قيام الساعة، إذ هو وقت قيامها وحين اقتصاصها وجزائها، حاشا الجن والإنس الذين ركبت فيهم الغفلة التي يتردد فيها الآدمي بين الخوف والرجاء. انتهى.

وقال الحارث بن أبي أسامة في "مسنده": حدثنا الحكم –يعني: ابن موسى-، حدثنا فرج بن فضالة، عن علي بن أبي طلحة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا نبي الله، لم سمي يوم الجمعة؟ قال: «لأن فيها جمعت طينة آدم عليه السلام، وفيها الصعقة والبعثة» الحديث.

وحدث به أحمد بن حنبل في "مسنده عن هاشم –يعني: ابن القاسم-، حدثنا الفرج بن فضالة. فذكره.

وروى قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة،


#180#

عن قرثع الضبي، عن سلمان رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما سميت الجمعة لأن آدم عليه السلام جمع فيها خلقه».

تابعه أبو معشر زياد بن كليب التميمي الكوفي.

قال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في "تفسيره": حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عبيدة بن حميد، عن منصور، عن أبي معشر، عن إبراهيم. فذكره بنحوه.

وخرجه أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده" فقال: حدثنا محمد بن حميد، حدثني جرير، عن منصور، عن زياد بن كليب أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة، عن قرثع الضبي –وكان "القرثع" من القراء الأولين- قال: قال سلمان رضي الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدري يا سلمان ما يوم الجمعة؟»، فقلت: الله ورسوله أعلم. يقولها ثلاثا: «يا سلمان، أتدري ما يوم الجمعة؟ جمع أبوك أو أبوكم، أنا أخبرك عن يوم الجمعة: ما من رجل يتطهر يوم الجمعة كما أمر، ثم يخرج من بيته حتى يأتي المسجد فيقعد وينصت، حتى يقضي الإمام صلاته إلا كان كفارة لما قبله من الجمعة».


#181#

وحدث به أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، عن يوسف بن موسى، حدثنا جرير. فذكره بطوله.

تابعه المغيرة بن مقسم الضبي أبو هاشم، عن أبي معشر.

رواه الحسن بن سفيان النسوي فقال: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن زياد بن كليب. فذكره.

ورواه عفان بن مسلم ويحيى بن حماد، وخالد بن يوسف السمتي، عن أبي عوانة به.

ومن طريق منصور والمغيرة: خرجه النسائي في "سننه".

خالف أبا عوانة هشيم بن بشير الواسطي، فحدث به أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي، عن زكريا بن يحيى الواسطي، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن قرثع الضبي، عن سلمان. فذكره مرفوعا، وأسقط منه "علقمة".

وحدث به أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد، عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق المروزي، سمعت أبي يقول: أخبرنا أبو حمزة، عن منصور، عن إبراهيم، عن قرثع، عن سلمان.


#182#

كذا رواه أبو حمزة –هو: محمد بن ميمون السكري-، فأسقط منه "أبا معشر" بين: "منصور" و"إبراهيم"، وأسقط منه أيضا "علقمة" بين: "إبراهيم" و"قرثع".

وفي الحديث دلالة على أن طينة "آدم" عليه السلام جمعت في يوم الجمعة تشريفا له وتكريما، وجمعها كان من جميع الأرض، كما ثبت من حديث عوف بن أبي جميلة العبدي الأعرابي –وكان ثقة كثير الحديث- عن قسامة بن زهير، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن، والخبيث والطيب».

خرجه الترمذي فقال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي ومحمد بن جعفر وعبد الوهاب، قالوا: حدثنا عوف. فذكره، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

وهو في "سنن أبي داود" عن مسدد، عن يزيد بن زريع ويحيى بن سعيد، عن عوف.

وفي "صحيح ابن حبان": عن مسدد، عن يحيى القطان.

ومن حديث ابن أبي السري، حدثنا معتمر بن سليمان حدثنا عوف فذكر الحديث.


#183#

وحدث به سعدان بن نصر، عن إسحاق الأزرق، عن عوف.

وهو في "مسند أحمد بن حنبل رضي الله عنه".

وحدث به أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" عن وهب بن بقية، أخبرنا خالد عن عوف. فذكره.

وحدث به ابن جرير في "تاريخه" عن محمد بن بشار.

وحدث به أيضا عن يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، عن عوف.

تابعه محمد بن عبيد، عن إسماعيل بن علية. بنحوه.

وحدث به ابن جرير أيضا عن محمد بن عمارة الأسدي، حدثنا إسماعيل بن أبان، حدثنا عنبسة، عن عوف الأعرابي:

فذكره بنحوه، وزاد في آخره بعد قوله: "والطيب": «ثم بلت طينته حتى صارت طينا لازبا، ثم تركت حتى صارت حمأ مسنونا، ثم تركت حتى صارت صلصالا، قال ربنا –جل ثناؤه-: {ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون}».

وخرج ابن جرير أيضا في "التاريخ" من حديث عمرو بن ثابت،


#184#

عن أبيه، عن حبة، عن علي رضي الله عنه قال: إن آدم عليه السلام خلق من أديم الأرض، فيه الطيب والصالح والرديء.

وقال أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه": حدثنا المنجاب، أخبرنا علي بن مسهر، عن طلحة، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما سمي؛ لأنه خلق من أديم الأرض كلها من: أحمرها، وأسودها، وأبيضها، وسهلها، وجبلها، وسبخها، وكل ذلك أنت راء في ولده.

وقال: حدثنا أبي، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رب العزة عز وجل إبليس، وأمره أن يكنس من أديم الأرض من عذبها ومالحها، ففعل، فخلق منه آدم عليه السلام، فمن ثم سمي "آدم" لأنه خلق من أديم الأرض، فما خلق من العذب لم يكن إلا سعيدا وإن كان من كافرين، وما خلق من المالح لم يكن إلا شقيا ولو كان من بر تقي.

وقال أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الختلي في كتابه "الديباج": حدثنا أبو عمران موسى بن إبراهيم البلخي، حدثنا الصلت بن الحجاج، عن عبد الملك بن جريج: أنه بلغه أن اسم "إبليس" كان في السماء: "الحارث" –وقال آخر: "عزازيل"- فبعث الله عز وجل ملكا قال: ائتني من تراب الأرض فأخلق منه خلقا. فلما ذهب الملك ليتناول منها قالت الأرض: أعوذ بالله منك، فعرج إلى ربه عز وجل فقال: إنها عاذت بك


#185#

مني، ثم بعث آخر فكذلك، ثم بعث إبليس فقالت: أعوذ بالله منك، فأخذ منها، فعرج به إلى ربه عز وجل، فقال له ربه عز وجل: ألم تعذ بي منك؟ فقال: بلى. فقال: لأخلقن خلقا يسوؤك.

وقال محمد بن زكريا بن دينار الغلابي: حدثنا العباس بن بكار، حدثنا عبد الله بن سليمان، عن أبيه، عن عكرمة: أن "نجدة" سأل ابن عباس: لم سمي "آدم" آدم؟ قال له: ويلك يا نجدة، إن الله عز وجل خلق آدم من أديم الأرض، فلذلك سمي "آدم"، خلقه الله تعالى من تربة طيبة، وتربة مالحة، وتربة مرة، وتربة سوداء، وتربة حمراء، وتربة بيضاء، وتربة غبراء.

أما اللسان: من التربة الطيبة الحلوة، فلذلك يجد الإنسان طعم الأشياء حلوها وحامضها ومرها، ولولا ذلك ما عرف طعم الطعام.

والعينان: من التربة المالحة، لأنهما شحمتان، والشحمة إذا لم يكن فيها ملوحة ذابت وفسدت.

والأذنان: من التربة المرة، ولو لم تكن مرة كذلك لأسرعت الدواب إليهما وعششت فيهما واتخذتهما وكرا، فلشدة مرارتهما تركتهما.

وسائر الجسد كذلك، ترى الرجل طيب العرق طيب الخلق حسنه، والآخر سهل الريح خبيث الخلق، على قدر ما صار فيهم من التراب


#186#

مع أقدار، ثم صوره فأحسن صوره، ونفخ فيه من روحه، فلما جرى فيه الروح استوى قائما، فعطس، فلقنه الله أن قال: "الحمد لله رب العالمين"، فشمتته الملائكة وقالت: "يرحمك الله يا آدم"، وعلمه الأسماء كلها، فلما أراد الله أن يخلق "حواء" ألقى عليه النعاس والوسن فملكته عيناه، فخلق من ضلعه اليسرى القصيرى "حواء"، فلما هب من وسنه نظر إليها، فقيل له: يا آدم، ما هذه إلى جانبك؟ قال: هذه أنثى. قيل: صدقت؛ فهي لك. وهو قول الله تعالى: {الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها} وإنما سميت "حواء"؛ لأنها خلقت من حيوان من ضلعه اليسرى القصيرى، ثم أسكنهما الجنة، حتى كان من أمرهما ما كان.

وذكر الحديث وفيه طول.

خرجه أبو محمد بن الحسن الخلال في كتابه "اشتقاق الأسماء" من طريق الغلابي.

وقال موسى بن هارون:

حدثنا عمرو بن حماد، حدثنا أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود، عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: {هو الذي خلق


#187#

لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات} قال: إن الله عز وجل كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق السماء فسما عليه فسماه "سماء"، ثم يبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين". الحديث بطوله.

وفيه: لما قالت الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} قال الله عز وجل: {إني أعلم ما لا تعلمون} يعني: من شأن إبليس.

فبعث جبريل عليه السلام إلى الأرض، ليأتيه بطين منها، فقالت: "أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني"، فرجع، ولم يأخذ، وقال: رب، إنها عاذت بك، فأعذتها.

فبعث ميكائيل عليه السلام فعاذت منه فعاذها، فرجع، فقال كما قال جبريل عليه السلام.

فبعث ملك الموت عليه للسلام فعاذت منه، فقال: "وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره"، وأخذ من وجه الأرض، وخلط، ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين .. .. الحديث بطوله.

وفيه ألفاظ يغلب على الظن أنها مدرجة فيها، ليست من كلام الصحابة الذين ذكروا. والله أعلم.

وقد خرجه بطوله ابن جرير في "تاريخه" مقطعا في أماكن من "التاريخ" وفي "تفسيره" عن موسى بن هارون به.


#188#

وقال أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه": حدثنا القاسم بن خليفة، حدثنا عمرو بن محمد، حدثنا عبد الأعلى، عن يحيى بن خالد –بياع الطنافس- قال: لما أراد الله تعالى أن يخلق "آدم" بعث "جبريل" عليهما السلام، فقال: ائت الأرض فاقبض منها قبضة أخلق منها "آدم" وأعيده فيها، فأتاها فقال: إن الله تبارك وتعالى بعثني إليك أقبض منك قبضة يخلق منها خلقا ويعيده فيك.

فقالت: إني أعوذ بالله الذي أرسلك أن تنقصني أو تمسني، فرجع فقال: يا رب، إنها استعاذت بك.

فبعث ميكائيل، وقال مثل ذلك، وقالت له الأرض مثل ذلك، فرجع وقال: يا رب، إنها استعاذت بك.

فبعث ملكا، فأتاها فقال: إن الله عز وجل بعثني إليك أقبض منك قبضة يخلق منها خلقا ويعيده فيك.

قالت: إني أعوذ بالذي أرسلك أن تنقصني أو أن تمسني، قال: وأنا أعوذ بالذي أرسلني إليك أن أرجع حتى أمضي لأمره، ففعل، فسماه "ملك الموت"، ووكله بالموت.

وقال ابن جرير في "تاريخه": حدثنا ابن حميد، ثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رب العزة –تبارك وتعالى- إلى إبليس، فأخذ من أديم الأرض من عذبها ومالحها، فخلق منه "آدم" ومن ثم سمي "آدم" لأنه خلق من أديم الأرض.


#189#

ثم قال إبليس: {أأسجد لمن خلقت طينا} أي: هذه الطينة أنا جئت بها.

وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا حسين بن حسن الأشقر، حدثنا يعقوب بن عبد الله القمي، عن جعفر –يعني: ابن أبي المغيرة- عن سعيد بن جبير، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن الله عز وجل بعث إبليس، فأخذ من أديم الأرض عذبها ومالحها، فخلق منه آدم عليه السلام، فكل شيء خلقه من عذبها فهو سائر إلى الجنة وإن كان ابن كافر، وكل شيء خلق من مالحها فهو صائر إلى النار وإن كان ابن تقي.

قال: فمن ثم قال إبليس: أأسجد لمن خلقت طينا؟! لأنه جاء بالطينة.

قال: فسمي آدم؛ لأنه خلق من أديم الأرض.

وقال ابن جرير في "التاريخ": حدثنا ابن المثنى، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير قال: إنما سمي آدم؛ لأنه خلق من أديم الأرض.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، حدثنا أبو أحمد، حدثنا مسعر، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير قال: خلق "آدم" من أديم الأرض، فسمي "آدم".

"أبو أحمد" هذا: نصر بن علي.


#190#

تابعه محمد بن عبد الله الأسدي وخلاد بن يحيى، عن مسعر.

و"أبو حصين": عثمان بن عاصم.

وهذا أحد الأقوال في اشتقاق اسم "آدم".

وقالت طائفة من أئمة اللغة: هو مأخوذ من قولهم: "أدم الله بينهما" و"أدم يأدم أدما" أي: لاءم، و"أدمت الرجل بأهلي" أي: خلطته بهم، و"بيني وبينهم أدمة" أي: خلطة وعشيرة.

فقالوا: سمي بذلك "آدم"؛ لأنه كان ترابا وماء خلطا على مثل هذا المعنى.

وقيل: "آدم" فعل من الأدمة في اللون، وهي لون مشرب بسواد.

والقول الأول: أنه سمي "آدم"؛ لأنه خلق من أديم الأرض –وهو وجهها- هو المشهور.

وأما ما روي عن سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: خلق "آدم" عليه السلام من أرض يقال لها :"دحناء" فالأحاديث والآثار التي قدمناها تخالفه، لكن تفسره رواية منصور بن أبي الأسود، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خلق الله تعالى "آدم" بـ"دحناء"، فمسح ظهره فأخرج كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، قال: {ألست بركم قالوا بلى}.. الحديث.

ورواه يحيى بن يعلى بن الحارث، حدثنا أبي، حدثنا غيلان المحاربي، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هبط آدم بدحنة فمسح الله ظهره فخرج من


#191#

ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ثم قال: {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين}»، قال: فمن يومئذ يرون أن القلم جف بما هو كائن.

و"دحناء": موضع بين "الطائف" و"الجعرانة" من مخاليف "الطائف"، وهو مقصور وممدود، وشاهد القصر قول ربيعة بن الجحدر.

فلو رجلا خادعته فخدعته ... ولكنما حوتا بدحنى أقامس

و"الدحنة": الأرض المرتفعة.

وجاء عن الحسن البصري: قال: خلق آدم من أدم الأرض كلها أسودها وأحمرها وأبيضها وحزنها وسهلها، وخلق جؤجؤه من ضرية.

"جؤجؤه" صدره.

و"ضرية" قيل: هي قرية عامرة قديمة في طريق "مكة" من "البصرة" في "نجد"، قيل: هي إلى "مكة" أقرب.


#192#

$*[الاختلاف في أول ما خلق؛ وقول من قال: إنه الماء]:$

وذكر المفسرون في قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين}: أن "الإنسان" هنا "آدم" عليه السلام، و"السلالة": القليل مما ينسل، وذلك أن "آدم" عليه السلام استل من جميع الأرض، وأصل التراب الذي خلق منه آدم عليه السلام: الماء، فإن "آدم" خلق من طين، والطين تراب مختلط بماء، والتراب خلق من الماء.

حكي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه وطائفة من السلف: أن أول المخلوقات: "الماء".

وجاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أنه سئل عن بدء الخلق، قال: من تراب وماء وطين، ومن نار وظلمة. فقيل له: فما بدء الخلق الذي ذكرت؟ قال: من ماء ينبوع.

وخرج الترمذي من حديث حمزة الزيات، عن زياد الطائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله، ما لنا إذا كنا عندك رقت قلوبنا وزهدنا في الدنيا وكنا من أهل الآخرة، فإذا خرجنا من عندك عافسنا أهالينا وشممنا أولادنا أنكرنا أنفسنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم تكونون إذا خرجتم من عندي كنتم على حالكم ذلك لزارتكم الملائكة في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بخلق جديد كي يذنبوا فيغفر لهم".

قال: قلت: يا رسول الله: مم خلق الخلق؟ قال: "من الماء" الحديث.

قال الترمذي: هذا حديث حسن، ليس إسناده بذاك القوي، وليس هو عندي بمتصل.


#193#

وقد روي هذا الحديث بإسناد آخر، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.

وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" وابن حبان في "صحيحه".

وقال عفان بن مسلم: حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة بن دعامة، عن أبي ميمونة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني؛ فأنبئني عن كل شيء قال: «كل شيء خلق من الماء».

تابعه سعيد بن بشير وغيره عن قتادة.

خرجه أحمد في "مسنده"، والحاكم في "مستدركه" وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. انتهى.

ورواه عبد الله بن معمر الهذلي، عن أبي داود، عن همام، عن قتادة، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة.

ورواه سعيد بن أبي عروبة وغيره، عن قتادة قال: ذكر لنا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. فذكره بنحوه.

وعلى هذا القول –أن الماء أول المخلوقات- طائفة.


#194#

$*[قول من قال: أول ما خلق: القلم]:$

وقال خلق: أول المخلوقات القلم.

قال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا الحسن بن سوار، حدثنا ليث، عن معاوية، عن أيوب بن زياد، حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة، عن أبيه، عن جده: عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «أول ما خلق الله تعالى القلم، ثم قال: اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة».

قال أبو داود الطيالسي: حدثنا عبد الواحد بن سليم قال: قدمت مكة فلقيت عطاء بن أبي رباح، فقلت له: يا أبا محمد، إن أناسا عندنا يقولون في القدر؟

فقال عطاء: لقيت الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: حدثني أبي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله عز وجل القلم، فقال له: اكتب. فجرى بما هو كائن إلى الأبد».

تابعه عباد بن العوام، عن عبد الواحد بن سليم.


#195#

خرجه الترمذي للطيالسي، قال: وفي الحديث قصة.

وقال: هذا حديث حسن غريب، وفيه عن ابن عباس.

هكذا أخرجه في تفسير سورة {ن}، وخرجه قبل هذا في "كتاب القدر"، وذكر القصة مطولة.

وخرج أبو داود حديث "عبادة" هذا في "سننه"، ولفظه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. قال: رب، وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة».

وحديث ابن عباس الذي أشار إليه الترمذي هو ما سمعته على أبي الحسن علي بن أبي المجد، أنبأني أحمد بن محمد بن أبي القاسم أبو بكر، أن أبا القاسم عبد الله بن رواحة الأنصاري، أخبره في العشر الأخير من "المحرم" سنة أربع وأربعين وستمائة بـ حلب، أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي يوم السبت تاسع ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وخمسمائة بثغر الإسكندرية، أخبرنا أبو الفتح سعيد بن إبراهيم الصفار بـ"أصبهان" في شوال سنة إحدى وتسعين وأربع مائة، أخبرنا أبو الحسن علي بن القاسم المقرئ، حدثنا أبو الحسين أحمد

بن فارس، وحدثني علي بن مهرويه، حدثنا ابن أبي خيثمة، حدثنا ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع بن الجراح، عن سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أول


#196#

ما خلق الله القلم، وأمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.

وقد رواه محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله عز وجل من شيء القلم، فقال له: اكتب. قال: وما أكتب يا رب؟ قال: اكتب القدر. فجرى القلم بما هو كائن في ذلك إلى قيام الساعة.

تابعه وكيع وأبو معاوية وعلي بن مسهر وشعبة وأبو خالد الأحمر، عن الأعمش بنحوه.

وخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" من طرق إلى ابن عباس.

ورواه شريك، عن الأعمش، عن أبي ظبيان أو مجاهد، عن ابن عباس.


#197#

ورواه جرير، عن عطاء، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، عن ابن عباس قال: إن أول شيء خلق ربي القلم، فقال له: اكتب. فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة.

والحديث عن الشعبي بنحو رواية أبي ظبيان وأبي الضحى ومجاهد.

وجاء عن ابن عباس مرفوعا من حديث عمر بن حبيب العدوي البصري القاضي –وهو ضعيف- عن القاسم بن أبي بزة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه كان يحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول شيء خلقه الله القلم، وأمره أن يكتب كل شيء يكون».

خرجه الدارقطني من حديث ابن المبارك، عن رباح بن زيد، عن عمر بن حبيب. به.

وخرجه من طريق أخرى إلى ابن المبارك به، إلى: أنه قال. يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره.

ورواه أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب "القدر" فقال: حدثنا أبو موسى، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا هشام بن أبي عبد الله، حدثني القاسم بن أبي بزة حدثني عروة بن عامر، سمعت ابن عباس رضي الله عنهما


#198#

يقول: أول ما خلق الله القلم، فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق، فالكتاب عنده. وقرأ: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}.

وقال أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان في كتابه "العظمة": حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، حدثنا أحمد بن سعيد، حدثنا ابن وهب، أخبرني مسلم بن خالد، عن زكريا بن إسحاق، عن حميد الأعرج، عن مجاهد قال: خلق الله عز وجل "اليراع" أول ما خلق من الأشياء –و"اليراع": القصب-، ثم خلق القلم من ذلك اليراع، ثم قال: اكتب ما يكون إلى يوم القيامة.

حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، حدثنا يحيى بن حميد بن أبي حميد، حدثنا عثمان بن عبد الله الدمشقي، عن بقية بن الوليد، حدثني أرطاة بن المنذر الكلاعي، سمعت مجاهدا يذكره عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله –تبارك وتعالى- أول شيء خلق خلق القلم، وهو من نور مسيرة خمس مائة عام، فأمر الله –عز وجل- القلم فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، فصدقوا كل ما بلغتم عن الله عز وجل من قدرته».

وجاء عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ غير هذا، وهو ما خرجه أبو بكر بن أبي عاصم النبيل في كتابه "السنة" من طريق عن ابن عمر رضي الله عنهما: سمعت


#199#

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أول ما خلق الله عز وجل القلم، فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين»، قال: «فكتب الدنيا وما يكون فيها من عمل معمول بر أو فجور، رطب أو يابس، فأحصاه عنده في الذكر» قال: «فاقرأوا إن شئتم: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون}، فهل تكون النسخة إلا من شيء قد فرغ منه».

حديث منكر، قاله الذهبي فيما وجدته بخطه.

وقال أبو الفرج علي بن الحسين الأموي الأصبهاني الكاتب صاحب كتاب "الأغاني": أخبرني أبو جعفر أحمد بن محمد بن نصر القاضي، حدثني محمد بن الحسن الزرقي، حدثني موسى بن عبد الله بن موسى، حدثتني فاطمة بنت سعيد بن عقبة بن شداد بن أمية الجهني، عن أبيها، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول ما خلق الله –عز وجل- القلم، ثم الدواة، وهو قوله تعالى: {ن والقلم}، ثم قال للقلم: خط إلى يوم القيامة».

وذكر أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "المبدأ والقصص" أن هذا الحديث هو المراد بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعا: «قدر الله تعالى المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة».

قال: وإنما قلت: [المراد بالقدر ما كتب مما يكون؛ لأنه لا يكون


#200#

أن يكون] المراد بالتقدير علم ما يكون، من جهة أن علم الله عز وجل قديم لا يستند إلى سنين معدودة، فعلم أن المراد بالقدر: كتابة المقدور.

وفائدة إظهار المعلوم بمكتوب: أن يعلم أن المخلوقات إنما وجدت عن تدبير تقدم وجودها.

ثم قال: والقياس يقتضي أن مع القلم: اللوح، لأنه يكتب فيه، أو الدواة على ما ذكرناه، وما رأيتهم ذكروا هذا، وإن كان من الممكن خلق اللوح متأخرا، وأن تكون الكتابة متأخرة بعد مخلوقات.

انتهى قوله.


#201#

$*[قول من قال أول المخلوقات: النور والظلمة]:$

وقيل: أول المخلوقات النور والظلمة.

وقال سلمة بن الفضل: قال محمد بن إسحاق: كان أول ما خلق الله عز وجل النور والظلمة، ثم ميز بينهما فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما، وجعل النور نهارا مضيئا مبصرا.

حدث به ابن جرير في "تاريخه" عن ابن حميد، حدثنا سلمة. فذكره. وقال ابن جرير بعد ذلك بعد أن خرج حديث ابن عباس الذي قدمناه: وأولى القولين عندي بالصواب قول ابن عباس، للخبر الذي ذكرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وقيل: إن الماء خلق من النور. قاله مقاتل، ويرده حديث أبي هريرة الذي ذكرناه آنفا.

$*[قول من قال أول المخلوقات: العرش]:$

وقيل: أول المخلوقات العرش.

وقال الحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد بن محمد الهمداني العطار في كتابه "زاد المسير": فأما مبتدأ الخلق، فجاء في حديث عمران بن


#202#

الحصين وبريدة بن الحصيب تقديم خلق العرش والماء على كتب ما في الذكر وخلق سائر الأشياء.

ثم ساق أبو العلاء الأحاديث التي جاءت في ذلك.

وذهب بعضهم إلى الوقف:

فكتب يزيد بن أبي مسلم إلى جابر بن زيد –وهو: أبو الشعثاء- يسأله عن بدء الخلق؟ قال: العرش والماء والقلم، والله أعلم أي ذلك كان قبل.

وصحح بعضهم أن أولها خلقا العرش، مستدلا بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على [الماء]» خرجه مسلم في "صحيحه".

قال: فهذا صريح في أن التقدير وقع بعد العرش، والتقدير وقع عند أول خلق القلم، لحديث عبادة –يعني: ابن الصامت- الذي قدمناه.

قال: ولا يخلو قوله: «إن أول ما خلق الله القلم» إلى آخره إما أن يكون جملة أو جملتين.

فإن كان جملة –وهو الصحيح- كان معناه: أنه عند أول خلقه قال له: اكتب، كما في اللفظ: «أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب» بنصب "أول" و"القلم".

وإن كان جملتين –وهو مروي برفع "أول" و"القلم" –فيتعين حمله على أنه أول مخلوقات من هذه العالم، ليتفق الحديثان، إذ حديث


#203#

عبد الله بن عمرو صريح في أن العرش سابق على التقدير، والتقدير مقارن لخلق القلم.

وفي اللفظ الآخر: «لما خلق الله القلم قال له: اكتب».

انتهى قوله. وفيه نظر، وما ذكره من الاحتمال أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما خلق الله القلم» جملة أو جملتين تكلف وتعسف، وتصحيحه: أن يكون جملة ليس بجيد، وليست رواية فيما أعلم.

وإنما الرواية الثانية التي رويت لنا برفع "أول" و"القلم"، وباقي الروايات تعضد ذلك وتفسره: كقوله صلى الله عليه وسلم في رواية ابن عباس رضي الله عنهما التي قدمناها: «إن أول شيء خلقه الله القلم، وأمره أن يكتب كل شيء»، وقول ابن عباس: أول ما خلق الله من شيء القلم، فقال له: اكتب، وقوله في رواية أبي الضحى عنه: إن أول شيء خلقه ربي القلم.

وقائل هذا لما لم يجد بدا من أن تكون جملتين قال: فيتعين حمله على أنه أول مخلوقات من هذه العالم ليتفق الحديثان، وكأن القلم عند قائل هذا من عالم و"العرش" عنده من عالم آخر.

وقوله: "إن حديث عبد الله بن عمرو صريح في أن العرش سابق على التقدير، والتقدير مقارن لخلق القلم فهذا الحديث ليس صريحا في ذلك، فإن روايتنا الصحيحة لهذا الحديث ثبتت من رواية ابن وهب، حدثني أبو هانئ الخولاني، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعا به، ولفظه: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة»، قال: «وعرشه على الماء».


#204#

هكذا الرواية الصحيحة التي خرجها مسلم في "صحيحه" من حديث ابن وهب بإثبات لفظة: "قال: وعرشه على الماء"، وليس في ذلك تصريح بما ذكره القائل آنفا، من أن مسلما خرجه من طريق أخرى، فقال: وحدثنا ابن أبي عمر، حدثنا المقرئ حدثنا حيوة، وحدثنا محمد بن سهل التميمي، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا نافع بن يزيد، كلاهما عن ابن هانئ بهذا الإسناد نحوه، ولم يذكروا: "عرشه على الماء".

وحدث به الترمذي في "جامعه" عن إبراهيم بن عبد الله بن المنذر الباهلي الصنعاني، حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ –فذكره دون لفظة: "وعرشه على الماء"، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.

فإن كانت الرواية الأولى أثبتت ذكر العرش فقد أسقطت لذكره الرواية الثانية، وكلاهما صحيحة.

وإنما استدلال من استدل أن العرش أول المخلوقات بما خرجه ابن حاتم في "تفسيره" فقال: حدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، حدثني عبد الله بن لهيعة، حدثني عطاء بن دينار، حدثني سعيد بن جبير، قال ابن عباس رضي الله عنهما: خلق الله عز وجل اللوح المحفوظ لمسيرة مائة عام، فقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش –تبارك وتعالى: اكتب. فقال القلم: وما أكتب؟ قال: علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة، فذلك قوله تعالى يقول للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أن الله يعلم ما في السماوات والأرض. خرجه في تفسير


#205#

قوله تعالى: {قال ربي يعلم القول في السماء والأرض}.

وقال الإمام ابن المنذر في "تفسيره": حدثني موسى بن هارون، حدثنا يحيى، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن أول ما خلق الله الدواة وهي: {ن والقلم وما يسطرون}، فأمر القلم، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.

حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عبد الله، عن سفيان، عن أبي هاشم الواسطي، عن مجاهد قال: ذكرت لابن عباس قلت: قوم يقولون في القدر؟ قال: إنهم يكذبون بكتاب الله، لآخذن شعر أحدهم، ولأضربنه


#206#

إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا، فكان أول ما خلق القلم، فأمره فكتب ما هو كائن، فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه.

"أبو هاشم الواسطي" هو: يحيى بن دينار –وقيل: ابن نافع- الرماني، مات سنة خمس وأربعين ومائة، وهو أحد الثقات.

وحدث به أبو عاصم خشيش بن أصرم النسائي الحافظ في كتابه "الاستقامة" فقال: حدثنا يعلى ومحمد بن يوسف، قالا: حدثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد قال: ذكرت لابن عباس رضي الله عنهما: أن أناسا يقولون في القدر، فقال: إنهم يكذبون بكتاب الله لآخذن بشعر أحدهم فلأنصونه، إن الله عز وجل كان عرشه على الماء قبل أن يخلق شيئا، فأول شيء خلق: القلم، فأمره أن يكتب ما هو كائن، وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه.

وأفرد أبو عاصم رواية الفريابي، فقال في أوائل الكتاب: حدثنا


#207#

الفريابي، حدثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الله تعالى كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا، فأول شيء خلق: القلم، فأمره أن يكتب ما هو كائن.

وخرج أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه في ذكر العرش: حدثنا منجاب بن الحارث، حدثنا أبو عامر الأسدي، حدثنا سفيان، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الله عز وجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا، ثم خلق القلم فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.

وهذا أيضا ضعيف من أجل إبراهيم بن مهاجر.

وأضعف من ذلك ما قال أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "العظمة":

حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن أحمد بن البراء، حدثنا عبد

المنعم بن إدريس بن سنان، عن أبيه، عن وهب بن منبه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول شيء خلق الله عز وجل: العرش من نور، ثم الكرسي، ثم لوحا محفوظا من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، ينظر الله عز وجل فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة، يخلق


#208#

في كل نظرة ويحيي ويميت ويعز ويذل، ويرفع أقواما ويخفض أقواما، ويفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وخلق قلما من نور طوله خمسمائة عام، وعرضه خمسمائة عام، قبل أن يخلق الخلق، فقال للقلم: اكتب. قال القلم: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب علمي في خلقي إلى أن تقوم الساعة. فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة، إن كتاب ذلك العلم على الله ليسير هين، وسنة القلم مشقوقة، ينبع منه المداد.

$*[الكلام فيما خلق بعد القلم]:$

وقد قيل: إن الذي خلق ربنا عز وجل بعد القلم الكرسي، ثم خلق بعد الكرسي العرش، ثم خلق بعد ذلك الهواء والظلمات، ثم خلق الماء فوضع عرشه عليه.

حكاه ابن جرير في "تاريخه".

وقال عقب ذلك، وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: إن الله عز وجل خلق الماء قبل العرش؛ لصحة الخبر الذي ذكرت قبل عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه.

وذكر الحديث الآتي ذكره، وهو ما رويناه من حديث أبي بكر محمد ابن إبراهيم بن المقرئ، حدثنا عبدان بن أحمد، حدثنا عمر بن


#209#

موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حدس، عن عمه أبي رزين –يعني: العقيلي رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا عز وجل قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: «كان في عماء، ما فوقه هواء، وما تحته هواء، ثم خلق العرش، ثم استوى عليه».

حدث به أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في أول "تاريخه" عن أبي عبد الله محمد بن عبد الله الخزاعي، حدثنا حماد بن سلمة، فذكره بنحوه، وهو أول حديث في "التاريخ".

وقد تابعه يزيد بن هارون عن حماد، ورواه محمد بن المثنى، أخبرنا الحجاج، قال: قال حماد، عن يعلى بن عطاء، فذكره.

ورواه إسحاق بن راهويه، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن حماد، وعنده: «ثم كان العرش، فارتفع على عرشه».

والحديث مخرج في "جامع الترمذي" و"سنن ابن ماجه" ليزيد بن هارون، وهو حديث حسن كما قاله الترمذي، وصححه ابن جرير في


#210#

أثناء كلام له في "التاريخ".

وقد رواه شعبة عن يعلى فقال: وكيع بن عدس بدل حدس.

ممن سماه وكيع بن عدس بالعين أيضا: هشيم.

وقال البخاري في "تاريخه الكبير": وقال موسى وغيره: حدثنا أبو عوانة، عن يعلى، عن أبي مصعب وكيع بن حدس.

قال: وقال أحمد: أصبت في كتاب الأشجعي عن سفيان: وكيع بن حدس، وافق حماد بن سلمة. انتهى.

و"حدس" وجدته بخط الحافظ أبي النرسي مقيدا بسكون الدال في رواية أبي عوانة التي ذكرناها عن "تاريخ البخاري" آنفا.

وقال عبد الغني المقدسي في "الكمال" فيما وجدته بخط الحافظ أبي العباس بن فرح الفقيه الشافعي، قال: ويقال: ابن حدس –بضم الدال، وقيل: بفتحها- انتهى.


#211#

و"العماء": قال أبو عبيد: العماء في كلام العرب: السحاب، وهو ممدود. قال: وإنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم، ولا يدرى كيف ذلك العماء.

قال: وأما "العمى" في البصر فمقصور، وليس هو من هذا الحديث في شيء.

قال الحسن بن عمران الحنظلي الهروي: سمعت أبا الهيثم خالد بن يزيد الرازي يقول: أخطأ أبو عبيد، وإنما "العماء" في هذا الحديث مقصور، ولا يدرى أين كان الرب جل وعلا.

وقال الأزهري: وبلغني عن أبي الهيثم في تفسير هذا الحديث أنه في عمى مقصور –قال: وكل أمر لا تدركه القلوب بالعقول فهو عمى، أو بمعنى: أنه –تبارك وتعالى- كان حيث لا تدركه عقول بني آدم، ولا [يبلغ] كنهه الوصف، ولا تدركه الفطن، انتهى قول أبي عبيد.

وقول أبي عبيد هو المشهور، وبذلك فسره غير واحد، منهم: إسحاق بن راهويه.


#212#

وقال ابن جرير في "تاريخه": ثم إن الله عز وجل خلق بعد القلم وبعد أن أمره فكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة: سحابا رقيقا هو "العماء" وهو الغمام الذي ذكره الله تعالى في محكم كتابه، فقال تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} وذلك قبل أن يخلق عرشه، وبذلك ورد الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم روى بإسناده حديث أبي رزين العقيلي من طريق يزيد بن هارون عن حماد.

وخرجه من طريق أخرى، وقال في تفسير الحديث: فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل خلق عرشه على الماء، ومحال إذا كان على الماء أن يكون [الذي] خلقه عليه غير موجود إما قبله أو معه، فإذا كان ذلك كذلك، فالعرش لا يخلو من أحد أمرين:

إما أن يكون خلق بعد خلق الله عز وجل الماء.

وإما أن يكون خلق هو والماء معا.

فأما أن يكون خلقه قبل خلق الماء، فذلك غير جائز صحته على ما روي عن أبي رزين عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد قيل: إن الماء كان على متن الريح حين خلق عرشه، فإن كان ذلك كذلك فقد كان الماء على متن الريح.

حدثنا [ابن] وكيع، حدثنا أبي وكيع، عن سفيان، عن الأعمش،


#213#

عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله عز وجل {وكان عرشه على الماء} على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح.

ورواه محمد بن ثور، عن معمر، عن الأعمش، عن سعيد. دون ذكر المنهال بن عمرو.

وجاء عن حجاج، عن ابن جريج، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله.

خرجه ابن جرير في "تاريخه" من هذه الطرق الثلاثة.

والقائلون بأن أول المخلوقات الماء مرادهم به: الماء الذي في قوله تعالى: {وجعلنا من الماء كل شيء حي}، وهذا الماء هو الماء المطلق لا النطفة كما زعم بعضهم، لأن من الحيوانات ما يتولد من غير نطفة كدود الخل والفاكهة، ونحو ذلك.

وقوله تعالى {والجان خلقناه من قبل من نار السموم} لا ينافي ما ذكرناه من أن أول المخلوقات الماء، ولا يبعد خلق النار من الماء، فإن الله عز وجل جمع بقدرته بين الماء والنار في الشجر الأخضر، فالنار مادة الخلق الجني.

وأما الخلق الإنسي فخلق على أربعة أضرب:

أحدها: لا من ذكر ولا من أنثى، كـآدم عليه السلام.

الثاني: من ذكر بلا أنثى كـ حواء عليها السلام.

الثالث: من أنثى بلا ذكر، كـ: عيسى ابن مريم عليهما السلام.

الرابع: من ذكر وأنثى، كسائر النوع.


#214#

ومادة الخلق الإنساني الطين.

خرج ابن جرير في "تفسيره" من حديث عثمان بن سعيد، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم: "الجن"، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة، وكان اسمه: "الحارث"، وكان خازنا من خزان الجنة.

قال: وخلقت الملائكة من نور، كلهم غير هذا الحي.

قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت.

قال: وخلق الإنسان من طين، فأول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضا.

قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، وهم هذا الحي الذي يقال لهم: الجن، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلما فعل إبليس ذلك اعتز إبليس في نفسه فقال: صنعت شيئا لم يصنعه أحد.

قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم يطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه، فقال الله تعالى للملائكة الذين معه: {إني جاعل في الأرض خليفة}، فقالت الملائكة مجيبين له: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك


#215#

الدماء} كما أفسدت الجن وسفكت، وإنما بعثنا عليهم لذلك، فقال: {إني أعلم ما لا تعلمون} يقول: إني قد اطلعت على قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واعتزازه.

قال: ثم أمر بتربة آدم عليه السلام فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازب –و"اللازب": اللزج الطيب- من حمإ مسنون منتن، وإنما كان حمأ مسنونا بعد التراب، فخلق منه آدم بيده.

قال: فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى، فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل فيصوت، قوله تعالى: {من صلصال كالفخار} يقول: كالشيء المنفوخ الذي ليس بمصمت.

قال: ثم يدخل من فيه ويخرج من دبره، ويدخل من دبره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئا –للصلصلة- ولشيء ما خلقت، ولئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت علي لأعصينك.

قال: فلما نفخ الله فيه من روحه أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحما ودما، فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده، فذهب لينهض، فلم يقدر، فهو قوله تعالى: {وكان الإنسان عجولا} قال: ضجر لا صبر له على سراء ولا ضراء.

قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس فقال: الحمد لله رب العالمين بإلهام الله عز وجل، فقال الله له: يرحمك الله يا آدم.

ثم قال الله تعالى للملائكة الذين كانوا مع "إبليس" خاصة دون الملائكة الذين كانوا في السموات: {اسجدوا لآدم فسجدوا} كلهم


#216#

أجمعين {إلا إبليس أبى واستكبر} لما كان حدث نفسه من الكبر والاعتزاز، فقال: لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا، خلقتني من نار وخلقته من طين. يقول: إن النار أقوى من الطين.

قال: فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله تعالى –آيسه من الخير كله- وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته، ثم علم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي تعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرض وسهل وجبل وحمار وبحر وأشباه ذلك من الأمم وغيرها، ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة الذين كانوا مع إبليس الذين خلقوا من نار السموم، وقال لهم: {أنبئوني بأسماء هؤلاء} يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء {إن كنتم صادقين} إن كنتم لم تعلموا لم أجعل في الأرض خليفة.

قال: فلما علمت الملائكة موجدة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب الذي لا يعلمه غيره، الذي ليس لهم به علم، {قالوا سبحانك} تنزيها لله عز وجل من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، تبنا إليك، {لا علم لنا إلا ما علمتنا} كما علمت آدم عليه السلام، فقال {يا آدم أنبئهم بأسمائهم} يقول: أخبرهم، {فلما أنبأهم} يقول: أخبرهم {بأسمائهم قال ألم أقل لكم} أيها الملائكة خاصة {إني أعلم غيب السماوات والأرض} ولا يعلم غيري، {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاعتزاز.

وخرج بعضه ابن جرير أيضا في "تاريخه" مقطعا بهذا الإسناد،


#217#

وهو أثر غريب، فيه ألفاظ منكرة، وإسناده واه.

قال ابن جرير: حدثني محمد بن خلف العسقلاني، حدثنا آدم حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى لما صور آدم تركه ما شاء أن يتركه، فجعل إبليس يطوف به، فلما رآه أجوف علم أنه لا يتمالك».

وقال ابن حبان في "صحيحه": أخبرنا عمران بن موسى بن مجاشع، حدثنا هدبة بن خالد القيسي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام جعل إبليس يطيف به، فلما رآه أجوف قال: ظفرت به؛ خلق لا يتمالك».

وهو في "صحيح مسلم" من حديث: يونس بن محمد، عن حماد ابن سلمة.

وفي "تفسير سفيان بن عيينة" الذي رواه عنه أبو عبيد الله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي المكي في قوله عز وجل يعني: حكاية {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} والنار تأكل الطين، علم أن النار تأكل الطين.

وقال أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في كتابه "الغور":


#218#

ولما احتج إبليس على آدم ما احتج، وفضل نفسه عليه، نظر في نفسه، واعتبر جوهره، فقال: خلقتني من نار والنار من النور وخلقته من تراب والتراب من الظلمة، فالنور أبدا غالب على الظلمة.

ولم يلتفت اللعين إلى أن التراب من الطين، والطين من الماء، والماء حياة كل شيء، والماء يطفئ النار.

وذكر ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير" في قوله عز وجل حكاية عن إبليس: {أنا خير منه} قال: قال العلماء: وقع الخطأ من إبليس حين قاس مع وجود النص، وخفي عليه فضل الطين على النار، وفضله من وجوه:

أحدها: أن من طبع النار الطيش والالتهاب والعجلة، ومن طبع الطين الهدوء والرزانة.

والثاني: أن الطين سبب الإنبات، والنار سبب الإعدام والإهلاك.

والثالث: أن الطين سبب جمع الأشياء، والنار سبب تفريقها.

وقال أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين: حدثنا عبد الله بن سليمان، حدثنا هارون، عن زيد بن أبي الزرقاء، أخبرنا ضمرة بن ربيعة، عن قادم بن ميسور قال: قال عمر بن عبد العزيز: لما أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم أول من سجد له إسرافيل عليه السلام، فأثابه الله عز وجل أن كتب القرآن على جبهته.

وقال الإمام أبو بكر ابن العربي في كتابه "أحكام القرآن": اتفقت


#219#

الأمة على أن السجود لآدم عليه السلام لم يكن سجود عبادة، وإنما كان على أحد وجهين:

إما سلام الأعاجم بانحناء والتعظيم.

وإما وضعه قبلة، كالسجود للكعبة وبيت المقدس، وهو الأقوى لقوله تعالى: {فقعوا له ساجدين}، ولم يكن على معنى التعظيم، وإنما صدر على وجه الإلزام للعبادة واتخاذه قبلة، وقد نسخ الله عز وجل جميع ذلك في هذه الملة.

قلت: تمثيله السجود للكعبة وبيت المقدس، وقوله: "هو الأقوى" حسن، لكن عقبه بقوله: ولم يكن على معنى التعظيم، فإن أراد تعظيم الأعاجم بسجودها فحسن وإلا فقد صح في حديث الشفاعة: «إن الناس يرغبون إلى آدم عليه السلام فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك لملائكته»، فلو لم يكن في السجود له فضيلة عظم بها لما ذكروه. والله أعلم.

وفي "تفسير شيبان بن عبد الرحمن النحوي": عن قتادة قال: وذكر لنا: أن الله تعالى لما أخذ في خلق آدم عليه السلام قالت الملائكة: ما الله بخالق خلقا هو أعلم منا ولا أكرم على الله منا.

قال: فابتليت الملائكة بخلق آدم عليه السلام.

قال: ويبتلي الله عباده بما شاء، ليعلم من يطيعه ومن يعصيه.


#220#

وفي "تفسير شيبان" أيضا: قوله عز وجل {هو الذي خلق لكم ما في الأرض} قال: سخر لكم ما في الأرض جميعا كرامة من الله عز وجل ونعمة لابن آدم متاعا وبلغة ومنفعة، إلى قوله: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} قال قتادة: قد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره عند الله من سفك الدم والفساد في الأرض، قال الله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون} قال: قد كان من علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة رسل، وأنبياء، وقوم صالحون، وساكن الجنة، {وعلم آدم الأسماء كلها} الآية قال: علم آدم من الأسماء أسماء خلقه مما لا تعلمه الملائكة، فسمى كل شيء باسمه وألجأ كل شيء إلى جنسه.

وقوله في الحديث السابق: «فلما تمت النفخة في جسده عطس» يشهد له ما قال أبو حاتم محمد بن حبان في "صحيحه": حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، قال: حدثنا محمد بن بشار.

وقال أبو عيسى الترمذي في "جامعه" –واللفظ له- حدثنا محمد بن بشار، حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله عز وجل آدم ونفخ فيه الروح عطس، فقال: الحمد لله. فحمد الله بإذنه، فقال له ربه عز وجل: يرحمك الله يا آدم، اذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملأ منهم فقل: السلام عليكم. قالوا: وعليك السلام ورحمة


#221#

الله، ثم رجع إلى ربه فقال: إن هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم، فقال الله له ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت. قال: اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة –ثم بسطها، فإذا فيها آدم وذريته، فقال: أي رب، ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك. فإذا كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه، فإذا فيهم رجل أضوؤهم أو من أضوئهم، قال: يا رب، من هذا؟ فقال: هذا ابنك داود، وقد كتبت له عمرا أربعين سنة. قال: يا رب، زده في عمره. قال: ذاك الذي كتبت له . قال: أي رب، فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة. قال: أنت وذاك.

قال: ثم أسكن الجنة ما شاء الله، ثم اهبط منها، فكان آدم يعد لنفسه.

قال: فأتاه ملك الموت، فقال له آدم: قد عجلت، قد كتب لي ألف سنة؟

قال: بلى، ولكنك جعلت لابنك داود ستين سنة.

فجحد فجحدت ذريته، فنسي فنسيت ذريته قال: فمن يومئذ أمر بالكتاب والشهود».

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

قلت: وخرجه الحاكم في "مستدركه" من طريق بكار بن قتيبة عن صفوان بن عيسى بنحوه مختصرا، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.


#222#

وقال الترمذي بعد قوله الذي قدمناه: غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواية "زيد" التي أشار إليها الترمذي خرجها في "الجامع" من حديث هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، ولفظه: «لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك. فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه فقال: أي رب، من هذا؟ [قال]: رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داود. فقال: رب، كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة. قال: أي رب، زده من عمري أربعين سنة، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت عليهما السلام، فقال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود، قال: فجحد آدم، فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته».

هذا حديث حسن صحيح، قاله الترمذي.


#223#

وفي بعض طرقه ما حدث به عبد الله بن وهب في كتاب "القدر" –تأليفه- عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة مرفوعا به.

وفيه بعد قوله: «ونسي فنسيت ذريته»: قال: «فرأى –يعني: آدم عليه السلام- فيهم القوي والضعيف، والغني والفقير، والصحيح والمبتلى، فقال: يا رب، ألا سويت بينهم؟ قال: أردت أن أشكر».

وجاء عن أبي بن كعب من قوله نحوه.

أخبرنا المسند الصالح أبو هريرة عبد الرحمن ابن الحافظ أبي عبد الله محمد بن الذهبي، أخبرنا أبو محمد القاسم بن المظفر الدمشقي، أخبرنا: علي بن أبي عبد الله البغدادي حضورا ومحمد بن أحمد القطيعي ومحمد ابن عبد الواحد بن المتوكل إجازة، أن محمد بن عبيد الله بن الزاغوني، أنبأهم زاد البغدادي فقال: وأنبأنا أيضا نصر بن نصر العكبري ح.

وأخبرنا أبو هريرة، حدثنا الحافظ أبو محمد القاسم بن محمد، أخبرنا إبراهيم بن علي الواسطي وعبد الرحمن بن أحمد المقدسي ومحمد بن مؤمن الصوري، قالوا: أخبرنا داود بن أحمد بن ملاعب، أخبرنا محمد بن عبيد الله بن الرطبي ح.

وقال الواسطي والمقدسي أيضا: وأخبرنا الحسن بن إسحاق بن الجواليقي، أخبرنا محمد بن عبيد الله بن الزاغوني، قال هو ونصر العكبري وابن الرطبي: أخبرنا علي بن محمد بن البسري، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن المخلص، حدثنا يحيى –يعني: ابن صاعد،


#224#

حدثنا أبو عبيد الله يحيى بن محمد بن السكن البزار، حدثنا حبان بن هلال، حدثنا مبارك بن فضالة، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام خبره ببنيه، فجعل يرى فضائل بعضهم على بعض، فرأى نورا ساطعا في أسفلهم فقال: يا رب، من هذا؟ قال: هذا ابنك أحمد، هو أول وهو آخر، وهو أول مشفع».

وفي بعض طرقه: «لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام، عطس فألهمه ربه عز وجل أن قال: الحمد لله. فقال له ربه: يرحمك ربك. فلذلك سبقت رحمته غضبه، ثم إن الله تعالى قال: ائت الملأ من الملائكة فسلم عليهم. فأتاهم فقال: السلام عليكم. قالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله».

قال: «ثم إن الله أخبر آدم بنيه، فجعل يرى فضائل بعضهم على بعض».

قال: «ورأى نورا ساطعا أسفلهم، قال: يا رب، من هذا؟ قال: ابنك أحمد صلى الله عليه وسلم، هو الأول والآخر، وهو أول شافع».

قال: «ثم رأى نورا ساطعا في وسطهم، فقال: يا رب، من هذا؟ قال: ابنك داود. قال: يا رب، كم أجلي؟ قال: ألف سنة قال: يا رب، كم أجل ابني داود؟ قال: كذا وكذا قال: يا رب، فاجعل لابني داود من أجلي ستين سنة».

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلما استوفى أربعين وتسعمائة قيل: قد استوفيت، أليس قد جعلت لابنك داود؟ قال: لا».

قال: «فنسي ونسيت ذريته، وجحد آدم وجحدت ذريته».


#225#

وخرجه أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" مطولا من طريق فيها أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن الكعبة خلقت قبل الأرض بألفي سنة، وهي من الأرض وذكره بطوله.

وفيه صفة خلق آدم عليه السلام قال: «فلما جرى فيه الروح جلس فعطس، فقال الله –تبارك وتعالى-: قل: الحمد لله فقال: الحمد لله قال: رحمك ربك».

وفيه عرض ذرية آدم عليه ، قال: «فرأى فيهم رجلا ساطعا نوره، فقال: يا رب، من هذا؟ فقال: ابنك داود. قال: كم عمره يا رب؟ قال: ستون سنة. قال: فكم عمري؟ قال: ألف سنة. قال: انقص من عمري أربعين سنة فزده في عمره، ثم رأى آخر ساطعا نوره ليس مع أحد من الأنبياء مثل لمعه، فقال: من هذا أي رب؟ قال: هذا ابنك محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أول من يدخل الجنة. قال: الحمد لله الذي جعل من ذريتي من يسبقني إلى الجنة ولا أحسده» وذكر بقية الحديث.

وجاء من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول من جحد آدم، إن الله تعالى لما خلق آدم مسح ظهره، فأخرج منه ما هو ذارئ إلى يوم القيامة، فجعل يعرض عليه ذريته، فرأى فيه رجلا يزهر فقال: أي رب، من هذا؟ قال: ابنك داود. قال:


#226#

أي رب، كم عمره؟ قال: ستون سنة. قال: أي رب، زد في عمره. قال: لا، إلا أن أزيده من عمرك. وكان عمر آدم ألف عام، فزاده أربعين عاما، وكتب الله عز وجل عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة، فلما احتضر آدم وأتته الملائكة قال: إني قد بقي من عمري أربعون عاما. فقيل: إنك قد وهبتها لابنك داود. قال: ما فعلت. فأبرز الله عز وجل الكتاب وأشهد عليه الملائكة، ثم أكمل الله عز وجل لآدم ألف سنة وأكمل لداود عليه السلام مائة سنة».

خرجه الإمام أحمد في "مسنده" وأبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" لحماد.

وجاء من رواية أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنه –يعني: الله عز وجل- مسح ظهر آدم صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذريته كهيئة الذر أبيض مثل اللؤلؤ، وقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى فخرج منه كهيئة الذر سوداء وقال لهم: ادخلوا النار ولا أبالي. فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، ثم أخذ منهم الميثاق قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. فأعطوه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية، فقال هو والملائكة: شهدنا، فتقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، فلذلك ليس


#227#

في الأرض أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن ربه الله، ولا مشرك إلا وهو يقول: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. وذلك حين يقول: {قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} يعني: يوم أخذ منهم الميثاق ثم عرضهم على آدم فمرت به نسمة طيبة لها ريح طيبة تجري في نور يتلألأ.

فقال: أي بني هذا؟ قيل: هذا ابنك داود.

قال: كم عمره؟ قال: سبعون سنة.

قال: إن عمر ابني هذا لقليل، خذوا من عمري ثلاثين سنة واجعلوها في عمره حتى يكون عمره مائة سنة.

فبعث الله إليه ملكا فكتب كتابا وأشهد عليه ملكين من الملائكة، وكان ذلك أول شرط كان في الدنيا وأول شهود، فلذلك أمر بشهادة شاهدين، فكتب: هذا ما وهب آدم لابنه داود، أنه وهب له من عمره ثلاثين سنة، وأشهد على ذلك من الملائكة فلانا وفلانا، وختم على ذلك آدم والملكان، فلما انقضى عمر آدم إلا تلك الثلاثين سنة أتاه ملك الموت فقال: إني أريد أن أقبض نفسك.

فقال آدم: أليس بقي من عمري ثلاثون سنة؟

قال: أليس قد أعطيت ذلك ابنك داود؟

فكابر وقال: لا. فجحد، فأقام الله عليه الشهود من الملائكة، ويومئذ جعلت البينة.

وهذا الحديث له شواهد جمة، وله طرق:

منها ما قال عبد بن حميد: حدثنا الحسن بن موسى، عن يعقوب ابن عبد الله الأشعري، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} قال:


#228#

"أخرج ذرية آدم من صلب آدم في صور مثل الذر، فعرضهم على آدم بأسمائهم وأسماء آبائهم وآجالهم، فعرض عليه روح داود في نور ساطع"، فقال آدم: من هذا؟ قال: هو من ذريتك، خليفة نبي. قال: فكم عمره؟ قال: عمره ستون سنة قال: وكان عمر آدم ألف سنة، قال: فاجعلوا له من عمري أربعين سنة. والأقلام رطبة تجري، فأثبتت لداود، فلما انقضت سنو آدم بعث الله عز وجل إليه ملك الموت ليقبضه، فأتاه فقال: يا آدم، أمرت أن أقبضك. قال: أولم يبق من عمري أربعون سنة.

قال: فرجع ملك الموت عليه السلام إلى ربه، فقال: يا رب، إن آدم [يدعي] من عمره أربعين سنة؟ قال: أعلم آدم أنه جعلها لابنه داود والأقلام رطبة تجري.

قال: فأنكر آدم، فأتاه ملك الموت عليه السلام فقال: يا آدم، إن ربك عز وجل يقول: إنك جعلت من عمرك أربعين سنة لابنك داود، فأثبتت لداود والأقلام رطبة تجري.

قال: فأنكر آدم، فقال: لا بد لمن كان من ولد آدم أن يكون منه شيء: إما إنكار وإما كذب.

وقال الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه": حدثنا علي بن حمشاذ العدل، حدثنا محمد بن غالب الضبي [وهشام بن علي السدوسي،


#229#

قالا: حدثنا] موسى بن إسماعيل أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: لما نفخ في آدم عليه السلام الروح فبلغ الخياشيم عطس فقال: الحمد لله رب العالمين. فقال تبارك وتعالى: يرحمك ربك.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، على شرط مسلم، وإن كان موقوفا فإسناده صحيح بمرة.

وروى جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد –يعني: ابن جبير- قال: لما خلق الله عز وجل آدم نفخ الروح في رأسه قبل جسده، فعطس فقال: الحمد لرب خلقني. فقال الله تعالى: يرحمك ربك.

وجاء عن عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد قال: لما نفخ الله عز وجل في آدم الروح لم تبلغ رجليه حتى استجاع، فأهوى إلى عنقود من عنب الجنة فأكله. وقرأ سعيد: {خلق الإنسان من عجل}.

وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله عز وجل آدم عليه السلام وطوله ستون ذراعا، ثم قال: اذهب فسلم على أولئك من الملائكة فاستمع ما يحيونك؛ فإنها تحيتك وتحية ذريتك. فقال: السلام عليكم. فقالوا: السلام عليك ورحمة الله. فكل من يدخل الجنة على صورة آدم عليه السلام، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن».

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا روح، حدثنا حماد بن


#230#

سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان طول آدم ستين ذراعا في سبع أذرع عرضا».

وحدث حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، [عن أبي هريرة قال]: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل أهل الجنة [الجنة] جردا مردا جعادا مكحلين، أبناء ثلاثة وثلاثين، على خلق آدم: ستين ذراعا في سبعة أذرع».


#231#

$[خلق حواء عليها السلام]$

وقد ذكر محمد بن السائب الكلبي وغيره: أن آدم عليه السلام كان من طوله يسمع أصوات الملائكة، فحط إلى ستين ذراعا بعد أن هبط إلى الأرض.

ولم يبلغنا في حديث ولا أثر طول "حواء" عليها السلام، والظاهر –والله أعلم- أنها لشكل آدم، ومنه خلقت على المشهور وعليه الجمهور.

وقد ذكر فيه أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي في كتابه "أعلام النبوة" فقال عن حواء: واختلف فيما خلقت منه على قولين:

أحدهما أنه خلقها من مثل ما خلق منه آدم. وهذا قول تفرد به ابن بحر.

الثاني –وهو ما عليه الجمهور-: أنه خلقها من ضلع آدم الأيسر بعد أن ألقي عليه النوم حتى لم يجد لها مسا، قال ابن عباس: فلذلك تواصلا، ولذلك سميت امرأة لأنها خلقت من المرء.

قال: وفي تسميتها "حواء" قولان:

أحدهما: لأنها خلقت من حي.

والثاني: لأنها أم كل حي. انتهى.

قال محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله تعالى: {وخلق منها زوجها} قال: خلق حواء من قصيرى آدم وهو نائم، فاستيقظ فقال: "أثاء" –امرأة بالنبطية.


#232#

"القصيرى": ضلع بين الخاصرة والجنب، وهو الذي خلقت منه "حواء" وجعل مكانه من "آدم" لحم؛ ولهذا جاء أن أضلاع الرجل ناقصة عن أضلاع المرأة.

قال أبو منصور محمد بن نعيم بن ناعم السمرقندي في كتابه المؤلف في الفرائض: حدثنا أبو عمران موسى بن أحمد الفريابي، حدثنا عبد الرحيم بن منيب، حدثنا علي بن عاصم، حدثنا حصين بن عبد الرحمن قال: بينا نحن عند "شريح" إذ جاءت امرأة فقالت: أيها القاضي: مر الناس يسكتوا حتى تسمع مقالتي. فسكت الناس، ثم قالت: أيها القاضي: إن لي ما للرجال وما للنساء. قال شريح: فإن أمير المؤمنين يقضي على سبق البول. قالت: فإني أبول بهما جميعا. فقال شريح: إن هذا لعجب. فقالت المرأة: أخبرك بما هو أعجب من هذا؛ إن زوجي ابن عمي، ولدت منه أولادا، اشترى لي جارية تخدمني، فأولدتها. فقام شريح يجر رداءه حتى دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، عجيبة. وأخبره بالقصة.

قال: فدعا علي رضي الله عنه بالمرأة، فأخبرته خبرها، فقال: ادعوا لي "دينارا" الخصي –وكان من أفاضل أهل الكوفة- وامرأتين عفيفتين. ثم قال لهم: أدخلوا هذه المرأة بيتا وانزعوا عنها ثيابها ما خلا ثيابا عليها وعدوا أضلاعها الأيمن والأيسر فاصدقوني.

قال: ففعلوا بها ما أمرهم، وخرجوا فقالوا: يا أمير المؤمنين: وجدنا أضلاعها اليمنى: ثمانية عشر، وأضلاعها اليسرى: سبعة عشر. فكبر علي


#233#

رضي الله عنه ثلاثاً ثم قال: علي بالحلاق، فأمر بحلق رأس المرأة وألبسها الرداء والنعل، وألحقها بالرجال.

فسمع بذلك زوجها فجاء يشتد، فقال: يا أمير المؤمنين، فضحتني امرأتي وبنت عمي، ولي منها أولاد، ألحقتها بالرجال!

فقال علي: قضيت فيها بما قضى الله تعالى في "آدم" و"حواء"، إن الله عز وجل لما خلق "آدم" عليه السلام جعل أضلاعه اليمنى ثمانية عشر واليسرى ثمانية عشر، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه فخلق منه "حواء"، فأضلاع النساء تامة وأضلاع الرجال تنقص.

هذا الأثر لا يحتمله علي بن عاصم أبو الحسن الواسطي، وإن كان قد ضعفوه، وأنا أتهم به عبد الرحيم بن حبيب الراوي عنه، ووقع في الأصل الذي خرجت منه "ابن منيب"، وهو تصحيف، إنما هو: "ابن حبيب الفاريابي" أحد المتروكين، لعله وضع –فيما قاله ابن حبان- أكثر من خمس مائة حديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وذكر أبو محمد بن قتيبة: أنه قرأ في التوراة في أول سفر ما منه: فخلق –يعني: الله عز وجل- آدم عليه السلام من أدمة الأرض، ونفخ في وجهه نسمة


#234#

الحياة، وقال: إن آدم لا يصلح أن يكون وحده، ولكن أصنع له عونا مثله، فألقى عليه السبات، فأخذ إحدى أضلاعه ولأمها، وسمي الضلع التي أخذ: امرأة؛ لأنها من المرء أخذت، فقربها إلى آدم عليه السلام فقال: "عظم من عظامي ولحم من لحمي"، ومن أجل ذلك يترك الرجل أباه وأمه، ويتبع امرأته، ويكونان كلاهما جسما واحدا.

وذكر نحوه محمد بن إسحاق، فقال: بعد ذلك خلق آدم عليه السلام، ثم ألقيت السنة على آدم، فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم، عن ابن عباس وغيره: ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لحما، وآدم نائم لم يهب من نومه، حتى خلق الله عز وجل من ضلعه تلك زوجته، فسواها امرأة ليسكن إليها، فلما كشف عنه السنة، وهب من نومه، رآها إلى جنبه فقال –يزعمون والله أعلم-: "لحمي ودمي وزوجتي"، فسكن إليها، فلما زوجه الله وجعل له سكنا من نفسه قال له قبلا: {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما} الآية.

وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي خرجه ابن حبان في "صحيحه" وغيره من الأئمة –وقد تقدم بعض طرقه- قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت آدم عليه السلام، أنبيا كان؟ قال: «نعم، رسول الله، كلمه الله قبلا فقال: {اسكن أنت وزوجك الجنة}».


#235#

هذا هو المشهور: أن "حواء" عليها السلام –خلقت قبل دخول آدم الجنة.

$*[سبب تسمية حواء بهذا الاسم]:$

روى إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي في "تفسيره" عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة رضي الله عنهم: أنه أخرج إبليس من الجنة، وأسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحشا، ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة، فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة، خلقها الله عز وجل من ضلعه، فسألها: ما أنت؟ قالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إلي. قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء. قالوا: ولم سميت "حواء"؟ قال: إنها خلقت من شيء حي. قال الله عز وجل {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة} الآية.

ورواه أبو يوسف أسباط بن نصر الهمداني عن السدي بنحوه.

وفي هذا الحديث: أن حواء سميت بذلك لأنها خلقت من الحي، وهو أولى الأقوال.

وقيل: سميت بذلك لأنها من "الحوة" في اللون وهي: حمرة تضرب إلى سواد، يقال: شفة حواء. وقال بعضهم: وتكون فعلا من "حوى الشيء يحويه"، مثل: لواء وسواء.


#236#

$[ما قيل في الشجرة التي نهي آدم وحواء عنها]$

وفي الحديث أيضا قول الله عز وجل: {ولا تقربا هذه الشجرة} وهذه الشجرة المنهي عنها مختلف فيها أي شجرة هي؟

فقيل: كانت شجرة البر. قاله وهب بن منبه وغيره.

وذكر مقاتل في تفسيره: أنها السنبلة، وهي: الحنطة.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "العلل": وجدت في كتاب أبي، حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا رباح، حدثت عن شعيب الجبائي قال: كانت الشجرة التي نهي عنها آدم وزوجه شبه البر، اسمها: "الدعة".

لكنه قال في روايته عن أبيه في كتاب "الزهد": حدثني أبي، حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا رباح، قال: حدثت عن شعيب الجبائي قال: كانت الشجرة التي نهى الله –تبارك وتعالى- عنها آدم وزوجته شبه البر، سمي "الدعة" وكان لباسهما النور.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما وطائفة: هي شجرة الكرم.

قال سعيد بن منصور: حدثنا خالد بن عبد الله، عن بيان، عن


#237#

الشعبي، عن جعدة بن هبيرة قال: الشجرة التي افتتن بها آدم عليه السلام شجرة الكرم، جعلت فتنة لولده من بعده.

تابعه خالد بن خداش، عن خالد بن عبد الله.

وحدث محمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان، عن السدي في قوله تعالى: {ولا تقربا هذه الشجرة} قال: هي العنب.

وقال آخرون منهم عطاء وقتادة: هي شجرة التين.

وجاء عن علي رضي الله عنه: أنها شجرة الكافور.

وقيل: هي النخلة.

وقيل: إنها شجرة العلم، حكاه أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة".

قال: وفي هذا [العلم] قولان:

أحدهما: علم الخير والشر.

والثاني: علم ما لم يعلم. انتهى.

وقال محمد بن جرير: والصواب في ذلك: أن يقال: إن الله –جل ثناؤه- نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة، فأكلا منها، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين؛ لأن الله


#238#

تعالى لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة.

وذكر ابن قتيبة في "المعارف": أنه قرأ في التوراة في أول سفر من أسفارها ما نصه عن الله عز وجل قال: "ونصب شجرة الحياة وسط الفردوس، وشجرة علم الخير والشر، [وقال لآدم: كل ما شئت من شجرة الفردوس، ولا تأكل من شجرة علم الخير والشر]، فإنك يوم تأكل منها تموت".

يريد: أنك تتحول إلى حال من يموت.

وكانت الحية أعرم دواب البحر، فقالت للمرأة: إنكما لا تموتان إن أكلتما منها، ولكن أعينكما تنفتح وتكونان كآلهة تعلمان الخير والشر. فأخذت المرأة ثمرتها فأكلت وأطعمت بعلها، فانفتحت أبصارهما وعلما


#239#

أنهما عريانان، فوصلا من ورق التين، فاصطنعاه أزرا، ثم سمعا صوت الله في الجنة حين بورك النهار، فاختبأ آدم وامرأته في شجر الجنة، فدعاهما.

فقال آدم: سمعت صوتك في الفردوس، ورأيتني عريانا فاختبأت منك.

فقال: ومن أراك أنك عريان، ها! لقد أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟

فقال: إن المرأة أطعمتني.

قالت المرأة: إن الحية أطعمتني.

فقال الله عز وجل للحية: من أجل فعلك هذا فأنت ملعونة وعلى بطنك تمشين وتأكلين التراب، وسأغري بينك وبين المرأة وولدها، فيكون يطأ رأسك، وتكونين أنت تلدغينه بعقبه.

وقال للمرأة: وأنت؛ فأكثر أوجاعك وأحبالك، وتلدين الأولاد بالألم، وتردين إلى بعلك فيكون مسلطا عليك.


#240#

وقال لآدم: ملعونة الأرض من أجلك، وتنبت الحاج والشوك، وتأكل منها بالشقاء ورشح وجهك، حتى تعود إلى التراب، من أجل أنك تراب.

وسمى الله تعالى امرأته "حواء"؛ لأنها أم كل حي، وألبسها وإياه سرابيل من جلود.

وقال: إن آدم قد علم الخير والشر، فأصله يقدم يده يأكل من شجرة الحياة، فيأكل منها فيعيش الدهر، فأخرجه من مشرق جنة عدن إلى الأرض التي منها أخذ.

وذكر ابن قتيبة أيضا عن وهب بن منبه أنه قال: وكان الله تعالى أخدم آدم الحية في الجنة، وكانت أحسن خلق الله تعالى، لها قوائم [كقوائم] البعير، فعرض إبليس نفسه على دواب الأرض كلها أنها تدخله الجنة، فكلها أبى ذلك عليه، إلا الحية، فإنها حملته بين نابين من أنيابها، ثم أدخلته الجنة.

[وقد][3] ذكر المفسرون كـ: وهب وأبي العالية والسدي في قصة آدم والحية، وإبليس ووسوسته لآدم أخبارا إسرائيلية.


#241#

قال ابن إسحاق فيما رواه عن بعض أهل العلم: إن آدم لما رأى نعيم الجنة قال: لو أن خلدا!، فاغتنمها إبليس فأتاه من قبل الخلد.

قال: وحدثت: أن أول ما ابتدأهما من كيده: أنه ناح عليهما نياحة أحزنتهما حين سمعاها.

فقالا له: ما يبكيك؟

قال: أبكي عليكما، أنكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والغبطة.

فوقع ذلك في أنفسهما، ثم أتاهما فوسوس إليهما، وقال: يا آدم، هل أدلك على شجرة الخلد؟


#242#

$[كيف أكل آدم عليه السلام من الشجرة؟]$

قال الإمام أبو بكر بن العربي –رحمه الله وإيانا- في كتابه "أحكام القرآن": اختلف الناس كيف كان أكل آدم عليه السلام من الشجرة على خمسة أقوال:

الأول: أنه أكلها سكران. قاله سعيد بن المسيب.

الثاني: أنه أكل من جنس الشجرة لا من عينها، كأن إبليس غره بالأخذ بالظاهر.

ثم قال:

الثالث: أنه حمل النهي على التنزيه دون التحريم.

الرابع: أنه أكل متأولا لرغبة الخلد.

ثم قال:

الخامس: أنه أكلها ناسيا.


#243#

قال القاضي عياض في "الشفا": وإذا كان ناسيا لم تكن معصية، وكذلك إذا كان ملبسا عليه غالطا، إذ الاتفاق خروج الناسي والساهي عن حكم التكليف.

وأجاب ابن الجوزي عن السؤال في القول بأنه عليه السلام أكل ناسيا: بأن الأنبياء مطالبون بحقيقة التيقظ وتجويد التحفظ أكثر من غيرهم بالنسيان الذي ينشأ عن الذهول عن مراعاة الأمر، فكانت المؤاخذة على سبب النسيان. حكاه في "التبصرة" عن بعضهم.

وقال ابن العربي: "أما القول بأن آدم عليه السلام أكلها سكران، ففاسد نقلا وعقلا؛ أما النقل: فلأن هذا لم يصح بحال".

قلت: فكان ينبغي أن لا يذكره عن سعيد بن المسيب بصيغة: قاله؛ فإنها للجزم، وقد ضعف هذا القول القاضي عياض في "الشفا".

قال ابن العربي: وقد نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الشجرة التي نهي عنها: الكرم، فكيف ينهى عنها ويوقع الشيطان له فيها، وقد وصف الله تعالى خمر الجنة بأنها لا غول فيها، [فكيف] توصف بغير صفتها التي أخبر الله سبحانه بها عنها في القرآن؟!


#244#

وأما العقل: فلأن الأنبياء عليهم السلام بعد النبوة منزهون عما يؤدي إلى الإخلال بالفرائض واقتحام الجرائم، وأما سائر الجهات فمحتملة، وأظهرها الثاني، والله أعلم.

قال القاضي عياض في "الشفا": وقال الشيخ أبو بكر بن فورك وغيره: إنه يمكن أن يكون ذلك قبل النبوة، ودليل [ذلك] قوله تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى . ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى}، فذكر أن الاجتباء والهدى كانا بعد العصيان. انتهى.

وقال أبو بكر بن العربي في كتاب "التفسير": "إن إبليس شاور آدم على أكلها فلم يقدر عليه، وشاور حواء فخدعها فأكلت، فلم يصبها مكروه، فجاءت آدم عليه السلام فقالت: إن الذي تكره من الأكل قد أتيته فما نالني مكروه، فلما عاين ذلك آدم اغتر فأكل، فحلت بهما العقوبة، وذلك قوله تعالى: {ولا تقربا هذه الشجرة} فجمعهما في النهي، فلذلك لم تنزل بهما العقوبة حتى وجد المنهي عنه منهما جميعا".

وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" من حديث قتادة عن أبي بن كعب


#245#

رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما ذاق آدم من الشجرة فر هاربا، فتعلقت به شجرة بشعره، فنودي: يا آدم، أفرارا مني؟ قال: بل حياء منك. قال: يا آدم، اخرج من جواري، فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني، ولو خلقت مثلك ملء الأرض خلقا ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين».

وقال أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا يونس، حدثنا شيبان، عن قتادة، حدثنا الحسن، عن أبي بن كعب رضي الله عنه عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن آدم كان رجلا طوالا، كأنه نخلة سحوق، كثير شعر الرأس، فلما وقع بما وقع به بدت له عورته، وكان لا يراها قبل ذلك، فانطلق هاربا، فأخذت برأسه شجرة من شجر الجنة، فقال لها: أرسليني. قالت: لست مرسلتك. فناداه ربه عز وجل: أمني تفر؟ فقال: أي رب، استحييتك».

قال قتادة: وإن المؤمن يستحيي ربه –تبارك وتعالى- من الذنب إذا وقع به، ثم يعلمه بحمد الله أين المخرج؟ يعلمه أن المخرج في الاستغفار والتوبة إلى الله تعالى.

[هذا][4] الحديث والذي قبله فيهما انقطاع، فالأول بين "قتادة" و"أبي"؛


#246#

لأن قتادة رواه: عن الحسن، عن عتي بن ضمرة عن أبي رضي الله عنه، وإسناد الثاني سقط منه" عتي بن ضمرة".

[وقد] [5] خرجه الحافظ أبو نعيم في كتابه "الحلية" من حديث محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أحمد بن طارق، حدثنا عباد بن العوام، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن عتي، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان آدم عليه السلام رجلا طويلا، كثير شعر الصدر، كأنه نخلة جوفاء، فلما أصاب الخطيئة سقط عنه رياشه، فذهب هاربا في الجنة، فتعلقت شجرة برأسه، فقال: هل أنت مخليتي؟ فقالت: ما أنا بمخليتك. فناداه ربه عز وجل: يا آدم، أتفر مني؟ قال: يا رب، استحييتك.

وهذا موقوف، هكذا حدث به أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" عن أحمد بن طارق.

[وحدث] [6] به أيضا قبل ذلك عن المنجاب بن الحارث، عن علي بن مسهر، عن محمد بن إسحاق، عن الحسن بن ذكوان، عن الحسن.

وجاء من طريق أخرى عن أبي مرفوعا، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل خلق آدم طوالا كثير شعر الرأس، كأنه نخلة سحوق، فلما أذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة، فأخذت شجرة شعره، فنازعها، فناداه الرحمن –جل


#247#

جلاله-: يا آدم، مني تفر؟ فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب، لا، ولكن استحياء».

[خرجه] [7] ابن أبي حاتم في "تفسيره".

وجاء عن عمر بن ذر، عن مجاهد قال: أوحى الله عز وجل إلى الملكين: أخرجا آدم وحواء من جواري؛ فإنهما قد عصياني. فالتفت آدم إلى حواء باكيا وقال: "استعدي للخروج من جوار الله عز وجل، هذا أول شؤم بالمعصية"، فنزع جبريل التاج عن رأسه، وحل ميكائيل الإكليل عن جبينه، وتعلق به غصن، فظن آدم أنه قد عوجل بالعقوبة، فنكس رأسه يقول: "العفو العفو"، فقال الله عز وجل: "فرارا مني؟" قال: "بل حياء منك سيدي".

خرجه أبو نعيم في "الحلية".

قال ابن العربي في كتابه "أحكام القرآن": وروي: أنه لما أكل آدم [من] الشجرة سلخ عن كسوته.

ثم قال: "فلما نظر إلى سوءته منكشفة قطع الورق من الثمار وسترها، وهذا هو نص القرآن، وممن سترها ولم يكن [معه] إلا أهله الذين ينكشف عليهم وينكشفون عليه؟!".


#248#

قال: ويحتمل أن يكون آدم عليه السلام سترها من زوجه بأمر جازم في شرعه، أو بأمر ندب، كما هو عندنا، ويحتمل أن يكون ما رأى سترها إلا [لعدم] الحاجة إلى كشفها؛ لأنه كان من شرعه أن لا يكشفها إلا للحاجة، ويجوز أنه كان مأمورا بسترها في الخلوة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسترها في الخلوة وقال: «الله أحق أن يستحيى منه».

الأمر النبوي الذي أشار إليه هو ما أخبرنا به المسند أبو هريرة عبد الرحمن ابن الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد الفارقي، أخبرنا يحيى بن سعد، أخبرنا جعفر بن علي قراءة عليه وأنا حاضر في الخامسة، وأجاز لنا روايته: أبو الحسن علي بن الصابوني ومرتضى بن حاتم الحارثي ويوسف بن محمود الساوي وعبد الرحيم بن الطفيل وعبد الوهاب بن رواج والحسن بن دينار. ح.

وقال أبو هريرة أيضا: وأخبرنا مسند الحجاز أبو أحمد إبراهيم بن محمد الطبري في كتابه إلي من مكة: أن أبا الحسن علي بن هبة الله بن سلامة، أخبره.

قالوا كلهم: أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد سماعا، أخبرنا أبو عبد الله القاسم بن الفضل، حدثنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمس الزيادي إملاء بنيسابور، أخبرنا عبد الله بن يعقوب الكرماني، حدثنا يحيى بن بحر الكرماني، حدثنا حماد بن زيد، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما ندع؟ قال: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما


#249#

ملكت يمينك». قلت: الرجل يكون في القوم فيكون بعضهم في بعض؟ قال: «إن استطعت أن لا يرى أحد عورتك فافعل». قلت: إن كان أحدنا خاليا؟ قال: «فالله أحق أن يستحيى منه»، ووضع يده على عورته.

[تابعه] [8] معاذ بن معاذ ويحيى بن سعيد القطان ويزيد بن هارون، عن بهز.

خرجه أبو داود بنحوه، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.

وعلق البخاري آخره في "صحيحه" فقال: وقال بهز، عن أبيه، عن جده: "الله أحق أن يستحيى منه من الناس".

قال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "العلل": وجدت في كتاب أبي: حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا رباح، عن معمر، عن قتادة قال: اليوم الذي تيب فيه على آدم عليه السلام يوم عاشوراء.


#250#

$[مدة مكث آدم في الجنة]$

[وقد][9] اختلف في مكث آدم عليه السلام في الجنة.

فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس.

خرجه الحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وقال أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا هشام بن حسان، حدثني قيس بن سعد، حدثنا عطاء ابن أبي رباح: كنت جالسا عند ابن عباس فأتاه رجل فقال: يا أبا عباس، أرأيت الساعة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجمعة، هل ذكر لكم منها؟ فقال: الله أعلم، إن الله عز وجل خلق آدم عليه السلام يوم الجمعة بعد العصر، خلقه من أديم الأرض كلها فسمي "آدم"، ألا ترى أن من ولده الأسود والأحمر، والطيب والخبيث، ثم عهد إليه فنسي، فسمي "الإنسان"، فبالله إن غابت الشمس من ذلك اليوم حتى أهبط من الجنة.

قال أبو عبد الله بن منده: هذا حديث مشهور عن هشام بن حسان. قاله في كتابه "التوحيد" بعد أن خرجه من طريق أبي حاتم.


#251#

وخرجه من طريقه قال: قال حدثنا أبو نعيم، حدثنا إبراهيم بن نافع، حدثنا الحسن بن مسلم، سمعت سعيد بن جبير: سألت ابن عباس –أو: سئل-، فقال له: يا أبا عباس، الساعة التي تذكر من يوم الجمعة؟ -فذكره بنحوه.

ورواه ابن أبي زائدة ومحمد بن عمرو، عن إبراهيم بن نافع. نحوه.

ورواه سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن نافع، عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير.

ورواه أبو حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

وقال الإمام أحمد في كتابه "الزهد": حدثنا يحيى، عن سفيان، عن معاوية بن إسحاق، عن سعيد بن جبير قال: ما كان آدم عليه السلام في الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر.

وقال محمد بن سعد: أخبرنا هشام، أخبرني أبي، عن أبي


#252#

صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج آدم عليه السلام من الجنة بين الصلاتين: صلاة الظهر وصلاة العصر، وأنزل إلى الأرض، فكان مكثه في الجنة نصف يوم من أيام الآخرة، وهو خمس مائة سنة، من يوم كان مقداره اثنتي عشرة ساعة، واليوم ألف سنة مما يعد أهل الدنيا.

وقال أبو العالية: مكث في الجنة خمس ساعات.

وقال الإمام أحمد بن حنبل في "الزهد" وعبد بن حميد في "تفسيره" –واللفظ له-: حدثنا روح، عن هشام، عن الحسن قال: لبث آدم في الجنة ساعة من نهار، تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا.

إسناده جيد إن كان "هشام" هو "ابن حسان"، وهو الأغلب في ظني، والله أعلم.

ويروي عن "الحسن" أيضا: "هشام بن زياد البصري أبو المقدام": متروك الحديث، لا يحتج به.

وفي هذا الأثر: تحديد الساعة بثلاثين ومائة سنة من أيام الدنيا، وإنما تكون ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر إن كانت الساعة من اثنتي عشرة ساعة من يوم من أيام الآخرة الذي هو ألف سنة.

[وروى][10] أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، قال: خرج آدم عليه السلام


#253#

من الجنة الساعة التاسعة أو العاشرة، فأخرج آدم معه غصنا من شجر الجنة، على رأسه تاج من شجر الجنة –وهو الإكليل- من ورق الجنة.

وقال أبو جعفر محمد: حدثنا هوذة بن خليفة، حدثنا عوف، عن أبي سعيد الرقاشي قال: بلغنا أن آدم عليه السلام لما أصاب الذنب وأخرجه الله من الجنة قال له ربه عز وجل: كما نظرت معيشتك وعصيتني فاهبط إلى الأرض؛ فإن الأرض ملعونة، ولن أطعمك إلا برشح جبينك.

وحدث به أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" عن أبيه عن هوذة به.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا الحسن بن يحيى العبدي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: لما أهبط إبليس قال: يا رب، قد لعنته، فما عمله؟ قال: السحر. قال: فما قرآنه؟ قال: الشعر. قال: فما كتابه؟ قال: الوشم. قال: فما طعامه؟ قال: كل ميتة


#254#

وما لم يذكر عليه اسم الله. قال: فما شرابه؟ قال: كل مسكر. قال: فأين مسكنه؟ قال: الحمام. قال: فأين مجلسه؟ قال: الأسواق. قال: فما مؤذنه؟ قال: المزمار. قال: فما مصائده؟ قال: النساء.

[وجاء] [11] من طريق آخر بلفظ آخر، قال عبد الله بن حماد الآملي: حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا يحيى بن أيوب، حدثني عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبليس لما أنزل إلى الأرض قال: يا رب، أنزلتني الأرض وجعلتني رجسا رجيما –أو كما ذكر-، فاجعل لي بيتا. قال: الحمام. قال: فاجعل لي مجلسا. قال: الأسواق ومجامع الطرق. قال: فاجعل لي طعاما قال: ما لم يذكر عليه اسم الله. قال: اجعل لي شرابا. قال: كل مسكر. قال: اجعل لي مؤذنا: قال: المزامير. قال: اجعل لي قرآنا. قال: الشعر. قال: اجعل [لي] كتابا قال: الوشم. قال: اجعل لي حديثا. قال: الكذب. قال: اجعلي [لي] رسولا. قال: الكهنة. قال: اجعلي [لي] مصائد. قال: النساء».


#255#

قال ابن زحر: وأخبرني ليث بن أبي سليم بذلك، يرفعه.

وقال أبو بكر بن عبد الخالق البزار الحافظ: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: إن إبليس قال: يا رب، أخرجتني من الجنة من أجل آدم، أفلا تسلطني عليه؟ قال: قد سلطتك عليه.

قال: زدني. قال: لا يولد له ولد إلا ولد لك مثله.

قال: أي رب، زدني .

قال: قد جعلت قلوبهم لكم مساكن تجرون منهم مجرى الدم.

قال: يا رب، زدني.

قال: اجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.

فقال آدم: يا رب، إنك سلطته علي ولا أمتنع منه إلا بك؟

قال: لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه من قرناء السوء.

قال: يا رب، زدني. قال الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد.

قال: يا رب، زدني.

قال: باب التوبة مفتوح ما كان الروح في الجسد.

قال: يا رب، زدني. قال: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} الآية.


#256#

$[مكان هبوط آدم وحواء وإبليس]$

[وقد] [12] اختلف في تعيين مكان هبوط "آدم" و"حواء" و"إبليس".

فهبوط "آدم" عليه السلام كان بأرض "الهند" على المشهور، وهو قول علي وابن عباس وأبي العالية وقتادة وغيرهم.

وقال ابن جرير في "تاريخه" عن هبوط "آدم" عليه السلام بأرض "الهند": إن ذلك مما لا يدفع صحته علماء الإسلام وأهل التوراة والإنجيل.

[وروى] [13] ابن أبي حاتم في "تفسيره" عن الحسن البصري قال: أهبط آدم عليه السلام بالهند، وحواء بـ "جدة" بـ"دست ميسان" من "البصرة" على أميال، وأهبطت الحية بـ "أصبهان".

وقال مقاتل بن سليمان في "تفسيره": فهبط آدم بـ "الهند" وحواء بـ "جدة" ، وإبليس بـ "البصرة" وهي "الأبلة"، وهبط آدم بواد اسمه "نوذ" في شعب يقال له: "سرنديب".

كذا جاء عن مقاتل أن "نوذ" واد، وقد ذكره ياقوت في "معجم البلدان".


#257#

أنه جبل بـ "سرنديب"، وهو أخصب جبل في الأرض، وقيده بالفتح للنون وسكون الواو وآخره ذال معجمة.

وذكر أن "سرنديب" جزيرة عظيمة في "بحر هركند" بأقصى بلاد الهند، يقال: ثمانون فرسخا في مثلها، فيها الجبل الذي هبط عليه آدم عليه السلام.

وذكر عن الجبل أنه ذاهب في السماء يراه البحريون من مسافة أيام كثيرة، وفيه أثر آدم عليه السلام، وهي قدم واحدة مغموسة في الحجر، طولها نحو سبعين ذراعا، ويقال: إنه خطا الخطوة الأخرى في البحر وبينهما مسيرة يوم وليلة.

وذكر أن فيه الياقوت الأحمر والماس، تحدره السيول إلى الوادي، فيأخذ الناس، وفيه أنواع الطيب.

[وذكر][14] صاحب "المسالك والممالك" نحو ما ذكره ياقوت: أن "سرنديب" ثمانون فرسخا في ثمانين، وعلى جبلها هبط آدم، وهو جبل شاهق عظيم، وأن في أعلاها قدما غائصة نحو سبعين ذراعا طولا، وأن على هذا الجبل شبيها بالبرق أبدا، وعلى هذا الجبل أنواع


#258#

الياقوت، وفي واديه الماس وشجرة العود والفلفل والأفواه، وفيه دابة المسك ودابة الزباد.

وذكر ابن قتيبة أن آدم عليه السلام أهبط من جنة عدن في شرقي أرض "الهند"، وأهبط الله حواء بـ"جدة" والحية بالبرية، وإبليس على ساحل بحر "الأبلة".

قال ابن قتيبة: وقال ابن إسحاق: يذكر أهل العلم أن مهبط "آدم" و"حواء" على جبل يقال له: "واشم" من أرض الهند، وهو جبل بين قرى "الهند" و"الدهنج"، و"المندل".


#259#

وذكره ابن جرير في "تاريخه" عن ابن إسحاق: أهبط آدم وحواء على جبل بالهند يقال له: واشم عند واد يقال له: بهيل بين "الدهنج" والمندل بلدين بأرض الهند، وذكر هبوط "حواء" بـجدة من أرض مكة.

وهذا هو المشهور، وعليه الأكثر.

وبـ جدة –فيما بلغنا- قبة مشيدة قديمة بنيت على منزل حواء عليها السلام للبركة وقصد الزيارة.

وخرج ابن أبي حاتم في "التفسير" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أهبط آدم بـ الصفا، وحواء بـ المروة.

وروي عن رجاء بن سلمة قال: أهبط آدم عليه السلام يداه على ركبتيه، مطأطأ رأسه، وأهبط إبليس مشبكا بين أصابعه، رافعا رأسه إلى السماء.


#260#

$[ذكر بكاء آدم لهبوطه من الجنة]$

قال أبو القاسم الطبراني في "معجمه الأوسط".

حدثنا أحمد بن يحيى بن خالد بن حيان، حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي، حدثنا أحمد بن بشير الهمداني، حدثنا مسعر بن كدام، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه يرفعه –قال: «لو أن بكاء داود عليه السلام وبكاء أهل الأرض جميعا يعدل بكاء آدم عليه السلام ما عدله».


#261#

وخرجه الإمام أحمد في كتابه "الزهد" فقال: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا مسعر، حدثني علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة –قوله.

ورواه أيضا من طريق أخرى في كتابه "الزهد" من قول علقمة بن مرثد فقال: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا المسعودي، عن علقمة بن مرثد قال: لو بكى أهل الأرض جميعا ما عدل دموع داود عليه السلام حين أصاب الخطيئة، ولو أن دموع أهل الأرض ودموع داود عليه السلام جمع ما عدل دموع آدم عليه السلام حين أهبط من الجنة.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني محمد بن الحسين، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا هشام، عن الحسن قال: أهبط آدم من الجنة فبكى ثلاث مائة سنة، لا يرفع رأسه إلى السماء، ولا يلتفت إلى المرأة، ولا يضع يده عليها.

وقال أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه": حدثنا المنجاب بن الحارث، أخبرنا أبو سعيد العبقري، حدثنا أسباط، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد قال: بكى آدم عليه السلام حين أهبط مائة عام، ومكث ستا وثلاثين سنة، لا يكلم "حواء" لأنها دعته أن يأكل من الشجرة، فبعث الله إليه ملكا بعد المائة عام فقال: حياك الله وبياك.


#262#

قال أسباط: قال عمار: فسألت سالما عن قوله: "وبياك"؟ فقال: أضحكك.

وقال أبو جعفر أيضا: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن أبيه، عن عطية: {فتلقى آدم من ربه كلمات} قال: رب، خلقتني بيدك ونفخت في من روحك، وعطست فقلت له: "رحمك الله"، فسبقت رحمتك إياي غضبك، رب إن تبت وأصلحت، أتردني إلى الجنة؟ قال: نعم.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: وحدثنا محمد بن يحيى بن أبي حاتم، حدثني سعيد بن يونس، عن أبي عمرو الشيباني، عن أبي الهذيل، عن وهب بن منبه قال: أوحى الله تعالى إلى آدم: ما هذه الكآبة التي بوجهك والبلية التي أحاطت بك؟ قال: خروجي من دار البقاء إلى دار الفناء، ومن دار النعيم إلى دار الشقاء.

ثم قال: إن آدم سجد سجدة على جبل الهند مائة عام يبكي، حتى جرت دموعه في "وادي سرنديب" فأنبت الله بذلك الوادي من دموع آدم عليه السلام الدار صيني والقرنفل، وجعل طير ذلك الوادي الطواويس، ثم إن جبريل عليه السلام أتاه فقال: يا آدم، ارفع رأسك، فقد غفر لك. فرفع رأسه ثم أتى البيت فطاف أسبوعا فما أتمه، حتى خاض في دموعه إلى


#263#

ركبتيه، ثم أتى المقام فصلى فيه ركعتين، وبكى حتى جرت دموعه إلى الأرض.

وجاء عن قتادة قال: تاب الله عز وجل على آدم عليه السلام يوم عاشوراء.

وقال الحافظ أبو محمد عبد الله بن عثمان بن السقاء المزني الواسطي: قرئ على أبي عمر محمد بن يوسف القاضي، حدثنا محمد بن الوليد، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا شعبة، عن أبي التياح، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أهبط آدم عليه السلام من الجنة إلى الأرض حزن عليه كل شيء جاوره، إلا الذهب والفضة، فأوحى الله إليهما: جاورتكما بعبد من عبادي، ثم أهبطته من جواركما، فحزن عليه كل شيء جاوره إلا أنتما؟ فقالا: إلهنا وسيدنا، أنت تعلم أنك جاورتنا به وهو لك مطيع، فلما عصاك لم نحب أن نحزن عليه. فأوحى الله عز وجل إليهما: وعزتي وجلالي، لأعزنكما، فلا ينال كل شيء إلا بكما».

البلية في هذا محمد بن الوليد فيما أرى، والله أعلم.


#264#

$[ذكر ما هبط مع آدم من الجنة]$

وروى محمد بن ثور، والعباس بن الفضل، وهوذة بن خليفة –واللفظ له-: عن عوف، عن قسامة بن زهير، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: إن الله تعالى حين أهبط آدم عليه السلام من الجنة إلى الأرض علمه صنعة كل شيء، وزوده من ثمار الجنة، غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير.

رواه أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" فقال: حدثنا المنجاب، أخبرنا محمد بن ميمون الزعفراني، عن عوف الأعرابي –فذكره.

تابعه محمد بن جعفر عن قسامة.

وحدث أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السماك، عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن البراء العبدي قال: أهبط آدم بـ"الهند" في جزيرة "سرنديب" على جبل يدعى "نوذ"، وعلى آدم الورق التي خصفه، فيبس، فتحات، فنبت منه أنواع الطيب والثمار، فعلى ذلك الجبل


#265#

العود والسنبل والقرنفل والأفاوية ودابة المسك ودابة الزباد، وحول الجبل الياقوت، وفي واديه الماس، وأرض تلك الجزيرة السنباذج، وفي أنهارها البلور، وفي بحرها اللؤلؤ، وأخرج آدم معه صرة حنطة، وثلاثون قضيبا من ثمر الجنة.

عشرة في القشور: الجوز، واللوز، والفستق، والبندق، والخشخاش، والبلوط، والشاهبلوط، والجوز الهندي، والرمان، والموز.

وعشرة لها نوى: الخوخ، والمشمش، والأجاط، والرطب، والغبير، والنبق، والزعرور، والعباب، والمقل، والشاهلوك.

وعشرة لا قشور لها ولا نوى: التفاح، والسفرجل، والكمثرى، والعنب، والتوت، والتين، والأترج، والخرنوب –هو: الخيار، والبطيخ.

وأنزل على آدم من الصحف إحدى وعشرين صحيفة، وحرم عليه الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وفرض عليه خمسين ركعة صلاة.

وقال إسحاق بن إبراهيم الختلي في كتابه "الديباج": حدثنا موسى بن إبراهيم البلخي، حدثنا المعلى بن هلال، عن يزيد، عن وهب: أن آدم عليه السلام خرج من الجنة ومعه ضغث من قضبان الجنة، فنصبها بالهند، فما يذكر بالهند من الطيب فهو من ذلك الضغث.

وقال السدي: فنزل آدم بالهند، وأنزل معه بالحجر الأسود،


#266#

وبقبضة من ورق الجنة فبثه بالهند، فنبتت شجرة الطيب، فإنما أصل ما يجاء به من الطيب من قبضة الورق التي هبط بها آدم، وإنما قبضها آدم حين أخرج من الجنة أسفا على الجنة حين أخرج منها.

وجاء عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل آدم معه ريح الجنة، فعلق بشجرها وأوديتها –يعني: بالهند-، وأنزل معه الحجر الأسود وكان أشد بياضا من الثلج، وعصا موسى وكانت من آس الجنة، طولها عشرة أذرع، ومر ولبان.


#267#

$[ذكر ما حدث وآدم بالأرض]$

وقال علي بن بهرام الكوفي: حدثنا عبد الملك بن أبي كريمة، عن عمرو بن قيس، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نزل آدم عليه السلام بالهند، فاستوحش، فنزل جبريل عليه السلام فنادى بالأذان فقال: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله-مرتين-، قال آدم: من محمد؟ قال: آخر ولدك من الأنبياء».

وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن قتادة قال: وضع الله تعالى البيت مع آدم عليه السلام، أهبط الله آدم إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند، وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض، وكانت الملائكة تهابه، فنقص إلى ستين ذراعا، فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فشكى ذلك إلى الله عز وجل، فقال الله تعالى: يا آدم، إني قد أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي. فانطلق إليه آدم فخرج ومد له في خطوه، فكان بين كل خطوتين مفازة، فلم تزل تلك المفاوز بعد ذلك، فأتى آدم البيت فطاف به ومن بعده من الأنبياء.


#268#

ورواه عبد الرزاق، عن ابن جرير، عن عطاء –يعني: ابن أبي رباح- بنحوه.

وحدث به يونس بن بكير في "المغازي" عن ثابت بن دينار عن عطاء.

وبعد طواف آدم عليه السلام بالبيت مسح ظهره بـ "نعمان" –وهو وراء "عرفة"-، فأخرج منه ذريته كالذر، وأخذ منهم الميثاق.

قال أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب "القدر": حدثنا علي ابن حجر، حدثنا إسماعيل –يعني: ابن علية-، عن كلثوم بن جبر، [عن سعيد بن جبير] عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تبارك وتعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} قال: مسح ربك ظهر آدم عليه السلام بـ"نعمان" هذا الذي وراء "عرفة" فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ ميثاقهم: {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا}.

تابعه ربيعة بن كلثوم بن جبر، وجرير بن حازم، وعبد الوارث، وغيرهما، عن كلثوم.

وحدث به محمد بن سعد في كتابه "الطبقات الكبرى": عن


#269#

سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن كلثوم –بنحوه.

ورواه ابن جريج، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير قال: مسح ظهره بـ"نعمان السحاب".

لم يذكر ابن عباس.

وحدث بنحوه علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

وقيل: كان إخراج الذرية وأخذ الميثاق منهم بعد أن أخرجه من الجنة قبل أن أهبطه إلى الأرض.

قاله أسباط عن السدي في تفسير الآية عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أخرج الله عز وجل آدم عليه السلام من الجنة، ولم يهبط من السماء، ثم إنه مسح من آدم صفحة ظهره اليمنى، فأخرج منه ذريته كهيئة الذر، أبيض مثل اللؤلؤ، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي.

ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه كهيئة الذر سوداء، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي. فذلك حين يقول: {وأصحاب اليمين} و {أصحاب الشمال}.

ثم أخذ منهم الميثاق فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية.


#270#

وقال أبو حفص عمر بن شاهين: حدثني الحسن بن محمد بن عفير، أخبرنا إبراهيم بن عامر الأصبهاني، حدثنا أبي، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير قال: أهبط آدم إلى الأرض، فليس في الأرض إلا حوت ونسر، وكان النسر إذا أمسى أوى إلى الحوت فيبيت عنده، فلما رأى النسر آدم أتى الحوت فقال: يا حوت، قد أهبط في الأرض شيء يمشي على رجليه ويبطش بيديه. قال: إن كنت صادقا ما لي في البحر منه مهرب، ولا لك في البر منه مهرب. يريد: أنه يحتال عليهما.

"يعقوب": هو: ابن عبد الله الأشعري القمي.

و"جعفر": هو: ابن أبي المغيرة القمي.

وقال أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه": حدثنا المنجاب، أخبرنا أبو سعيد العبقري، حدثنا الحسن بن عمارة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير وعبد الله بن الحارث بن نوفل، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أهبط الله عز وجل آدم عليه السلام من الجنة وهو يأكل منها رغدا حيث شاء إلى غير طعام، فعلمه العمل كيف يعمله، ثم علمه صنعة الحديد، فجعل يعمل الحديد الذي يعمل به الزرع، فحرث به وزرع وسقى، حتى بلغ، فحصده ثم داسه، ثم ذراه،


#271#

ثم طحنه، ثم عجنه، ثم خبزه، فلم ينله حتى بلغ منه ما شاء الله.

قال: فبكى على نفسه حين أهبط من الجنة بكاء لم يبكه شيء على شيء. وذكر بقية الحديث.

وجاء عن سعيد بن جبير قال: أهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يحرث ويمسح العرق عن جبينه، وهو الذي قال الله تعالى: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى}، فكان ذلك شقاءه.

حدث به محمد بن حميد، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد فذكره.

ورواه محمد بن العلاء، حدثنا إسحاق بن سليمان، حدثنا أبو الجنيد، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: كان آدم يعمل على ثور، ويمسح العرق عن جبينه، ويقول لحواء: أنت عملت بي هذا وذكر بقيته.

وفيه: قال: ولما أهبط آدم بعث الله إليه ثورا أبلق، فجعل يعمل عليه، فقال: هذا ما وعدني ربي: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى}.

وقال ابن قتيبة في "المعارف": ولما أهبط آدم إلى الأرض حرث، وغزلت حواء الشعر وحاكته بيدها.

ويروى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: هبط آدم وحواء عريانين


#272#

جميعا، عليهما ورق الجنة، فأصابه الحر، فجاءه جبريل عليه السلام يقطن، فأمرها أن تغزل وعلمها، وأمر آدم بالحياكة وعلمه، وأمره أن ينسج ففعل، وكان آدم عليه السلام لم يجامع امرأته في الجنة حتى هبط منها، للخطيئة التي أصابها، بأكلهما من الشجرة.

قال: وكان كل واحد منهما ينام على حدة، ينام أحدهما بالبطحاء، والآخر في ناحية أخرى، حتى أتاه جبريل عليه السلام فأمره أن يأتي أهله، وعلمه كيف يأتيها.

قال: فلما أتاها جاءه جبريل، قال: كيف وجدت امرأتك؟ قال: صالحة.

خرجه أبو حفص عمر بن شاهين في "ما قرب سنده"، وهو حديث منكر، وآفته راويه عن أنس: "سعيد بن ميسرة البكري" وهو واه، مظلم الأمر.

وخرج ابن أبي شيبة في "التاريخ" من طريق عن مجاهد:


#273#

أنه قيل لآدم وحواء عليهما السلام: اهبطوا إلى الأرض، فلدوا للموت وابنوا للخراب.

وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وغيره قال: لما أهبط آدم إلى الأرض قال له ربه عز وجل: ابن للخراب ولد للفناء.


#274#

$[ذكر أول من ولدت حواء]$

أول ولد ولدته حواء: عبد الحارث، فيما قيل.

قال ابن جرير في "تاريخه": حدثنا ابن وكيع، حدثنا ابن فضيل، عن سالم بن أبي حفصة، عن سعيد بن جبير: {فلما أثقلت دعوا الله ربهما} إلى قوله: {فتعالى الله عما يشركون} قال: لما حملت حواء في أول ولد ولدته حين أثقلت، أتاها إبليس فقال: ما هذا الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري. قال: من أين يخرج، من أنفك أو من عينك أو من أذنك؟ قالت: لا أدري. قال: أرأيت إن خرج سليما؛ أمطيعتي أنت فيما آمرك به؟ قالت: نعم. قال: سميه "عبد الحارث" –وقد كان يسمى إبليس لعنه الله "الحارث" –فقالت: نعم. ثم قالت بعد ذلك لآدم: أتاني آت في النوم فقال كذا وكذا؟ فقال: ذاك الشيطان فاحذريه؛ فإنه عدونا الذي أخرجنا من الجنة، ثم أتاها إبليس فأعاد عليها، فقالت: نعم، فلما وضعته أخرج سليما فسمته "عبد الحارث"، فهو قوله: {شركاء فيما ءاتهما} إلى قوله: {فتعالى الله عما يشركون}.

ورواه عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا عتاب بن بشير، عن حصيف، عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة، عن ابن عباس: أن حواء لما حملت جاءها إبليس. وذكر نحوه.


#275#

وقال عثمان أيضا: حدثني يحيى بن يمان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: {جعلا له شركاء فيما ءاتهما} قال: في التسمية.

وذكر أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "زاد المسير" في معنى الآية الشريفة فقال: ولم يقصدا أن الحارث ربهما، لكن قصدا أنه سبب نجاة ولدهما، وقد يطلق "العبد" على من ليس بمملوك. قال الشاعر:

وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ... وما في إلا تلك من سمة العبد

وقال مجاهد: كان لا يعيش لآدم ولد، فقال الشيطان: إذا ولد لكما ولد فسمياه "عبد الحارث"، فأطاعاه، فذلك قوله تعالى: {جعلا له شركاء فيما ءاتهما}.

وجاء عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن عمر بن إبراهيم، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن آدم عليه السلام كان لا يعيش له ولد، فلما حملت حواء، طاف بها إبليس فقال لها: إنك إن سميتيه "عبد الحارث» عاش. قال: فسمته "عبد الحارث"، فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره».


#276#

وخرجه الترمذي لعبد الصمد نحوه وقال: "هذا حديث حسن غريب". قال: رواه بعضهم عن عبد الصمد، ولم يرفعه.

قلت: ورواه سليمان بن داود الشاذكوني، عن غندر، عن شعبة، عن قتادة به مرفوعا.

وهذا منكر من رواية شعبة عن قتادة، بل هو من رواية عمر بن إبراهيم العبدي عن قتادة كما تقدم.

ورواية العبدي صححها الحاكم أبو عبد الله، وأنى لها الصحة!.

قال أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن حاتم بن إسماعيل المديني –


#277#

سبط أبي موسى المزني- في كتابه "المنير": حدثنا محمد بن عبد الجبار، حدثنا بكار بن عبد الرحمن، عن عمار بن عطية، عن [ابن] داب قال: أول مولود ولد لآدم "قابيل" وتوأمته "إقليميا"، وأول دم هريق على وجه الأرض ووقع عليها دم حواء.

"ابن داب" هو: عيسى بن يزيد بن بكر بن داب الليثي المديني الأخباري، لكنه هالك، رمي بالوضع، وقد خالفه هشام بن محمد بن السائب الكلبي، فذكر: إن "إقليميا" توأمة "هابيل" المقتول.

قال محمد بن حبيب في كتاب "المنود": قال هشام: فولد آدم صلى الله عليه وسلم "قابيل" وهو بكره، وهو قاتل "هابيل"، هلك نسله في الطوفان. و"ليوذا" وهي توأمته في بطن، و"هابيل" –عليه السلام وهو المقتول- لا عقب له، و"إقليميا" وهي توأمته، و"شيثا" صلى الله عليه وسلم وهو عبد الله، اشتق له من اسم أخيه "هابيل"، و"عزوراء" وهي توأمته.

قال الشرقي: و"عبد الحارث" وهو الذي عرض فيه إبليس لحواء عليهما السلام، ولم يكن الكلبي يسميه.

وقال ابن قتيبة في "المعارف": وقرأت في التوراة: أن آدم عليه السلام جامع امرأته، فولدت له "قابل" فقالت: استعدت لله تعالى رجلا. ثم


#278#

ولدت "هابل" أخاه، فكان "قابل" حراثا، وكان "هابل" راعي غنم، فقربا قربانا، فتقبل من "هابل" ولم يتقل من "قابل"، فقتل أخاه "هابل".

وذكر أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله قالوا: كان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر، حتى ولد له ولدان يقال لهما: "قابيل" و"هابيل"، وكان "هابيل" صاحب شاة، وكان "قابيل" صاحب زرع، وكان "قابيل: أكبرهما، وكان له أخت أحسن من أخت "هابيل"، وكان "هابيل" طلب أن ينكح أخت "قابيل"، فأبى عليه وقال: هي أختي ولدت معي وهي أحسن من أختك، فأنا أحق أن أتزوجها. فأمره أبوه أن يزوجها "هابيل"، فأبى، وأنهما قربا قربانا إلى الله تعالى أيهما أحق بالجارية. وذكر بقيته.

وفيه: فلما قربا قربانا: قرب "هابيل" جذعة سمينة، وقرب "قابيل" حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة، ففركها فأكلها، فنزلت النار فأكلت قربان "هابيل" وتركت قربان "قابيل"، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي.. الحديث.

وهو بمعناه عند أبي سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكي، عن حماد بن سلمة، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان لآدم أربعة أولاد: توأم ذكر وأنثى من بطن، وذكر وأنثى من


#279#

بطن، فكانت أخت صاحب الحرث وضيئة، وكانت أخت صاحب الغنم قبيحة، فقال صاحب الحرث: أنا أحق بها. وقال صاحب الغنم: أنا أحق بها. فقال صاحب الغنم: ويحك، أتريد أن تستأثر بوضاءتها علي، تعال حتى نقرب قربان. وذكر بقيته.

وقال تمام بن محمد: أخبرنا أحمد بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن مروان، سمعت أحمد بن ملاس يقول: سمعت عبد الرحمن بن يحيى بن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر يقول: كان خارج "باب الساعات" صخرة يوضع عليها القربان، فما تقبل منه جاءت نار فأخذته، وما لم يتقبل منه بقي على حاله، وكان "هابيل" صاحب غنم وكان منزله في "سطرا"، وكان "قابيل" في "قينية" وكان صاحب زرع، وكان "آدم" عليه السلام في "بيت أبيات"، وكانت "حواء" في "بيت لهيا".

قال: فجاء "هابيل" بكبش سمين من غنمه، فجعله على الصخرة، فأخذته النار.


#280#

قال: وجاء "قابيل" بقمح غلث، فوضعه على الصخرة فبقي على حاله، فحسده.

قال: وتبعه في هذا الجبل.

قال: وأراد قتله، فلم يدر كيف يقتله؟

قال: فجاء إبليس فأخذ حجرا فضرب به رأس نفسه.

قال: فأخذ هو حجرا فضرب به رأس أخيه، فقتله.

قال: فصاحت "حواء"، فقال لها "آدم": عليك وعلى بناتك لا علي ولا على بني.

قلت: اليوم موجود داخل "باب الساعات" من "جامع دمشق"، على يمين الداخل صخرة سوداء مفترشة، قيل: هي الصخرة المذكورة في هذا الحديث، وقد استقرئ أنه ما جلس لأحد عليها إلا وحصل له ضرب أو حبس، والله أعلم.

وقال ابن قتيبة في "المعارف": وقال وهب –يعني: ابن منبه- إن آدم عليه السلام كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى، وكان الرجل منهم يتزوج أي أخواته شاء إلا توأمته، فأبى "قابيل" أن يزوج أخته التي هي توأمته أخاه "هابيل" وقال: "أنا أحق بها"، فغضب آدم وقال: "اذهبا فتحاكما إلى الله تعالى بالقربان، فأيكما قبل قربانه فهو أحق بها"، فقربا القربان بـ"منى"، فمن ثم صار مذبح الناس إلى اليوم، فنزلت نار فقبلت قربان "هابيل" فقتل قابيل هابيل، رضخ رأسه بحجر، واحتمل أخته، حتى أتى واديا من أودية


#281#

"اليمن" في شرقي "عدن"، فكمن فيه، وبلغ "آدم" ما صنع، فوجد هابيل قتيلا، وقد نشقت الأرض دمه، فلعن الأرض، فمن أجل لعنة آدم لا تنشق الأرض دما وأنبتت الشوك.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا عمرو بن عبد الواحد، عن الأوزاعي، حدثني المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي قال: لما قتل ابن آدم أخاه رجفت الأرض بما عليها سبعة أيام، ثم شربت الأرض دمه كما تشرب الماء، فناداه الله عز وجل: "أين أخوك هابيل؟" قال: "ما أدري، ما كنت عليه رقيبا" قال الله: "إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض، فلم قتلت أخاك؟" قال: "فأين دمه إن كنت قتلته؟" فحرم الله تعالى على الأرض يومئذ أن تشرب دما بعده أبدا.

وقال سالم بن أبي الجعد: لما قتل "هابيل" مكث "آدم" عليه السلام مائة سنة حزينا لا يضحك، ثم أتي فقيل له: "حياك الله وبياك" أي: أضحكك.

وذكر بعض الأخباريين: أن الله عز وجل أوحى إلى آدم عليه السلام: أنا أرحم الراحمين، قتل ولدك ولا آمرك أن تقتل ولدك الآخر به، دعه، فلا يفوتني هارب، وأنا القوي الطالب.

ويروى عن وهب: أن "لامك بن هنوش بن هابل" قتل "قابيل"، مر عليه "قابيل" وهو يرعى غنما له راكبا على فرسه، و"لامك" أعمى، فتكلم "قابيل"، فقال "لامك": من هذا المتكلم؛ فقد انقض لكلامه كيدي واقشعر له جلدي؟ قالوا: هذا قاتل جدك "هابيل". قال: فأوتروا لي


#282#

قوسي. فأوتروا له قوسا، ثم استمع الكلام من أين يأتيه، حتى علم أين هو، ثم قال: اللهم اهد وانتقم. ثم رمى فأصاب نحر "قابل"، فسقط عن فرسه ثم قال: من هذا؟ قيل له: لامك بن هنوش بن هابيل. فقال: حسأتنا الأبناء مرق قدور الأجداد، ومات "قابل"، فأتى بنوه بـ "لامك الأعمى" إلى "شيث"، فقالوا له: هذا قتل أبانا "قابل". قال لهم: أخذ الله حقه بأضعف خلقه، دعوه؛ النفس بالنفس.

وجاء عن ابن جريج عن مجاهد قال: علقت إحدى رجلي القاتل –يعني: قابيل- بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه في الشمس حيثما دارت [دار] عليه [في الصيف] حظيرة من نار، وفي الشتاء حظيرة من ثلج.

قال مجاهد: وقال عبد الله بن عمرو: إنا لنجد أن ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار العذاب قسمة صحيحة على شطر عذابهم.

وصح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه كان أول من سن القتل».

وحدث علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن مقاتل بن


#283#

سليمان، عن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قتل "قابيل" "هابيل" و"آدم" بمكة اشتاك الشجر، وتغيرت الأطعمة، وحمضت الفواكه وأمر الماء، واغبرت الأرض، فقال آدم عليه السلام: قد حدث في الأرض حدث، فأتى الهند، فإذا "قابيل" قد قتل "هابيل"، فأنشأ يقول –وهو أول من قال الشعر:

تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح

تغير كل ذي لون وطعم ... وقل بشاشة الوجه الصبيح

وقال أبو جعفر بن جرير في "تاريخه": وذكر أن "قابيل" لما قتل "هابيل" بكى آدم، فقال فيما حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، عن غياث بن إبراهيم، عن أبي إسحاق الهمداني قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم عليه السلام:

تغيرت البلاد ومن عليها ... فلون الأرض مغبر قبيح


#284#

تغير كل ذي لون وطعم ... وقل بشاشة الوجه المليح

قال: فأجيب آدم عليه السلام:

أبا هابيل، قد قتلا جميعا ... وصار الحي كالميت الذبيح

وجاء بشرة قد كان منها ... على خوف فجاء بها يصيح

وروى إسماعيل بن العباس الوراق، حدثنا أبو البختري عبد الله بن محمد بن شاكر، أخبرنا أحمد بن محمد المخرمي، عن عبد العزيز بن الرماح، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قتل ابن آدم أخاه قال آدم عليه السلام:

تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح

تغير كل ذي لون وطعم ... وقل بشاشة الوجه المليح

قتل قابيل هابيلا أخاه ... فواحزنا؛ مضى الوجه الصبيح

قال: فأجابه إبليس.


#285#

تنح عن البلاد وساكنيها ... فبي في الخلد ضاق بك الفسيح

الآفة في ذلك من "المخرمي" أو شيخه، والله أعلم.

وحدث أبو جعفر عبد الله بن محمد بن نفيل الحراني، حدثنا النضر بن عربي، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من قال: إن آدم عليه السلام قال شعرا، فقد كذب على الله ورسوله ورمى آدم بالمأثم، إن محمدا والأنبياء كلهم –صلى الله عليهم وسلم- في النهي عن الشعر سواء، قال الله عز وجل: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له}، ولكن لما قتل "قابيل" "هابيل" رثاه آدم وهو سرياني، وإنما يقول الشعر من تكلم بالعربية، فلما قال "آدم" مرثيته في ابنه "هابيل" –وهو أول شهيد كان على وجه الأرض- قال "آدم" لـ "شيث": "يا بني، إنك وصي، احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرق الناس عليه"، فلم يزل ينقل حتى وصل إلى "يعرب بن قحطان"، وكان يتكلم بالعربية والسريانية، وهو أول من خط بالعربية، وكان يقول الشعر، فنظر في


#286#

المرثية فإذا هو سجع، فقال: إن هذا ليقوم شعرا، فرد المقدم إلى المؤخر والمؤخر إلى المقدم، فوزنه شعرا، وما زاد فيه وما نقص تحوبا من ذلك:

تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح

تغير كل ذي لون وطعم ... وقل بشاشة الوجه المليح

وقابيل أذاق الموت هابيلا ... فواحزني لقد فقد المليح

وما لي لا أجود بسكب دمع ... و"هابيل" تضمنه الضريح

وجاءت سهلة ولها رنين ... لهابلها وقابلها تصيح

لقتل ابن النبي بغير جرم ... فقلبي عند قتلته جريح

أرى طول الحياة علي غما ... فهل أنا من حياتي مستريح

وجاورنا عدو ليس يفنى ... لعين ما يموت فنستريح

وقالت حواء عليها السلام:

دع الشكوى لقد هلكا جميعا ... بهلك ليس بالثمن الربيح


#287#

وما يغني البكاء عن البواكي ... إذا ما المرء غيبه الضريح

فبك النفس منك ودع هواها ... فلست مخلدا بعد الذبيح

فأجابه إبليس شامتا يقول:

تنح عن البلاد وساكنيها ... فبي في الخلد ضاق بك الفسيح

وكنت بها وزوجك في رخاء ... وقلبك من أذى الدنيا مريح

فما زالت مكايدتي ومكري ... إلى أن فاتك الخلد الربيح

فلولا خشية الجبار أضحى ... بكفك من جنان الخلد ريح

وقال سيار بن حاتم: حدثنا جعفر بن سليمان، عن أبي بكر الهذلي، عن شهر بن حوشب قال: لما قتل ابن آدم أخاه مكث آدم مائة سنة لا يضحك، ثم أنشأ يقول:

"تغيرت البلاد ومن عليها" البيتين.


#288#

وقال أبو نعيم في "الحلية": حدثنا أبو محمد بن حيان، حدثنا محمد بن العباس، حدثنا محمود بن خداش، حدثنا عبد العزيز الماجشون، سمعت محمد بن المنكدر يقول: بلغني أن آدم عليه السلام لما مات ابنه قال: يا حواء، مات ابنك. قالت: وما الموت؟ قال: لا يأكل ولا يشرب ولا يقوم ولا يمشي ولا يتكلم أبدا. قال: فصاحت حواء، فقال آدم: عليك الرنة وعلى بناتك، أنا وبني منها براء.

وقال ابن قتيبة في "المعارف": وفي التوراة: أن آدم عليه السلام طاف على امرأته حواء، فولدت له غلاما، سماه شيثا من أجل أنه خلف من عند الله مكان "هابيل".

وقال ابن جرير في "تاريخه": ولما مضى لآدم عليه السلام من عمره مائة سنة وثلاثون سنة، وذلك بعد مقتل قابيل بخمس سنين، ولدت له حواء "شيثا"، فذكر أهل التوراة أن فيها: وإن شيثا ولد فردا بغير توأم، وتفسير "شيث" عندهم: هبة الله، ومعناه: أنه خلف هابيل.

وقول أهل التوراة الذي حكاه ابن جرير أن شيثا ولد فردا؛ قول الجمهور إلا ما تقدم عن ابن الكلبي أن "شيثا" توأمته عزورا.

وروي من طريق ضعيفة إلى وهب بن منبه قال: حبلت "حواء" –و"آدم" بمكة- بتوأم فولدت شيثا وعتاقا في بطن غلاما وجارية، وكانت "حواء" تحمل في كل عام فتلد غلاما وجارية، فنزل جبريل على آدم، وأمره أن يزوج الغلام الذي من البطن الأول من الجارية التي من البطن الآخر ويخالف بين البطون.


#289#

وقال ابن قتيبة في "المعارف": وولد لآدم عليه السلام أربعون ولدا في عشرين بطنا، وأنزل عليه تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير [وحروف المعجم] في أحد وعشرين ورقة، وهو أول كتاب كان في الدنيا حذا الله عليه الألسنة كلها.

وقال ابن جرير في "تاريخه": وذكر أن آدم عليه السلام ولدت له حواء عشرين ومائة بطن، أولهم: قابيل وتوأمته، وآخرهم: عبد المغيث وتوأمته أمة المغيث.

وأما ابن إسحاق فذكر عنه ما قد ذكرت قبل، وهو: أن جميع ما ولدته "حواء" لصلبه أربعون من ذكر وأنثى في عشرين بطنا.

وقال: وبلغنا أسماء بعضهم ولم يبلغنا بعض.

حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان من بلغنا اسمه خمسة عشر رجلا وأربع نسوة منهم: قينن وتوأمته، وليوذا و"أشوب بنت آدم" وتوأمها، وشيت وتوأمته، وحزورة وتوأمها، على ثلاثين ومائة سنة من عمره، ثم إياد بن آدم وتوأمته، ثم "بالغ بن آدم" وتوأمته، ثم أتابي بن آدم وتوأمته، ثم شبويه بن آدم وتوأمته، ثم حيان بن آدم وتوأمته، ثم سندل بن آدم وتوأمته، ثم هزن بن آدم وتوأمته، ثم بارق بن آدم وتوأمته، كل رجل منهم يولد معه امرأة في بطنه الذي يحمل به فيه.

ويروى: أن آدم عليه السلام لم يمت حتى قام خطيبا في ألف من ولده وولد ولده.


#290#

قال الحافظ أبو نعيم في كتابه "فضيلة المحتسبين في الإنفاق على البنات": حدثنا محمد بن علي وأحمد بن محمد بن موسى، قالا: حدثنا إبراهيم بن جعفر بن خليد، حدثنا الحسن بن شبيب، حدثنا خلف بن خليفة، حدثنا أبو هاشم الرماني، عن ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن آدم عليه السلام قام خطيبا في ألف من ولده وولد ولده، وقال: إن ربي عهد إلي فقال: يا آدم، قلل كلامك ترجع إلى جواري».

حديث غريب تفرد به الرماني عن ثابت، واسمه: يحيى بن دينار –من عباد الواسطيين- وعنه خلف بن خليفة. قاله أبو نعيم.

خالفه الحسين بن إسماعيل المحاملي فحدث به عن الحسن بن شبيب، حدثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشم الرماني، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما أهبط الله عز وجل آدم إلى الأرض كثرت ذريته، فاجتمع إليه ذات يوم ولده وولد ولده وولد ولد ولده، فجعلوا يتحدثون و"آدم" ساكت لا يتكلم، فقالوا: يا أبانا، ما لنا نحن نتكلم


#291#

وأنت ساكت لا تكلم؟ قال: يا بني، إن الله عز وجل لما أهبطني إلى الأرض عهد إلي فقال: يا آدم، أقل الكلام حتى ترجع إلى جواري.

ويروى عن وهب بن منبه أنه قال: لم يقبض الله آدم عليه السلام حتى صلى خلفه ألف رجل من ذريته غير بني بنيه.

وقيل: لم يمت آدم عليه السلام حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا.

وقال أبو بكر محمد بن عبد بن عامر السعدي السمرقندي: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا خارجة بن مصعب، عن يونس، عن الحسن، عن عتي، عن أبي رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن آدم عليه السلام لما مرض مرضه الذي مات فيه قال لبنيه: أي بني: إني مريض، وأشتهي ما يشتهي المريض، وإني أشتهي من ثمار الجنة».

قال: "فخرجوا يسعون في الأرض، فلقيتهم الملائكة عيانا، فقالوا: يا بني آدم، أين تريدون؟ قالوا: نبغي أبانا من ثمار الجنة. فقالوا: ارجعوا، فقد أمر بقبض أبيكم إلى الجنة. قال: فقبض روحه وهم ينظرون، وغسلوه وهم ينظرون، وحنطوه وهم ينظرون، وصلوا عليه وهم ينظرون، وقالوا: يا بني آدم، هذه سنتكم في موتاكم".


#292#

"السمرقندي" هذا مشهور بالوضع.

لكن حديثه هذا خرجه البيهقي في "السنن الكبرى" من حديث شبابة بن سوار، عن خارجة. بنحوه.

وقال البيهقي: رفعه خارجة بن مصعب، ووقفه هشيم بن بشير وغيره، عن يونس بن عبيد.

وحديث هشيم المشار إليه رواه أبو جعفر أحمد بن منيع البغوي في "مسنده" فقال: حدثنا هشيم، أخبرنا يونس، عن الحسن، حدثني عتي السعدي، قال: سمعت أبي بن كعب يقول: لما احتضر آدم عليه السلام قال لبنيه: انطلقوا فاجتنوا لي من ثمار الجنة. فلما خرجوا استقبلتهم الملائكة فقالوا: أين تريدون يا بني آدم؟ قالوا: بعثنا أبونا نجتني من ثمار الجنة. فقالوا لهم: ارجعوا فقد كفيتم، فرجعوا معهم حتى دخلوا [على] "آدم"، لما رأتهم "حواء" ذعرت منهم، فجعلت تدنو إلى "آدم" وتلصق به، قال لها: إليك عني، فمن قبلك أتيت، خلي بيني وبين ملائكة ربي، فقبضوا روحه ثم غسلوه وكفنوه وحنطوه، ثم صلوا عليه، وحفروا له فدفنوه، ثم قالوا: يا بني آدم، هذه سنتكم في


#293#

موتاكم، فكذلك فافعلوا.

وقال البغوي أيضا: حدثنا هشيم، أخبرنا عباد بن راشد، عن الحسن أنه ذكر هذا الحديث فقال: جاءت الملائكة بالحنوط والكفن والمساحي والمكاتل.

وقال أيضا: حدثنا هشيم، عن عثمان بن سعد، عن الحسن أنه ذكر هذا الحديث، فقلت: كم كبرت عليه الملائكة؟ فقال: أربعا.

ورواه البيهقي من طريق أخرى عن الحسن، عن عتي، عن أبي موقوفا بمعناه.

وكذلك خرجه ابن قتيبة في "المعارف" ولفظه: عن أبي رضي الله عنه: أن آدم عليه السلام لما احتضر اشتهى قطفا من قطف الجنة، فانطلق بنوه ليطلبوه له، فلقيتهم الملائكة فقالوا: أين تريدون يا بني آدم؟ قالوا: إن أبانا اشتهى قطفا من قطف الجنة. فقالوا: ارجعوا، فقد كفيناكموه. فانتهوا إليه فقبضوا روحه وغسلوه وحنطوه وكفنوه، وصلى عليه جبريل، والملائكة خلف جبريل، وبنوه خلف الملائكة، ودفنوه، وقالوا: هذه سنتكم في موتاكم يا بني آدم.

وخرجه أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده" فقال: حدثنا علي بن حرب، حدثنا روح بن أسلم، عن حماد بن سلمة،


#294#

عن ثابت البناني، عن الحسن، عن عتي، عن أبي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما توفي آدم عليه السلام ألحد له، وغسلته الملائكة بالماء وترا، وقالوا: هذه سنة ولد آدم من بعده».

وخرجه الحاكم في "مستدركه" مرفوعا بنحوه، وقال: صحيح الإسناد.

وقال ابن جرير في "تاريخه": حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، حدثني ابن إسحاق، عن الحسن بن ذكوان، عن الحسن بن أبي الحسن، عن أبي بن كعب رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أباكم آدم عليه السلام كان طوالا كالنخلة السحوق» الحديث.

وفيه: «فلما حضرته الوفاة بعث إليه بحنوطه وكفنه من الجنة، فلما رأت حواء الملائكة ذهبت لتدخل دونهم إليه، فقال: خل عني وعن رسل ربي، فما لقيت ما لقيت إلا منك، ولا أصابني ما أصابني إلا فيك.

فلما قبض غسلوه بالماء والسدر وترا، وكفنوه وترا من الثياب، ثم لحدوا له فدفنوه، ثم قالوا: هذه سنة ولد آدم من بعده».


#295#

وخرج ابن جرير أيضا من طريق هشام ابن الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما مات آدم عليه السلام قال: "شيث" لجبريل عليه السلام: صل على آدم. فقال: تقدم أنت فصل على أبيك وكبر عليه ثلاثين تكبيرة، فأما خمس: فهي الصلاة، وخمس وعشرون تفضيلا لآدم عليه السلام.

إسناده تالف.

وروى محمد بن معاوية النيسابوري، عن أبي المليح، عن ميمون ابن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن الملائكة صلت على آدم، فكبرت عليه أربعا، وقالوا: تلك سنتكم يا بني آدم.

و"النيسابوري" هذا: واه.

والحديث أتي من قبل محمد بن زياد الطحان الميموني، -والله أعلم- حدث به عن ميمون بن مهران، سمعت ابن عباس رضي الله عنهما قال: كبرت الملائكة على آدم أربعا.

والميموني هذا إنما سمي الميموني لكثرة ما كان يقول: حدثنا ميمون بن مهران، وكان كذابا خبيثا.

قاله يحيى بن معين فيما رواه عنه عباس بن محمد الدوري.


#296#

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث مسلم بن الحارث، عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه: إن آدم عليه السلام لما طؤطئ عن كلام الملائكة وكان يأنس بكلامهم بكى على الجنة مائة سنة، فقال الله عز وجل له: يا آدم، ما يحزنك؟ قال: كيف لا أحزن وقد أهبطتني من الجنة، ولا أدري أعود إليها أم لا؟ فقال الله عز وجل: يا آدم، قل: اللهم لا إله إلا أنت، وحدك، لا شريك لك، سبحانك وبحمدك، رب إني عملت سوءا، وظلمت نفسي، فاغفر لي، إنك خير الغافرين.

والثانية: اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني عملت سوءا، وظلمت نفسي، فاغفر لي، إنك أنت أرحم الراحمين.

والثالثة: اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني عملت سوءا، وظلمت نفسي، إنك أنت التواب الرحيم.

فهي الكلمات التي أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم}.

قال: "وهي لولده من بعده".

قال آدم لابن –يقال له: "هبة الله"، ويسميه أهل التوراة وأهل الإنجيل: "شيث"-: تعبد لربك وسيلة، أيردني إلى الجنة أم لا؟ فتعبد وسأل، فأوحى الله عز وجل إليه: إني رادك إلى الجنة.

فقال: يا رب، إني لست آمن، أخشى أن يسألني العلامة، فألقي إليه سوادا من أسورة الحور العين، فلما أتاه قال: ما وراءك؟ قال: أبشر؛ فإن


#297#

ربي قد أخبرني أنه رادك إلى الجنة. قال: فما سألته العلامة؟ فأخرج السوار، فعرفه، فخر ساجدا يبكي حتى سال من عينيه نهر من دموع، وآثاره تعرف بالهند.

وذكر: أن كنز الذهب ما للهند مما نسب من ذلك السوار.

ثم قال: استطعم لي ربك من ثمر الجنة، فلما خرج من عنده مات آدم عليه السلام، [فجاءه جبريل عليه السلام] فقال: إلى أين؟ قال: إن أبي أرسلني إلى ربي أن يطعمه من ثمر الجنة.

قال: فإن ربه عز وجل قضى أن لا يؤكل منها شيء حتى يعاد إليها، وإنه قد مات، فارجع فواره، فأخذه جبريل عليه السلام فغسله وكفنه وحنطه، وصلى الله عليه، ثم قال جبريل: هكذا فاصنعوا بموتاكم.

وفي "تاريخ أبي جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة" من طريق عن ابن عباس: إن الملائكة صلت على آدم عليه السلام.

قال: ووضعوه مما يلي القبلة عند القبور، ودفنوه في مسجد الخيف.

وقال عروة بن الزبير: أتاه جبريل بثياب من الجنة، وحنوط من حنوطها، وحملته الملائكة حتى وضعته بباب الكعبة، وصلى عليه جبريل، ثم حملته الملائكة حتى دفنته في مسجد الخيف.

قال ابن قتيبة: قال وهب: وحفر له في موضع في "أبي قبيس" يقال له: غار الكنز.


#298#

وذكره ابن جرير في "تاريخه" معلقا عمن قاله من العلماء، ثم قال: وذكر أن "حواء" عاشت بعده سنة، ثم ماتت عليها السلام، فدفنت مع زوجها "آدم" عليه السلام في الغار الذي ذكرت، وأنهما لم يزالا مدفونين في ذلك المكان، حتى كان الطوفان، فاستخرجهما –يعني: نوحا عليه السلام- وجعلهما في تابوت، ثم حملهما معه في السفينة، فلما غاضت الأرض الماء ردهما إلى مكانهما الذي كانا فيه قبل الطوفان.

وروى سعيد بن بشير، عن قتادة: أن آدم عليه السلام مات بأرض "فلسطين".

وذكر هشام بن محمد بن السائب الكلبي [عن أبيه] عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن آدم عليه السلام لما فرغ من بناء البيت خرج به الملك إلى "عرفات"، فأراه المناسك كلها التي يفعلها الناس اليوم، ثم قدم مكة فطاف بالبيت أسبوعا، ثم رجع إلى أرض الهند فمات على "نوذ" –يعني: الجبل الذي أهبط عليه-.

وقال حميد بن زنجويه وغيره: قبر آدم عليه السلام من "بيت المقدس" إلى "مسجد إبراهيم" مطوي.

وقال سليمان بن عبد الرحمن: حدثتنا أم إسماعيل بن عياش، عن أم عبد الله بنت خالد بن معدان، عن أبيها أنه قال: رأس آدم عن يمين الصخرة، ورجلاه عن ثمانية عشر ميلا.


#299#

وقال ضمرة بن ربيعة الرملي أبو عبد الله في "تاريخه": عن قادم بن ميسور، عن عبد الله بن أبي فراس قال: قبر آدم عليه السلام في مغارة فيما بين بيت المقدس ومسجد إبراهيم عليه السلام، ورجلاه عند الصخرة، ورأسه عند "مسجد إبراهيم"، وبينهما ثمانية عشر ميلا.

ويروى عن عبد الواحد بن زيد، حدثنا نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: إن آدم عليه السلام رجلاه عند الصخرة، ورأسه عند مسجد إبراهيم، فإذا كان يوم القيامة أقامه الله على رجليه، ثم حشر الله عز وجل إليه ذريته، فيقول الله عز وجل: يا آدم، إليك أحشر ذريتك، لا أحشرك فيمن أحشر، لكرامتك علي.

قال ابن قتيبة في "المعارف": ووجدت في التوراة: جميع ما عاش آدم تسع مائة وثلاثون سنة.

وهذا الذي نقله ابن قتيبة عن التوراة رواه أبو عمر المقدام بن داود بن عيسى بن تليد الرعيني، حدثنا علي – يعني: ابن معبد بن شداد العبدي-، حدثنا العلاء بن سليمان، عن الوضين بن عطاء قال: عاش آدم عليه السلام تسع مائة سنة وثلاثين سنة، قال لبنيه: إني كنت في الجنة، فسمعت كلام الملائكة، وإن ربي وعدني إذا هلكت أن يرجعني الجنة.


#300#

إسناده واه.

وقال وهب: عاش آدم عليه السلام ألف سنة.

وجاء أن حواء عاشت بعد آدم سنة، ثم ماتت فدفنت مع آدم عليه السلام.

وقيل: كان وصي آدم "شيث" عليهما السلام.

وقال ابن جرير في "تاريخه": حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، حدثني محمد بن إسحاق قال: لما حضرت آدم الوفاة –فيما يذكرون والله أعلم- دعا ابنه "شيث"، فعهد إليه عهده وعلمه ساعات الليل والنهار، وأعلمه عبادة الخلق في كل ساعة منهن، فأخبره: إن لكل ساعة صنفا من الخلق فيه عبادته.

وقال: يا بني، إن الطوفان سيكون في الأرض، يلبث فيها سبع سنين، فكتب وصيته، فكان "شيث" فيما ذكر وصي أبيه آدم، وصارت الرئاسة من بعد وفاة آدم لـ "شيث"، وأنزل الله عليه –فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- خمسين صحيفة.

وخرج ابن جرير أيضا عن سعيد بن جبير: إن آدم عليه السلام مرض قبل وفاته أحد عشر يوما، وأوصى إلى ابنه "شيث"، وأمره أن يخفيه من قابيل


#301#

وولده، لأن قابيل قد كان قتل هابيل حسدا منه له حين خصه "آدم" بالعلم، فاستخفى شيث وولده بما عندهم من العلم.

وقال بعض الأخباريين: وولي أمر بني آدم والجن: "شيث".

وشيث اسم عبراني، وتفسيره بالعربية: خلف وشابت بالسرياني، وتفسيره بالعربية: نصب، لأن عليه نصبت الدنيا وعلى ذريته، ليس في الدنيا غير ذريته، وجميع بني آدم أغرقهم الطوفان.

وقال وهب بن منبه فيما حكاه عنه ابن قتيبة: كان شيث بن آدم أجمل ولد آدم وأفضلهم وأشبههم به وأحبهم إليه، وكان وصي أبيه وولي عهده، وهو الذي ولد البشر كلهم، وإليه انتهت أنساب الناس، وهو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة، وكانت هناك خيمة لآدم وضعها الله له من الجنة، وأنزل الله على شيث بن آدم خمسين صحيفة، وعاش شيث تسع مائة سنة واثنتي عشرة سنة".

الخيمة المذكورة هنا: البيت؛ لأنه روي في بعض الآثار: أن آدم عليه السلام لما أنزل إلى الأرض استوحش، فأنزل الله البيت من الجنة خيمة من ياقوتة حمراء، فكان آدم عليه السلام يطوف حولها ويأنس بها، حتى رفعت وبقي موضعها معظما.

وقيل: إن حواء حملت بـ شيث حتى نبتت أسنانه، وكانت تنظر إلى وجهه في بطنها، وهو الثالث من ولد آدم، وأنه لما حضرها الطلق أخذها


#302#

عليه شدة، فانتبذت به، فلما وضعته أخذته الملائكة، فمكث معها أربعين يوما، فعلموه المهن، ثم ردوه إليها معلما.

"المهن" جمع "مهنة" وهي: الخدمة.

وقد تقدم من كلام ابن إسحاق في رواية ابن جرير من طريقه: إن "حواء" ولدت لآدم شيث وتوأمته.

وذكر غير واحد في ترجمة شيث عليه السلام: أن حواء لم تلد ولدا فردا في بطن واحد غير شيث عليه السلام قال بعضهم: وإنما كان ذلك صيانة لنور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أودعه الله عز وجل آدم عليه السلام.

وحدث العباس بن عبد الله الترقفي، عن الفضل بن جعفر بن عبد الله، حدثنا السري بن عثمان البلخي، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن سعيد بن عمرو الأنصاري، عن أبيه، عن كعب الأحبار قال: لما أراد الله عز وجل أن يخلق محمدا صلى الله عليه وسلم أمر جبريل عليه السلام أن يأتيه بالقبضة البيضاء التي هي موضع قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعجنت بماء التسنيم، ثم غمست في أنهار الجنة، وطيف بها في السموات والأرض، فعرفت الملائكة محمدا صلى الله عليه وسلم وفضله قبل أن تعرف آدم، ثم كان نور محمد صلى الله عليه وسلم يرى في غرة جبهة آدم عليه السلام، وقيل له: "يا آدم، هذا سيد ولدك من


#303#

المرسلين"، فلما حملت حواء بـ شيث انتقل النور عن آدم إلى حواء، فكانت تلد في كل بطن ولدين إلا شيثا فإنها ولدته وحده؛ كرامة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم لم يزل ينتقل من طاهر إلى طاهر إلى أن ولد صلى الله عليه وسلم.

وقال هناد بن إبراهيم النسفي: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن بكران، أخبرنا أبو صالح خلف بن محمد بن إسماعيل، حدثنا الحسن بن الحسن بن الوضاح ومحبوب بن يعقوب، قالا: حدثنا يحيى بن جعفر بن أعين، حدثنا علي بن عاصم، عن عطاء بن السائب، عن مرة الهمداني، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله، أين كنت وآدم في الجنة؟ قال: «كنت في صلبه، وأهبط إلى الأرض وأنا في صلبه، وركبت السفينة في صلب أبي: نوح، وقذفت في النار في صلب أبي إبراهيم، لم يلتق لي أبوان قط على سفاح، لم يزل الله عز وجل ينقلني من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام النقية مهديا، لا يتشعب شعبان إلا كنت في خيرهما، فأخذ الله بالنبوة ميثاقي، وفي التوراة بشر بي، وفي الإنجيل شهر اسمي، تشرق الأرض لوجهي، والسماء لرؤيتي، ورقى بي في سمائه، وشق لي اسما من أسمائه فذو العرش محمود وأنا محمد» الحديث.


#304#

وله طريق إلى ابن عباس تأتي قريبا –إن شاء الله تعالى.

وقال أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة": حدثنا أبو محمد عبد الله بن صالح البخاري، حدثنا محمد بن أبي عمر العدني، حدثني عمر بن خالد، حدثنا أبو عبد الله محمد الحبلي، عن عبد الله بن الفرات، عن عثمان بن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن قريشا كانت نورا بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم عليه السلام بألفي عام، يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه، فلما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام ألقى ذلك النور في صلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأهبطني الله عز وجل إلى الأرض في صلب آدم، وجعلني في صلب نوح في السفينة، وقذف بي في النار في صلب إبراهيم، ثم لم يزل ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، حتى أخرجني بين أبوي لم يلتقيا على سفاح قط».

وفي معنى ذلك: أبيات العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه المشهورة.

قال أبو السكين زكريا بن يحيى بن عمر بن حصن بن حميد بن منهب بن حارثة بن خريم بن أوس بن حارثة بن لام الطائي الكوفي: حدثني عم أبي زحر بن حصن، عن جده: حميد بن منهب قال: قال


#305#

جدي خريم بن أوس: هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت عليه منصرفه من تبوك، فأسلمت فسمعت العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه يقول: يا رسول الله، إني أريد أن أمتدحك. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل؛ لا يفضض الله فاك»، فأنشد يقول:

قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق

ثم هبطت البلاد لا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علق

بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله الغرق

تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق

حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندف علياء تحتها النطق

وأنت لما ولدت أشرقت الأرض ... وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضياء وفي النور ... وسبل الرشاد نخترق

خرجه الطبراني في "معجمه" عن عبدان بن أحمد ومحمد بن موسى بن حماد البربري، عن أبي السكين. وفيه طول بقصة الحيرة،


#306#

ورفعها للنبي صلى الله عليه وسلم، ورؤيته الشيماء بنت بقيلة الأزدية.

وقد خرج الحديث غير واحد من الأئمة، منهم: الحاكم في "مستدركه"، وقال الحافظ أبو موسى المديني: "هذا حديث حسن غريب"، وقال الذهبي فيما أنبأونا عنه: منكر. انتهى.

وقد قال أبو عمر بن عبد البر في "الاستيعاب" في ترجمة جرير بن أوس بن حارثة بن لام، ويقال فيه: خريم بن أوس –أظنه أخاه-.

ثم قال: خريم وجرير قدما على النبي صلى الله عليه وسلم، ورويا شعر العباس رضي الله عنه، والله أعلم. انتهى قول أبي عمر.

وقد رويت هذه الأبيات للعباس بن مرداس، وليس بشيء.

وجاءت أيضا أنها لـ حسان بن ثابت ولا يثبت أيضا، وستأتي الرواية بذلك –إن شاء الله تعالى.


#307#

وقوله رضي الله عنه في هذه الأبيات: "قبلها"، وجاء في بعض طرقه: "من قبلها" أي: قبل هذه المدة أو هذه القراءة أو البعثة.

"طبت في الظلال" يريد: ظلال الجنة تحت أشجارها، حين كان في صلب آدم.

وفي "مستودع" يحتمل أن يكون: الرحم، ويحتمل: موضع آدم وحواء الذي أودعا فيه من الجنة وهما يخصفان الورق.

وقوله: "ثم هبطت البلاد" أي: بهبوط أبيك آدم وأنت حينئذ في صلبه.

"لا بشر" أي: لم تكن في الخلق حينئذ بشرا.

"ولا مضغة": وهي: القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ.

"ولا علق": وهو: الدم الجامد الغليظ، بل كنت نطفة –وهو: الماء الذي يكون منه الولد- في صلب نوح عليه السلام، لم ينتقل بعد في هذه المراتب التي ينتقل فيها الجنين، ثم تركب سفينة بركوبه فيها.

وقوله: "السفين" جاء أنه لغة في "السفينة"، والمشهور أنه جمع "سفائن".

وقوله: "وقد ألجم نسرا وأهله الغرق" يعني: نجوت مع أبيك نوح من الغرق، وغرق "نسر" صنم قوم نوح، وإلجام الغرق كناية عن وصول الماء إلى أفواههم التي هي موضع اللجام.

وقوله: "تنقل من صالب إلى رحم" الصالب: قيل: إنه الصلب وهو: كل شيء من الظهر فيه فقار.

قال أبو موسى المديني الحافظ في كتابه "طوال الأحاديث والأخبار": "و"الصالب": الصلب.

وقال أبو طاهر إسماعيل بن أحمد بن زيادة التجيبي –رحمه الله وإيانا- في "شرحه لظائية أبي العباس أحمد بن عمار المقري":


#308#

و"الظهر: الصلب، وفيه لغات، يقال: هو الظهر والقفا والمطاء، والصلب والصلب والصالب.

ثم استشهد على الصلب بقول العجاج:

"في صلب مثل العنان المؤدم"

واستشهد على الصالب بقول العباس رضي الله عنه

"تنقل من صالب إلى رحم" البيت

وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب الرازي في "مختصر العين" للخليل: الصلب: الصلب.

وكذلك قال أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي في "مختصر العين" أيضا: "الصلب" لغة في "الصلب"، وحكى أن "الصالب" الحمى التي لا تنفض.

وهكذا ذكر أبو الحسين بن فارس اللغوي في "مجمله". الصلب والصلب، وحكى أن الصالب من الحمى الشديدة، ولم يذكر في الصالب غيره، والصلب –بالتحريك مفتوحا: لغة بني تميم فيما حكاه ابن دريد، ولم أر من ذكر أن الصالب لغة في الصلب غير أبي موسى المديني وأبي طاهر بن زيادة كما قدمناه، بلى وذكرهما أبو محمد عبد الله بن مسلم القتيبي في شرحه أبيات العباس رضي الله عنه هذه فقال: ولم


#309#

أسمع بهذه اللغة إلا في هذا الحديث. انتهى.

ورأيته في أبيات العباس رضي الله عنه مضبوطا بخط بعضهم بفتح اللام من "صالب"، فيحتمل على هذا –والله أعلم- أن يكون العباس رضي الله عنه أراد من صلب بالتحريك فأشبع فتحة الصاد، واللام حينئذ مفتوحة، فبقي "من صالب"، وقد جاء البيت:

تنقل من صلبه إلى رحم ... إذا مضى طبق بدا طبق

لكنه نسب إلى حسان بن ثابت، وذلك فيما قال محمد بن عبد الله بن سليمان الخراساني: حدثني إسحاق بن إبراهيم بن بيان، حدثنا سلام بن سليمان أبو العباس المكفوف المدائني، حدثنا ورقاء بن عمر، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء ومجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: فداك أبي وأمي، أين كنت و"آدم" في الجنة؟ قال: فتبسم حتى بدت نواجذه ثم قال: «كنت في صلبه وركب بي السفينة في صلب أبي نوح، وقذف بي في النار في صلب أبي إبراهيم، لم يلتق أبواي قط على سفاح، لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسيبة إلى الأرحام الطاهرة، صفتي: مهدي، لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما، قد أخذ الله بالنبوة ميثاقي، وبالإسلام عهدي، ونشر في التوراة والإنجيل ذكري، وبين كل نبي صفتي، تشرق الأرض لنوري والغمام لوجهي، وعلمني كتابه، ورقاني في سحابه، وشق لي اسما من أسمائه، فذو العرش محمود وأنا محمد، ووعدني أن يحبوني بالحوض والكوثر، وأن يجعلني أول شافع وأول مشفع، ثم أخرجني في خير


#310#

قرن لأمتي وهم الحمادون، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر».

قال ابن عباس: فقال حسان بن ثابت في النبي صلى الله عليه وسلم:

قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع يوم يخصف الورق

ثم سكنت البلاد لا بشر ... أنت ولا نطفة ولا علق

مطهر تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله الغرق

تنقل من صلبه إلى رحم ... إذا مضى طبق بدا طبق

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله حسان بن ثابت»، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وجبت الجنة لحسان ورب الكعبة.

وهذا منكر، تفرد به سلام بن سليمان بن سوار الثقفي المدائني الضرير ابن أخي شبابة بن سوار، وقد ضعفه غير واحد، وقد اشتهرت نسبة الأبيات إلى العباس بن عبد المطلب.

ومعنى قوله: "إذا مضى عالم" فـ "العالم" بالفتح: الناس في أحد معانيه، وهو الأليق بهذا المكان.

و"الطبق" في أحد معانيه: الجماعة من الناس؛ لأنهم يطبقون الأرض ثم ينقرضون ويأتي طبق آخر، أي: إنك يا رسول الله تنفك من صلب إلى رحم، إذا مضى ناس كنت فيه منتقلا بدا ناس آخرون تنتقل فيهم.


#311#

"حتى احتوى"، أي: استوى وغلب.

"بيتك": أي: شرفك ومجدك، تقول العرب، فلان كريم البيت وفلان من بيوتات العرب أي: من ذوي الشرف والكرم. قال أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي في كتابه "الغريبين": أراد بـ "بيته": شرفه العالي، جعله في أعلى "خندف" بيتا.

وقوله: "المهيمن": فـ"المهيمن" له معان:

قال أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر الأزهري في كتابه "تفسير أسامي الرب سبحانه وتعالى": جاء في التفسير: أنه الأمين.

وقال الكسائي: إنه الشهيد.

وقال غيره: "المهيمن": الرقيب الحافظ.

وقال أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج في كتابه "معاني القرآن العزيز": وزعم بعض أهل اللغة أن "الهاء" بدل من "الهمزة"، وأن أصله "المؤيمن" كما قالوا: "إياك" و"هياك"، والتفسير يشهد لهذا القول؛ لأنه [جاء أنه] الأمين، وجاء أيضا: الشهيد [وتأويل الشهيد]: الأمين في شهادته.

وقول أبي إسحاق حكاه عنه أبو منصور الأزهري في كتابه الذي ذكرناه إلى قوله: "وهياك".


#312#

قال الأزهري: وهذا قول محمد بن يزيد المبرد. انتهى.

وقيل: "المهيمن": المؤمن، وقيل: المصدق، وبه فسر الحسن البصري قوله تعالى: {ومهيمنا عليه} أي: مصدقا لهذه الكتب أمينا عليها.

وقيل: "المهيمن": الشاهد وروي عن ابن عباس، وعليه قول الشاعر:

إن الكتاب مهيمن لنبينا ... والحق يعرفه ذوو الألباب

أي: شاهد لنبينا صلى الله عليه وسلم.

وقيل: "المهيمن": القائم.

قال أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي في كتابه "تفسير أسامي الرب عز وجل": وقال بعض أهل اللغة: "الهيمنة": القيام على الشيء والرعاية له.

وأنشد:

ألا إن خير الناس بعد نبيه ... مهيمنه التاليه في العرف والنكر

يريد: القائم بعده على الناس بالرعاية لهم. انتهى.

واختلف في "المهيمن" هل هو صفة للبيت، أو المراد به: "يا أيها المهيمن"؟ على قولين، والثاني قاله الأزهري والقتيبي وغيرهما، فقال ابن قتيبة في "اشتقاق أسماء الله عز وجل": وأما قول العباس بن عبد المطلب في رسول الله صلى الله عليه وسلم:


#313#

حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندف علياء تحتها النطق

فإنه أراد: حتى احتويت يا مهيمن من خندف عليا، فأقام البيت مقامه؛ لأن بيته إذا حل بهذا المكان فقد حل هو به، وهو كما يقال: "بيته أعز بيت" وإنما يراد صاحبه، قال النابغة:

وحلت بيوتي في يفاع ممنع ... تخال به راعي الحمولة طائرا

انتهى.

فإذا كان اسما للنبي صلى الله عليه وسلم فجميع معانيه صادقة عليه ، وكذلك إن كان صفة لبيته الذي هو أزكى البيوت، أي: بيتك الشاهد القائم المشرف على سائر البيوت:

ويروى: (حتى احتوى بيتك المهيمن) بنصب "بيتك" ورفع "المهيمن"، وأراد بـ "المهيمن": الله عز وجل.

وأما "خندف": فهي ست قبائل، أشرفها "قريش". قاله الأزهري.

والست قبائل ترجع إلى "خندف" وهي: امرأة إلياس بن مضر جد النبي صلى الله عليه وسلم، واسمها: ليلى فيما ذكره غير واحد، منهم: أبو عبيد الهروي، فذكر أنها ليلى القضاعية.

قلت: هي: ليلى بنت عمران بن الحاف بن قضاعة فيما قاله أبو عمر بن عبد البر.

وبعضهم زاد فقال: ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.

وذكر بعضهم أن اسمها: تماضر بنت الحاف بن قضاعة.

وذكر بعضهم أن اسمها: تماضر بنت حلوان بن الحاف بن قضاعة.

وكانت امرأة معظمة، ملكة في قومها، من بيت العفة، ذات جمال


#314#

بارع وعقل ورأي، وكانت قد علقت بـ إلياس علاقة شديدة، فلما مرض إلياس جزعت عليه جزعا شديدا، وأقسمت أن لا تقيم ببلد مات فيه إلياس، ونذرت السياحة في الفيافي، فلما هلك إلياس ذهبت على وجهها، فلم يدر أين أخذت من بلاد الله.

ويروى: أن إلياس كانت وفاته يوم الخميس، فكانت إذا طلعت الشمس يوم الخميس بكت حتى تغيب، فصار فعلها مثلا تضربه العرب، وذكروه في أشعارها، فيروى: أن رجلا من همدان ماتت زوجته، فقيل له: ألا تبكي عليها؟ فقال: لو كان ذلك يردها لبكيت كما بكت خندف على إلياس.

وأنشد:

لو أنه يغني بكيت كخندف ... على الياس حتى ملها الشر يندب

إذا مؤنس لاحت خراطيم شمسه ... بكت غدوة حتى ترى الشمس تغرب

ولم تر عيناها سوى الدفن قبره ... فساحت وما يدرى إلى أين تذهب

ولم يغن شيئا طول ما بلغت به ... وما طَلَّها دهر وعيش معذب

فـ"مؤنس" هو: يوم الخميس، وقد تقدم ذكره في البيتين اللذين أنشدهما أبو الحسن بن سيده في "المحكم".

ويحكى: أن امرأة من غسان فقدت أخاها ثم أباها، فبكت دهرا طويلا، فنهاها القوم، فقالت:


#315#

تلحون سلمى أن بكت أباها

وقبلها قد ثكلت أخاها

فحولوا العذل إلى سواها

عصتكم سلمى إلى هواها

كما عصت خندف من نهاها

خلت بنيها أسفا وراها

تبكي على الياس فما أتاها

وكان لها من إلياس فيما قيل ثلاثة بنين: عمرو ويقال له: طابخة، وعامر وهو: مدركة جد النبي صلى الله عليه وسلم، وعمير ويقال له: قمعة.

وقيل: لم يكن لها من إلياس ولا لإلياس سوى مدركة وطابخة، وليس بشيء، والصحيح الأول.

وقال أبو عبيد الهروي: ولدت له عمرا وعامرا وعميرا، فندت لهم إبل فخرجوا في طلبها، فأدركها عامر فسمي مدركة بن إلياس، واقتنص عمرو أرنبا فطبخها فسمي طابخة، وانقمع عمير في بيته فسمي قمعة، فلما أبطأوا عليها –أي: على أمهم ليلى- خرجت تخندف في طلبهم –أي: تهرول- فسميت خندف. انتهى.

وقد روي في سبب تلقيبهم غير هذا، وهو: أن مدركة وطابخة كانا في إبل يرعيانها، فبينما هما يحولان إذ مر بهما قطعة من الغزلان، فاقتنص مدركة فحلا واقتنص طابخة أنثى، فقال له مدركة: إن ثدي هذه حديث عهد برضاع فأطلقها لأولادها، وفي هذا ما يكفينا، لعل أن تسلم لنا إبلنا بهذا الوادي، فإنا بوادي يثير عجاجه. فقال: ذاك بيدك، فأطلقاها،


#316#

فما استتم كلامه حتى ظهر من تحت العجاجة عشرة فيهم: رجلان راكبان أشهبين، وثمانية مشاة تقدمهم، فغدوا على الإبل فساقوها، فقال عامر –وكان شجاعا مقداما كريما- لعمرو أخيه: أتدرك الإبل- أم تطبخ هذا الصيد؟ فقال عمرو: بل أطبخ وأنت لها، فلحق عامر بالإبل وجال فيهم، فقالوا: أعامر أنت ابن إلياس بن مضر؟ قال: نعم.

فقالوا له: خذها؛ فإنا عزمنا أن لا نهاوش حسيبا ولا كريما، فجاء بها، وطبخ عمرو ونضجت برمته، وانقمع عمير، فلما قدموا على أبيهم حدثوه شأنهم، فقال لعامر: أنت مدركة، وقال لـ عمرو: أنت طابخة، وقال لـ عمير: أنت قمعة، وأقبلت أمهم ليلى تخندف –وهو: ضرب من المشي كالهرولة- فقال إلياس: على من تخندفين؟ وقد وردت الإبل، فلزمها اللقب.

وقال النسابة هشام بن محمد بن السائب بن الكلبي في "جمهرة النسب": وكان "إلياس" خرج في نجعة له، فنفرت إبله من أرنب، فخرج إليها "عمرو" فأدركها فسمي "مدركة"، وخرج "عامر" فتصيد فطبخه فسمي "طابخة"، وانقمع "عمير" في الخباء فسمي "قمعة"، وخرجت أمهم "ليلى" تمشي، فقال لها الناس: أين تخندفين؟ فسميت "خندف"، والخندفة: ضرب من المشي.

قال: ولما انصرفوا وقد صنعوا ما سمي، قال لـ "عمرو": أنت قد أدركت ما طلبت. وقال لـ "عامر": وأنت قد أنضجت ما طبخت. وقال لـ "عمير": وأنت قد أسأت وانتقمت.


#317#

ويروى: أن رجلا على عهد "الزبير بن العوام" رضي الله عنه ظلم، فنادى بالخندف، فخرج "الزبير" وبيده السيف وهو يقول: خندف إليك أيها المخندف، والله لئن كنت مظلوما لأنصرنك.

و"النطق" في الأصل جمع "نطاق" وهو: ما تشد به المرأة وسطها فوق الثياب.

وقيل: "النطاق": إزار تحتبك المرأة في وسطه وترسل أعلاه على أسفله، تقيمه مقام السراويل.

وهذا البيت قوله: (حتى احتوى بيتك المهيمن) إلى آخره مثل ضربه في ارتفاع نسب نبينا صلى الله عليه وسلم وشرفه وعزه وتوسطه في عشيرته، حتى إن كل البيوت كانوا تحته بمنزلة النطاق من الاتساق، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذي كنت منه».

قاله أبو سعيد سعيد بن أبي سعيد كيسان المقبري المدني، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى أبو عاصم: أخبرنا شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وتقلبك في الساجدين} قال: من نبي إلى نبي حتى أخرجت.

خرجه الطبراني في "معجمه الكبير" فقال: حدثنا أبو مسلم الكشي، حدثنا أبو عاصم فذكره.


#318#

تابعه عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس ولفظه: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقلب في أصلاب الأنبياء عليهم السلام، حتى ولدته أمه.

خرجه أبو بكر الآجري في كتابه "أحكام الشريعة" من طريق عطاء.

وجاء في لفظ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لم يزل تبارك وتعالى يتقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى آدم فمن بعده، ولم تزل الأمم تتباشر به وتستفتح به، حتى أخرجه في خير أمة، في خير قرن، في خير أصحاب، في خير بلد.

وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه: «ثم لم يزل –يعني: الله عز وجل- ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، حتى أخرجني من أبوي، لم يلتقيا على سفاح قط».

وأبواه هما:

"عبد الله بن عبد المطلب" أحسن رجل وأجمله رئي في زمانه.

و"آمنة ابنة وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب" أفضل نساء قومها وأشرفهن نسبا وموضعا، وسيأتي –إن شاء الله تعالى- من ذكرها ما ييسر الله تعالى به.


#319#

&أمر "جرهم" ودفن "زمزم"، وحفر عبد المطلب إياها، ونذره ذبح ولده وما اتصل بذلك من أسماء "زمزم" وفضلها وفضل التضلع منها، والآبار التي كانت بمكة قبلها، وفداء عبد الله&

وقد قدمنا قبل أن "عبد الله" والد النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: "الذبيح"، وسبب تسميته بذلك أن إبراهيم عليه السلام لما ترك إسماعيل وأمه بمكة لم يكن بها أحد، وجاءت رفقة من "جرهم" فنزلوا شعاب مكة، وشب إسماعيل عليه السلام وتعلم العربية والرمي، وأنفسهم وأعجبهم، وزوجوه امرأتين منهم واحدة بعد واحدة، كما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما.

واختلف في اسم امرأتي إسماعيل، فذكر أبو عبد الله الواقدي أن اسم التي عرض إبراهيم لابنه إسماعيل بفراقها: "جداء بنت سعد"، والثانية التي عرض بإمساكها اسمها: "شامة بنت مهلهل".

وحدث أبو الوليد الأزرقي في "التاريخ": عن جده: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، أخبرني ابن إسحاق قال: ولد لإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام اثنا عشرة رجلا، وأمهم: السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، فولدت له اثني عشر رجلا: "نابت بن إسماعيل"


#320#

و"قيذار بن إسماعيل" و"واصل بن إسماعيل"، و"مياس بن إسماعيل" و"أذر بن إسماعيل"، و"طيمان بن إسماعيل"، و"قطور بن إسماعيل"، و"قيس بن إسماعيل"، و"قيدمان بن إسماعيل".

وكان عمر "إسماعيل" –فيما يذكرون –ثلاثين ومائة سنة.

كذا ذكر من الاثني عشر: تسعة.

قال ابن إسحاق عن زوجة "إسماعيل"، قال: هي: بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، فولد لإسماعيل اثنا عشر عظيما منهم: "قيذر" و"نبت".

ذكره ابن قتيبة عن ابن إسحاق.

[وكانت][15] ولاية البيت –فيما رويناه- بعد إسماعيل عليه السلام لابنه "نابت"، ثم وليه بعد "نابت": "مضاض بن عمرو الجرهمي" جد "نبت" أبو أمه، ثم لم يزل بنوه يتوارثون إلى زمن "عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو بن سعد الجرهمي" أحد المعمرين المشهورين.

وفي زمن "عمرو" استخف قومه بالحرم وكثر بغيهم فيه، فأخرجه الله عز وجل عن جوار بيته بأيدي "خزاعة"، فخرج "عمرو بن الحارث الجرهمي" بغزالي الكعبة وبحجر الركن وبنفائس لهم فيما قيل، فدفنها في "زمزم" وعفى أثرها.


#321#

وقيل: إن "عمرو بن الحارث" أظهر التوبة عند استيلاء خزاعة عليه وخرج بغزالي الكعبة وحجر الركن يلتمس التوبة، وهو يقول:

لاهم إن جرهما عبادك

الناس طارف وهم تلادك

فلم تقبل توبته، فألقى غزالي الكعبة وحجر الركن في "زمزم" ودفنها، وانطلق هو ومن معه من "جرهم" إلى اليمن، وحزنوا على ما فارقوا أمر مكة وملكها حزنا شديدا، فقال "عمرو" في ذلك –وهو فيما زعموا من أول شعر قيل في العرب-:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر

وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والخير ظاهر


#322#

ونحن ولينا البيت من بعد نابت ... بعز فما يحظى لدينا المكاثر

في أبيات منها:

فسحت دموع العين تبكي لبلدة ... بها حرم أمن وفيها المشاعر

وقال عمرو أيضا يخاطب بكرا وغبشان الذين خلفوهم بمكة وأخذوها منهم:

يا أيها الحي بالنعف المبنونا ... هبوا، فما لي أراكم لا تهبونا

إذ قال ركب لركب سائرين معا ... لا بد أن تسمعونا أو تنبونا

يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا

كنا أناسا بها دهرا فغيرنا ... فسوف أيضا كما كنا تكونا


#323#

حثوا المطي وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا

قضوا أموركم بالحزم إن له ... أمرا رشيدا لمن يأتيه ميمونا

في أبيات، منها:

إنا عمرنا بدهر كان يعجبنا ... حتى أتانا زمان كان للهونا

كنا خيار ملوك الناس قبلكم ... بمسكن في حرام الله مسكونا

فمال دهر علينا ثم أهلكنا ... بالبغي فيه، فكل الناس يأسونا

وقد رويت هذه القصة على خلاف ما ذكر، فيما حدث به أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد الأزرقي في "تاريخه": عن جده، حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن الكلبي، عن أبي صالح قال: لما طالت ولاية "جرهم" استحلوا من الحرم أمورا عظاما،


#324#

ونالوا ما لم يكونوا ينالون، واستخفوا بحرمة الحرم، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى إليها سرا وعلانية، وكلما عدا سفيه منهم على منكر وجد من أشرافهم من يمنعه ويدفع عنه، وظلموا من دخلها من غير أهلها، حتى دخل رجل منهم بامرأة الكعبة، فيقال: فجر بها أو قتلها، فمسخا حجرين، فرق أمرهم فيها، وضعفوا، وتنازعوا أمرهم بينهم، واختلفوا، وكان قبل ذلك من أعز حي في العرب، وأكثرهم أموالا وسلاحا، وأعز عزة، فلما رأى ذلك رجل منهم يقال له: "مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو"، قام فيهم خطيبا فقال: يا قوم، أبقوا على أنفسكم، وراقبوا الله في حرمه وأمنه، فقد رأيتم وسمعتم من أهلك من صدر هذه الأمم قبلكم: قوم هود وصالح وشعيب، فلا تفعلوا تواصلوا وتواصوا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر، ولا تستخفوا بحرم الله وبيته الحرام، ولا يغرنكم ما أنتم فيه من الأمن والقوة فيه، وإياكم والإلحاد فيه بالظلم فإنه بوار. وايم الله، لقد علمتم أنه ما سكنه أحد قط فظلم فيه وألحد إلا قطع الله عز وجل دابرهم، واستأصل شأفتهم، وبدل أرضها غيرهم، فاحذروا البغي؛ فإنه لا بقاء لأهله، قد رأيتم وسمعتم من سكنه قبلكم من "طس" و"جديس" و"العماليق" ممن كان أطول منكم وأشد قوة وأكثر أموالا وأولادا، فلما استخفوا بحرم الله وألحدوا فيه بالظلم أخرجهم الله منها


#325#

بالأنواع الشتى، فمنهم من أخرج بالذر، ومنهم من أخرج بالجدب، ومنهم من أخرج بالسيف، وقد سكنتم مساكنهم، وورثتم الأرض من بعدهم، فوقروا حرم الله عز وجل، وعظموا بيته الحرام، وتنزهوا عنه وعما فيه، ولا تظلموا من حله وجاء معظما لحرماته، أو جاء بائعا لسلعته، أو مرتغبا في جواركم، فإنكم إن فعلتم ذلك تخوفت أن تخرجوا من حرم الله خروج صغار، حتى لا يقدر أحد منكم أن يصل إلى الحرم ولا إلى زيارة البيت الذي هو حرز وأمن، والطير والوحش فيه.

فقال له قائل منهم يرد عليه –يقال له: مجدع-: من الذي يخرجنا منها؟ ألسنا أعزاء البيت وأكثرهم رجلا وسلاحا؟!

فقال له "مضاض بن عمرو": إذا جاء الأمر بطل ما تقولون.

فلم يقصروا عن شيء مما كانوا يصنعون، فلما رأى "مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو" وما تعمل "جرهم" في الحرم، وما يسرق من مال الكعبة سرا وعلانية عمد إلى غزالين كانا في الكعبة من ذهب وأسياف قلعية فدفنها في موضع "بئر زمزم"، وكان ماء "زمزم" قد نضب ماؤه وذهب لما أحدثت "جرهم" في الحرم ما أحدثت، حتى غبي مكان البئر ودرس، فقام "مضاض بن عمرو" وبعض ولده في ليلة مظلمة، فحفر في موضع "زمزم" وأعمق، ثم دفن فيه الأسياف والغزالين، فبينما هم على ذلك إذ كان من أهل "مأرب" ما ذكر.

وذكر القصة بطولها، وفيها: إن "عمرو بن عامر" وهو من "بقياء بن ماء السماء" انتهى إلى مكة بقومه، واقتتلوا مع "جرهم" ثلاثة أيام، ثم انهزمت "جرهم" فلم ينفلت منهم إلا "الشريد"، وكان "مضاض بن عمرو بن الحارث" قد اعتزل "جرهم" ولم يعن "جرهم" في ذلك، وقال: قد كنت أحذركم هذا.


#326#

ثم رحل هو وولده وأهل بيته. وذكر بقيته إلى أن قال: وانخزعت "خزاعة" بمكة، فأقام بها "ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر" وهو لحي، فولي أمر مكة وحجابة البيت.

وذكر: أن "مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي" نزعت له إبل، فخرج في طلبها حتى وجد أثرها قد دخلت مكة، فمضى على الجبال من نحو أجياد، حتى ظهر على "أبي قبيس" يتبصر الإبل في بطن وادي مكة، فأبصر الإبل تنحر وتؤكل، لا سبيل له إليها، يخاف إن هبط الوادي أن يقتل، فولى منصرفا إلى أهله، وأنشأ يقول:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

الأبيات بنحو ما تقدمت وبعدها.

وقال أيضا:

يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا

إنا كما كنتم كنا فغيرنا ... دهر، فسوف كما صرنا تصيرونا

حثوا المطي وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا

وذكر بقية الأبيات.

وهذه الأبيات الثلاثة الأول وجدها "مالك بن دينار" مكتوبة على قبر، وذلك فيما خرجه أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الختلي في


#327#

كتابه "الديباج" فقال: حدثنا علي بن مسلم، حدثنا سيار، حدثنا جعفر، سمعت مالك بن دينار يقول: مررت بطريق الشام فإذا قبر عليه مكتوب:

يا أيها الركب، سيروا إن قصركم

الأبيات بنحوها.

تابعه أبو عبد الرحمن عبد الله ابن الإمام أحمد، فحدث به في كتاب "الزهد" لأبيه: عن علي بن مسلم وعن هارون بن عبد الله ، كلاهما عن سيار. وحدث به أيضا عن سويد بن سعيد وغيره، عن حماد بن واقد الصفار، عن مالك بن دينار.

وحدث به أبو نعيم في "الحلية" عن فاروق بن عبد الكبير، حدثنا هشام بن علي السيرافي، حدثنا فطر بن حماد، حدثنا أبي، حدثنا مالك قال: أتيت على قبر فإذا عليه مكتوب:

يا أيها الركب حثوا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا

حثوا المطي وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا

كنا أناسا كما كنتم فغيرنا ... دهر، فسوف كما كنا تكونونا


#328#

وقد وجدت أيضا على حجر في بئر باليمامة وذلك فيما روي عن عبد الله بن عبد السلام البصري، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن سليمان التمار، أخبرني ثقة، عن رجل من أهل اليمامة قال: وجد في بئر باليمامة ثلاثة أحجار، وهي بئر "طسم" و"جديس".

وذكر القصة، وفي آخرها: وفي الحجر الثالث مكتوب:

يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا

حثوا المطي وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا

كنا أناسا كما كنتم فغيرنا ... دهر، فأنتم كما كنا تكونونا

وقال القاسم بن ثابت في "الدلائل": وحدثنا إبراهيم، حدثنا محمد بن إدريس، حدثنا سفيان، سمعت أبا حمزة، عن عكرمة، عن رجل من قريش: أنهم كانوا في سفينة، فحجتهم الريح –أو قال: كسرت- نحو جزائر قرسان، قال الرجل: فبينما أمشي إذ لقيني شيخ فسألني: من أنت؟ فقلت: رجل من قريش من أهل مكة. فتنفس ثم قال: واها لمكة! ثم أنشأ يقول:


#329#

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى، نحن كنا أهلها فأزالنا ... صروف الليالي والجدود العواثر

قال: قلت: من أنت –يرحمك الله؟ قال: امرؤ من "جرهم".

قال: وكان "سفيان" ربما أنشد هذا الشعر فزاد فيه.

وأبدلنا زيد بها دار غربة ... بها الجوع باد والعدو المحاصر

ولم نتربع واسطا فجنوبه ... إلى الشيء من وادي الأراكة حاضر

قال القاسم: و"واسط": الجبل الذي يجلس عنده المساكين إذا ذهبت إلى "منى".

وقال أبو الوليد الأزرقي محمد بن عبد الله بن أحمد في "تاريخه": حدثني محمد بن يحيى، حدثنا عبد العزيز بن عمران قال: خرج


#330#

أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي رضي الله عنه قبيل الإسلام في نفر من قريش يريدون اليمن، فأصابهم عطش شديد ببعض الطريق، وأمسوا على غير الطريق، فساروا جميعا، فقال لهم أبو سلمة: إني أرى ناقتي تنازعني شقاء، أفلا أرسلها وأتبعها؟ قالوا: فافعل. فأرسل ناقته وتبعها، فأصبحوا على ماء وحاضر، فاستقوا وسقوا، فإنهم لعلى ذلك إذ أقبل رجل فقال: من القوم؟ فقالوا: من قريش.

قال: فرجع إلى شجرة أمام الماء، فتكلم عندها بشيء.

قال: ثم رجع إلينا فقال: لينطلقن معي أحدكم إلى رجل يدعوه.

فقال أبو سلمة رضي الله عنه: فانطلقت معه، فوقف بي تحت شجرة، فإذا وكر معلق، فصوت إليه يا أبه. فزعزع شيخ رأسه، فأجابه، فقال هذا الرجل:

فقال لي: ممن الرجل؟

قلت: من قريش.

قال: من أيها؟

قلت: من "بني مخزوم بن يقظة".

قال: أيهم؟

قلت: "أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة".

قال: أيهات منك، أنا و"يقظة" سن واحد، أتدري من يقول:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر


#331#

بلى، نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر

قلت: لا.

قال: أنا قائلها، أنا "عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي"، أتدري لم سمي "أجياد" "أجيادا"؟

قلت: لا.

قال: جادت بالدماء يوم التقينا نحن وقطوراء.

أتدري لم سمي "قعيقعان"؟

قلت: لا.

قال: لتقعقع السلاح في ظهورنا لما طلعنا عليهم منه.

وذكره معلقا أبو المعالي محمد بن الحسن بن محمد بن حمدون في كتابه "التذكرة".

وتمت ولاية البيت بأيدي "خزاعة"، وتولاه "عمرو بن لحي" –وهو: "ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر"- وولده من بعده خمس مائة سنة، إلى أن كان آخرهم "حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة" وهو "لحي بن حارثة بن عمرو بن عامر ماء السماء الخزاعي".

و"حبشية" في هذا النسب هي بفتح الحاء والباء، في كتاب


#332#

"المؤتلف والمختلف" لأبي جعفر محمد بن حبيب النحوي.

قال القاضي أبو الوليد هشام بن أحمد الكناني في "تهذيبه" لهذا الكتاب: هكذا في بعض النسخ: بفتح الحاء والباء، وفي بعضها: "حبشية" بإسكان الباء وتخفيف الياء، وفي بعضها بالتشديد أيضا. انتهى.

ومن "حليل" هذا انتهت ولاية البيت إلى "قصي بن كلاب" كما تقدم ذكره.

وتناسى الناس أمر "زمزم" إلى زمن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم فأمر في المنام بحفرها.

قال عبد الله بن الإمام أحمد في "العلل": حدثني أبي، حدثني معمر، حدثنا جرير، عن مغيرة قال: كان عكرمة يحدث سليمان بن عبد الملك عن عبد المطلب وحفر زمزم، فقال له سليمان: ما أحسن حديثك لولا أنك تفخر علينا.

وقال أيضا: حدثني أبي قراءة على يعقوب في "مغازي ابن إسحاق" مما روي عن أبيه، ثم إن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بينا هو نائم في الحجر أتي فأمر بحفر "زمزم" وهي دفن


#333#

بين: "إساف" و"نائلة" عند منحر قريش، كانت "جرهم" دفنتها حين ظعنوا عن مكة وهي بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام التي سقاه الله حين ظمئ وهو صغير، فلما حفرها عبد المطلب ودله الله عليها وخصه الله بها؛ زاده الله بها شرفا وخطرا في قومه، وعطلت كل سقاية كانت بمكة حين ظهرت، وأقبل الناس عليها التماس بركتها ومعرفة فضلها، لمكانها من البيت وأنها سقيا الله عز وجل إسماعيل عليه السلام.

وقال محمد بن عمر الواقدي فيما حدث به عنه كاتبه محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى" قال: وكان "زمزم" سقيا من الله، أتي –يعني: عبد المطلب- في المنام مرات، فأمر بحفرها، ووصف له موضعها، فقيل له: احفر "طيبة". فقال: وما "طيبة"؟

فلما كان من الغد أتاه فقال: احفر "برة". فقال: وما "برة"؟

فلما كان من الغد أتاه وهو نائم في مضجعه ذلك فقال: احفر "المضنونة". قال: وما "المضنونة"؟ أبن لي ما تقول.

قال: فلما كان الغد أتاني فقال: احفر "زمزم". قلت: وما "زمزم"؟ قال: لا تنزح ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين: الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم.


#334#

قال: وكان غراب أعصم لا يبرح، عند الذبائح –وهو شرف لك ولولدك.

فغدا عبد المطلب بمعوله ومسحاته، معه ابنه "الحارث بن عبد المطلب" وليس له يومئذ غيره، فجعل "عبد المطلب" يحفر بالمعول ويغرف بالمسحاة في المكتل ، فيحمله "الحارث" فيلقيه خارجا، فحفر ثلاثة أيام، ثم بدا له الطوي، فكبر وقال: هذا طوي إسماعيل عليه السلام.

فعرفت قريش أنه قد أدرك الماء، فأتوه فقالوا: أشركنا فيه.

قال: ما أنا بفاعل، هذا أمر خصصت به دونكم، فاجعلوا بيننا وبينكم من شئتم أحاكم إليه.

فقالوا: "كاهنة بني سعد بن هذيم". وكانت بمعان من أشراف الشام.

فخرجوا إليها، وخرج مع عبد المطلب عشرون رجلا من بني عبد مناف، وخرجت قريش بعشرين رجلا من قبائلها. فلما كان بـ


#335#

"الفقير" –من طريق الشام- أو حذوه فني ماء القوم جميعا، فعطشوا، فقالوا لعبد المطلب: ما ترى؟

قال: هو الموت، فليحفر كل رجل منكم حفيرة لنفسه، فكلما مات رجل دفنه أصحابه، حتى يكون آخرهم رجلا واحدا فيموت ضيعة، أيسر من أن تموتوا جميعا، فحفروا، ثم قعدوا ينتظرون الموت.

فقال عبد المطلب: والله، إن إلقاءنا بأيدينا هكذا لعجز، ألا نضرب في الأرض فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض هذه البلاد.

فارتحلوا، وقام عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به انفجر تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه، وشربوا جميعا، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلموا إلى الماء الرواء، فقد سقانا الله.

فشربوا واستقوا، وقالوا: قد قضي لك علينا، الذي سقاك هذا الماء بهذه البلاد هو الذي سقاك "زمزم"، فوالله لا نخاصمك فيها أبدا.

فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين "زمزم".

وما علقه الواقدي حدث به ابن إسحاق مطولا، فقال: حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن


#336#

عبد الله بن زرير الغافقي: أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحدث حديث "زمزم" حين أمر عبد المطلب بحفرها، قال: قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر، إذ أتاني آت فقال: احفر "ظيبة".

قال: قلت: وما "ظبية"؟

قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني، فقال: احفر "برة".

قال: قلت: وما "برة"؟

قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجائني فقال: احفر المضنونة". قال: قلت: وما "المضنونة"؟

قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني، فقال: احفر "زمزم".

قال: قلت: وما "زمزم"؟ قال: لا تنزح ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين: الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل.

فلما بين له شأنها ودل على موضعها وعرف أنه قد صدق؛ غدا بمعوله ومعه ابنه "الحارث بن عبد المطلب" ليس له يومئذ ولد غيره، فحفر، فلما بدا لعبد

المطلب الطي كبر.


#337#

فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقا، فأشركنا معك فيها.

قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم.

فقالت قريش لعبد المطلب: أنصفنا؛ فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها.

قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه.

قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم.

قال: نعم.

وكانت بأشراف الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر.

قال: والأرض إذ ذاك مفاوز.

قال: فخرجوا، حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام فني ماء عبد المطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم وقالوا: إنا بمفازة ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم.

فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال: ماذا ترون؟

قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك فمرنا بما شئت.

قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما يلم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفنه أصحابه في حفرته، ثم واراه، حتى


#238#

[يكون] آخرهم رجلا واحدا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا.

قالوا: نعم ما أمرته.

فقام كل رجل منهم، فحفر حفرته لنفسه، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله، إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحلوا.

فارتحلوا: حتى إذا فرغوا ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب فكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه، واستقوا حتى ملأوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلموا إلى الماء، فقد سقانا الله، فاشربوا واستقوا.

فجاؤوا وشربوا واستقوا، ثم قالوا: والله، قضي لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في "زمزم" أبدا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو سقاك "زمزم"، فارجع إلى سقايتك راشدا، فرجع، ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبينها.

قوله في هذا الحديث: "برة" أي: واسعة الخير.

و"ظبية": شبهها بالظبية التي هي كالخريطة للدنانير.


#339#

و"المضنونة": الخلوق، والطيب يضن به لنفاسته، فكذلك "زمزم"، هكذا فسره بعضهم، والمشهور: "طيبة" من "طابت" فهي "طيبة".

قال أبو القاسم السهيلي: فسميت "طيبة" لأنها للطيبين والطيبات من ولد إبراهبم وإسماعيل صلى الله عليهما وسلم.

وقيل له: "احفر برة" وهو اسم صادق عليها أيضا؛ لأنها فاضت للأبرار وغاضت عن الفجار.

وقيل له: "احفر المضنونة" قال وهب بن منبه: سميت زمزم "المضنونة"؛ لأنها ضن بها على غير المؤمنين فلا يتضلغ منها منافق.

قال السهيلي أيضا: وفي تسميتها بـ"المضنونة" رواية أخرى رواها الزبير: أن عبد المطلب: قيل له: "احفر المضنونة؛ ضننت بها على الناس إلا عليك". أو كما قال. انتهى.

وقال أبو عمر أحمد بن عبد الجبار العطاردي في "المغازي": حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال: بينما "عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف" نائم في الحجر عند الكعبة أتي فأمر بحفر زمزم، ويقال: إنها لم تزل دفينا بعد ولاية بني إسماعيل الأكبر و"جرهم"، حتى أمر بها عبد المطلب، فخرج عبد المطلب إلى قريش، فقال: يا معشر قريش، إني قد أمرت أن أحفر "بئر زمزم".


#340#

فقالوا له: بين لنا أين هي؟ فقال: لا.

قالوا: فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت، فإن كان حقا من الله بين لك، وإن كان من الشيطان لم يعد لك.

فرجع فنام في مضجعه، فأتي فقيل له: "احفر زمزم، إنك إن حفرتها لم تندم، وهي تراث من أبيك الأقدم، لا تنزف الدهر ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، مثل نعام جافل لم يقسم، ينذر فيها ناذر لمغنم، فهي ميراث وعقد محكم، ليست كبعض ما قد يعلم، وهي بين الفرث والدم".

فقال حين قيل له ذلك: فأين هي؟

فقيل له: عند قرية النمل حيث ينقر الغراب غدا.

فغدا "عبد المطلب" ومعه ابن "الحارث" ليس له ولد غيره، فوجد قرية النمل ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثين: "إساف" و"نائلة" اللذين كانت قريش تنحر عندهما.

قال: فجاء عبد المطلب بالمعول فقام ليحفر، فقالت له قريش حين رأوا جده: والله لا ندعك تحفر بين صنمينا هذين اللذين ننحر عندهما.

فقال "عبد المطلب" لابنه "الحارث": دعني أو ذد عني حتى أحفر، فوالله لأمضين لما أمرت به.

فلما رأوا منه الجد خلوا بينه وبين الحفر، فكفوا عنه، فلم يمكث إلا قليلا حتى بدا له الطوي، فكبر، فعرفت قريش أنه قد صدق


#341#

وأدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقا، فأشركنا معك فيها.

فقال: ما أنا بفاعل، وإن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم.

قالوا: فأنصفنا، فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها.

قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أخاصمكم إليه.

قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم.

فقال: نعم. وكانت بأشراف الشام.

وذكر بقيته بنحوه.

وروى عبد الرزاق بن همام بن نافع الصنعاني في أول كتابه "المغازي": عن معمر، عن الزهري قال: أول ما ذكر من عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن قريشا خرجت من الحرم فارة من أصحاب الفيل، وهو غلام شاب، فقال: والله، لا أخرج من حرم الله أبتغي العز في غيره.

فجلس عند البيت وأجلت عنه قريش، فقال:

اللهم إن المرء يمنع رحله ... فامنع رحالك

لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم عدوا محالك

فلم يزل بائنا في الحرم حتى أهلك الله الفيل وأصحابه، فرجعت قريش وقد عظم فيهم بصبره وتعظيمه، فبينما هم على ذلك، وقد ولد


#342#

أكبر بنيه، فأدرك –وهو: "الحارث بن عبد المطلب"، أتي عبد المطلب في المنام فقيل له: احتفر .زمزم: خبيئة الشيخ الأعظم.

قال: فاستيقظ فقال: "اللهم بين لي" فأري في النوم مرة أخرى. احتفر تكتم بين الفرث والدم، في مبحث الغراب في قرية النمل، مستقبلة الأنصاب الحمر.

قال: فقام عبد المطلب فمشى، حتى جلس في المسجد الحرام ينظر ما سمي له من الآيات، فنحرت بقرة بـ"الحزورة" فأفلتت من جازرها بحشاشية نفسها، حتى خشي عليها الموت في المسجد في موضع "زمزم" فجزرت تلك البقرة في مكانها، حتى احتمل لحمها، فأقبل غراب يهوي حتى وقع في الفرث، فبحث عن قرية النمل، فقام عبد المطلب يحفر هنالك.

فجاءته قريش، فقالوا لعبد المطلب: ما هذا تصنع، إنا لم نكن نزنك بالجهل، لم تحفر في مسجدنا؟

فقال عبد المطلب: إني لحافر هذه البئر، ومجاهد من صدني عنها.

فطفق يحفرها هو وابنه "الحارث" وليس له ولد يومئذ غيره، فيسفه عليه ناس من قريش، لما يعلمون من عتق نسبه وصدقه واجتهاده في دينهم يومئذ، حتى إذا أمكن الحفر، واشتد عليه الأذى، نذر إن وفى له عشرة من الولد أن ينحر أحدهم، ثم حفر حتى أدرك سيوفا دفنت في "زمزم" حين دفنت.


#343#

فلما رأت قريش أنه قد أدرك السيوف قالوا لعبد المطلب: أخذنا مما وجدت.

فقال عبد المطلب: بل هذه السيوف لبيت الله.

ثم حفر حتى أنبط الماء، فحفرها في القرار ثم بحرها حتى لا تنزف، ثم بنى عليها حوضا، فطفق هو وابنه ينزعان فيملآن ذلك الحوض فيشرب منه ذلك الحاج، فيكسره ناس من حسدة قريش بالليل، ويصلحه عبد المطلب حين يصبح.

فلما أكثروا فساده دعا عبد المطلب ربه، فأري في النوم، فقيل له: قل: اللهم إني لا أحلها لمغتسل ولكن لشارب حل وبل، ثم كفيتهم.

فقام عبد الملطب حين احتفرت قريش في المسجد، فنادى بالذي رأى، ثم انصرف، فلم يكن يفسد عليه حوضه أحد من قريش إلا رمي بداء في جسده، حتى تركوا له حوضه ذلك وسقايته.

وحدث بنحوه أبو الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة" فقال: حدثني مهدي بن أبي المهدي، حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني، عن معمر، عن الزهري.

تابعه موسى بن المساور الضبي، عن عبد الله بن معاذ الصنعاني مطولا.


#344#

وحكى الزبير بن بكار: أن عبد المطلب لما حفر "زمزم" وأدرك منها ما أدرك وجدت قريش في أنفسها، فلقيه "خويلد بن أسد بن عبد العزى" فقال: يا ابن سلمى، لقد سقيت ماء رغدا، ونثلت عادية حتداء.

قال: يا ابن أسد، أما إنك تشرك في فضلها، والله لا يساعفني أحد عليها ببر، ولا يقوم معي بأزر إلا بذلت له خير الصهر.

فقال خوليد بن أسد:

أقول وما قولي عليهم بسبة ... إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم

حفيرة إبراهيم يوم ابن هاجر ... وركضة جبريل على عهد آدم

فقال عبد المطلب: ما وجدت أحدا ورث العلم إلا قدم غير "خويلد بن أسد".

وقصة حفر عبد المطلب "زمزم" جاءت من طرق غير ما ذكر:


#345#

منها ما قاله حامد بن شعيب: حدثنا سريج بن يونس، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عبد الأعلى بن [أبي] المساور، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتي عبد المطلب في المنام فقيل له: احفر "برة". قال: وما"برة"؟ قال: "مضنونة" ضن بها على الناس وأعطيتموها.

قال: فلما أصبح جمع قومه فأخبرهم، فقالوا: ألا سألته ما هي؟

فلما كان من الليل أتي في منامه، فقيل له: احفر. قال: وما أحفر؟

قال: احفر "زمزم" بركة من الله ومغنى، تسقي الحجيج ومعشرا جما.

فلما أصبح جمع قومه فأخبرهم، فقالوا: ألا سألت: أين موضعها؟

فلما بات من الليل أتي فقيل له: احفر. قال: أين؟ قال: موضع "زمزم". قال: وأين موضعها؟ قال: مسلك الدر، وموقع الغراب: بين الفرث والدم.

فلما أصبح دعا قومه فأخبرهم، فقالوا: هذا موضع نصب "خزاعة" ولا يدعونك.

وكان ولده جميعا غيبا إلا "الحارث"، فقام هو و"الحارث" فحفر حتى استخرجا غزالا من ذهب وفضة، ثم حفرا حتى استخرجا سيوفا ملفوفة في عباء، ثم حفرا حتى استنبطا الماء، فأتاه قومه، فقالوا: يا عبد المطلب، خذ واغنم. فقال: ائتوني بقداح ثلاثة: أسود، وأبيض، وأحمر.


#346#

فجعل الأسود لقومه، والأحمر للبيت، والأبيض له، فضرب بها فخرج الأسود على الغزال فصار لقومه، ثم ضرب فخرج الأحمر على الحلية وصار السيوف له.

خرجه أبو نعيم في "الحلية" لحامد بن شعيب عن سريج.

تابعه أحمد بن عبيد بن إدريس الزينبي، عن يزيد بن هارون نحوه.

وقد روينا: أن عبد المطلب لما حفر "زمزم" وأخرج ما كان ألقاه فيها "عمرو بن الحارث الجرهمي" من غزالي الكعبة والسلاح، فقالت له قريش: يا عبد المطلب، لنا معك في هذا شرك وحق.

فقال: لا، ولكن هلموا إلى أمر نصف بيني وبينكم، نضرب عليها بالقداح.

قالوا: وكيف تصنع؟

قال: أجعل للكعبة قدحين ولي قدحين ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شيء كان له، ومن تخلف قدحاه فلا شيء له.

فقالوا: أنصفت.

فجعل قدحين أصفرين للكعبة، وقدحين أسودين لعبد المطلب، وقدحين أبيضين لقريش، ثم أعطوا القداح صاحب القداح الذي يضرب بها عند "هبل"، وقام عبد المطلب يدعو الله تعالى ويقول:

اللهم أنت الملك المحمود ... ربي وأنت المبدئ المعيد


#347#

من عندك الطارف والتليد ... إن شئت ألهمت لما تريد

في أبيات غير ذلك.

قال: وضرب صاحب القداح فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة، فضربهما عبد المطلب صفائح وجعلها في باب الكعبة، فكان أول ذهب حليته. وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبد المطلب، فأخذها. وتخلف قدحا قريش، وعظم شأن عبد المطلب وعز أمره، وصارت "زمزم" له.

$*[ما روي في أسماء زمزم وفضلها]:$

وسميت بئر مكة "زمزم" لكثرة مائها.

وقيل: لأن أم إسماعيل حوضت عليها. وزمت الحوض بالتراب لئلا ينبعث الماء.

وقيل: سميت بذلك لصوت الماء وانبثاقه لما خرج، وقيل غير ذلك.

و"زمزم" لا تنصرف للتأنيث والعلمية، وحكى أبو عبيد البكري في "المعجم": ضم أوله، وفتح الميم مخففة ومثقلة، وكسر ثالثه فيهما. وهو غريب.

وحكي: "زمازم".


#348#

ولها أسماء أخرى، منها: "همزة جبريل"؛ لأن جبريل عليه السلام همز بعقبه فانبثق الماء، وقيل: "هزمة جبريل".

حدث بونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ما زلنا نسمع أن "زمزم" "هزمة جبريل" عليه السلام بعقبه لإسماعيل حين ظمئ.

وسيأتي –إن شاء الله تعالى- قريبا من طريق: سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعا، بزيادة فيه.

و"الهزمة": تطامن في الأرض، و"هزمة البئر": حفرتها، و"الهزائم": الآبار الكبيرة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: سئل كعب عن "زمزم" فقال: خفقة جبريل بجناحه.

ومن أسمائها: "أم العيال" و"شباعة:" بالمعجمة والموحدة المشددة.

وقال أبو عبيد البكري في "معجمه": وهي "الشياعة" بتشديد الشين المعجمة وتشديد الياء –أخت الواو- والعين المهملة.

وعزاه البكري إلى أبي عمر الزاهد، وهو غريب، ويعضد أنه بالموحدة لا بالمثناة تحت ما رواه أبو العباس الرياشي في "أخباره"


#349#

فقال: حدثنا عبد الله بن عمر القيسي، عن عمرو بن ثابت، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد ابن الحنفية، عن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا إذا أصبحنا ليس لنا صبوح ولا غبوق أمرنا أبو طالب أن نأتي "زمزم" فنشرب منها، فنظل شباعا.

وروى سليم بن مسلم، عن سفيان الثوري، عن العلاء بن أبي العباس، عن أبي الطفيل قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنه يقول: كانت "زمزم" تسمى في الجاهلية "شباعة" ، ويزعمون أنها نعم العون على العيال.

وحدث به أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": عن وكيع عن سفيان.

وحدث الواقدي، عن ابن أبي سبرة، عن عمرو بن عبد الله العبسي، عن جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم، عن عبد الله بن غنمة، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما قال: تنافس الناس في "زمزم" في الجاهلية، حتى إن كان أهل العيال يغدون بعيالهم فيشربون منها فتكون صبوحا لهم، وقد كنا نعدها عونا على العيال.


#350#

وروينا من طريق الكديمي، حدثنا إسحاق بن إدريس، حدثنا إبراهيم بن عبد الرحمن الجمحي، عن عمر بن عبد الله العبسي. فذكره.

وخرج الحافظ أبو علي سعيد بن عثمان بن السكن في "صحيحه" من حديث عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في "زمزم": «إنها مباركة، وإنها طعام طعم وشفاء سقم».

وخرج البزار في "مسنده" بسند جيد رجاله ثقات عن أبي ذر بنحوه.

وهو في "مسند أبي داود الطيالسي".

وخرجه مسلم في "صحيحه" دون قوله: «وشفاء سقم».

وقال أبو أحمد بن عدي: حدثنا محمد –يعني: ابن أحمد بن حسين الأهوازي الجريجي، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا ابن أبي عدي، حدثنا ابن عون، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا: «زمزم طعام طعم وشفاء سقم».

هذا من مناكير "الجريجي" هذا، وهو متهم.

وقال البخاري في "تاريخه الكبير": قيس بن شفي عن ابن عباس


#351#

رضي الله عنهما قال: «زمزم طعام طعم، وشفاء سقم، وخير ماء يعلم». قاله عمرو بن علي، عن مؤمل، عن سفيان، عن أبي إسحاق –يعني: عن قيس بن شفي- وقال يحيى القطان: "قيس بن كركم"، وقال ابن مهدي: يروي أبو إسحاق عن ابن كركم الأحدب المخزومي، وروى لنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن قيس بن شفي عن ابن عباس مثله. وقال عمرو: فسمعت يحيى بعد يقول: "قيس" ولا يقول: "ابن كركم"، وقال وكيع: عن سفيان عن أبي إسحاق عن سعيد بن شفي عن ابن عباس، ولا يصح.

قوله في هذا الحديث: «وخير ماء يعلم»، فيه إطلاق يعم المياه كلها، وهو دليل لما قاله شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص البلقيني: إن ماء "زمزم" أفضل من "الكوثر"؛ لأن به غسل صدر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يغسل إلا بأفضل المياه.

وهو في "معجم الطبراني الأوسط" قال: حدثنا موسى بن هارون، حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني، حدثنا مسكين بن بكير، حدثنا محمد بن مهاجر، عن إبراهيم بن أبي حرة، عن مجاهد، عن ابن


#352#

عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من الطعم وشفاء من السقم، وشر ماء على وجه الأرض ماء بوادي برهوت، نقبة بحضرموت، عليه كرجل الجراد من الهوام، تصبح تندفق، وتمسي لا بلال بها».

لم يرو هذا الحديث عن "إبراهيم بن أبي حرة" إلا "محمد بن مهاجر"، ولا عن "محمد" إلا "مسكين بن بكير"، تفرد به الحسن بن أحمد بن أبي شعيب. قاله الطبراني.

وخرجه أيضا في "المعجم الكبير".

وخرجه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" بنحوه.

وفي الباب عن عائشة رضي الله عنها.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، أخبرنا أبو إسحاق، عن قيس بن كركم قال: سألت ابن عباس فقلت: أخبرني عن "زمزم"؟ فقال: أخبرك بعلم: لا تنزع، ولا تنزف، ولا تذم، طعام من طعم، وشفاء من سقم.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في "العلل": حدثني أبي، حدثنا روح، حدثنا ابن جريج، أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد، عن عبد الله بن


#353#

إبراهيم بن قارظ، أن زبيد بن الصلت أخبره: أن كعبا قال لزمزم: برة مضنونة ضن بها لكم، أول من أخرجت له إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، ونجدها طعام طعم وشفاء سقم.

وروى داود بن عمرو، عن إسماعيل بن عياش، حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم قال: قدم علينا وهب، فطفق لا يشرب ولا يتوضأ إلا من ماء "زمزم"، فقيل له: ما لك عن الماء العذب؟ فقال: ما أنا بالذي أشرب ولا أتوضأ حتى أخرج منها إلا من ماء "زمزم"، إنكم لا تدرون ما ماء "زمزم"، والذي نفس وهب بيده؛ إنها لفي كتاب الله، لا يتعمد إليها امرؤ من الناس يتضلع منها ريا ابتغاء بركتها إلا نزعت داء وأحدثت له شفاء.

أخبرنا الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله السعدي، أخبرنا أبو العباس أحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الولي –بقراءتي عليه-، أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد المقدسي سماعا في يوم الأربعاء ثامن رجب سنة ثمان وسبعين وستمائة، أخبرنا: أبو محمد عبد الله بن ذهيل بن كارة الحزمي وأبو الفتوح يوسف بن المبارك بن كامل الخفاف كتابة، قالا: أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري، أخبرنا القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن محمد الفراء، أخبرنا أبو الحسن علي بن معروف بن محمد البزار، أخبرنا أبو بكر محمد بن محمد بن محمد بن سليمان الباغندي، حدثنا أحمد –يعني: ابن بكار، حدثنا عتاب –هو: ابن بشير-، عن حصين، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما من رجل يشرب من ماء "زمزم" حتى يتضلع إلا حط الله عز وجل


#354#

منه داء وأمن جوفه، ومن شربه للعطش روي، ومن شربه من جوع شبع.

قال: وقال: النظر في "زمزم" عبادة، والنظر في "زمزم" يحط الخطايا حطا.

خرجه أبو نعيم في "الحلية" لداود.

ومن فوائد "زمزم": ما ذكره الفاكهي: إن من حثا على رأسه ثلاث حثيات من ماء "زمزم" لم يصبه ذلة أبدا.

ومن أسمائها: "الرواء".

قال عبد الله ابن الإمام أحمد أيضا في "العلل": حدثني أبي، حدثني روح، حدثنا حماد –يعني: ابن سلمة-، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: بينما العباس رضي الله عنه في "زمزم" وهم ينزحون ماءها يخافون أن تنزح، إذ جاء كعب فقال: انزعوا، ولا تخافوا، فوالذي نفسي بيده، إني لأجدها في كتاب الله "الرواء".

قال العباس: فأي عيونها أغزر؟

قال: التي تجيء من قبل الحجر.

فقال العباس: صدقت. ثم قال العباس: من أنت؟ قال: أنا كعب.

وخرج الإمام أبو بكر البيهقي في كتابه "شعب الإيمان" من حديث


#355#

سويد بن سعيد، عن ابن أبي الموالي، عن ابن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ماء زمزم لما شرب له».

قال البيهقي: تفرد به سويد بن سعيد عن ابن أبي الموالي. انتهى.

وقال الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد الأزدي: حدثنا يوسف بن القاسم الميانجي، حدثنا القاسم بن عباد بالبصرة، حدثنا سويد بن سعيد: رأيت عبد الله بن المبارك بمكة أتى "زمزم" فاستسقى منه شربة، ثم استقبل الكعبة فقال: اللهم، إن ابن أبي الموالي حدثني عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ماء زمزم لما شرب له»، وهذا أشربه لعطش القيامة.

وخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد".

وفي هذا ما يدل أن "سويدا" لم ينفرد به، والله أعلم.

والحديث الأول خرجه الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي –رحمه الله وإيانا- في جزء جمعه.

وقال فيما أنبأونا عنه: هذا حديث على رسم الصحيح، فإن


#356#

"عبد الرحمن بن أبي الموالي" تفرد به البخاري، و"سويد بن سعيد" انفرد به مسلم. انتهى.

وقد روي من طريق أخرى إلى جابر، لكنها ضعيفة، حدث به ابن ماجه في "سننه" عن هشام بن عمار، عن الوليد قال: قال عبد الله بن المؤمل، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ماء زمزم لما شرب له».

تابعه: الواقدي، وسعيد بن سليمان سعدويه الحافظ، وسعيد ابن زكريا المدائني، وزيد بن الحباب، وغيرهم عن ابن المؤمل كذلك مرفوعا.


#257#

وحدث به المفضل في كتابه "أخبار مكة المشرفة" عن ابن أبي بزة قال: حدثنا أحمد بن محمد الجمحي، عن عبد الله بن المؤمل، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: ماء زمزم لما شرب له.

وهذا موقوف.

وجاء عن حمزة الزيات، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعا، والمعروف حديث ابن المؤمل مرفوعا، والله أعلم.

وللحديث شاهد من حديث أبي ذر وابن عباس رضي الله عنهما:

أما حديث أبي ذر: فقال الطبراني: حدثنا عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل، حدثنا إبراهيم بن الحجاج، حدثنا عبد العزيز بن المختار، قال: وأخبرنا أحمد بن عبدان بن أحمد، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن خالد الحذاء، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ماء زمزم لما شرب له».

وأما حديث ابن عباس: فصححه سفيان بن عيينة لما سئل عنه حين حدث به، وجزم بصحته، وذلك فيما:

أخبرنا أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن الموفق وأبو حفص عمر ابن محمد بن البالسي وأبو عثمان عبد الله بن عثمان بن حمية بقراءتي عليهم يوم الثلاثاء ثاني قعدة سنة ثمان وتسعين وسبعمائة بصالحية


#258#

دمشق، أخبركم أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم السلمي الخطيب قراءة عليه وأنتم تسمعون، أخبرنا أحمد بن عبد الدائم، أخبرنا الفرج يحيى بن محمود الثقفي، أخبرنا إسماعيل بن أحمد التيمي الحافظ، أخبرنا أبو عبد الله الحميدي، أخبرنا عبد العزيز بن الحسن الضراب، أخبرني أبي، أخبرنا أحمد بن مروان، حدثنا محمد بن عبد الرحمن، حدثنا الحميدي قال: كنا عند سفيان بن عيينة فحدثنا بحديث زمزم أنه لما شرب له.

فقام رجل من المجلس ثم عاد فقال له: يا أبا محمد، أليس الحديث صحيحا الذي حدثتنا به في "زمزم" أنه لما شرب له؟

فقال سفيان: نعم.

فقال الرجل: فإني قد شربت الآن دلوا من "زمزم" على أنك تحدثني بمائة حديث.

فقال سفيان: اقعد؛ فحدثه بمائة حديث.

وحديث سفيان في "زمزم" رويناه فيما قال الدارقطني في "سننه" فقال: حدثنا عمر بن الحسن بن علي، حدثنا محمد بن هشام بن


#359#

علي المروزي –يعني: ابن أبي الدميك، حدثنا محمد بن حبيب الجارودي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تستشفي به شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله به، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، وهي هزمة جبريل وسقيا الله تعالى إسماعيل».

وخرجه الحاكم في "المستدرك" وقال: صحيح الإسناد إن سلم من "محمد بن حبيب الجارودي".

قال أبو الحسن بن القطان: سلم منه، فإن الخطيب قال فيه: كان صدوقا.


#360#

قال ابن القطان: لكن الراوي عنه مجهول وهو "محمد بن هشام المروزي". انتهى.

والآفة في الحديث فيما ذكره الذهبي وغيره: من شيخ الدارقطني، وهو القاضي الأشناني، قال الذهبي: فلقد أثم الدارقطني بسكوته عنه، فإنه بهذا الإسناد باطل، ما رواه ابن عيينة قط. انتهى.

وفي نفيه رواية ابن عيينة للحديث نظر، فقد تقدم روايتنا عن الحميدي أن سفيان بن عيينة حدث به.

وروى الدارقطني من طريق عثمان بن الأسود، حدثني عبد الله بن أبي مليكة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال له: من أين جئت؟ قال: شربت من "زمزم" فقال له ابن عباس: أشربت منها كما ينبغي؟ قال: وكيف ذلك يا أبا عباس؟ قال: إذا شربت منها: فاستقبل القبلة، واذكر اسم الله، وتنفس ثلاثا، وتضلع منها، فإذا فرغت فاحمد الله، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم».


#361#

وقال أبو الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة": حدثني جدي، حدثنا عيسى بن يونس السبيعي، حدثنا عنبسة بن سعيد الرازي، عن إبراهيم بن عبد الله الحاطبي، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صلوا في مصلى الأخيار، واشربوا من شراب الأبرار.

قيل لابن عباس: ما "مصلى الأخيار"؟ قال: تحت الميزاب.

قال: وما "شراب الأبرار"؟ قال: "ماء زمزم".

تابعه إبراهيم بن محمد الشافعي عن عيسى.

وقال عبد الجبار بن الورد المكي: حدثنا عبد الله بن الحارث بن أبي ربيعة، عن عكرمة بن خالد قال: بينما أنا ليلة في جوف الليل عند "زمزم" جالس إذا بنفر يطوفون، عليهم ثياب بيض لم أر كبياض ثيابهم شيئا قط، فلما فرغوا صلوا قريبا مني، فالتفت بعضهم فقال لأصحابه: اذهبوا بنا نشرب من شراب الأبرار.

قال: فقاموا فدخلوا "زمزم". فقلت: والله، لو دخلت على القوم فسألتهم، فقمت فدخلت، فإذا ليس فيها أحد.

وقال المفضل بن محمد الجندي: حدثنا أحمد بن أبي بزة، عن أبيه قال: دخلت الطواف بعد هدأة من الليل، فإذا أنا في الطواف برجل مبيض وهو يقول: "زمزم" شراب الأبرار، و"الحجر" مصلى الأخيار.


#362#

قال: فالتفت فلم أدر أفي الأرض أخذ أم في السماء.

وروي عن مقاتل بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: «لا يجتمع ماء زمزم ونار جهنم في جوف عبد أبدا».

وقال محمد بن محمد بن سليمان الباغندي: حدثنا محمد بن حميد الرازي، حدثنا جرير، عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يتحف الرجل بتحفة سقاه من ماء زمزم.

خرجه أبو نعيم في كتابه "الحلية" من حديث الباغندي، واستغربه من حديث منصور ومجاهد وشعبة، وقال: لم نكتبه إلا من حديث الباغندي.

قلت: وجاء من طريق محمد بن حميد الرازي أيضا، وهو واه- بالإسناد إلى مجاهد قال: كان ابن عباس رضي الله عنهما إذا أراد أن يتحف الرجل سقاه من ماء "زمزم".

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" و"الأوسط" من حديث


#363#

هشيم، عن عبد الله بن المؤمل، عن ابن محيصن، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم استهدى ماء زمزم من سهيل بن عمرو رضي الله عنه.

وقال الهيثم بن خلف: حدثنا أبو كريب، حدثنا خلاد الجعفي، عن زهير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تحمل ماء "زمزم"، وتذكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمله.

خرجه الترمذي عن أبي كريب بنحوه.

وقال أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي: ذكر ابن جريج: حدثني ابن أبي حسين: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى سهيل بن عمرو: إن جاءك كتابي ليلا فلا تصبحن، أو نهارا فلا تمسين، حتى تبعث إلي بماء "زمزم"، فاستعانت امرأة سهيل "أثيلة الخزاعية" جدة أيوب بن عبد الله، فأدلجتاهما وخادمهما، فلم يصبحا حتى فرتا مزادتين


#364#

وفرغتا منهما، فجعلهما سهيل في كرين، وملأهما ماء "زمزم"، وبعثهما على بعير.

خرجه أبو سعيد.

وحدث به أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة" عن جده، عن سعيد –هو: ابن سالم القداح، عن عثمان بن ساج، عن ابن جريج.

وحدث الواقدي، عن عبد الحميد بن عمران، عن خالد بن كيسان، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق».


#365#

خرجه أبو الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة" للواقدي.

وحدث به، عن جده، عن سعيد بن عثمان، قال: أخبرنا أبو سعيد، عن رجل من الأنصار، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «علامة بيننا وبين المنافقين أن تدلوا دلوا من ماء زمزم فتضلعوا منها، ما استطاع منافق قط يتضلع منها».

وحدث عن جده، عن عبد المجيد، عن عثمان [بن] الأسود، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة "زمزم"، فأمر [بدلو] فنزعت له من البئر فوضعها على شفة البئر، ثم وضع يده من تحت عراقي الدلو، ثم قال: «بسم الله» ثم كرع فيها فأطال، ثم أطال، فرفع رأسه، فقال: «الحمد لله». ثم عاد، فقال: «بسم الله» ثم كرع فيها، فأطال، وهو دون الأول، ثم رفع رأسه فقال: «الحمد لله» ثم كرع فيها فقال: «بسم الله» فأطال، وهو دون


#366#

الثاني، ثم رفع رأسه فقال: «الحمد لله» ثم قال صلى الله عليه وسلم: «علامة ما بيننا وبين المنافقين: لم يشربوا منها قط حتى يتضلعوا».

وقال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا زكريا الساجي، حدثنا عبد الله بن هارون أبو علقمة الفروي، حدثنا قدامة بن محمد الأشجعي، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علامة ما بيننا وبين المنافقين: أنهم لا يتضلعون من زمزم».

وقال البخاري في "تاريخه": حدثني ابن منير، سمع سلمة، أخبرنا عبد الله، أخبرنا عثمان بن الأسود، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية ما بيننا وبين المنافقين: لا يتضلعون من زمزم».

وقال البخاري: عبيد الله بن موسى، عن عثمان، عن محمد بن عبد الرحمن، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم. مثله.

وذكر له طرقا أخر إلى عثمان ثم قال: وقال محمد بن صباح: حدثنا إسماعيل بن زكريا، عن عثمان، حدثنا عبد الله بن أبي مليكة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم. مثله.

وقال أبو سعيد المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل مكة": حدثنا عبد الوهاب بن مليح، حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن


#367#

ساج، أخبرني مقاتل، عن الضحاك بن مزاحم قال: بلغني أن التضلع من ماء "زمزم" براءة من النفاق، وأن ماءها يذهب الصداع، وأن الاطلاع فيها يذهب بالبصر، وأنه سيأتي عليها زمان تكون أعذب من النيل والفرات.

وخرجه أبو الوليد الأزرقي في كتابه عن جده، عن سعيد بن سالم.

وقال أبو العباس عبد الله بن جعفر بن خشيش: حدثنا محمد بن أحمد العبدي، حدثنا عبد العزيز الهاشمي قال: كنت بمكة فركبت من "جدة" في البحر ومعي ماء "زمزم"، فكان الموج إذا ارتفع رششت عليه من ماء "زمزم" فيسكن.

وقال عمرو بن عون: أخبرنا هشيم، عن الفضل بن عطية قال: رأيت رجلا يسأل عطاء بن أبي رباح، فشكى إليه البواسير، فقال: اشرب من ماء "زمزم" واستنج به.

المراد بالاستنجاء هنا –والله أعلم-: استعمال الماء على مكان الألم لا إزالة النجاسة، فقد جزم المحب الطبري بتحريم إزالة النجاسة به وإن حصل به التطهير.


#368#

ومن خصائص "زمزم" أيضا: أنها تفيض إلى أعلاها في ليلة النصف من شعبان في كل سنة، على ما قيل لي، وما يشاهده إلا العارفون، حتى إن الناس يبكرون صبيحة تلك الليلة إلى قبة "زمزم"، ويزدحمون ازدحاما شديدا لاستقاء الماء والتبرك به.

وذكر الأزرقي أن في قعرها ثلاثة عيون: عين حذاء الركن الأسود، وعين حذاء "أبي قبيس" و"الصفا"، وعين حذا "المروة".

ومما يشهد لهذا: ما خرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" عن هشيم، عن منصور، عن عطاء: أن حبشيا وقع في "زمزم" فمات. قال: فأمر ابن الزبير أن ينزف ماء زمزم، قال: فجعل الماء لا ينقطع. قال: فنظرنا فإذا عين تنبع من قبل الحجر الأسود، فقال ابن الزبير: حسبكم.

وخرج البيهقي في "سننه الكبرى" من حديث محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا هشام، عن محمد بن سيرين: أن زنجيا وقع في "زمزم" –يعني: فمات-، فأمر ابن عباس فأخرج، وأمر بها أن تنزح، قال: فغلبتهم عين جاءتهم من الركن، فأمر بها فدست بالقباطي والمطارق حتى نزحوها، فلما نزحوها انفجرت عليهم.

قال البيهقي: رواه ابن أبي عروبة، عن قتادة: أن زنجيا وقع في "زمزم"، فأمرهم ابن عباس بنزحها.


#369#

قال: وهذا بلاغ بلغهما، فإنهما لم يلقيا ابن عباس ولم يسمعا منه.

وقال: قال الزعفراني: قال أبو عبد الله الشافعي: لا نعرفه عن ابن عباس، و"زمزم" عندنا، ما سمعنا بهذا.

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو الوليد الفقيه، حدثنا عبد الله بن شيرويه، سمعت أبا قدامة يقول: سمعت سفيان –يعني: ابن عيينة- يقول: أنا بمكة منذ سبعين سنة، لم أر أحدا صغيرا ولا كبيرا يعرف حديث الزنجي الذي قالوا: إنه وقع في "زمزم"، ما سمعت أحدا يقول: نزح "زمزم".

قال أبو عبيد: وكذلك ينبغي؛ لأن الآثار قد جاءت في نعتها: أنها لا تنزح ولا تذم.

قال البيهقي: لا أدري أبو قدامة حكاه عن أبي عبيد أو أبو الوليد الفقيه. انتهى.

وقال عبد الوهاب بن فليح: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، أخبرني مقاتل، عن الضحاك بن مزاحم قال: إن الله عز وجل يرفع المياه العذبة كلها غير "زمزم". وذكر باقيه في أشراط الساعة.

حدث به أبو سعيد المفضل بن محمد الجندي في كتابه "أخبار مكة".

وقال أبو الحسين محمد بن حامد بن السدي المعروف بـ "خال ولد السني" في أول كتاب "الأولياء" –من تأليفه-: حدثنا إبراهيم بن عبيد، حدثني زيد بن مهران الأسدي، سمعت أبا بكر بن عياش يقول: نزعت من "زمزم"، فإذا طعم عسل، ثم نزعت دلوا آخر، فإذا طعم لبن.


#370#

حدثنا إبراهيم، حدثني إسحاق بن إبراهيم القاري، قال: قال أبو عبد الله الهروي –وكان رجل صدق: دخلت "زمزم" في السحر، فإذا أنا بشيخ ينزع بالدلو الذي يلي الركن، فلما أرسل الدلو أخذته فشربت، فإذا أنا بسويق لوز لم أر سويق لوز قط أطيب منه، فلما كانت القابلة في ذلك الوقت دخل رجل قد سدل ثوبه على وجهه، فنزع بالدلو مما يلي الركن، ثم شرب وأرسل الدلو، فأخذت فضلة فشربت، فإذا ماء مضروب بعسل، لم أشرب عسلا قط أطيب منه.

قال: وأردت أن آخذ بطرف ثوبه أنظر من هو، ففاتني، فلما كانت الليلة الثالثة قعدت قبالة "باب زمزم"، فلما كان في ذلك الوقت فإذا رجل قد سدل ثوبه على وجهه، فدخلت فأخذت بطرف ثوبه، فلما شرب من الدلو وأرسله قلت: يا هذا، أسألك برب البنية: من أنت؟ قال: تكتم علي حتى أموت؟ قلت: نعم. قال: أنا سفيان بن سعيد فأرسلته وشربت من الدلو، فإذا لبن مضروب بسكر، لم أر لبنا قط أطيب منه. قال: وكانت تلك الشربة تكفيني إلى مثلها، إذا شربتها لا أجد جوعا ولا عطشا.

وخرجه الإمام أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني في كتابه "المعجزات" من حديث عبد الله بن خبيق، حدثني أبو علي السجستاني، عن عبد الرحمن بن يعقوب بن أبي عباد المكي قال:


#371#

قدم علينا شيخ من "هراة" يكنى أبا "عبيد الله" شيخ صدق، فقال لي: دخلت في المسجد فجلست بجنب "زمزم"، فخل شيخ من "باب زمزم". وذكر بنحوه.

وخرجه أبو نعيم في "الحلية" من طريق سلمة بن شبيب، حدثنا سهل بن عاصم، عن عبد الرحمن بن يعقوب بن إسحاق المكي، حدثنا شيخ من أهل "هراة" يقال: له: "عبد الله الهروي" رجل صدق، قال: دخلت "زمزم" في السحر. وذكر القصة بنحوها.

وخرج من طريق أبي يعلى الموصلي، حدثنا القرشي، حدثنا عبيد بن هشام البصري قال: أتيت "زمزم" فوجدت شيخا قد متح بالدلو، ثم شرب، ثم عاد فشرب، ثم عاد فشرب، ثم نظر في "زمزم" وكأنه يدعو، ثم انصرف فأتيت الدلو لأشربه، فإذا لبن حليب، فتركته ولحقت الشيخ فقلت: من أنت –يرحمك الله؟ فقال: أنا سفيان بن سعيد الثوري.

وذكر ابن جبير الكناني أبو الحسن محمد بن أحمد في كتابه "التذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار" "قبة زمزم" فقال: وداخلها مفروش بالرخام الأبيض، وتنور البئر في وسطها من رخام، دوره


#372#

أربعون شبرا، وارتفاعه أربعة أشبار ونصف، وغلظه شبر، وعمقه أحد عشر قامة، وعمق الماء سبع.

وهذا مخالف لما ذكره الأزرقي، فإنه قال: كان ذرع زمزم من أعلاها إلى أسفلها ستين ذراعا.

ثم ذكر الأزرقي ما زيد فيها، إلى أن قال: حتى كان رجل يقال له: "محمد بن مبشر" من أهل "الطائف" يعمل فيها، فقال: أنا صليت في قعرها، فغورها من رأسها إلى الجبل أربعون ذراعا، ذلك كله بنيان، وما بقي فهو جبل منقور، وهو تسعة وعشرون ذراعا.

وذرع "حنك زمزم" في السماء ذراعان وشبر، وذرع تدوير فم "زمزم" [أحد عشر ذراعا، وسعة فم زمزم] ثلاثة أذرع وثلثا ذراع.

وذكر أن ما بين رأس "زمزم" و"الحجر الأسود" أربعون ذراعا، ومن مقام إبراهيم إلى حرف زمزم أربعة وعشرون ذراعا أصبعا.

$*[ذكر الآبار التي كانت بمكة قبل زمزم]:$

ولما ظهرت "زمزم" عفت على الآبار التي كانت بمكة قبلها، والآبار التي كانت قبل ظهور "زمزم":

"بئر مرة بن كعب بن لؤي"، يقال لها: "زم" وموضعها فيما قيل عند طرف الموقف بـ"عرنة" قريبا من "عرفة".


#373#

و"بئر ولده كلاب بن مرة"، يقال لها: "خم" كانت مشربا للناس في الجاهلية، ويقال: إنها كانت لبني مخزوم.

و"بئر ولده قصي" ، يقال لها:" العجول" وكان موضعها في "دار أم هانئ بنت أبي طالب" بـ"الحزورة"، كانت العرب تردها إذا قدمت مكة.

ويقال: كان لقصي بئر أخرى عند الردم الأعلى بردم عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلف دار أبان بن عثمان. وقيل: إنها دثرت، فنثلها جبير بن مطعم وأحياها، وعندها مسجد، يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه.

وأظن هذه البئر "سجلة" الآتي ذكرها؛ لأنه جاء أن "قصيا" لما احتفرها قال:

أنا "قصي" وحفرت سجلة ... تروي الحجيج زغلة فـ"زغلة"

و"بئر هاشم بن عبد مناف" يقال لها: "بذر"، وهي التي عند المستبذر في حطيم الخندمة على فم شعب أبي طالب.

ويقال: إن "قصيا" حفرها فنثلها أبو لهب.


#374#

وحكى أبو عبيد البكري في "المعجم" قولا آخر: أن المطلب بن عبد مناف احتفرها. وذكره أولا ثم عقبه بقوله: وقال ابن إسحاق: حفر "بذر" هاشم بن عبد مناف. انتهى.

ويقال: إن هاشما حفر بئرا أخرى يقال لها: "سجلة" ، وانتقلت إلى "جبير بن مطعم".

واختلف في سبب انتقالها إليه:

فقيل: وهبها عبد المطلب حين ظهرت "زمزم" للمطعم بن عدي، فانتقلت إلى ولده.

وهذا أثبت الأقوال.

وقيل: ابتاعها "جبير" من ولد هاشم.

وقيل: وهبها له "أسد بن هاشم".

و"بئر عبد شمس بن عبد مناف" يقال لها: "الطوي"، وموضعها عند "باب البيضاء" دار محمد بن يوسف.


#375#

و"بئر ولده أمية" يقال لها: "الجفر" وهي بطرف "أجياد الكبير" في وجه المسكن الذي كان لبني عبد الله بن عكرمة بن خالد بن عكرمة المخزومي، واشترى ذلك المسكن "ياسر" خادم "زبيدة"، فأدخله في المتوضآت التي عملها على باب "أجياد الكبير".

و"بئر بني عبد شمس" يقال لها: "أم جعلان"، دخل موضعها في المسجد الحرام.

ولهم بئر أخرى يقال لها: "الغلوق" بأعلى مكة عند دار أبان بن عثمان.

و"بئر بني أسد بن عبد العزى"، يقال لها: "سقية"، ويقال لها أيضا: "بئر الأسود"، وموضعها في دار أم جعفر.

و"بئر لبني سهم" في ناحيتهم فيما قيل، يقال لها: "زمزم" يقال: إنها دخلت في المسجد الحرام حين وسعه أبو جعفر أمير المؤمنين.

ولهم بئر أخرى يقال لها: "الغمر".

و"بئر بني جمح" حفرها "خلف بن وهب الجمحي"، يقال لها: "السنبلة"، وتعرف بـ"بئر أبي"، وموضعها في حائط الحزامية بأسفل مكة قبالة دار الزبير بن العوام، ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم بصق فيها، ويقال: إن ماءها جيد من الصداع.


#376#

و"بئر عند ردم بني جمح"، يقال لها: "أم جردان" ، لا يدرى من حفرها، ثم صارت لبني جمح.

وهذه الآبار المذكورة أفرد لها أبو الوليد الأزرقي في كتابه ترجمة فقال: "الآبار التي كانت بمكة قبل زمزم" ثم ذكر ما لخصناه قبل.

وفاته "بئر ميمون بن قحطان بن ربيعة" من الصدف، حفرها في الجاهلية قبل أن يحفر عبد المطلب "زمزم" بدهر طويل، لم يكن لهم حينئذ ماء للشفة سواه.

حكاه البكري في "معجمه" عن الحسن بن أحمد الهمداني، وذكر أنها بين: "البيت" و"الحجون" بأبطح مكة، وذكر: أن ميمون بن الحضرمي أخا العلاء حفرها في الجاهلية، ثم حكى عن الهمداني ما تقدم.

قال ابن إسحاق فيما روينا عنه: فعفت "زمزم" على البئار التي كانت قبلها يسقى عليها الحاج، وانصرف الناس إليها لمكانها من المسجد الحرام ولفضلها على ما سواها من المياه، ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام.

وحدث الواقدي عن هشام بن عمارة، عن سعيد بن جبير بن مطعم قال: قال محمد بن جبير: فكثرت المياه بمكة بعدما حفرت "زمزم" حتى روي القاطن والبادي، ودنت لها "بكر" و"خزاعة" فارتووا منها، لا تنزح بعد ظهور "زمزم" بماء معين، وروي الناس بها أجمعين.


#377#

&[أولاد عبد المطلب وهم أعمام النبي صلى الله عليه وسلم]&

كمل لعبد المطلب عشرة بنين.

قال علي بن صالح بن حي: كان ولد عبد الحي المطلب عشرة، كل واحد منهم يأكل الجذعة.

وذكر محمد بن السائب الكلبي أنهم أحد عشر.

وذكر غيره أكثر من ذلك.

ولم يختلف في بنات عبد المطلب أنهن ست فيما أعلم.

فأما أولاده الذكور؛ فأولهم:

"الحارث" وأمه: سمراء بنت جنيدب، وقيل: صفية بنت جنيدب بن حجير بن زباب بن سواءة بن عامر بن صعصعة، وهو أكبر ولد عبد المطلب، وبه كان يكنى، ومات في حياة أبيه مسموما.

قال علي بن الصباح: أخبرنا هشام بن محمد، عن عوانة بن الحكم قال: كان عبد المطلب لا يسافر سفرا إلا ومعه ابنه الحارث، وكان أكبر ولده، وكان شبيها به جمالا وحسنا، فأتى اليمن وكان يجالس عظيما من عظمائهم، فقالوا له: لو أمرت ابنك هذا يجالسني وينادمني –يعني: ففعل-، فعشقت امرأته "الحارث"، فراسلته فأبى عليها، فألحت عليه، فبعث إليها:


#378#

لا تطمعي فيما لدي فإنني ... كرم منادمتي عفيف مئزري

أسعى لأدرك مجد قوم سادة ... عمروا قطين البيت عند المشعر

فاقني حياءك واعلمي أني امرؤ ... آبي بنفسي أن يعير معشري

أني أزن بجارتي أو كنتي ... أو أن يقال صبا بعرس الحميري

وأخبر بذلك أباه، فلما يئست منه سقته سم شهر، فارتحل عبد المطلب حتى إذا كان بمكة مات "الحارث".

وحدث بنحوه محمد بن أبي السري، عن هشام بن محمد، عن أبيه قال: كان عبد المطلب بن هاشم إذا أتى اليمن نزل على بعض ملوكه، وأنه أتى مرة ومعه ابنه "الحارث"، وكان جميلا يشبه بعبد المطلب، فنزل على بعض ملوكها كما كان يفعل، فأرسل ذلك الملك إليه: أن ابعث إلينا بابنك "الحارث" نتحدث معه.

فأرسله عبد المطلب، فلما جاء رأته امرأة الملك، فعشقته، فراسلته تريده إلى نفسها، فأبى أن يفعل ذلك وكرم، فسقته شربة فيها سم شهر.

قال الكلبي: ويكون عند الملوك سم لسنة ولشهر ويوم وساعة.


#379#

فسقت ذلك "الحارث"، فانصرف به "عبد المطلب" إلى "مكة"، فلما كان قبل دخوله "مكة" مات "الحارث"، فدخل به "مكة" فدفنه، ورثاه "عبد المطلب" في قصيدة:

والحارث الفياض ولى ماجدا ... أيام نازعه الحمام الكأسا

$*ومن ولد "الحارث" وولد ولده جماعة معدودون في الصحابة:$

منهم: "أبو سفيان بن الحارث" واسمه: "المغيرة" أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، توفي أبو سفيان بعد استخلاف "عمر" رضي الله عنه بسنة وسبعة أشهر، وقيل: مات سنة عشرين، وصلى عليه "عمر"، ودفن بـ"البقيع".

و"قثم" هلك صغيرا، وهو شقيق "الحارث".

و"الزبير" وكنيته "أبو طاهر"، وهو شقيق "عبد الله"، وكان من الأشراف الشعراء، قيل: كان أكبر الأعمام، وكان يرقص النبي صلى الله عليه وسلم وهو طفل يقول:

محمد بن عبدم ...

عشت بعيش أنعم ...

في دولة ومغنم ...

دام سجيس الأزلم ...

وولد "الزبير": "عبد الله" و"ضباعة" و"أم الحكم" من الصحابة رضي الله عنهم، و"عبد الله" هذا ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، واستشهد بـ


#380#

"أجنادين" إلى جنب سبعة قد قتلهم.

و"حمزة" أسد الله وأسد رسوله، وأخوه من الرضاعة، وكنيته "أبو يعلى" ، كني بولد له اسمه "يعلى" درج، و"أم حمزة" هانئ بنت أهيب، ويقال: وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، أسلم قديما، قيل: أسلم رضي الله عنه في سنة خمس من النبوة، وقيل: ست، وهاجر إلى المدينة، وشهد "بدرا" و"أحدا"، وقتل يومئذ شهيدا، ولم يكن له إلا ابنة واحدة وهي "أمامة" التي اختصم فيها "علي" و"جعفر" و"زيد" رضي الله عنهم، وقيل: اسمها "عمارة".

و"العباس أبو الفضل" شقيق "ضرار" أمهما: "تبيلة" بنت جناب بن كليب، من النمر بن قاسط، وقيل فيها: "بتيلة" بنت جندب بن عمر بن عامر من النمر بن قاسط.

كان العباس رضي الله عنه سيد الوادي وساقي الحجيج، أسلم قديما وكان يكتم إسلامه، وخرج مع المشريكن يوم "بدر"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لقي العباس فلا يقتله، فإنه أخرج مستكرها»، فأسره أبو اليسر كعب ابن عمرو، ففادى نفسه ورجع إلى مكة، ثم هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه بـ"الجحفة" متوجها إلى فتح مكة، فشهد معه الفتح. وكان مولده قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، فعلى قول حكيم بن حزام –الذي قدمناه- لم يكن العباس من الذين وقع عليهم النذر الذي نذره عبد المطلب.

وكان للعباس رضي الله عنه عشرة من الأولاد: "الفضل"، و"عبد الله"، و"عبيد الله"، و"عبد الرحمن"، و"قثم"، و"عون"، و"الحارث"، و"تمام"، و"أم حبيب" وهي شقيقة الستة الأول، أمهم: "أم الفضل


#381#

بنت الحارث الهلالية"، أخت "ميمونة" زوج النبي صلى الله عليه وسلم.

وكل منهم له رؤية.

وللثلاثة الأول سماع ورواية أيضا.

وكان "تمام" أصغر الأولاد، و"الفضل" أكبرهم.

و"عبد الله": حبر الأمة وترجمان القرآن عليه السلام.

مات "العباس" رضي الله عنه سنة اثنتين وثلاثين بالمدينة في خلافة "عثمان" رضي الله عنه وهو ابن ثمان وثمانين سنة، ودفن بالبقيع، وكان قد ذهب بصره، وكان إذا مر بـ"عمر" أو "عثمان" ترجلا له إجلالا وعظمة.

و"أبو طالب" واسمه: "عبد مناف"، وقيل: اسمه كنيته، ذكره أبو أحمد الحاكم، وهو شقيق "الزبير"، و"عبد الله" والد رسول الله صلى الله عليه وسلم وشقيق "عبد الكعبة" و"عاتكة" صاحبة الرؤيا في "بدر" وأخواتها إلا "صفية" ، أمهم "فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم".

وكان لأبي طالب من الولد: "طالب": مات كافرا، و"عقيل"، و"جعفر"، و"علي"، و"أم هانئ"؛ لهم صحبة رضي الله عنهم.

و"جمانة" ذكرت في أولاده:

فجعلها ابن قتيبة اسم "أم هانئ" وتابعه غيره، وفرق بينهما أبو عمر بن عبد البر، وغيره.

والخلاف في اسم "أم هانئ" على أقوال، فقيل: "جمانة" كما تقدم، وقيل: "هند" ذكرها الدارقطني، وتبعه عبد الغني المقدسي ومال إلى قوله، وقيل: اسمها "فاختة": جزم به جماعة، قال ابن عبد البر:


#382#

وهو الأكثر.

وكان "علي" أصغر أولاد "أبي طالب"، وكان أصغر من "جعفر" بعشر سنين، وكان "عقيل" أصغر من "طالب" بعشر سنين.

وكان قد جاء "أبا طالب" سهم في يوم الفجار فاش في قدمه، فكان يجمع منه.

و"عبد الله" والد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقيق "أبي طالب" و"عاتكة"، وكان أجمل أهل زمانه، وهو فيما ذكره "عبد الله بن جعفر بن أبي طالب" أرفع ولد عبد المطلب وأعظمهم خطرا.

و"أبو لهب" واسمه: "عبد العزى"، وكناه الشعراء بـ"أبي عتبة"، وكناه أبوه "أبا لهب" لحسن وجهه، وقيل: بولد له اسمه "لهب".

وأمه: لبنى بنت هاجر بن عبد مناف بن ضاطر بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر ماء السماء الخزاعي.

ومن ولده "عتبة" و"معتب" شهدا مع النبي صلى الله عليه وسلم "حنينا" وثبتا يومئذ، و"درة بنت أبي لهب" لها صحبة رضي الله عنهم، و"عتيبة" قتل كافرا، دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقتله الأسد بـ"الزرقاء" من أرض الشام.

و"عبد الكعبة"، وهو شقيق "حمزة" ويقال له: "المقوم"، وقيل: هما اثنان، وممن جعلهما [اثنين]: ابن الكلبي في "جمهرة النسب" وذكر أن "المقوم" كان يكنى بـ"أبي بكر" بولد له درج.


#383#

و"جحل" واسمه: "المغيرة".

وقال أبو بكر بن دريد: "مصعب" وهو شقيق "حمزة" والجحل: السقاء الضخم، ويقال "حجل" بتقديم المهملة على الجيم.

و"ضرار" كان من [ .. .. ] فتيان قريش جمالا وسخاء، ومات أيام أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعقب، وهو شقيق "العباس".

و"الغيداق" واسمه: "نوفل"، وقيل: "مصعب"، وأمه من "خزاعة".

و"عوف أبو عبد الرحمن بن عوف" أخو "الغيداق" لأمه، وأمهما: ممنعة بنت عمرو بن مالك بن مؤمل بن سويد بن أسعد بن مشنوء، من "خزاعة".

ولقب بـ"الغيداق"؛ لأنه كان أجود قريش وأكثرهم طعاما، من قولهم: "سنة غيداق" في الخصب، وقيل: هو "جحل" ولقبه "الغيداق".

ولم يسلم من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم غير "حمزة" و"العباس رضي الله عنهما.

وأكبرهم "الحارث" وأصغرهم سنا "العباس" رضي الله عنه.

قال إبراهيم بن المنذر الحزامي: و"العباس بن عبد المطلب" أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، و"حمزة" أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع سنين.


#384#

$[*ذكر بنات عبد المطلب]:$

وأما بناته فهن ست:

"صفية" شقيقة "حمزة" و"المقوم" و"جحل" بني عبد المطلب، أمهم: هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، وهي أم الزبير بن العوام، من المؤمنات المهاجرات بلا خلاف.

وقيل: لم يسلم من عماته صلى الله عليه وسلم غيرها.

ماتت بالمدينة في خلافة "عمر بن الخطاب" سنة عشرين في قول، ولها ثلاث وسبعون سنة، وصلى عليها "عمر" ودفنها بـ"البقيع" بفناء دار المغيرة بن شعبة.

قال البخاري في "تاريخه الأوسط": حدثنا محمد بن حرب، أخبرنا أبو مروان يحيى بن أبي زكريا الغساني، عن هشام بن عروة قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم ست عمات، لم يسلم منهن غير: "صفية"، فتوفيت في إمارة "عثمان".

و"عاتكة" صاحبة الرؤيا في "بدر"، مختلف في إسلامها، وكانت تحت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وله منها: "عبد الله" له صحبة، و"زهير" و"قريبة" الكبرى، و"أم سلمة" زوج النبي صلى الله عليه وسلم في قول.


#385#

و"أروى بنت عبد المطلب" اختلف في إسلامها أيضا، ومن قال بإسلام "أروى" أكثر ممن قال بإسلام "عاتكة".

قاله ابن الأثير أبو السعادات.

و"أروى" ذكرها أبو جعفر العقيلي في "الصحابة".

وقال الحاكم في "مستدركه": ولم أجد إسلامها إلا من كتاب أبي عبد الله الواقدي. انتهى.

قلت: ورواية الواقدي في إسلامها هي ما حدث بها عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه قال: لما أسلم "طليب بن عمير" رضي الله عنه دخل على أمه "أروى بنت عبد المطلب" فقال لها: قد أسلمت. وذكر الحديث وفيه: أنه قال لأمه "أروى": ما يمنعك أن تسلمي وتتبعيه، فقد أسلم أخوك "حمزة"؟ فقالت: أنظر ما تصنع أخواتي ثم أكون إحداهن.


#386#

قال: قلت: فإني أسألك بالله إلا أتيته فسلمت عليه وصدقتيه وشهدت أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.

ثم كانت بعد تعضد النبي صلى الله عليه وسلم بلسانها، وتحض ابنها على نصرته والقيام بأمره.

و"أروى": كانت عند "عمير بن وهب بن أبي كبير بن عبد بن قصي" فولدت له "طليب بن عمير" أحد المهاجرين الأولين والبدريين، قتل بـ"أجنادين" شهيدا رضي الله عنه، ثم خلف عليها بعد "عمير" "كلدة بن


#387#

عبد مناف بن عبد الدار بن قصي" فولدت له "أروى".

و"أميمة": كانت عند "جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة" فولدت له: "عبد الله" استشهد بـ"أحد"، و"أبا أحمد" الأعمى الشاعر واسمه: "عبد"، و"زينب" زوج النبي صلى الله عليه وسلم، و"أم حبيبة"، و"حمنة".

كلهم لهم صحبة رضي الله عنهم.

وأخوهم "عبيد الله بن جحش" أسلم ثم تنصر ومات بـ"الحبشة" نصرانيا.

و"أم حبيبة" هذه يقال فيها: "أم حبيب"، وسماها بعضهم: "حبيبة".

و"برة بنت عبد المطلب": كانت عند "عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، فولدت له: "أبا سلمة عبد الله" زوج "أم سلمة" قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها بعد "عبد الأسد": "أبو رهم بن عبد العزى بن أبي قيس القرشي العامري"، فولدت له: "أبا سبرة البدري" له صحبة رضي الله عنهما وهو أحد المهاجرين الأولين، مات في خلافة عثمان رضي الله عنه.

و"أم حكيم بنت عبد المطلب": وهي: البيضاء، كانت عند


#388#

"كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف"، فولدت له: "عامرا"، و"أم طلحة": واسمها: "أرنب"، و"أروى": وهي أم عثمان ابن عفان.

و"عامر" و"أروى" لهما صحبة رضي الله عنهما.

ويقال: إن "أم حكيم" هي توأمة "عبد الله" والد النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه خلاف، لكن لم يختلف أنها شقيقة "عبد الله" و"أبي طالب" و"الزبير" بني عبد المطلب.

و"أم حكيم" هي القائلة:

إني لحصان فما أكلم وصناع فما أعلم ...

فهؤلاء عماته صلى الله عليه وسلم، وكلهن سوى "صفية: شقيقات "عبد الله" والد رسول الله صلى الله عليه وسلم.


#389#

$[قصة نذر عبد المطلب ذبح ولده، ووقوع النذر على عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم ونجاته]$

و"عبد الله" هو الذي فدي من الذبح ونجا بمائة ناقة كانت له فرجا ومخرجا، وقصته في ذلك اشتهرت وظهرت بين الرواة وانتشرت، فرواها بعضهم كاملة، واختصر بعضهم بألفاظ شاملة، منها ما:

روى عبد الرزاق في "مغازيه": عن معمر، عن الزهري قال: ثم تزوج عبد المطلب النساء فولد له عشرة رهط، فقفال: "اللهم، إني كنت نذرت لك نحر أحدهم، وإني أقرع بينهم فأصب بذلك من شئت"، فأقرع بينهم، فصارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب وكان أحب ولده إليه، فقال عبد المطلب: "اللهم، هو أحب إليك أو مائة من الإبل؟" ثم أقرع بينه وبين مائة من الإبل، فصارت القرعة على مائة من الإبل، فنحرها "عبد المطلب" مكان "عبد الله".

وأما ألفاظها المطولة فغالب طرقها معللة، وملخصها الجامع لشتاتها الآتي بجل ألفاظها رواتها: أن عبد المطلب لما كمل له بنوه العشرة أخبرهم بما كان قد نذره، فقالوا: نحن مطيعوك؛ فمن تذبح منا؟ فقال: ليأخذ كل رجل منكم قدحا، فليكتب اسمه فيه، وليأتني به.

و"القدح" –بكسر أوله-: عود السهم إذا قوم وآن أن يراش ويركب فيه النصل.


#390#

قال أبو عبيد أحمد بن محمد بن أبي عبيد العبدي الهروي في كتابه "الغريبين": "القدح": السهم أول ما يقطع يسمى قطعا، ثم يبرى فيسمى بريا، ثم يقوم فيقال له: "القدح"، ثم يراش ويركب نصله فيه فهو حينئذ سهم.

ففعل بنو عبد المطلب ما أمرهم أبوهم، فأخذ عبد المطلب، ودخل على "هبل" وكان على بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر يجمع فيها ما يهدى للكعبة عمقها ثلاثة أذرع، يقال: إن "إبراهيم" و"إسماعيل" حفراها ليكون فيها ما يهدى للكعبة.

و"هبل" أول صنم عبد في أرض العرب.

قال الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي في كتابه "أحكام القرآن": روي أن سبب نصب الأوثان وتغيير دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه –يعني: عمرو بن لحي بن قمعة- خرج من مكة إلى الشام، فلما قدم "مآب" من أرض "البلقاء" وبها يومئذ العماليق أولاد "عمليق –ويقال: عملاق- بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام" رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟

قالوا: هذه أصنام نستمرطها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا.

فقال لهم: أفلا تعطوني صنما أسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟ فأعطوه صنما يقال له: "هبل"، فقدم به "مكة"، فنصبه، وأخذ الناس بعبادته وتعظيمه. انتهى.


#391#

وذكر عثمان بن ساج، عن ابن إسحاق، وعن الكلبي، عن أبي صالح: أن "عمرو بن لحي" جاء بـ"هبل" من "هيت" من أرض الجزيرة، فنصبه ببطن الكعبة.

وذكر أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن حاتم بن إسماعيل المدني في كتابه "المنير" عن محمد بن السائب الكلبي في ذكر الأصنام ومن عبدها أول، أنه قال: وكان لقريش أصنام في جوف الكعبة، وكان أعظمها عندهم "هبل"، وكان فيما بلغني عقيقا أحمر على صورة الإنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يدا من ذهب، وأول من نصبه "خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مدركة بن إلياس بن مضر"، فكان يقال له: (هبل خزيمة). انتهى.

وكان الكفار يعظمون "هبل" ويضربون بالقداح عنده.

والقداح سبعة.


#392#

وفيها "قدح العقل"، فعلى من خرج حمله.

وقدح فيه: "نعم" للأمر إذا أرادوه ضرب به في القداح، فإن خرج قدح "نعم" عملوا.

وقدح فيه "لا"، فإذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح، فإذا خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر.

وقدح فيه "منكم".

وقدح فيه: "من غيركم".

وقدح فيه: "ملصق".

وقدح فيه: "المياه"، فإذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك [القدح]، فحيثما خرج عملوا به.

وكانوا إذا أرادوا أن ينكحوا منكحا، أو يختنوا غلاما، أو يدفنوا ميتا، أو شكوا في نسب أحد منهم: ذهبوا به إلى "هبل" وذهبوا معهم بجزور ومائة درهم إلى صاحب القداح الذي يضرب بها، فأعطوها إياه، ثم قربوا صاحبهم الذي يرون به ما يريدون، وقالوا: اضرب، اللهم أخرج على يديه اليوم الحق.


#393#

ثم استقبلوا "هبل" فقالوا: يا إلهنا، هذا فلان، كما زعم أهله، يريدون كذا وكذا، فإن كان كذلك فأخرج فيه "العقل" أو "نعم" [أو يريدون كذا] أو "منكم" واقبل هديته.

فإن خرج من هؤلاء الثلاثة: كتب في قومه وسيطا، وإن خرج عليه "من غيركم" [كان حليفا] وإن خرج عليه "لا" أخروه من عامه ذلك حتى يأتوه به مرة أخرى، ينتهون من أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح.

فقال عبد المطلب للقيم الذي يضرب القداح: "اضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه ". وأخبره بنذره، وأعطاه كل رجل منهم قدحه الذي فيه اسمه.

وكان "عبد الله –فيما يزعمون- أحب ولد عبد المطلب إليه، وكان


#394#

عبد المطلب يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشوى.

فلما أخذ صاحب القداح ليضرب بها قام عبد المطلب عند "هبل" يدعو ويقول: اللهم؛ لا تخرج عليه القدح. في كلمات أخر، فخرج القدح على "عبد الله" فأخذه عبد المطلب بيده، وأخذ الشفرة، ثم أقبل به إلى "إساف" و"نائلة" –الوثنين اللذين تنحر عندهما قريش ذبائحهم– ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها، فقالوا: ماذا تريد يا عبد المطلب؟ قال: أذبحه. وأنشد يقول:

(عاهدت ربي وأنا موف عهده) في أبيات أخر.

فمنعته قريش وبنوه من ذبحه.

قال ابن إسحاق: ذكروا أن العباس بن عبد المطلب اجتره من تحت رجل أبيه حتى خدش "عبد الله" خدشا لم يزل في وجهه حتى مات.

وقالت قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبدا، ونحن أحياء حتى تعذر فيه، لئن فعلت هذا لا يزال رجل يأتي بابنه حتى يذبحه، فما بقاء الناس على ذلك.

فيروى: أن عبد المطلب قال:


#395#

الحمد لله على ما أنعما

أعطى على رغم العدو زمزما

تراث قوم لم يكن مهدما

والحاسدون يحرمون الأدما

ولم يكن حافرها ليندما

أصاب فيها حلية مسلما

أعطى بنين عصبة وخدما

فلست والله أريد مأثما

في النذر أو أهرق لله دما

منهم فقد أوفيتهم متمما

من بعد ما كنت وحيدا أيما

في أبيات أخر.

فقال المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم –وكان "عبد الله" ابن أخت القوم-: والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه، فإن كان فداء فديناه بأموالنا.

وقال –فيما يزعمون- في ذلك:

واعجبا من قتل عبد المطلب

وذبحه خرقا كأمثال الذهب

يا شيب، لا تعجل علينا بالعجب

فما ابننا بشرط القوم النجب

ولا ابنكم بالمستدل المغتصب

ففاده بالمال حتى نحترب

فسوف أفديه بمالي والسلب


#396#

وسوف ألقى دونه من الغضب

أشوس آباء قبيحات الحطب

ما ذبح عبد الله فينا باللعب

ذبحا كما يذبح معتور النصب

كلا ورب البيت مستور الحجب

لا يجعل المذبوح حتى تضطرب

ضربا يزيل الهام من بعد العصب

بكل مصقول رقيق ذي شطب

كالبرق أو كالنار في الثوب العطب

وقال أبو طالب حين أراد عبد المطلب ذبح عبد الله وكان ابن أمه حين قال المغيرة ما قال:

كلا ورب البيت ذي الأنصاب

ورب ما أنضى من الركاب

كل قريب الدار أو منتاب

يزور بيت الله ذا الحجاب

ما قتل عبد الله باللعاب

من بين رهط عصبة شباب

ابن نساد شطر الأنساب

أغر بين البيض من كلاب

وبين مخزوم ذوي الأحساب

أهل الجياد القب والقباب

لستم على ذلك بالأذباب

حتى تذوقوا حمس الضراب


#397#

بكل عضب ذائب اللعاب

ذي رونق في الكف كالشهاب

تلقاه في الأقران ذا انتداب

إن لم يعجل آجل الكتاب

قلت وما قولي بالمعاب

يا شيب، إن الجور ذو عقاب

إن لنا إن جرت في الخطاب

أخوال صدق كأسود الغاب

لن يسلموه الدهر للعقاب

حتى يمص القاع ذو التراب

دماء قوم حرم الأسلاب

فقال عبد المطلب:

الله ربي وأنا موف نذره

أخاف ربي إن عصيت أمره

والله لا يقدر شيء قدره

فهو ولي وإليه عمره

هذا بني قد أردت نحره

فإن يؤخره ويقبل عذره

ويصرف الموت كفيت حذره

ويصرف الموت فلا يضره

من جهد إنسان ولا يغره

سواك ربي ويكون قره

لكل عين ناظر يسره


#398#

فقالت له قريش وبنوه: انطلق إلى الحجاز؛ فإن به عرافة يقال لها: "سجاح"، لها تابع، فاسألها، ثم أنت على رأس أمرك، فإن أمرتك بذبحه ذبحته، وإن أمرتك بغير ذلك مما لك فيه وله فرج قبلته.

فقال: نعم.

فانطلقوا حتى قدموا المدينة، فوجدوها فيما يزعمون بـ"خيبر"، فركبوا حتى جاؤوها.

ويروى: أنهم انطلقوا إلى كاهنة بني سعد بن هذيم.

وقيل: كاهنة اسمها "قطبة".

والأكثر على أنها "سجاح" وهي مبنية على الكسر كـ"قطام" وأخواتها.

وقد اختلف في نسبها، فقيل: سجاح بنت أوس بن حق بن أسامة بن العنبر بن يربوع، وتكنى "أم صادر".

وقيل: هي: بنت الحارث بن سويد بن عقفان من "بني يربوع".

وهي التي ادعت النبوة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في الجزيرة، واجتمع عليها


#399#

"بنو تميم" ورؤساء "تغلب"، وقدمت "اليمامة" لمحاربة "مسيلمة"، وجرى بينهما تلك القصة البشعة المشهورة، وكان لها مؤذنان:

أحدهما:"شبث بن ربيع بن حصين اليربوعي" ثم أسلم، وكان من العباد الفرسان، لكنه لحق بالخوارج على علي رضي الله عنه.

والمؤذن الآخر: يقال له: "الجنبة بن طارق بن عمرو بن حوط اليربوعي الحنظلي".

وقد حكي إسلام "سجاح" حيث انتقلت مع "بني تغلب" إلى الكوفة بأمر معاوية رضي الله عنه.

وعلى ما ذكر: كانت "سجاح" قد عمرت؛ لأن في زمن معاوية كانت موجودة في خلافته، وكان يتحاكم إليها في زمن عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أشهر الأقوال.

وعبد المطلب لما جاءها في نفر من قومه في أمر نذره، قالت لهم: ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابع فأسأله.


#400#

فخرجوا من عندها، وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل ويقول:

يا رب، لا تحقق حذري

واصرف عنه شر هذا القدر

فإنني أرجو لما قد أدري

لأن يكون سيدا للبشر

وكانت قريش ومن سواهم من العرب في الجاهلية إذا اجتهدوا في الدعاء سجعوا وألفوا الكلام، وكانت –فيما يزعمون- قلما ترد إذا دعا بها داع.

ثم غدا عبد المطلب ومن معه على الكاهنة، فقالت: نعم، قد جاءني الخبر، فكم الدية فيكم؟ قالوا: عشر من الإبل –وكانت كذلك- قالت: فارجعوا إلى بلادكم، فقدموا صاحبكم وقدموا عشرا من الإبل، ثم اضربوا عليها بالقداح، فإن خرجت القداح على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، فإذا خرجت القداح على الإبل فقد رضي ربكم، فانحروها عنه، ونجا صاحبكم.

وفي رواية: حتى تكمل الإبل مائة، فإذا خرجت على الإبل فانحروها؛ فقد رضي ربكم وتخلص صاحبكم.

فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما أجمعوا لذلك من الأمر قام عبد المطلب يدعو الله عز وجل ويقول:

اللهم إنك فاعل لما ترد

إن شئت ألهمت الصواب والرشد


#401#

قد زدت في المال وأكثرت العدد

وسائق الخير إلى كل بلد

إني مواليك على رغم معد

في أبيات، منها:

فلا تحقق حذري بولد

فلما قربوا عبد الله وعشرا من الإبل و"عبد المطلب" في جوف الكعبة يدعو ويقول:

اللهم رب العشر بعد العشر

ورب من يأتي بكل خير

أنج عبد الله عند النحر

ونجه من شفعها والوتر

ثم ضربوا فخرج السهم على "عبد الله"، فزادوا عشرا، فبلغت الإبل عشرين، وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل ويقول:

يا رب عشرين ورب الشفع

أنج "عبد الله" رب النفع

من ضربة القدح التي في الجدع

وأعطه الرفع الذي في الرفع

ولا تكونن ضربة كاللذع

كلذعة النار التي في السفع

ثم ضربوا فخرج السهم على "عبد الله"، فزادوا عشرا، فبلغت الإبل ثلاثين، وقام عبد المطلب يدعو ويقول:

رب الثلاثين ولي الأنعم


#402#

أمنن علينا أن يصاب بالدم

هذا الغلام حبه لم نعلم

قد طار قلبي فهو مثل المغرم

لذكر عبد الله حتى يسلم

وتنحر البدن التي لم تقسم

ونجه من ضربة لم تكلم

ثم ضربوا، فخرج السهم على "عبد الله"، فزادوا عشرا فبلغت الإبل أربعين، فقام عبد المطلب يدعو الله ويقول:

اللهم رب الأربعين إذ بلغت

أنج بني من قداح كتبت

وانحر الذود التي قد هملت

وجللت في قتله وذبحت

بلغ رضاك ربنا إذ جعلت

عدل بني عبد مناف وقعت

ثم ضربوا، فخرج السهم على "عبد الله"، فزادوا عشرا، فبلغت الإبل خمسين، وقام عبد المطلب يدعو الله ويقول:

يا رب خمسين سمان بدن

من كل كومالة لم تفطن

إلا لرب ماجد ممكن

أنج عبد الله رب الأركن

وانحر الذود التي لم تسكن

ثم ضربوا، فخرج السهم على "عبد الله"، فزادوا عشرا، فبلغت الإبل


#403#

ستين، وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل ويقول:

اللهم رب الستين ورب المشعر

ورب من حج له وكبر

يسعى لرب قادر ليغفر

أنج عبد الله عند المنحر

وعافه من ضربة لا تجبر

ليبلغ العظم لها فيكسر

ثم ضربوا، فخرج السهم على "عبد الله"، فزادوا عشروا، فبلغت الإبل سبعين، فقام عبد المطلب يدعو ويقول:

يا رب سبعين له قد جمعت

فاذبح الذود التي قد عطلت

وحسبت في قتله وحبست

وأخرج السهم بها إذ بدلت

حتى تكون دية قد حملت

عن كل مقتول له إذ قبلت

ثم ضربوا، فخرج السهم على "عبد الله"، فزادوا عشرا، فبلغت الإبل ثمانين، فقام عبد المطلب يدعو ويقول:

يا رب الثماين ورب الإهلال

ورب من يأتيك للإجلال

اجعل فداه اليوم ذو إبال

سوف ترى شكرا عند الإحلال

كشكر من يمشي بغير إفعال


#404#

أمنن به علي رب الإفضال

ثم ضربوا، فخرج السهم على "عبد الله"، فزادوا عشرا، فبلغت الإبل تسعين، فقام عبد المطلب يدعو ويقول:

يا رب تسعين ورب المشرع

ورب من يدفع عند المدفع

حتى يجيزوا معشرا للمجمع

أنج عبد الله عند الأندع

ونجه من ضربة لا ترجع

ثم ضربوا، فخرج السهم على "عبد الله"، فزادوا عشرا، فبلغ الإبل مائة، وقام عبد المطلب يدعو ويقول:

اللهم رب مائة لم تقسم

ورب من يهوى بكل معلم

ورب من أهدى لكل محرم

قد بلغت مائة لم تقسم

أرغم أعدائي بها ليرغموا

ثم ضربوا، فخرج السهم على الإبل، فقالت قريش ومن حضره: قد انتهى، رضي ربك وخلص لك شابك. فقال: لا والله، حتى أضرب عليهما ثلاثا، فضربوا على الإبل وعلى "عبد الله"، وقام عبد المطلب يدعو ويقول:

اللم أنت هديتني لـ"زمزم"

إن بني أحب من تكلم

فلا ترينيه الغداة في الدم

في كلمات أخر، قال: ثم ضربوا، فخرج السهم على الإبل، ثم


#405#

عادوا الثاني و"عبد المطلب" مكانه، فلما أرادوا أن يضربوا قال:

يا رب لا تشمت بي الأعادي

إن بني ثمرة فؤادي

فلا تسل دمه في الوادي

واجعل فداه اليوم من تلادي

في كلمات أخر، ثم ضربوا، فخرج السهم على الإبل، ثم عادوا الثالثة وعبد المطلب يقول:

يا رب قد أعطيتني سؤالي

أكثرت بعد قلة عيالي

فاجعل فداه اليوم جل مالي

في كلمات أخر، ثم ضربوا القداح، فخرجت على الإبل، فنحرت، ثم تركت لا يصد عنها أحد.

قال الواقدي: وحدثني سعيد بن مسلم، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نحرها عبد المطلب –يعني: الإبل- خلى بينها وبين من وردها من إنسي أو سبع أو طائر، لا يذب عنها أحدا، ولم يأكل منها هو ولا أحد من ولده شيئا.

وقد روي: أن "عبد الله" لما فدي من الذبح قال أبوه عبد المطلب:

دعوت ربي مخفيا وجهرا

أعلنت قولي وحمدت الصبرا

يا رب لا تنحر بني نحرا

وفده بالمال شفعا وترا

أعطيك من كل سوام عشرا

أو مائة دهما وكمتا حمرا


#406#

معروفة أعلامها وصحرا

لله من مالي وفاء نذرا

عفوا ولم تشمت عيونا جزرا

بالواضح الوجه المعشي بدرا

فالحمد لله الأجل شكرا

أعطاني البيض بني زهرا

ثم كفاني في الأمور أمرا

قد كان أشجاني وهد الظهرا

فلست والبيت المغطى سترا

مبدلا نعمة ربي كفرا

ما دمت حيا أو أزور القبرا

آخر الفصل، وصلى الله على سيدنا محمد.


#407#

&فصل في حمله وظهور ضيائه، وحوادث مولده، وذكر أسمائه صلى الله عليه وسلم&

قال أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد الأسلمي: حدثنا المنذر بن عبد الله، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة مولى الزبير، أنه سمع حكيم بن حزام رضي الله عنه يقول: ولدت قبل أصحاب الفيل بثلاث عشرة سنة، وأعقل حين أراد "عبد المطلب" أن يذبح ابنه "عبد الله" حين وقع نذره قبل أن يولد النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنين.

هذا يعضد قول من قال: كان بين قصة ذبح "عبد الله" وزواجه بـ "آمنة" أربع سنين ونيف.

وذكر أبو هاشم بن ظفر في كتابه "نجباء الأبناء": أنه لما نحرت عن "عبد الله" الإبل وأنجاه الله من الذبح انطلق به "عبد المطلب" من فوره، فأنكحه "آمنة بنت وهب"، وأدخله عليها مكانه، فعلقت منه برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد أنبأنا جماعة منهم: أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله


#408#

النعالي، وعبد الرحمن بن محمد بن أحمد الفارقي وأبو الحسن علي بن محمد الدمشقي، أن سليمان بن حمزة الحاكم أنبأهم عن أبي موسى عبد الله بن عبد الغني المقدسي، أخبرنا أبو محمد بن عبد الرحمن بن علي السلمي، أخبرنا والدي أبو الحسن علي بن المسلمة في "ذي القعدة" سنة أربع وعشرين وخمسمائة، أخبرنا أبو نصر الحسين بن طلاب الخطيب في "صفر" سنة سبع وستين وأربعمائة بدمشق في داره، أخبرنا المسدد بن علي الحمصي قدم علينا دمشق في "ذي الحجة" سنة خمس وعشرين وأربع مائة، حدثنا أبو بكر أحمد بن عبد الكريم الحلبي المؤدب بـ"حمص" في سنة ثمان وستين وثلاث مائة، حدثنا أبو عمير عدي بن أحمد بحلب سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، حدثنا عبد الله بن إسماعيل، حدثنا مرار بن مرة الهمداني، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبي عون، عن المسور بن مخرمة، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، عن أبيه: العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، عن أبيه عبد المطلب بن هاشم قال: قدمت "اليمن" في رحلة الشتاء، فلقيني رجل من أهل الزبور، فجعل ينظر إلي ثم قال لي: ممن أنت؟ قلت: من "قريش". قال: من أيها؟ فانتسبت إليه.

قال: ادن مني –ثم جعل يمس أحد منخري ثم يمس الآخر، فقال:


#409#

أشهد أن في أحدهما ملكا وفي الآخر نبوة، وإنا لا نجد هذا الأمر إلا في بني زهرة، فكيف ذلك؟ قلت: لا أدري. قال: فهل لك من شاعة؟ قلت: وما "الشاعة"؟ قال: زوجة. قلت: أما اليوم فلا. قال: فتزوج في بني زهرة. ورجع "عبد المطلب" فتزوج "هالة ابنة وهب بن عبد مناف"، فولدت له: "حمزة" أسد الله وأسد رسوله. وتزوج "عبد الله بن عبد المطلب" "آمنة بنت وهب بن عبد مناف". يعني: فولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال قريش: ففلج "عبد الله" على أبيه.

وحدث به أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد بن بشر الأعرابي في "معجمه" فقال: حدثنا حفص بن عمر السياري، حدثنا يعقوب بن محمد بن عيسى، حدثنا عبد العزيز بن عمران، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن عبد الواحد بن أبي عون، عن المسور بن مخرمة، عن ابن عباس، عن العباس بن عبد المطلب، عن عبد المطلب بن هاشم قال: خرجت إلى اليمن في رحلة الشتاء، فنزلت على حبر ممن يقرأ الزبور، فقال لي: يا عبد المطلب، أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك؟ قال: قلت: نعم، ما لم يكن عورة. قال: ففتح إحدى منخري فنظر فيه، ثم نظر في الآخر، فقال: إني أجد في أحد منخريك ملكا وفي الآخر نبوة، وإنا نجد ذلك في بني زهرة، فأنى هذا. ثم قال: هل لك من شاعة. قلت: وما "الشاعة" قال: زوجة. قلت: لا. قال: فإذا


#410#

قدمت فتزوج فيهم.

قال: فقدم "عبد المطلب" فتزوج "هالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة" فولدت: "حمزة" و"صفية" وزوج عبد الله "آمنة بنت وهب". فقال الناس: فلج "عبد الله" على أبيه. كذا وقع في هذه الرواية وما قبلها. فتزوج "هالة بنت وهب" والمشهور: "بنت وهيب"، ويقال: "أهيب".

و"وهيب" هذا عم "آمنة بنت وهب".

وقد رويناه على الصواب من طريق يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري المدني، وذلك فيما قال أبو بكر بن محمود بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي: حدثنا محمد بن يونس، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن جعفر عن أبي عون، عن المسور بن مخرمة، عن ابن عباس، عن أبيه: العباس بن عبد المطلب قال: قال أبي عبد المطلب بن هاشم: خرجت إلى اليمن في رحلة الشتاء والصيف، فنزلت على رجل من اليهود يقرأ الزبور، فقال: يا عبد المطلب بن هاشم، ائذن لي فأنظر في بعض جسدك. قال: قلت: انظر ما لم يكن عورة. قال: فنظر إلى منخري فقال: أجد في إحدى منخريك ملكا وفي الآخر نبوة، فهل لك من شاعة؟ قال: قلت: وما


#411#

"الشاعة"؟ قال: الزوجة. قلت: أما اليوم فلا. قال: فإذا قدمت مكة فتزوج.

قال: فقدم "عبد المطلب" مكة فتزوج "هالة بنت وهيب بن زهرة" فولدت: "حمزة"، و"صفية"، وتزوج "عبد الله" "آمنة بنت وهب" فولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت قريش تقول: فلج "عبد الله" على أبيه.

ورواه محمد بن شيبان القزاز أبو الحسن فقال: حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن أبيه، عن المسور بن مخرمة، عن أبيه، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال عبد المطلب: قدمت "اليمن" فنزلت على أسقف بها وكان حبر من اليهود يمر بي، فقال لي يوما: يا عبد المطلب، ألا تكشفت لي عن جسدك لأنظر إليه؟ فقلت: أكشف لك عن جسدي ما خلا عورتي. فكشفت عن جسدي فتشممني، ثم تشمم منخري الأيمن، ثم تشمم منخري الأيسر، فقال: أرى يا عبد المطلب من منخرك الأيمن نبوة، وفي الأيسر ملكا، ألك شاعة؟ قلت: وما "الشاعة"؟ قال: امرأة. قلت: أما اليوم فلا. قال: فتزوج في بني زهرة.

قال: فقدمت فتزوجت في بني زهرة. فقالت قريش: فلج "عبد الله" على أبيه "عبد المطلب".

خرجه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" للقزاز.

قال الواقدي: حدثني عبد الله بن جعفر الزهري، عن عمته أم بكر


#412#

بنت المسور بن مخرمة، عن أبيها.

قال: وحدثني عمر بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن يحيى بن شبل، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، قالا: كانت "آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب" في حجر عمها "وهيب بن عبد مناف بن زهرة"، فمشى إليه "عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي" بابنه "عبد الله بن عبد المطلب" أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب عليه "آمنة بنت وهب"، فزوجها "عبد الله بن عبد المطلب"، وخطب إليه "عبد المطلب بن هاشم" في مجلسه ذلك ابنته "هالة بنت وهيب" على نفسه، فزوجه إياها، وكان تزوج عبد المطلب بن هاشم وتزوج عبد الله بن عبد المطلب في مجلس واحد. وذكر بقيته.

وفيه حدث ابن سعد في "الطبقات الكبرى" عن الواقدي.

وقال ابن سعد أيضا: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب، عن أبي الفياض الخثعمي قال: مر عبد الله بن عبد المطلب بامرأة من خثعم يقال لها: "فاطمة بنت مر"، وكانت من أجمل الناس وأشبه وأعفه، وكانت قد قرأت الكتب، وكان شباب قريش يتحدثون إليها، فرأت نور النبوة في وجه عبد الله، فقالت: يا فتى، من أنت؟ فأخبرها، فقالت هل لك أن تقع علي وأعطيك مائة من الإبل؟ فنظر إليها وقال:


#413#

أما الحرام فالممات دونه

والحل لا حل فأستبينه

فكيف بالأمر الذي تنوينه

ثم مضى إلى امرأته "آمنة بنت وهب"، فكان معها، ثم ذكر الخثعمية وجمالها وما عرضت عليه ، فأقبل إليه فلم ير منها من الإقبال عليه آخرا كما رآه منها أولا.

فقال: هل لك فيما قلت لي؟

فقالت: قد كان ذلك مرة، فاليوم لا. فذهبت مثلا.

وقالت: أي شيء صنعت بعدي؟

فقال: وقعت على زوجتي "آمنة بنت وهب".

قالت: والله إني لست بصاحبة ريبة، ولكني رأيت نور النبوة في وجهك، فأردت أن يكون في، وأبى الله إلا أن يجعله حيث جعله.

وبلغ شباب قريش ما عرضت على "عبد الله بن عبد المطلب" وتأبيه عليها، فذكروا ذلك لها، فأنشأت تقول:

إني رأيت مخيلة لمعت ... فتلألأت بحناتم القطر


#414#

فلمأتها نورا يضيء له ... ما حوله كإضاءة الفجر

ورأيته شرفا أبوء به ... ما كل قادح زنده يوري

لله ما زهرية سلبت ... ثوبيك ما استلبت وما تدري

وقالت أيضا:

بني هاشم قد غادرت من أخيكم ... أمينة إذ للباه يعتلجان

كما غادر المصباح بعد خبوه ... فتائل قد ميثت له بدهان


#415#

وما كل ما يحوي الفتى من تلاده ... لحزم ولا ما فاته لتوان

فأجمل إذا طالبت أمرا فإنه ... سيكفيكه جدان يصطرعان

سيكفيكه إما يد مقفعلة ... وإما يد مبسوطة ببنان

ولما قضت منه أمينة ما قضت ... نبا بصري عنه وكل لسان

قولها: "فلمأتها" أي: أبصرتها، بمنزلة لمحتها.

قاله أبو عبيد الهروي.

وخرج أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه "هواتف الجنان" فقال: حدثنا علي بن حرب، حدثنا محمد بن عمارة القرشي، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما انطلق "عبد المطلب" بابنه


#416#

"عبد الله" ليزوجه، مر به على كاهنة من أهل "تبالة" متهودة قد قرأت الكتب، يقال لها: "فاطمة بنت مر الخثعمية". وذكر نحو ما تقدم بطوله.

وخرج البيهقي في "الدلائل" من طريق مسدد، حدثنا مسلمة بن علقمة، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت امرأة من "خثعم" تعرض نفسها في مواسم الحج، وكانت ذات جمال، وكان معها أدم تطوف بها كأنها تبيعها، فقالت: إني والله ما أطوف بهذه الأدم وما لي إلى ثمنها حاجة، وإنما أتوسم الرجل، هل أجد كفؤا، فإن كانت إلي حاجة فثم. فقال لها: مكانك أرجع إليك.

فانطلق إلى رحله، فبدأ فواقع أهله فحملت بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع إليها قال: ألا أراك هاهنا. قالت: ومن كنت؟ قال: الذي واعدتك. قالت: لا، ما أنت هو، ولئن كنت هو لقد رأيت بين عينيك نورا ما أراه الآن.

وبلغنا: أن عبد الله لما رجع إلى المرأة التي عرضت نفسها عليه وأجاب آخرا إلى ما دعته أولا، وذلك بعد أن فارقه النور الشريف أنشأت تقول شعرا:


#417#

ألآن قد ضيعت ما كان ظاهرا ... عليك وفارقت الضياء المباركا

غدوت علي حافلا فبذلته ... لغيري عفوا والحقن بنسائك

ولا تحسبن اليوم أمس، فليتني ... رزقت غلاما منك في مثل حالكا

ولكن ذاكم صار في آل زهرة ... به يدعم الله البرية ناسكا

فأجابها عبد الله يقول:

تقولين قولا لست أعلم بالذي ... يكون وما هو كائن قبل ذلك

فإن كنت ضيعت الذي كان بيننا ... من العهد والميثاق في ظل دارك

لمثلك قد أصبيت عن كل خلة ... ومثلي لا يستام عند الفوارك

ذكره بنحوه يونس بن بكير عن ابن إسحاق.

قال: وقالت له أيضا أم قتال.

عليك بآل زهرة حيث كانوا ... و"آمنة" التي حملت غلاما


#418#

ترى المهدي حين نزا عليها ... ونورا قد تقدمه أماما

فيمنع كل محصنة جريدا ... إذا ما كان مرتديا حساما

تحفره الشمال وكان منها ... رياح الجدب تحسبه قتاما

فأنجبه ابن هاشم غير شك ... وآذته كريمته هماما

فكل الخلق يرجوه جميعا ... يسود الناس مهتديا إماما

براه الله من نور مصفى ... فأذهب نوره عنا الظلاما

وذلك صنع ربك إذا حباه ... إذا ما سار يوما أو أقاما

فيهدي أهل مكة بعد كفر ... ويفرض بعد ذلك الصياما

وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى" أخبرنا وهب بن جرير بن


#419#

حازم، حدثني أبي، سمعت أبا يزيد المدني يقول: نبئت أن عبد الله أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى لما مر على امرأة من "خثعم" فرأت بين عينيه نورا ساطعا إلى السماء، فقالت له: هل لك في؟ قال: نعم، حتى أرمي الجمرة. فانطلق فرمى، ثم أتى امرأته "آمنة بنت وهب" ثم ذكر –يعني: الخثعمية- فأتاها، فقالت: هل أتيت امرأة بعدي؟ قال: نعم، امرأتي "آمنة بنت وهب". فقالت: لا حاجة لي فيك، إنك مررت وبين عينيك نور ساطع إلى السماء، فلما وقعت عليها ذهب، فأخبرها أنها قد حملت بخير أهل الأرض.

وخرج الحاكم أبو عبد الله [من طريق] داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت امرأة من "خثعم" تعرض نفسها في مواسم الحج، كانت ذات جمال، وكان معها أدم تطوف به كأنها تبيعها، فأتت على "عبد الله بن عبد المطلب"، فأظن أنه أعجبها، فقالت:

إني والله ما أطوف بهذه الأدم، وما لي إلى ثمنها حاجة، وإنما أتوسم الرجل هل هو كفء، فإن كانت إلي حاجة فقم. فقال لها: مكانك حتى أرجع إليك.

فانطلق إلى رحله، فبدأ فواقع أهله فحملت بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع إليها قال: لا أراك هاهنا . قالت: ومن كنت؟ قال: الذي وعدتك. قالت: لا، ما أنت هو، لأني رأيت بين عينيك نورا ما أراه الآن.

وقال محمد بن سعد: وأخبرنا هشام بن محمد بن السائب، عن


#420#

أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المرأة التي عرضت نفسها على عبد الله بن عبد المطلب ما عرضت امرأة من بني أسد بن عبد العزى، وهي أخت ورقة بن نوفل.

وبهذا قال ابن إسحاق.

وذكره الزبير بن بكار فيما يزعمون.

وسماه الواقدي فيما رواه عن محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري، عن عروة، عن عبيد الله بن محمد بن صفوان، عن أبيه، وعن إسحاق بن عبيد الله، عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم.

قالوا جميعا: هي "قتيلة بنت نوفل" أخت "ورقة بن نوفل".

وسماها بعضهم: "رقيقة بنت نوفل".


#421#

وتكنى "أم قتال" فيما رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق.

وقال جرير بن حازم في "المغازي" عن ابن إسحاق قال: وحدثني إسحاق بن يسار قال: بلغني أن "عبد المطلب" انطلق بـ "عبد الله" ليزوجه، فمر به على امرأة من بني عبد الدار، فرأت بين عينيه غرة كغرة الفرس من نور، فقالت: هل لك في يا ابن عبد المطلب؟ -يعني: فأبى .. .. ، فانطلق فزوجه "آمنة بنت وهب"، فمر عبد الله بن عبد المطلب بالمرأة من بني عبد الدار، فقال: هل لك في؟ فقالت: لا، مررت بي وبين عينيك غرة من نور، فرجوت أن أصيبه منك، وقد ذهبت به "آمنة ابنة وهب".

وقيل: إن المرأة التي عرضت نفسها على "عبد الله": "ليلى العدوية". ذكره ابن قتيبة.

جعل الله هذه الصيانة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في آبائه وأمهاته من لدن "آدم" حتى وصل إلى أبيه وأمه.

قال محمد بن جعفر: أشهد على أبي لحدثني، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي، ثم ولدتني أمي لم تصبني من سفاح الجاهلية».


#422#

رواه أبو أحمد ابن عدي، فقال: حدثنا أحمد بن حفص، حدثنا محمد بن أبي عمر العدني المكي، حدثنا محمد بن جعفر، فذكره بنحوه، وهو في "مسند العدني" في أوله.

وحدث به أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة" عن أبي محمد عبد الله بن صالح البخاري، حدثنا محمد بن أبي عمر العدني، قال: حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال: أشهد على أبي لحدثني عن أبيه عن جده، عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، لم يصبني من سفاح الجاهلية شيء».

وحدث به أبو يعلى الموصلي، حدثنا أحمد بن علي بن المثنى، عن سويد بن سعيد، حدثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه في قوله عز وجل: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} يقول: من نكاح لا من سفاح الجاهلية.


#423#

رواه عبد الرزاق أخبرنا ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، [عن أبيه أبي جعفر الباقر] في قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح».

وحدث به الآجري في كتاب "الشريعة" عن أبي سعيد أحمد بن محمد الشاهد، حدثنا ِإسحاق بن إبراهيم الدبري، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني جعفر بن محمد، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح».

وحدث به أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا علي بن غراب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خرجت من النكاح، ولم أخرج من السفاح، ما دون آدم، ولم يصبني سفاح الجاهلية».

وحدث به ابن سعد في "الطبقات الكبرى" عن أنس بن عياض أبي ضمرة الليثي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي بن حسين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما خرجت من نكاح، ولم أخرج


#424#

من سفاح، من لدن آدم، لم يصبني من سفاح أهل الجاهلية شيء، لم أخرج إلا من شيء طهرة».

وقال ابن سعد أيضا: حدثنا محمد بن عمر الأسلمي، حدثني محمد بن عبد الله بن مسلم، عن عمه الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خرجت من نكاح غير سفاح». وقال: أخبرنا محمد بن عمر الأسلمي، حدثنا أبو بكر بن عبد الله ابن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خرجت من لدن آدم، من نكاح غير سفاح».

ورويناه من حديث عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أبي وعمي قالا: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم عليه السلام، لم يصبني من سفاح الجاهلية».

وقال الزبير بن بكار: حدثني سفيان بن عيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية.


#425#

قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح».

تابعه عبد الرزاق، عن ابن عيينة.

ورواه يحيى بن بكير، عن عبد الغفار بن القاسم، عن جعفر.

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث هشيم، حدثنا المديني، عن ابن الحويرث، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء، وما ولدني إلا من نكاح كنكاح الإسلام».

قال الطبراني: "المديني" هو عندي: "فليح بن سليمان".

وقال الزبير بن بكار: حدثني سفيان بن عيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح».

[تابعه عبد الرزاق، عن ابن عيينة.

ورواه يحيى بن بكير، عن عبد الغفار بن القاسم، عن جعفر].


#426#

وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا هشام بن محمد بن السائب، عن أبيه قال: كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم، فما وجدت فيهن سفاحا ولا شيئا مما كان من أمر الجاهلية.

ومع هذا؛ فقد قال بعضهم: إنما عرضت هذه نفسها على "عبد الله" ليتزوجها. قال: وهو أظهر، والله أعلم.

وقيل أيضا: إنما سألها عبد الله ليتزوجها.

وقال أبو المظفر يوسف بن قزاغلي –سبط ابن الجوزي- في كتابه "منتهى السؤال": قالوا: فلو واقعها "عبد الله" –يعني: لو واقع التي عرضت نفسها عليه- كان نكاحا لا سفاحا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ولدت من نكاح لا من سفاح»، وقد كانت المرأة في الجاهلية يقول لها الرجل: "خطب"، فتقول "نكح". وعقود الجاهلية بإجماع الأمة صحيحة، احتراز من الوقوع في المحرمات. انتهى.

وروى يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: حدثني والدي إسحاق بن يسار قال: حدثت: أنه كان لعبد الله بن عبد المطلب امرأة مع "آمنة بنت وهب بن عبد مناف"، فمر بامرأته تلك، وقد أصابه أثر من طين عمل به، فدعاها إلى نفسه، فأبطأت عليه لما رأت من أثر الطين، فدخل فغسل ما به من أثر الطين، ثم دخل عامدا إلى "آمنة"


#427#

ثم دعته صاحبته –التي كان أراد إلى نفسها- فأبى للذي صنعت به أول مرة، فدخل على "آمنة" فأصابها، ثم خرج فدعاها إلى نفسه فقالت: لا حاجة لي بك، مررت وبين عينيك غرة، فرجوت أن أصيبها منك، فلما دخلت على "آمنة" ذهبت بها منك.

قال ابن إسحاق: فحدثت أن امرأته تلك كانت تقول: لمر بي، وإن بين عينيه لنورا مثل الغرة، فدعوته رجاء أن يكون بي، فدخل على "آمنة" فأصابها، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال محمد بن السائب الكلبي: لما تزوج عبد الله بن عبد المطلب "آمنة" أقام عندها ثلاثا، وكانت تلك السنة عندهم إذا دخل الرجل على امرأته في أهلها.

وروى عبد الرزاق في "مغازيه"، عن معمر، عن الزهري قال: وكان "عبد الله" أحسن رجل رأوه في قريش قط، فخرج يوما على نساء من قريش مجتمعات، فقالت امرأة منهن: يا نساء قريش، أيتكن يتزوجها هذا الفتى؟ فنصطت النور الذي بين عينيه، فإن بين عينيه نورا فتزوجته "آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة"، فجامعها، فالتفت فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه "التنوير": وكانت قريش في


#428#

جدوبة شديدة وضيق من الزمان، فسمت السنة التي حمل فيها بمحمد صلى الله عليه وسلم: سنة الابتهاج والفتح والخصب والربح، وذلك أنهم اخضرت لهم الأرض، وحملت لهم الأشجار، وأتاهم الوفد من كل مكان، وكانت سنة الإمكان والأمان، فأخصب أهل مكة خصبا عظيما. انتهى.

وروى الواقدي عن علي بن يزيد بن عبد الله بن وهب بن زمعة، عن أبيه، عن عمته قالت: كنا نسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حملت به "آمنة بنت وهب" كانت تقول: ما شعرت أني حملت به، وما وجدت له ثقلا كما تجد النساء، إلا أني قد أنكرت رفع حيضتي، وربما كانت ترفعني وتعود، فأتاني آت وأنا بين النائم واليقظان، فقال: هل شعرت أنك حملت؟ فكأني أقول: ما أدري، فقال: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة ونبيها، وذلك يوم الاثنين؟ قالت: فكأن ذلك مما يقن عندي الحمل -الحديث.

وروينا من طريق عن عبد الله بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة قال: فحدثني عمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن "آمنة" نامت في الحجر، فلما أصبحت قالت لعبد الله: أين نمت يا ابن عبد المطلب؟ قال: في الحجر. قالت: وأنا نمت في الحجر، فأري قائلا يقول: احملي ولدا، وانمي صعدا، وسميه أحمدا.

قال –يعني: عبد الله. ولقد رأيت عجبا، ورأيت قائلا يقول: احكم عقدا؛ فقد رزقت ولدا، سميه أحمدا.


#429#

ومات "عبد الله" بالمدينة وترك "آمنة" حاملا برسول الله صلى الله عليه وسلم، على الصحيح عند جمهور أهل السير، وهو قول ابن إسحاق، ورجحه الواقدي وكاتبه محمد بن سعد في "الطبقات" وخلق، وهو أشد ما يكون من اليتم، ولا يكون اليتم في الإنسان إلا من الأب.

قال أبو إسحاق بن إبراهيم بن السري الزجاج في كتابه "معاني القرآن" فقال: قد يتم ييتم يتما ويتما، إذا فقد أباه، هذا للإنسان، فأما غير الإنسان فيتمه من قبل أمه. أخبرني بذلك محمد بن يزيد، وعن الرياشي، عن الأصمعي: أن اليتم في الناس من قبل الأب، وفي غير الناس من قبل الأم. انتهى.


#430#

وقد قيل: كان موت "عبد الله" قبل ولادة النبي صلى الله عليه وسلم بشهرين، ذكره بعضهم عن الزبير بن بكار. وحكاه السهيلي عن ابن أبي خيثمة، وهو وهم، والله أعلم.

وخرج محمد بن سعد من حديث محمد بن كعب وأيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قالا: خرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام، إلى غزة في عير من عيرات قريش، يحملون تجارات، ففرغوا من تجارتهم، ثم انصرفوا فمروا بالمدينة، وعبد الله بن عبد المطلب يومئذ مريض، فقال: أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم شهرا، ومضى أصحابه فقدموا مكة، فسألهم عبد المطلب عن ابنه عبد الله، فقالوا: خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار، وهو مريض، فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده "الحارث"، فوجده قد توفي ودفن في دار التابعة، فرجع إلى أبيه فأخبره، فوجد عليه عبد المطلب وإخوته وأخواته وجدا شديدا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل، ولعبد الله بن عبد المطلب يوم توفي خمس وعشرون سنة.


#431#

وقال يعقوب بن سفيان الفسوي في "تاريخه": حدثني أصبغ بن الفرج، أخبرني ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب قال: بعث "عبد المطلب" "عبد الله" يمتار له تمرا من "يثرب" فتوفي عبد الله بن عبد المطلب، وولدت "آمنة" رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله، وكان في حجر جده عبد المطلب.

وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن، عن عبد السلام بن عبد الله، عن ابن خربوذ قال: توفي عبد الله بن عبد المطلب بالمدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن شهرين.

حدث به ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن الزبير.

وقيل: توفي ولرسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة أشهر. ذكره الزبير بن بكار.

وقيل: توفي ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون شهرا.

وروي عن عوانة بن الحكم: أن "عبد الله" توفي بعدما كان أتى على


#432#

رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون شهرا.

وذكره ابن سعد والحاكم وآخرون.

وكان عمره كما تقدم خمسا وعشرين سنة، وجعله الواقدي أثبت الأقاويل في سنه.

وقيل: كان له ثمان وعشرون سنة.

وقيل: ثلاثون سنة.

وقيل: ثمان عشرة سنة.

وذكر الحاكم أبو أحمد في كتابه "الكنى" أن سن "عبد الله" حين تزوج "آمنة" ودخل بها كان ثلاثين سنة.

وذكر غيره: أن عمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة.

وقيل غير ذلك.

قيل: كان مولد "عبد الله" لأربع وعشرين سنة مضت من ملك "نوشروان بن قباذ".


#433#

روى ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب قال: بعث "عبد المطلب" ابنه "عبد الله" يمتار له تمرا من "يثرب" فمات بها وهو شاب عند أخواله، ولم يكن له ولد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تابعه معمر، عن الزهري نحوه.

والمشهور الصحيح: أن وفاة "عبد الله" كانت بالمدينة في "دار النابغة".

وحكى بعضهم قولا غريبا أنه توفي بـ "الأبواء"، وهو بين "مكة" و"المدينة" وصححه، وإنما ذلك مكان وفاة أمه "آمنة" لا مكان وفاة أبيه.

وكان "عبد الله" يكنى "أبا العباس" كما قدمناه وقيل: كان يسمى "أبا محمد" و"أبا قثم".

قال الواقدي وقالت "آمنة بنت وهب" ترثي زوجها عبد الله بن عبد المطلب:

عفى جانب البطحاء بعد ابن هاشم ... وجاور لحدا خارجا في الغماغم


#434#

دعته المنايا دعوة فأجابها ... وما تركت في الناس مثل ابن هاشم

عشية راحوا يحملون سريره ... يعاوره أصحابه في التزاحم

فإن تك غالته المنايا وريبها ... فقد كان معطاء كثير التراحم

وذكر أبو هفان عبد الله بن أحمد المهزمي في جمعه شعر أبي طالب: أن أبا طالب قال يرثي أخاه "عبد الله" أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم:

عيني اندبي ببكاء آخر الأبد ... ولا تملي على قرم لنا سند

أشكو الذي بي من الوجد الشديد له ... وما بقلبي من الآلام والكمد

أضحى أبوه له يبكي وإخوته ... بكل دمع على الخدين مطرد

لو عاش كان لفهر كلها علما ... إذ كان منها مكان الروح في الجسد


#435#

$[ما روي في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم من أبيه عبد الله ابن عبد المطلب، وطرف من ترجمة أم أيمن بركة رضي الله عنها]$

وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": وأخبرنا محمد بن عمر بن واقد قال: ترك عبد الله بن عبد المطلب "أم أيمن" وخمسة أجمال وأورك –يعني: تأكل الأرك- وقطعة غنم، فورث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت "أم أيمن" تحضنه واسمها "بركة".

وذكر نسبها غير الواقدي فقال: "بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصين بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان"، غلبت عليها كنيتها بابنها "أيمن بن عبيد بن زيد".

قال ابن سعد في "الطبقات": فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم "أم أيمن"، حين تزوج "خديجة بنت خويلد"، فتزوج "عبيد بن زيد" من بني الحارث بن الخرزج "أم أيمن"، فولدت له "أيمن"، صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل يوم حنين شهيدا، وكان "زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي"


#436#

لخديجة بنت خويلد، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وزوجه "أم أيمن" بعد النبوة، فولدت له "أسامة بن زيد".

وقال: أخبرنا محمد بن عمر، عن يحيى بن سعيد بن دينار، عن شيخ من بني سعد بن بكر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأم أيمن: «يا أمه»، وكان إذا نظر إليها قال: «هذه بقية أهل بيتي».

وروى أبو داود في كتابه "المراسيل"، عن نصير بن الفرج، عن عبد الله بن يزيد، عن حيوة –وهو: ابن شريح، عن بكر بن عمرو، عن صفوان بن سليم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم أيمن –وهي أم أسامة: «كيف أصبحت؟» أو «كيف أمسيت؟» فقالت: بخير يا رسول الله. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آمين، جعلك الله بخير».

وروى الواقدي عن عائذ بن يحيى، عن أبي الحويرث: أن "أم أيمن" قالت يوم حنين سبت الله أقدامكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اسكتي يا أم أيمن، فإنك عسر اللسان».

وقال الحاكم أبو عبد الله في "المستدرك" في ترجمة أم أيمن بركة: أخبرنا ابن كامل القاضي، حدثنا عبد الله بن روح المدائني، حدثنا شبابة، حدثنا أبو مالك النخعي، عن الأسود بن قيس، عن نبيح العنزي، عن


#437#

أم أيمن رضي الله عنها قالت: قام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل إلى فخار من جانب البنية، فبال فيها، فقمت من الليل وأنا عطشى فشربت ما في الفخار وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أم أيمن، قومي إلى تلك الفخارة فأهرقي ما فيها»، فقلت: قد والله شربت ما فيها. قالت: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بانت نواجذه، ثم قال: «أما إنه لا ينخع بطنك بعده أبدا».

وحدث به الحسن بن أبي سفيان، حدثنا إسحاق بن بهلول، حدثنا شبابة بن سوار، حدثنا عبد الملك بن حسين أبو مالك بن النخعي، فذكره.

وقال الحاكم في "المستدرك": حدثني أحمد بن محمد بن رميح، حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، حدثني أبي قال: خاصم ابن أبي الفرات مولى أسامة بن زيد [بن] الحسن بن أسامة ونازعه، فقال له ابن أبي الفرات في كلامه: "يا ابن بركة" يريد: أم أيمن. فقال الحسن: اشهدوا، ورفعه إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم –وهو يومئذ قاضي المدينة- وقص عليه القصة، فقال أبو بكر لابن أبي الفرات: ما أردت بقولك له: "يا ابن بركة"؟ قال: سميتها باسمها. فقال أبو بكر: لا، إنما أردت بهذا التصغير بها، وحالها من الإسلام حالها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: «يا أمه» و«يا أم أيمن، لا أقالني الله إن أقلتك».


#438#

فضربه سبعين سوطا.

وقال البخاري في "تاريخه الأوسط": حدثنا ابن إسحاق، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا سليمان، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه: أن أبا بكر رضي الله عنه قال –بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم- لعمر رضي الله عنه: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها.

وخرجه مسلم في "صحيحه" ويعقوب بن شيبة في "مسنده" قالا –واللفظ ليعقوب-: حدثني زهير بن حرب، حدثنا عمرو بن عاصم الكلابي. فذكره مطولا، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

وحدث به الحسين بن محمد بن حماد، حدثنا عبد القدوس بن محمد، حدثني عمرو بن عاصم، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: ذهبت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى "أم أيمن" نزورها، فقربت لنا طعاما أو شرابا، فإما أن كان صائما وإما لم يرده، فجعلت تخاصمه –أي: كل- فلما توفي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما: مر بنا إلى "أم أيمن" نزورها. فلما رأتهما بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ فقالت: ما أبكي أني لأعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صار إلى خير مما كان فيه، ولكني أبكي لخبر السماء انقطع عنا. فهيجتهما على البكاء.

وقال روح بن عبادة: حدثنا هشام بن حسان، عن عثمان بن القاسم


#439#

قال: خرجت "أم أيمن" مهاجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وهي ماشية ليس معها زاد، وهي صائمة في يوم شديد الحر، فأصابها عطش شديد، حتى كادت أن تموت من شدة العطش.

قال: وهي بـ"الروحاء" أو قريبا منها، فلما غابت الشمس قالت: إذا أنا بحفيف شيء فوق رأسي، فرفعت رأسي فإذا أنا بدلو من السماء مدلى برشاء أبيض، قالت: فدنا مني حتى إذا كان بحيث أستمكن منه تناولت فشربت منه حتى رويت.

قالت: فلقد كنت بعد ذلك اليوم الحار أطوف في الشمس كي أعطش، فما عطشت بعدها.

وحدث به أبو العباس السراج، حدثنا محمد بن الحارث، حدثنا شيبان، حدثنا جعفر، حدثنا ثابت وأبو عمران الجوني وهشام بن حسان قالوا: هاجرت "أم أيمن" من مكة إلى المدينة. و ذكروا القصة بنحوها.

وقال أبو بكر عبد الله بن أبي داود السجستاني: حدثنا أحمد بن جعفر المصري الأزدي أبو صالح، أخبرنا عبد الله بن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما قدم المهاجرون من مكة [إلى] المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء وذكر الحديث، وفي آخره: قال ابن شهاب: وكان شأن "أم أيمن" "أم أسامة"، أنها كانت رضيعة لعبد الله بن عبد المطلب، وكانت من الحبشة، فلما ولدت "آمنة" رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقها ثم أنكحها "زيد بن حارثة"، ثم توفيت بعدما


#440#

توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر.

وذكر الزهري فيما رواه ابن وهب عن يونس: أنها توفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر.

وقال الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه": حدثني أبو بكر محمد بن أحمد [بن] بالويه، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، حدثنا مصعب بن عبد الله قال: توفيت "أم أيمن" مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاضنته في أول خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.

ما قدمناه من قول الزهري هو الصواب إن شاء الله تعالى، وأنها توفيت في خلافة أبي بكر رضي الله عنه.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: "أم أيمن" اسمها: "بركة"، وكانت لأم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لأم أيمن: «أمي بعد أمي».

كذا جاء، والمشهور ما تقدم من أن "أم أيمن" كانت لأبي النبي صلى الله عليه وسلم لا لأمه "آمنة".


#441#

$[ما روي في حمل آمنة بالنبي صلى الله عليه وسلم]$

وفي حملها بالنبي صلى الله عليه وسلم لم تجد له مشقة كما جاءت به [ .. .. ].

وذكر محمد بن سعد عن جماعة من أهل العلم منهم: الزهري: أن "آمنة" قالت: لقد علقت به فما وجدت له مشقة.

وتقدم قولها أيضا: ولا وجدت له ثقلا كما تجد النساء.

وقالت نحو ذلك لمرضعته "حليمة" لما ردته إليها كما سيأتي إن شاء الله.

وخرج ابن دحية في كتابه "المولد" عن أبي عمر بن عبد البر قال: حدثنا القاضي الإمام الناقد أبو الوليد عبد الله بن محمد الأزدي، قرأت على الحافظ أبي زكريا يحيى بن مالك بن عائذ في كتابه "المولد وانتقال النور" –تصنيفه-قال: بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بطن أمه سيدة بني زهرة بن كلاب تسعة أشهر كملا، ولا تشكو وجعا


#442#

ولا مغصا ولا ريحا، ولا ما يعرض لذوات الحمل من النساء، وكانت تقول: والله، ما رأيت من حمل قط هو أخف منه ولا أعظم بركة منه.

وقد صرح في هذا أن مدة حمل "آمنة" برسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أشهر، وعلى هذا غالب أهل السير.

وقيل: كانت مدته عشرة أشهر.

قال ابن عباس في قوله تعالى: {وما تغيض الأرحام} ما تنقص عن التسعة أشهر، و{وما تزداد} تزيد عليها.

وهذا التفسير منقول أيضا عن: مجاهد، وسعيد بن جبير، وغيرهما.

وجاء عن هشيم بن بشير، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن [ابن] عباس رضي الله عنهما قوله: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد} فقال ابن عباس: إن رأته خمسة أيام وضعت لتسعة أشهر وخمسة أيام، وإن رأته عشرة أيام وضعته لتسعة أشهر وعشرة أيام، فذلك غيض الأرحام.

وقيل: كانت مدة حمله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، وهو أدنى الحمل.


#443#

روينا من حديث عتاب بن زياد، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن معمر ابن راشد، عن الزهري، أخبرني أبي عبيد مولى ابن أزهر: أنه سمع عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو يخطب فقال: أنه رفع إلي امرأة ولدت لستة أشهر من حين دخل عليها زوجها، فدخل عليه ابن عباس فقال: يا أمير المؤمنين؛ قال الله عز وجل في كتابه: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} وفي آية أخرى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا}، فإذا تمت الرضاع كان حملها ستة أشهر.

قال: فنجت بذلك.

ورواه أبو عروبة الحسين بن أبي معشر محمد بن مودود الحراني في كتابه "الطبقات" فقال: حدثنا ابن المثنى، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم قال: حدثني قائد ابن عباس قال: أتي عثمان رضي الله عنه بامرأة ولدت في ستة أشهر، فأمر برجمها، فقال ابن عباس: أدنوني منه. فأدنوه فقال: إنها إن تخاصمك بكتاب الله خصمتك، يقول الله عز وجل: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين}، ويقول في آية أخرى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا}، فقد حملته ستة أشهر، وهي ترضعه لكم حولين كاملين. قال: فردها عثمان رضي الله عنه وخلى سبيلها.

وجاء عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي حرب بن أبي


#444#

الأسود الديلي: أن عمر أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر، فهم برجمها، فبلغ ذلك عليا رضي الله عنه فقال: ليس عليها رجم، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فأرسل إليه، فسأله، فقال: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين}، وقال تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا}، فستة أشهر حمله، وحولين تمام الرضاغة، لا حد عليها. فخلى عنها.

خرجه البيهقي في "السنن الكبرى" وغيره بنحوه.

وجاء عن عبد السلام بن حرب، عن إسحاق بن عبد الله، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه رضي الله عنه: أن امرأة وضعت بأقل من ستة أشهر، فلم يرجمها النبي صلى الله عليه وسلم.

خرجه ابن منده في كتابه "معرفة الصحابة" في ترجمة المسيب بن حزم والد سعيد من طريق: موسى بن الحسين الصقلي، عن محمد بن الطفيل، عن عبد السلام بن حرب. فذكره.

وذكر الأطباء عن: "جالينوس" أنه قال: كنت شديد الفحص عن مقادير أزمنة الحمل، فرأيت امرأة واحدة [ولدت] في مائة وأربعة وثمانين ليلة.

وقيل: إن زمن الحمل برسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة أشهر.


#445#

وقيل: كان ثمانية أشهر، ورجحه طائفة، وقالوا: إن الجنين إذا ولد لثمانية أشهر لا يعيش غالبا، والنبي صلى الله عليه وسلم ولد لثمانية أشهر، فهو أبلغ في معجزته.

قال أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي: حدثنا محمد بن غالب، حدثني عبد الصمد –يعني: ابن النعمان البغدادي-، حدثنا مسلم بن خالد، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: وضعت مريم عليها السلام لثمانية أشهر؛ فلذلك لا يولد مولود لثمانية أشهر إلا مات؛ لئلا تسب مريم بـ"عيسى" عليهما السلام.

وعند أنه يعرض للجنين عند تمام ستة أشهر من حمله انهتاك الحجب التي عليه، وينتقل منها إلى نحو فم الفرج، فإن كان الجنين في هذه الحالة قويا وحجبه ضعيفة تم الولاد، وإن كان ضعيفا وحجبه ضعيفة تم الولاد، وإن كان ضعيفا وحجبه قوية بقي مريضا أربعين يوما إلى تمام آخر الشهر الثامن، فإن ولد في هذه الأربعين يوما مات ولم يمكن تربيته ولا بقاؤه.


#446#

وقال العلامة أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسين الفخر الرازي في كتاب "الطب الكبير": فأما المولودون في الشهر الثامن فهم أكثر الناس هلاكا وبقاؤه حيا نادر جدا، فإن كان أنثى فبقاؤها أندر، فإن كان في البلاد الحارة فأندر.

ثم ذكر السبب تخييلا وقياسا على قاعدة الأطباء، وغالب مقالاتهم في الأجنة والتشريح إنما هي مناسبات خيالية وقياسات طبيعية، حتى إن بعضهم ذكر ما ذكر ثم قال: وحقيقة العلم فيه عند الله، ولا مطمع لأحد من الخلق في الوقوف عليه.

قال أبو علي المحسن بن علي بن محمد التنوخي في كتابه "أخبار المذاكرة": حدثني القاضي [أبو بكر] محمد بن عبد الرحمن بن أحمد ابن مروان، حدثني خالي: محمد بن هارون، قال: قال لي بعض أصحابنا: كنت في بعض الليالي أنظر في كتاب "التشريح" لجالينوس، فغلبتني عيني، فرأيت هاتفا يهتف بي ويقرأ: {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا} قال: فاستيقظت ومزقت الكتاب.

قال أبو عبد الله بن القيم –رحمه الله وإيانا- في كتابه "أقسام القرآن" بعد أن حكى ما قدمناه من قول بعض الأطباء: "ولا مطمع لأحد من الخلق في الوقوف عليه"، قال: قد أوقفنا عليه الصادق


#447#

المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم بما ثبت في الصحيحين: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد» وفي بعض طرقه: «أربعين ليلة».

قلت: هو من حديث الأعمش عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق. فذكره.

رواه جرير، وحفص بن غياث، وزهير بن معاوية، وسفيان الثوري، وشعبة، وابن نمير، وأبو معاوية، ووكيع، وأبو شهاب الحناط، عن الأعمش.

ورواه سلمة بن سنان الأنصاري المرعشي أبو عبد الله، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: «إن خلق أحدكم يجمع في


#448#

بطن أمنه أربعين ليلة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة، ثم يكون عظما، ثم يكسى العظم لحما، ثم يبعث الله ملكا فيقال له: اكتب رزقه، وعمله، وأجله، ذكر أو أنثى، شقي أو سعيد». وذكر الحديث.

[وروى] [16] "داود" –أظنه: "ابن يزيد بن عبد الرحمن الأودي الكوفي"- عن عامر –هو: الشعبي، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه: إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذ ملك بكفه فقال: أي رب، ذكرا أو أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما الأجل؟ ما الأثر؟ وبأي أرض يموت؟ قال داود: شككت في "الخلق" و"الخلق" فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب، فإنك تجد فيها هذه النطفة، فينطلق فيجد قصتها في أم الكتاب، فتخلق فتأكل رزقها وتطأ أثرها، فإذا جاء أجلها قضيت في المكان الذي قدر لها. ثم قرأ عامر: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب}.

وقال عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي: حدثنا داود بن عمرو، حدثنا محمد بن مسلم، عن عمرو، سمع أبا الطفيل يقول: قال حذيفة بن أسيد رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا مضت على النطفة خمس وأربعون ليلة يقول الملك: أي رب، أشقي أم سعيد؟ فيقول الله عز وجل، فيكتبانه، فيقول الملك: ذكر أو أنثى؟ فيقضي الله عز وجل، ويكتب الملك، فيقول: عمله وأجله؟ فيقضي الله عز وجل، ويكتب الملك».


#449#

قال: «ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص منها».

[تابعه] سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار.

خرجه مسلم في "صحيحه"، وخشيش بن أصرم في كتاب "الاستقامه" لابن عيينه، نحوه.

وقال أبو الأشعث: حدثنا ابن أبي عدي، عن ابن جريج، حدثني أبو الزبير، عن أبي الطفيل، سمعت عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. قال: قلت: خزيا للشيطان، أيسعد ويشقى قبل أن يعمل؟ قال: فأتى حذيفة بن أسيد فأخبره بما قال ابن مسعود قال: أفلا أخبرك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: بلى. قال: [سمعت] رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا استقرت النطفة في الرحم اثنين وأربعين صباحا نزل ملك الأرحام، فخلق عظمها ولحمها وسمعها وبصرها، ثم قال: أي رب، أشقي أم سعيد؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، فيخرج الملك بالصحيفة وما زاد فيها ولا نقص».

تابعه أبو عاصم، عن ابن جريج نحوه.


#450#

ورواه عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير.

وخرجه مسلم في "صحيحه" لابن جريج وعمرو بن الحارث.

وهو في كتاب "السنة" لأبي بكر بن أبي عاصم ولفظه: عن أبي الطفيل قال: كان عبد الله بن مسعود يحدث في المسجد: إن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. فأتيت حذيفة بن أسيد الغفاري فقلت: ألا تعجب من عبد الله بن مسعود يحدث في المسجد: "إن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره"؟ فقال: فما بال هذا الطفل الصغير؟ قال: لا تعجب، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا ذات عدد يقول: «إن النطفة إذا وقعت في الرحم أربعين ليلة –وقال أصحابي: خمسا وأربعين ليلة- نفخ فيه الروح. قال: فيجيء ملك الرحم فيدخل فيصور له عظمه ولحمه ودمه وشعره وبشره وسمعه وبصره، ثم يقول: أي رب، أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله عز وجل إليه فيه، ويكتب الملك، ثم يقول: أثره –أي: خطاه؟ فيقضي الله عز وجل ويكتب الملك فيقول: أي رب، أجله؟ فيقضي الله عز وجل ويكتب الملك، ثم يطوي تلك الصحيفة، فلا تمس إلى يوم القيامة».

وخرجه مسلم في "صحيحه" أيضا من حديث زهير بن معاوية، حدثني عبد الله بن عطاء، أن عكرمة بن خالد حدثه [أن] أبا الطفيل


#551#

قال: دخلت على أبي سريحة حذيفة بن أسيد رضي الله عنه فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين يقول: «إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة، ثم يتسور عليها الملك –قال زهير: حسبته قال: الذي يخلقها- فيقول: يا رب، أذكر أم أنثى؟ فيجعله الله تعالى سويا وغير سوي. ثم يقول: يا رب، ما رزقه؟ وما أجله؟ وما خلقه؟ ثم يجعله الله شقيا أو سعيدا».

ورواه مسلم أيضا من حديث ربيعة بن كلثوم بن جبر النضري، حدثني أبي: كلثوم، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بنحوه.

وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" وفيه: «يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين ليلة».

وله شاهد من حديث أنس، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وعائشة، وغيرهم رضي الله عنهم.

وخرجه الأئمة في كتبهم، وطرقه كثيرة.

وحديث حذيفة هذا وحديث ابن مسعود الذي قدمناه أولا قد يفهم أن فيهما تناقضا؛ لأن في حديث حذيفة: أن التقدير وقع بعد الأربعين الثالثة.


#552#

وأجيب عن ذلك بأجوبة، منها: أن المراد بـ"الأربعين" التي في حديث حذيفة الأربعون الثالثة التي في حديث ابن مسعود، ولا سيما وقد تقدم في بعض طرق حديث حذيفة الذي خرجه ابن أبي عاصم في كتاب "السنة": إن النطفة إذا وقعت في الرحم أربعين ليلة –قال: وقال أصحابي: خمسا وأربعين ليلة- نفخ فيها الروح"، ولا خلاف في أن نفخ الروح إنما يكون بعد أربعة أشهر.

فبهذا؛ يظهر أن المراد بهذه الأربعين الأربعون الثالثة التي في حديث ابن مسعود. والله أعلم.

وجاء التصريح بذلك في بعض طرق الحديث، وهو ما حدث به الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه، حدثنا عبد الله بن إسحاق ابن إبراهيم، حدثنا عبيد بن محمد بن يحيى الجوهري، حدثنا بكر بن يحيى بن زبان، حدثنا يعقوب بن مجاهد، عن أبي الطفيل قال: أتيت حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه فقلت: لقد سمعت اليوم عجبا. قال: وما هو؟ قال: سمعت ابن أم عبد رضي الله عنه يقول: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. فأنكرت ذلك، [فقال]:

وما تنكر من ذلك! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه خمسة وأربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله عز وجل إليه ملكا فيقول: اكتب أجله ورزقه


#453#

وعمله وشقيا أو سعيدا، ثم يختم ذلك الكتاب فلا يزاد فيه ولا ينقص منه شيء إلى يوم القيامة».

فهذا يصرح أن رواية عكرمة بن خالد وغيره مما تقدم عن أبي الطفيل هذا الحديث فيها اختصار طوله أبو حزرة يعقوب بن مجاهد المدني كما تقدم، لكن الإسناد إليه ضعيف، والله أعلم.

وقيل: إن التصوير والتخليق اللذين في حديث حذيفة هو في التقدير، والعلم الذي في حديث ابن مسعود في الوجود الخارجي.

وقيل: إنه تقديران واحد بعد آخر:

فالأول: عند انتقال النطفة إلى أول أطوار التخليق التي هي أول مراتب الإنسان، وأما قبل ذلك فلم يتعلق بها التخليق.

والتقدير الثاني: عند كمال خلقه ونفخ الروح فيه، فذاك تقدير عند أول خلقه وتصويره، وهذا تقدير عند تمام خلقه وتصويره.

وهذا الثاني قول ابن القيم، ذكره في كتاب "أقسام القرآن".

وقال في كتاب "تحفة المودود بأحكام المولود": أما حديث حذيفة: فصريح في كون ذلك بعد الأربعين –يعني: أن ابتداء التخليق عقيب الأولى- وأما حديث ابن مسعود: فليس فيه تعرض لوقت التصوير والتخليق، وإنما فيه بيان أطوار النطفة أو تنقلها بعد كل


#454#

أربعين، وأنه بعد الأربعين الثلاثة تنفخ فيه الروح، وهذا لم يتعرض له حديث حذيفة، بل اختص به حديث ابن مسعود، فاشترك الحديثان في حدوث أمر بعد الأربعين الأولى، واختص [حديث حذيفة بأن ابتداء تصويرها وخلقها بعد الأربعين الأولى، واختص] حديث ابن مسعود بأن نفخ الروح فيه بعد الأربعين الثالثة، واشترك الحديثان في استئذان الملك ربه تعالى في تقدير شأن المولود في خلال ذلك، فتصادقت كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق بعضها بعضا. انتهى.

والقول الأول أظهر وأحسن؛ ولهذا جاءت الرواية مفسرة لذلك من الأربعين التي في حديث حذيفة هي الثالثة، وذلك فيما قدمناه من حديث الحافظ أبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه من رواية يعقوب بن مجاهد عن أبي الطفيل قال: أتيت حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه، فقلت: لقد سمعت عجبا. قال: وما هذا؟ قلت: سمعت ابن أم عبد يقول: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، فأنكرت ذلك، فقال لي: وما تنكر من ذلك؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن خلق أحدكم في بطن أمه خمسة وأربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله عز وجل إليه ملكا فيقول: اكتب أجله ورزقه، وعمله، وشقيا أو سعيدا. ثم يختم ذلك الكتاب فلا يزاد ولا ينقص منه شيء إلى يوم القيامة».

وفي لفظ رواية مسلم في حديث حذيفة: «نزل ملك الأرحام فخلق عظمها ولحمها وسمعها وبصرها»، الخالق هو الله عز وجل ولكنه لما كان ملك


#455#

الأرحام الواسطة في ذلك ومتوليه بإذن الله عز وجل أضيف ذلك إليه مجازا، والخلق حقيقة لله عز وجل.

قال العلامة شيخ الإسلام شرف الدين أبو محمد هبة الله بن البارزي الحموي –رحمه الله تعالى وإيانا- في كتابه "المقام الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى".

أجمع الموحدون من المسلمين وأهل الكتاب أن إله العالم هو الذي يصور الجنين في الرحم من غير استعانة عليه بغيره، ومن غير طبيعة توجب تلك الصورة للجنين، بل يصوره من ماء الأب وماء الرحم، وفي الحديث الصحيح: «إن ماء الرجل يخرج من صلبه، وماء المرأة يخرج من ترائبها»، ولذلك قال تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق . خلق من ماء دافق . يخرج من بين الصلب والترائب}، ثم إن الله تعالى يجمع بين هذين الماءين في الرحم متجاورين غير مختلطين أربعين يوما، لا يغير أحدهما الآخر ولا يختلط به، ولذلك قال تعالى: {مرج البحرين يلتقيان . بينهما برزخ لا يبغيان}، ثم إن الله تعالى بعد أربعين يوما يخلط أحد الماءين بالآخر، فيصير منها علقة، ثم في الأربعين الثالثة يخلق من الماءين المختلطين أعضاء الجنين، فإن علا ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أعمامه، وإن علا ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أخواله. كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال: فإذا مضى من مدة الجنين أربعة أشهر ينفخ الله تعالى فيه


#456#

الروح، ويتحرك فيما بين ذلك إلى عشرة أيام، وأحست أمه حين ذلك بتحركه، ولذلك كانت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، وكانت الفائدة في ذلك: أن المتوفى عنها زوجها ربما كانت حاملا، فتنقضي عدتها بوضع الحمل فإذا لم يعلم هل بها حمل أم لا اعتدت بأربعة أشهر وعشر، لأن إن كان بها حمل تحرك في تمام هذه المدة، وصار انقضاء عدتها بوضع الحمل. انتهى.

وقوله: وفي الحديث الصحيح: «إن ماء الرجل يخرج من صلبه، وماء المرأة من ترائبها»: فلا أعرف هذا في حديث صحيح، وإنما هو مروي في تفسير بقوله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق . خلق من ماء دافق ، يخرج من بين الصلب والترائب} عن عطاء عن ابن عباس أنه قال: يريد صلب الرجل وترائب المرأة وهو موضع قلادتها.

وهو منقول عن الكلبي ومقاتل وجمهور المفسرين.

وفي نسخة الزبير بن عدي التي رواها بشر بن الحسين عنه عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {أمشاج نبتليه} ويعني: الولد من صلب أبيه وصدر أمه، يخلق من ست؛ ثلاث من قبل الأب: العظم، والعرق، واللحم، وثلاث من قبل الأم: الدم، والشعر، والظفر.

وخرج الإمام أحمد في "مسنده" من حديث ابن كدينة، عن عطاء بن السائب، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله رضي الله عنه قال: مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه، فقالت


#457#

قريش: يا يهودي، إن هذا يزعم أنه نبي. فقال: لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي. قال: فجاء حتى جلس ثم قال: يا محمد، مم يخلق الإنسان، قال: «يا يهودي، من كل يخلق، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة، فأما نطفة الرجل: فنطفة غليظة منها العظم والعصب، وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم»، فقام اليهودي فقال: هكذا كان يقول من كان قبلك.

ورويناه من حديث محمد بن صالح بن ذريح، حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، حدثنا معاوية بن هشام، عن حمزة الزيات، عن عطاء بن السائب، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: قال عبد الله: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل الناس يقولون: هذا النبي صلى الله عليه وسلم فقال يهودي: إن كان نبيا فسأسأله عن شيء، فإن كان نبيا علمه. فقال: يا أبا القاسم، أمن نطفة الرجل يخلق الإنسان أم من نطفة المرأة؟ فقال: «إن نطفة الرجل بيضاء، فمنها يخلق العظام والعصب، وإن نطفة المرأة صفراء، فمنها يخلق اللحم والدم».

وذكر أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي –أحد الأعلام- فيما رواه الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب البرقاني في كتاب "اللفظ" له: عن أبي العباس محمد بن أحمد بن حمدان –إملاء عليهم بـ"خوارزم"- عن أبي عبد الله أنه قال عن المني ومخرجه فقال: العنق.


#458#

ويقال: الظهر. ولا يكون إلا عند قضاء الشهوة، وذلك أن المني ليس له وعاء في الجسد كوعاء البول من الكليتين والمثانة، وإنما ينحلب المني –فيما يقال- والله أعلم- من شؤون الرأس وبنان القدمين، ويعطيه كل عضو صفوة اغتذائه، ومن أجل ذلك يعيا الرجل ويضعف ويوهنه خروجه، وسبيله في ذلك مقارنة سبيل اللبن، وذلك أن اللبن ليس له أيضا وعاء في الجسد إنما ينحلب وقت در الحلوبة في أولادها، فيدر في جميع الجسد إلى أن يكون مجتمعه في الضرع فيخرجه الحالب بحلبه، فكذلك المني لا وعاء له، إنما ينحلب عند هيجان الشهوة وقضاء المجامع لذته، فيكون مجتمعه في الأنثيين في البيضة اليسرى، فيخرج مع انقضاء اللذة. وذكر بقيته.

وقد جاء عن أبي بكر أحمد بن عبد الرحمن بن المفضل، سمعت أبي، حدثنا عبيد بن حكيم، عن ابن جريج، عن الزهري –رفع الحديث-: أن خزيمة بن حكيم السلمي ثم البهزي رضي الله عنه كانت بينه وبين "خديجة" قرابة وأنه قدم عليها، وكان إذا قدم عليها أصابته بخير، فوجهته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلام لها يقال له: "ميسرة" في تجارة إلى "بصرى" من أرض الشام –وذكر الحديث بطوله، وفيه قصة إسلام "خزيمة بن حكيم" وقدومه على النبي صلى الله عليه وسلم حين كان فتح مكة، وأنه سأله عن مسائل وعن قدر ماء الرجل وماء المرأة، وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم إياه عن مسائله منها: وأما قرار مني الرجل فإنه يخرج ماؤه من الإحليل، وهو: عرق من ظهره حتى يستقر قراره في بيضته اليسرى، وأما المرأة فإنه يلقى ولا يحرك حتى تدنو عسيلتها .. .. ، وذكر الحديث.

وسيأتي –إن شاء الله تعالى- بطوله، مع الكلام عليه.


#459#

وأما قول ابن البارزي أيضا فيما تقدم: "إن الله عز وجل يجمع بين هذين الماءين في الرحم متجاورين غير مختلطين أربعين يوما" ليس له على ذلك دليل صريح به، وإنما خرج الإمام أحمد في "مسنده" من حديث "علي بن زيد" –وفيه لين-: سمعت أبا عبيدة بن عبد الله يحدث قال: قال عبد الله بن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما على حالها لا تغير، فإذا مضت له أربعون صار علقة، ثم مضغة كذلك، ثم عظاما كذلك، فإذا أراد الله أن يسوي خلقه بعث الله الملك .. .. » الحديث.

وقد فسر قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما» أي: يجمع المني الذي يتكون منه الجنين ويتكون من الماءين على الصحيح، خلافا لبعض الطبائعيين.

وعند الأطباء إذا ظفر الرحم بالمني أمسكه واستدار وصار كالكرة، وأخذ في الشدة، ثم يظهر فيه آثار التخليق شيئا فشيئا إلى تمام الأربعين الأولى وهو جمع تخليق جمعا خفيا.

وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي فيما اختصره، واختاره من كتاب "الطب النبوي" جمع أبي الحسن بن المهذب الحموي: اتفق الأطباء على أن خلق الجنين في الرحم يكون في نحو الأربعين، وفيما تتمين


#460#

أعضاء الذكر دون الأنثى، لحرارة مزاجه وقواه واعتدال قوام المنى الذي يتكون أعضاؤه منه ونضجه، فيكون أقبل للتشكيل والتصوير، ثم يكون علقة مثل ذلك، والعلقة: قطعة دم جامد، قالوا: وتكون حركة الجنين في ضعف المدة التي يخلق فيها ، ثم تكون مضغة مثل ذلك –أي لحمة صغيرة، وهي الأربعون الثالثة فيتحرك كما قال صلى الله عليه وسلم، واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر. انتهى.

وقد ذكر "بقراط" في كتاب "الأغذية" أن من الأجنة من يكون تصوره في خمسة وثلاثين يوما وحركته في سبعين صباحا، وكماله في مائة وعشرة أيام.

وقد أخبرنا المسند الكبير العماد أبو بكر بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم المقدسي –بقراءتي عليه في شوال سنة تسع وتسعين وسبع مائة-، أخبرتك أم عبد الله زينب بنت أبي العباس أحمد بن عبد الرحمن –قراءة عليها وأنت تسمع، في جمادى الآخر سنة ثلاث وثلاثين وسبع مائة فأقر به، أن عجيبة بنت أبي بكر محمد بن أبي غالب الباقداري، أنبأتها عن الحسن بن العباس الرستمي ومحمد بن أحمد الباعثان ومسعود بن الحسن الثقفي، قالوا: أخبرنا أبو عمرو عبد الوهاب ابن الإمام أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن منده، أخبرنا أبي، أخبرنا محمد بن يعقوب، حدثناجعفر بن محمد بن شاكر، حدثنا أبو بكر بن أبي الأسود، حدثنا أنيس بن سوار


#461#

الجرمي –أخو قتادة بن سوار، حدثنا أبي، عن مالك بن الحويرث الليثي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل إذا أراد خلق عبد فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق وعضو منها، فإذا كان يوم السابع جمعه الله عز وجل ثم أحضره كل عرق له دون "آدم" عليه السلام في أي صورة ما شاء ركبه».

وهذا إسناد متصل مشهور على رسم أبي عيسى والنسائي وغيرهما. قاله أبو عبد الله بن منده.

وحدث به أيضا عن أحمد بن مهران الفارسي، حدثنا محمد بن إبراهيم بن جناد، حدثنا أبو بكر بن أبي الأسود. فذكره.

وخرجه أبو نعيم الأصبهاني في كتابه –في "الطب النبوي"- فقال: حدثنا محمد بن جعفر بن الهيثم، حدثنا جعفر الصائغ .. .. فذكره كنحو رواية محمد بن يعقوب، عن جعفر بن محمد بن شاكر –وهو: الصائغ.

قال أبو عبد الله بن القيم في كتابه "أقسام القرآن": واقتضت حكمة الخلاق العظيم سبحانه أن جعل داخل الرحم خشنا كالسفنج، وجعل فيه


#462#

طلبا للمني وقبولا له كطلب الأرض الشديدة العطش للماء، وقبولها له، فجعله طالبا حافظا مشتاقا إليه بالطبع؛ فلذلك إذا ظفر به أمسكه ولم يضيعه ويزلقه، بل يشتمل عليه أتم اشتمال، وينضم أعظم انضمام لئلا يفسده الهواء فتستولي القوة والحرارة التي هناك، ويأذن الله تعالى لملك الرحم عقده وطبخه أربعين يوما كما يشاء. وفي تلك الأربعين يجمع خلقه، فإن الرحم إذا اشتمل على المني ولم يقذفه إلى خارج استدار المني على نفسه وصار كالكرة، وأخذ في الشدة إلى تمام ستة أيام، فإذا اشتد نقط فيه نقطة في الوسط، وهو موضع القلب، ونقطة في أعلاه وهي نقطة الدماغ، ونقطة عن اليمين وهي نقطة الكبد، ثم تتباعد تلك النقط ويظهر فيما بينها خطوط خمسة إلى تمام ثلاثة أيام أخر، ثم تنفذ الدموية في الجميع بعد ستة أيام أخر، فيصير ذلك [خمسة] عشر يوما فتتميز الأعضاء الثلاثة وهي: القلب والدماغ، والكبد. وتمتد رطوبة النخاع، وذلك يتم باثني عشر يوما، ويصير المجموع سبعة وعشرين يوما، ثم ينفصل الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الضلوع، والبطن عن الجنين، وذلك في تسعة أيام أخر، فيصير المجموع ستة وثلاثين يوما، ثم يتم هذا التمييز بحيث يظهر للحس ظهورا بينا في تمام أربعة أيام، فيصير المجموع أربعين يوما، فبها يجمع خلقه، وهذا مطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما» ولقد كفى صلى الله عليه وسلم بهذا الإجمال عن هذا التفصيل، وهذا يقتضي أن اجتماع خلقه وقع في الأربعين الأولى.


#463#

ولا ينافي هذا قوله: «ثم يكون علقة مثل ذلك» فإنه يكون علقة وهي: القطعة من الدم –قد جمع فيها خلقها جمعا خفيا، وذلك الخلق في ظهور خفي على التدريج، ثم يكون مضغة أربعين يوما أخرى.

وذلك التخليق يتزايد شيئا فشيئا إلى أن يظهر للحس ظهورا لا خفاء به كله، والروح لم تتعلق به بعد، فإنها إنما تتعلق به في الأربعين الرابعة بعد مائة وعشرين يوما كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وذلك مما لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي، إذ ليس في الطبيعة ما يقتضيه.

فلذلك حار فضلاء الأطباء وأذكياء الفلاسفة في ذلك وقالوا: إن هذا مما لا سبيل إلى معرفته إلا بحسب الظن البعيد. انتهى.

وهذه النقط الثلاثة المذكورة قيل: اختلف الأطباء في أيها السابق، فقال أكثرهم: السابق: القلب، وهو الأولى؛ لأنه أشرف الأعضاء.

وقال أبقراط: الدماغ والعينان.

وقال غيره: إنه الكبد.

وقال جماعة من الأطباء: أول ما يخلق من الإنسان: السرة، واحتجوا بأن حاجة الجنين إلى جذب الغذاء أشد من حاجته إلى آلات قواه وإدراكه، ومن السرة ينبعث الغذاء، والحجب التي على الجنين في السرة كأنها مربوط بعضها ببعض، وفي وسط الحجب تكون السرة ومنها يتنفس الجنين ويتربى ويجتذب الجنين غذاءه منه، فإذا تحرك في أوانه هتك الحجب كما تقدم، وتنخلع السرة بانتقاله، وينحل رباطه فينتقل عن مكانه الذي نشأ فيه إلى نحو فم الفرج، فحينئذ يثقل على أمه، وربما حصل للأمهات عند ذلك مرض واعتلال.


#464#

$*[عود إلى أخبار آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم في حملها به]$

وأم النبي صلى الله عليه وسلم كانت في حملها برسول الله صلى الله عليه وسلم سالمة من ذلك كله.

روي عنها أنها لم تجد لحمله ثقلا ولا وحما، وروي بالعكس: أنها لم تجد لحمله وحما ولا ثقلا.

قال مغلطاي فيما أنبأنا عنه: وجمع –يعني: بينهما- بأن الثقل في ابتداء العلوق، والخفة عند استمرار الحمل، ليكون في ذلك خارجا عن المعتاد. انتهى.

روى ابن القاسم عن مالك قال: أول الحمل بشرى وسرور، وآخره مرض من الأمراض، قال الله تعالى: {حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما} وقد ذكرنا من رواية الواقدي: عن علي ابن يزيد، عن أبيه: يزيد بن عبد الله بن وهب بن زمعة، عن عمته قالت: كنا نسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حملت به "آمنة بنت وهب" كانت تقول: ما شعرت أني حملت به، وما وجدت له ثقلا كما تجد


#465#

النساء، إلا أني قد أنكرت حيضتي، وربما كانت ترفعني وتعود، فأتاني آت وأنا بين النائم واليقظان، فقال: هل شعرت أنك حملت؟ فكأني أقول: ما أدري. فقال: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة ونبيها، وذلك يوم الاثنين.

قالت: فكان ذلك مما يقن عندي [الحمل]. ثم أمهلني حتى دنا ولادي أتاني ذلك الآتي، فقال: قولي: "أعيذه بالواحد الصمد من ضر كل حاسد، قالت: فكنت أقول ذلك، فذكرت ذلك لنسائي فقلن لي: تعلقي حديدا في عضديك وفي عنقك، قالت: ففعلت، فلم يكن يترك علي إلا أياما فأجده قد قطع، فكنت لا أتعلقه.

وذكر نحو هذا محمد بن إسحاق بن يسار قال: فكانت "آمنة بنت وهب" تحدث: أنها أتيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي:


#466#

أعيذه بالواحد

من شر كل حاسد

في كل بر عاهد

وكل عابد رائد

يرود غير رائد

فإنه عبد الحميد الماجد

حتى أراه قد أتى المشاهد

وآية ذلك: أن يخرج معه نور علا قصور "بصرى" من أرض الشام، فإذا وقع فسميه محمدا؛ فإن اسمه في التوراة: "أحمد" يحمده أهل السموات والأرض، واسمه في الإنجيل: "أحمد"، يحمده أهل السموات والأرض، واسمه في القرآن: "محمد".


#467#

وقال ابن عائذ –فيما ذكره ابن دحية بالإسناد إليه قبل: كانت "آمنة" تحدث عن نفسها وتقول: أتاني آت حين مر بي من حملي ستة أشهر ووكزني في منامي برجله وقال: يا آمنة، إنك حملت بخير العالمين طرا، فإذا ولدتيه فسمه "محمدا"، واكتمي شأنك.

وحدث محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى" عن الواقدي، عن جماعة من أشياخه بأسانيد، منهم. طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، دخل حديث بعضهم في حديث بعض: أن "آمنة بنت وهب" قالت: لقد علقت به –تعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما وجدت له مشقة حتى وضعته فلما فصل مني خرج منه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب، ثم وقع إلى الأرض معتمدا على يديه، ثم أخذ قبضة من تراب، فقبضها ورفع رأسه إلى السماء.

وفي حديث بعض أشياخ الواقدي: وقع جاثيا على ركبتيه –وخرج معه نور أضاءت له قصور الشام وأسواقها، حتى رأيت أعناق الإبل بـ"بصرى" رافعا رأسه إلى السماء.

وجاء عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ولد وقع على كفيه وركبتيه شاخصا بصره إلى السماء.


#468#

حدث به ابن سعد في "الطبقات" عن الهيثم بن خارجة، حدثنا يحيى بن حمزة، عن الأوزاعي فذكره.

وحدث أيضا عن عمرو بن عاصم الكلابي، حدثنا همام بن يحيى، عن إسحاق بن عبد الله: أن أم النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما ولدته خرج من فرجي نور أضاء له قصور الشام، فولدته نظيفا ما ولدته كما يولد السخل ما به قذر، ووقع إلى الأرض وهو جالس على الأرض بيده.

وروى محمد بن إسحاق من حديث عبد الله بن جعفر، عمن حدثه عن حليمة أم النبي صلى الله عليه وسلم التي أرضعته: أن آمنة بنت وهب حدثتها قالت: إني حملت فلم أر حملا قط أخف علي منه ولا أعظم بركة منه، لقد رأيت نورا كأنه شهاب خرج مني، حين وضعته أضاءت له قصور الشام وأعناق الإبل بـ"بصرى".

قد يفهم من هذا أن "آمنة" حملت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغيره.

وجاء في غير رواية نحوه، من ذلك: ما قال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": حدثنا عمرو بن عاصم الكلابي، حدثنا همام بن يحيى، عن إسحاق بن عبد الله قال: قالت أم النبي صلى الله عليه وسلم قد حملت الأولاد، فما حملت سخلة أثقل منه صلى الله عليه وسلم.

لكن قال ابن سعد عقب هذا: قال محمد بن عمر الأسلمي: وهذا ما لا يعرف عندنا ولا عند أهل العلم، لم تلد "آمنة بنت وهب" ولا "عبد الله بن عبد المطلب" غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.


#469#

وفي رواية ابن إسحاق التي قدمناها ذكر النور الذي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم حين ولد، وكذلك في غيرها من روايات جمة.

ومنها: ما جاء في بعض طرق حديث العرباض بن سارية في هذا المعنى: أن العرباض رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني عند الله مكتوب لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني أنه خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام».

خرجه ابن حبان في "صحيحه"، وقد قدمناه.

وروى حنبل بن إسحاق بن حنبل الشيباني من حديث سعيد بن عبيد بن إبراهيم مولى الزبير، عن عطاء بن يسار، عن آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت: لقد رأيت ليلة وضعته صلى الله عليه وسلم خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام حتى رأيتها.

ورواه أبو حفص عمر بن شاهين من هذه الطريق وقال أبو الحسن محمد بن أحمد بن البراء العبدي: قالت آمنة: ولدته صلى الله عليه وسلم جاثيا على


#470#

ركبتيه ينظر إلى السماء، ثم قبض قبضة من الأرض وأهوى ساجدا.

وقال محمد بن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر، حدثني موسى بن عبيدة، عن أخيه قال: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع إلى الأرض وقع على يديه رافعا رأسه إلى السماء، وقبض قبضة من التراب بيده، فبلغ ذلك رجلا من لهب، فقال لصاحب له: انجه لئن صدق الفأل ليغلبن هذا المولود أهل الأرض.

"لهب" هم: بنو لهب بن أحجن بن كعب بن الحارث بن كعب ابن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأسد، وهم أعيف العرب،


#471#

وفيهم يقول كثير عزة.

تيممت لهبا أبتغي العلم عندهم ... وقد رد علم العائفين إلى لهب

وفي خروج هذا النور عند ولاته صلى الله عليه وسلم فيما قيل إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض، وزال به ظلمة الشرك، كما قال الله تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين . يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} وقيل في إضاءة قصور الشام بالنور الذي خرج معه صلى الله عليه وسلم إشارة على ما خص الشام به من إسفار دينه ونبوته ببلاد الشام، ولهذا تكون الشام معقلا للإسلام وأهله، وهي دار ملكه، كما ورد ذلك فيما ذكره كعب الأحبار وغيره عن الكتب


#472#

السابقة أن فيها: محمد رسول الله، مولده "بمكة"، ومهاجره "طيبة"، وملكه بالشام، وفي لفظ عن كعب أيضا: وسلطانه بالشام.

فمن "مكة" بدأت نبوته صلى الله عليه وسلم، وإلى الشام ينتهي ملكه، وذلك مسافة النور الذي أظهر وقت مولده الشريف، ولهذا أسري به صلى الله عليه وسلم إلى الشام إلى بيت المقدس، كما هاجر إبراهيم من قبله إلى الشام.

وهذا النور الذي ظهر تواتر ذكره وانتشر، وذكره العباس رضي الله عنه في شعره الذي قدمناه، وإلى معناه نظر، فقال:

وأنت لما ولدت أشرقت الأرض ... وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضياء وفي النور ... وسبل الرشاد نخترق

وقوله رضي الله عنه: "وضاءت بنورك الأفق": "ضاءت" لغة في "أضاءت"، قال الشاعر:


#473#

قرب قلوصيك فقد ضاء القمر

و"الأفق" واحد "الآفاق" وهي: "أطراف السماء ونواحيها التي مع الأرض، وأنث "الأفق" بقوله: "وضاءت" وهو مذكر معنى: الجهة والناحية، أو جمع "أفقا" على "أفق" كما جمع "فلك"، فـ"الفلك" يكون واحدا وجمعا.

قال الله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم}، وقال تعالى في موضع آخر: {في الفلك المشحون}.

وخرج أبو نعيم في كتابه "معرفة الصحابة" فقال: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن عمرو الخلال، حدثنا محمد بن منصور الجواز، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان، عن أبيه، عن ابن أبي سويد قالت: سمعت عثمان بن أبي العاصي يقول: أخبرتني أمي قالت: شهدت "آمنة" لما ولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ضربها المخاض نظرت إلى النجوم تدلى، حتى إني لأقول: ليقعن علي. فلما ولدت خرج منها نور أضاء له البيت الذي نحن فيه والدار فما شيء أنظر إليه إلا نور.


#474#

وحدث به محمد بن يونس الكديمي، عن يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا عبد العزيز بن عمران، حدثنا عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عن ابن أبي الأسود الثقفي، عن عثمان بن أبي العاص بنحوه.

وخرجه ابن السكن في "صحيحه" والبيهقي في "الدلائل" بنحوه.

و"أم عثمان" هي: فاطمة بنت عبد الله الثقفية.

وقال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة"، حدثنا أبو بكر قاسم بن زكريا المطرز، حدثنا عبد الله بن شبيب المكي، حدثني أحمد بن محمد قال: وجدت في كتاب أبي: عن الزهري، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه: عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: كنت تربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الرحمن: فأخبرتني أمي قالت: لما ولد محمد صلى الله عليه وسلم وقع على يدي، استهل، فمسعت قائلا من ناحية البيت يقول: يرحمك ربك. قالت: فلما لينته وأضجعته أضاء لي


#475#

نور، حتى رأيت قصور الروم، ثم غشيتني ظلمة ورعدة، ثم نظرت عن يميني، فلم أر شيئا، فسمعت قائلا يقول: أين ذهبت؟ قال: ذهبت به إلى المغرب. قالت: ثم أصابتني ظلمة ورعدة، ثم نظرت عن يساري فلم أر شيئا، فسمعت قائلا يقول: أين ذهبت به؟ قال: ذهبت به إلى المشرق.

قال عبد الرحمن: فكان الحديث من شأني، حتى بعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، فكان أول قومه إسلاما.

.. .. من طريق أخرى فيما خرجه أبو نعيم الأصبهاني، من حديث النضر بن سلمة –هو: شاذان، حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز الزهري، عن أبيه [عن الزهري] عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، حدثتني أمي: الشفاء بنت عوف قالت: لما ولدت [آمنة] محمدا صلى الله عليه وسلم وقع على يدي فاستهل، فسمعت قائلا يقول: رحمك ربك، قالت الشفاء: فأضاء لي ما بين المشرق والمغرب، حتى نظرت إلى بعض قصور الروم. قالت: ثم اضطجعت، فلم أنشب أن غشيتني ظلمة ورعب وقشعريرة، ثم أسفر لي عن يميني، فسمعت قائلا يقول: أين ذهبت به؟ قال: ذهبت به إلى المغرب، ثم عاودني الرعب


#476#

وقشعريرة عن يساري، فسمعت قائلا يقول: أين ذهبت به؟ قال: إلى المشرق ولن يعود أبدا، فلم يزل الحديث مني على بال حتى ابتعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، فكنت أول الناس إسلاما.

"الشفاء" ممدودة عند كثير من المحدثين، ووجدته مقيدا بخط بعضهم بالقصر.

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في "غريب الحديث": "الشفا" مقصور.

وقال محمد بن عائذ: حدثنا الوليد بن مسلم، عن عثمان بن أبي العاتكة وغيره: أن "آمنة ابنة وهب" حين وضعته صلى الله عليه وسلم كفأت عليه برمة حتى تتفرغ له، قالوا: فوجدت البرمة قد انشقت عن نور أضاءت لها عن قصور كثيرة من قصور الشام.


#477#

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن عكرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ولدته أمه وضعته تحت برمة، فانفلقت عنه، قالت: فنظرت فيه فإذا هو صلى الله عليه وسلم قد شق بصره ينظر إلى السماء.

وخرجه أبو حفص عمر بن شاهين في "الدلائل" من طريق عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكره بنحوه.

وقال أبو بكر أحمد بن عمر بن جابر ومحمد بن يوسف الهروي: حدثنا سعيد بن سهل، حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ولدته أمه أكبت عليه برمة، فانفلقت عنه، فرئي شاقا بصره إلى السماء صلى الله عليه وسلم.

وخرج البيهقي في "الدلائل" فقال: وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أنبأني أحمد بن كامل القاضي شفاها، أن محمد بن إسماعيل


#478#

السلمي، حدثهم قال: حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي الحكم التنوخي قال: كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة فكفأن عليه برمة إلى الصبح، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه عبد المطلب إلى نسوة فكفأن عليه برمة، فلما أصبحن أتين، فوجدن البرمة قد انفقلت عنه باثنتين، ووجدنه مفتوح العين، شاخصا ببصره إلى السماء، فقال: احفظنه؛ فإني أرجو أن يكون له شأن عظيم، أو أن يصيب خيرا .. .. الحديث.

وقال أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السماك: حدثنا أبو الحسن بن البراء –يعني: محمد بن أحمد بن البراء- قال: قالت آمنة: ولدته جاثيا على ركبتيه، ينظر إلى السماء، ثم قبض قبضة من الأرض وأهوى ساجدا.

وولد صلى الله عليه وسلم وقد قطعت سرره، فغطين عليه إناء، فوجدنه قد تفلق الإناء، وهو يمص إبهامه، يشخب لبنا.


#479#

وكان بمكة رجل من اليهود حين ولد صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: يا معشر قريش، هل ولد فيكم الليلة مولود؟ قالوا: لا نعلمه. قال: ولد الليلة نبي العرب، به شامة بين منكبيه، سوداء طفراء، فيها شعرات.

فرجع القوم فسألوا أهاليهم، فقيل: ولد الليلة لعبد المطلب غلام. فلقوا اليهودي فأخبروه، فجاء فنظر إليه وقال: ذهبت النبوة من بني إسرائيل.

وقال أبو المظفر يوسف بن قزاغلي –سبط ابن الجوزي- في كتابه "منتهى السول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم".

وقال أهل السير: لما أحست به "آمنة" ووضعته أرسلت قابلتها إلى عبد المطلب، فصادفته وهو يطوف بالبيت قالت له: أجب "آمنة"، فلما جاء إليها قالت له: يا أبا الحارث، ولد لك الساعة مولود له أمر عجب، قال: أليس بشرا سويا؟ قالت: بلى، ولكنه حين خرج إلى


#480#

الدنيا خر ساجدا، ثم رفع رأسه وأصبعه إلى السماء، وظهر معه نور، رأيت منه قصور الشام ومدائن كسرى، ملأ بين السماء والأرض، وجعلت النجوم تدنو من الأرض حتى ظننت أنها ستقع علينا، وإني نوديت البارحة في منامي: يا آمنة، أبشري؛ فإنك تلدين غدا رسول الأمة فإذا وقع إلى الأرض قولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، وسميه "محمدا"، فإن اسمه في التوراة "أحمد".

وقيل: وضعته تحت برمة فانفلقت عنه، فنظرت إليه، فإذا هو قد شق بصره إلى السماء. انتهى.

.. .. ابن سعد في "الطبقات الكبرى": حدثنا محمد بن عمر بن واقد، حدثني علي بن يزيد بن عبد الله بن وهب بن زمعة، عن أبيه، عن عمته قالت: لما ولدت آمنة بنت وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى عبد المطلب، فجاء البشير وهو جالس في الحجر معه ولده ورجال من قومه، فأخبره أن "آمنة" ولدت غلاما، فسر ذلك عبد المطلب، وقام هو ومن كان معه، فدخل عليها فأخبرته بكل ما رأت وما قيل لها وما أمرت به، فأخذه عبد المطلب فأدخله الكعبة وقام عندها يدعو الله عز وجل ويشكر ما أعطاه.


#481#

وقال محمد بن عمر: فأخبرت أن عبد المطلب قال يومئذ:

الحمد لله الذي أعطاني

هذا الغلام الطيب الأردان

قد ساد في المهد على الغلمان

أعيذه بالبيت ذي الأركان

حتى أراه بالغ البنيان

أعيذه من شر ذي شنآن

من حاسد مضطرب العنان

وذكر أبو هاشم محمد بن ظفر في كتابه "أنباء نجباء الأبناء":


#482#

أن "آمنة بنت وهب" أم النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت هي وقابلتها إلى عبد المطلب في الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يأتي إليهما، وكان عبد المطلب إذ ذاك يطوف بالبيت، فأتاهما، فقالتا له: يا أبا الحارث، ولد لك الساعة مولود له أمر عجب، فذعر عبد المطلب، وقال: أليس بشرا سويا؟ فقالتا: بلى، ولكنه سقط حين خرج إلى الدنيا خارا كالرجل الساجد، ثم رفع رأسه وأصبعه نحو السماء حين لا تقل رقبة رأسا ولا ذراع كفا، وخرج مع نور ملأ البيت، وجعلت النجوم تدنو حى ظننتها ستقع علينا.

وقالت له "آمنة": يا أبا الحارث، لما اشتد علي وجع المخاض كثرت علي الأيدي في البيت، فحين خرج إلى الدنيا خرج معه نور رأيت منه قصور "بصرى"، ولقد أتيت قبل أن ألده في منامي فقيل لي: إنك ستلدين سيد هذه الأمة، فقولي له: أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد وسميه "محمدا"، فإن اسمه في التوراة "أحمد".

فقال عبد المطلب: أخرجي إلي ابني، فلقد رأيتني الساعة أطوف بالبيت، فرأيت البيت مال حتى قلت: سقط علي. ثم استوى منتصبا، وسمعت من تلقائه قائلا يقول: الآن طهرني ربي عز وجل وسقط "هبل" على رأسه، فجعلت أمسح عيني وأقول: أنا نائم.

فأجته "آمنة" إلى "عبد المطلب" فانلطق به إلى الكعبة، وطاف به أسبوعا، ثم قام به عند "الملتزم" وجعل يقول:

يا رب كل طائف وهاجد


#483#

ورب كل غائب وشاهد

أدعوك بالليل الطفوح الراكد

اللهم، فاصرف عنه كيد الكائد

واحطم به كل عدو ضاهد

وأنسه يا مخلد الأوابد

في سؤدد راس وجد صاعد


#484#

$[مكان مولده صلى الله عليه وسلم]$

ولا خلاف أن نبينا صلى الله عليه وسلم ولد بمكة خير أرض الله عز وجل وأحب أرض الله إلى الله عز وجل، وكان ذلك في جوفها بشرقيها في الموضع الذي يقال فيه "سوق الليل" بقرب جبل "أبي قبيس"، وهو معروف عند الناس، وكان دارا، لعبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة استولى عليها عقيل بن أبي طالب.

وقيل: وهبه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تزل مع ذريته إلى أن باعها بعضهم لمحمد بن يوسف الثقفي –أخي الحجاج بن يوسف- فأدخلها في داره التي يقال لها: "البيضاء". ولم تزل فيها حتى حجت الخيزران الجرشية مولاة المهدي وحبيبته وزوجته وأم ولديه الخليفتين: "موسى الهادي" و"هارون الرشيد"، ووقع في كلام السهيلي أنها "زبيدة"، والصحيح الأول فابتاعها من محمد بن يوسف، وأخرجتها


#485#

من داره وأشرعتها في الزقاق الذي في أصلها، وجعلتها مسجدا يصلى فيه.

وذكر نحوه أبو الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة" وقال: سمعت جدي ويوسف بن محمد يثبتان أمر المولد، وأنه ذلك البيت، لا خلاف فيه عند أهل مكة. انتهى.

وقال الحكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله: تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم ولد في الدار التي في الزقاق المعروف بـ"زقاق المدكك" بمكة، وهي كانت بيد "عقيل بن أبي طالب". انتهى.

وهي الدار التي جعلت مسجدا كما تقدم، ثم عمر هذا المسجد غير مرة، ولم ير بناء أحفل منه أكثره ذهب منزل، فيما ذكره الكناني الغرناطي في كتابه "التذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار" ثم قال: والموضع المقدس الذي سقط فيه صلى الله عليه وسلم ساعة الولادة السعيدة المباركة


#486#

التي جعلها الله رحمة للأمة أجمعين محفوف بالفضة كأنه صهريج صغير، سطحه فضة، فيالها تربة شرفها تعالى بأن جعلها مسقط أطهر الأجسام ومولد خير الأنام صلى الله عليه وعلى آله وأهله وأصحابه الكرام وسلم تسليما.

وقال في موضع آخر من "التذكرة" عن مكان المولد الشريف قال: وهو مسجد "حفيل البناء"، وكان دارا لـ"عبد الله بن عبد المطلب" أبي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكره ومولده صلى الله عليه وسلم صفة صهريج صغير سعته ثلاثة أشبار، وفي وسطه رخامة خضراء سعتها ثلثا شبر، مطوقة بالفضة، فتكون في سعتها مع الفضة المتصلة بها شبرا.

قلت: زرت هذا المكان الشريف بحمد الله ومنه وتبركت به لما حججت سنة أربع عشرة وثمان مائة، ودخلت المسجد المذكور، ورأيت مكان الميلاد الشريف، وهو شامي محراب المسجد، بينه وبين المحراب شيء يسير، وقد جعل عليه حجار خشب مربعا قصيرا.

قال أبو الوليد الأزرقي: حدثني محمد بن يحيى، عن أخيه قال: حدثني رجل من أهل مكة يقال له: سليمان بن أبي مرحب مولى ابن جشم، قال: حدثني ناس كانوا يسكنون ذلك البيت قبل أن تشرعه الخيزران من الدار، ثم انتقلوا عنه حين جعل مسجدا، قالوا: لا والله، ما أصابتنا فيه جائحة ولا حاجة، فأخرجنا منه، فاشتد علينا الزمان.


#487#

وقيل: ولد صلى الله عليه وسلم بـ"الردم"، ويقال: بـ"عساف" حكى ذلك مغلطاي في كتابه "الإشارة".

والمراد بـ"الردم" ردم بني جمح لا الردم الذي بأعلى مكة، فإنه لم يكن إلا في خلافة عمر.

وهذان القولان ضعيفان، والقول الأخير لا يعد خلافا؛ لبطلانه، والله أعلم.


#488#

$[زمان مولده صلى الله عليه وسلم وفضل يوم الاثنين]$

وولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين على الصحيح,

وقيل: يوم الجمعة، وهو باطل لا أصل له، ذكر أبو الخطاب بن دحية: أنه قرأه في كتاب "إعلام الورى بأعلام الهدى" وهو تأليف بعض الشيعة، قال: وهو مقطوع باطل بيقين.

قلت: والأحاديث الصحيحة ترده.

قال الإمام [أبو] سعيد عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا مهدي بن ميمون، عن غيلان بن جرير، عن عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة رضي الله عنه: أن أعرابيا قال: يا رسول الله، ما يوم الاثنين؟ فقال: «ذاك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه».

خرجه مسلم في "صحيحه" لابن مهدي.

تابعه أبو داود الطيالسي، عن مهدي بن ميمون.

تابعه حماد بن زيد، وشعبة بن الحجاج، وأبان بن يزيد العطار، عن غيلان بنحوه.


#489#

وروى حميد بن زنجويه فقال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن عبد الله بن معبد فذكر الحديث مطولا، وفيه: قال: فما تقول في صيام يوم الاثنين؟ قال: «ذاك يوم ولدت فيه ويوم أنزل علي فيه».

وقال الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن [أبي] عمران، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، واستنبئ يوم الاثنين، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وتوفي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين.

خرجه ابن جرير في "تاريخه" فقال: حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا موسى بن داود فذكره.

تابعه يحيى بن بكير وعمرو بن خالد فيما خرجه الطبراني في "معجمه الكبير" من حديثهما قالا: حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن [أبي] عمران، عن حنش بن عبد الله الصنعاني، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ويوم الاثنين خرج من مكة، ودخل إلى المدينة يوم الاثنين، وفتح بدرا يوم الاثنين، ونزلت سورة المائدة يوم الاثنين:


#490#

{اليوم أكملت لكم دينكم}، ورفع الركن الأسود يوم الاثنين، وتوفي في الاثنين.

حدث بنحوه يعقوب بن سفيان في "التاريخ" عن ابن بكير، قال: حدثنا عبد الله بن لهيعة فذكره، وسيأتي لفظه في الهجرة –إن شاء الله تعالى.

ورواه عثمان بن سعيد الدارمي، حدثنا سعيد بن عفير، حدثني ابن لهيعة، عن خالد بن [أبي] عمران فذكره.

حنش الصنعاني الدمشقي، من صنعاء دمشق، وثقه أبو زرعة الرازي، وأحمد بن عبد الله العجلي، وغيرهما، وقال أبو حاتم الرازي: صالح.

و"خالد بن أبي عمران أبو عمر التجيبي"، مولاهم، التونسي، قاضي "إفريقية"، قال أبو سعيد بن يونس، وكان فقيه أهل المغرب، ومفتي أهل مصر والمغرب، ذكر ذلك سعيد بن عفير وغيره، وكان يقال: إنه مستجاب الدعاء، وثقه ابن سعد وغيره.


#491#

و"عبد الله بن لهيعة" معروف حاله.

وقال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل، عن مسلم الأعور، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وأنزل عليه يوم الاثنين، ومات يوم الاثنين.

وجاء عن عبيد الله بن عمر، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين.

وله طرق غير ما ذكرنا إلى ابن عباس، منها: ما قال خيثمة بن سليمان: حدثنا خلف بن محمد كردوس الواسطي، حدثنا المعلى بن عبد الرحمن، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن الزهري، عن عبيد الله ابن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في ربيع الأول، وأنزلت عليه النبوة يوم الاثنين في شهر ربيع الأول، وأنزلت عليه "البقرة" يوم الاثنين في ربيع الأول، وهاجر إلى المدينة يوم الاثنين في ربيع الأول، وتوفي يوم الاثنين في ربيع الأول.

وروي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر: أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين.


#492#

وفيما ذكرنا من هذه الأحاديث دليل صريح أنه صلى الله عليه وسلم ولد في اليوم لا في الليل كما زعم بعضهم.

وذكر الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي فيما أنبأونا عنه: "أنه صلى الله عليه وسلم ولد حين طلع الفجر" صحيح –وصححه.

قال ابن دحية: "ولا يصح عندي بوجه أنه ولد ليلا" واستدل بما صح أنه صلى الله عليه وسلم قال عن يوم الاثنين: "فيه ولدت".

وحجة من قال ولد ليلا: حديث أم عثمان بن أبي العاص الذي قدمناه قالت: حضرت ولادة "آمنة" لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وإني لأنظر إلى النجوم تدنو مني، حتى إني لأقول : ليقعن علي.


#493#

وليس في هذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ولد ليلا؛ لأنه يحتمل أن "آمنة" ضربها المخاض حينئذ، وولدته صلى الله عليه وسلم حين طلوع الفجر كما صح، وأيضا؛ فإن النجوم عند طلوع الفجر تكون ظاهرة، وإنما تذهب عند الإسفار، والله أعلم.

وقال الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي في كتابه "التلقيح": اتفقوا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ولد يوم الاثنين] في شهر ربيع الأول عام الفيل.

وكذلك نقل غيره الاتفاق على أنه صلى الله عليه وسلم ولد في ربيع الأول، وهو قول الجمهور.

وقال الزبير بن بكار: حملت به أمه في أيام التشريق في شعب أبي طالب عند الجمرة الوسطى، وولد بمكة بالدار المعروفة لمحمد بن يوسف


#494#

-أخي الحجاج بن يوسف- لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.

وذكر نحوه مختصرا أبو العباس أحمد بن الجزار في "تاريخه".

وحدث الحافظ أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" فقال: حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا المسيب بن شريك عن شعيب بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: وحمل برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء المحرم، وولد في الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل.

وخرجه أبو نعيم الأصبهاني.

وهذا لا يصح، لأن المسيب بن شريك أبا سعيد التميمي الشقري راويه قال فيه الحافظ عمرو بن علي الفلاس: أجمعوا على ترك حديثه.

وقال الإمام أحمد: ترك الناس حديثه.

وقال يحيى بن معين: ليس بشيء.


#495#

وقال البخاري: سكتوا عنه.

وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتاج به.

وضعفه غير واحد.

وقيل: ولد يوم عاشوراء، والخبر به موضوع جاء –والله أعلم- من فعل "حبيب بن أبي حبيب الخرططي المروزي.

ورواه عن إبراهيم الصائغ عن ميمون بن مهران عن ابن عباس مرفوعا.

وقيل: ولد في صفر، وحكاه الدمياطي فيما أنبأونا عنه، ولا يثبت أيضا. وقيل: ولد في ربيع الآخر. ذكره مغلطاي فيما أنبأونا عنه، ولا يصح.

وإنما الصحيح إذا الذي لا يثبت غيره أنه صلى الله عليه وسلم ولد في شهر ربيع الأول.

قال أبو محمد عبد الحق الإشبيلي: وهو من الشهور العجمية شهر أبريل. انتهى.

وقد اختلف العلماء في أي يوم ولد صلى الله عليه وسلم من شهر ربيع الأول:


#496#

فقال قوم: هو غير معين، لكنه يوم الاثنين في شهر ربيع الأول من غير ذكر عدد.

وروي عن أبي جعفر محمد بن علي في إحدى الروايتين عنه أنه وافق على أنه يوم الاثنين من الشهر، وتوقف في ضبط عدد الأيام.

ونقل عنه أنه لا يعلم ذلك إلا الله.

قيل: وإنما قال هذا؛ لأنه لم يبلغه في ذلك ما يعتمد عليه،ـ فوقف في ذلك تورعا.

وأما الجمهور فكل منهم قال ما بلغه، وقوي عنده.

وقيل: أول اثنين من شهر ربيع الأول. ذكره المحب أبو جعفر أحمد بن عبد الله الطبري المكي في كتابه "خلاصة سير سيد البشر صلى الله عليه وسلم"، وحكاه ابن سيد الناس في كتابه "عيون الأثر" فيما أنبأونا عنه.

وقيل: في أول شهر ربيع الأول حين طلع الفجر. حكاه مغلطاي في كتاب "الإشارة" فيما أنبأونا عنه.

وقيل: لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول. قاله عطاء.

ورواه الواقدي عن أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن المدني، وذكره أبو عمر بن عبد البر في كتابه "الاستيعاب".


#497#

وقيل: لثلاث خلون منه. حكاه الدمياطي فيما أنبأونا عنه.

وقيل: لثمان خلون منه، قاله عكرمة، وروي عن جبير بن مطعم، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس.

ورواه مالك وعقيل ويونس بن يزيد وغيرهم، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم.

واختاره أبو محمد بن حزم وجماعة.

وقطع به الإمامان: أبو بكر محمد بن موسى بن محمد الخوارزمي، وأبو الحسين أحمد بن فارس اللغوي.

وقال أبو الخطاب بن دحية: وهو الذي لا يصح غيره.

وقال أبو جعفر أحمد بن عبد الله الطبري المكي: وصححه كثير من العلماء قاله في كتابه "خلاصة السير".

وقيل: لعشر خلون منه. رواه أبو القاسم بن عساكر عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لعشر ليال خلون من ربيع الأول، وقد كان قدوم أصحاب الفيل قبل ذلك في النصف من المحرم.


#498#

وجاء عن مجالد، عن الشعبي.

وصحه الدمياطي فقال فيما أنبأونا عنه: والصحيح قول أبي جعفر.

وقيل: لثنتي عشرة خلت منه. وهو المشهور عند الجمهور.

ولم يذكر ابن إسحاق غيره.

وقاله ابن عباس وغيره.

وذكره أبو محمد بن حزم.

وحكى ابن الجزار الإجماع عليه. وفيه نظر، قاله مغلطاي فيما أنبأونا عنه.

وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن عفان، عن سعيد بن مينا، عن جابر وابن عباس رضي الله عنهم قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج به السماء،


#499#

وفيه هاجر، وفيه مات.

وقيل: لسبعة عشر خلت منه. ذكره أبو الخطاب بن دحية عن بعض الشيعة.

وقيل: لثمان عشرة خلت منه. نقله ابن دحية في كتابه "التنوير" عن مصنف أبي بكر بن أبي شيبة، وانقلب عليه ذلك.

وقيل: لثمان بقيت منه. حكاه ابن دحية عن خط الوزير أبي رافع ابن الحافظ أبي محمد بن حزم عن أبيه: أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد، فيما ذكره في المرتبة الرابعة.

والصحيح عن ابن حزم ما نقله عنه الحميدي أنه لثمان خلون منه.

ونقله القاضي أبو عبد الله بن سلامة القضاعي في تاريخه "عيون المعارف" عن أصحاب الزيج: أنهم زعموا أن ذلك لثمان


#500#

خلون منه بعد قدوم الفيل بخمسين يوما، وهي ليلة اليوم الثامن والعشرين من شهر "نيسان" سنة ثماني مائة واثنين وثمانين لذي القرنين.

وزعموا أن الطالع كان عشرين درجة من برج "الجدي"، وكان "المشترى" و"زحل" في ثلاث درج من "العقرب" مقترنين وهي درجة وسط السماء؟

ونقل ذلك بنحوه ابن دحية في كتابه "التنوير" عن الحافظ محمد بن موسى الخوارزمي.

وقال: وقيل: إنه وافق من البروج "الحمل"، وصدقوا والله أعلم؛ لأن شهر هذا البرج عندهم هو "نيسان"، وبـ"الحمل" يبدأ الآن استدارة الأفلاك كأن مبدأها من برج "الحمل" فيما ذكروا.


#501#

وكان مولده صلى الله عليه وسلم عند طلوع الغفر، والغفر يطلع في ذلك الشهر أول الليل.

وذكر أيضا أن ما بين الزنابتين من "العقرب" وبين ألية الأسد وهو السماك يطلع "الغفر" الذي به مولد الأنبياء.

وهذا الذي ذكره ابن دحية ذكره بنحوه شيخه أبو القاسم السهيلي فقال: وأهل الحساب يقولون: وافق مولده صلى الله عليه وسلم من الشهور الشمسية "نيسان"، فكان لعشرين مضين منه، وولد بـ"الغفر" من المنازل، وهو مولد النبيين، ولذلك قيل: خير منزلتين في الأبد بين" "الزنابا" و"الأسد"، لأن "الغفر" يليه من "العقرب" زناباها، ولا ضرر في "الزنابا"، وإنما تضر "العقرب" بذنبها، ويليه من "الأسد" أليته وهو السماك، و"الأسد" لا يضر بأليته، إنما يضر بمخلبه ونابه. انتهى.


#502#

$* وكان مولده صلى الله عليه وسلم عام الفيل على الصحيح$

خرجه البيهقي في "الدلائل" من حديث يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل.

وقال وهب بن جرير: حدثنا أبي، سمعت محمد بن إسحاق، يحدث عن المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن أبيه، عن جده قال: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل.

وسأل عثمان بن عفان قباث بن أشيم –أخا بني يعمر بن ليث- أأنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أقدم منه في الميلاد، ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بي أمي على الموضع، قال: ورأيت خذق الطير أخضر محيلا.

خرجه الترمذي عن محمد بن بشار العبدي عن وهب به، وقال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق.


#503#

وحدث به أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في كتابه "الآحاد والمثاني": عن محمد بن المثنى، حدثنا / وهب بن جرير، فذكره بنحوه، وفي آخره: قال: ورأيت "أمية بن عبد شمس" شيخا كبيرا يقوده عبده "أبو عمر"، فقال له ابنه: يا قباث، أنت أعلم وما تقول.

وعلقه البخاري في "تاريخه الكبير" دون الزيادة عن محمد ابن المثنى.

وخرجه الحاكم في "مستدركه".

و"الخذق" كـ"الروث"، و"محيلا": أتى عليه حول.

وقال الإمام أحمد فيث "العلل": حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق قال: فحدثني المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، عن أبيه، عن جده قيس بن مخرمة قال: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، فنحن لدان. يعني: مولدا واحدا.

تابعه يونس بن بكير ومحمد بن سلمة وغيرهما عن ابن إسحاق.

وخرج البيهقي في "الدلائل" من حديث إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابت –مديني- أخبرنا الزبير بن موسى، عن أبي الحويرث، سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث


#504#

ابن أشيم الكناني ثم الليثي: يا قباث، أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم [أكبر مني، وأنا أسن منه، ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم] عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل محيلا أعقله، وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين.

وخرجه الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه" من طريق إسماعيل بن أبي أويس، حدثني الزبير بن موسى، فذكره بنحوه دون قوله: "ووقفت بي أمي" إلى قوله: "أعقله".

وقال إبراهيم بن المنذر: حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابت، حدثني عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان النوفلي، عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وكانت عكاظ بعد الفيل بخمس عشرة سنة، وبني البيت على رأس خمس وعشرين من الفيل ونبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين من الفيل.

حدث به يعقوب بن سفيان الفسوي في "تاريخه" عن إبراهيم.

وقال أيضا: وحدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، حدثنا نعيم بن ميسرة، عن بعضهم، عن سويد بن غفلة قال: أنا لدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدت عام الفيل.


#505#

قلت: وقد روي عن سويد بن غفلة أنه قال: أنا أصغر من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين. قاله البيهقي في "الدلائل".

"سويد بن غفلة بن عوسجة بن عامر بن وداع الجعفي أبو أمية الكوفي" من سادة التابعين، وأحد المعمرين، أتى عليه –فيما ذكره عاصم بن كليب- مائة وثلاثون سنة.

وقال إبراهيم بن المنذر الحزامي فيما رواه عنه الفسوي في "تاريخه": والذي لا يشك فيه أحد من علمائنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وبعث على رأس أربعين سنة من الفيل.

وقال بعضهم لما حكى الاتفاق على أنه صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل: كل قول يخالفه وهم.

وممن نقل الإجماع على ذلك: خليفة بن خياط كما سنذكره إن شاء الله تعالى، وأبو عمر بن عبد البر، وأحمد بن الجزار، وغيرهم.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "العلل": حدثني يحيى بن معين، حدثنا حجاج، حدثنا يونس، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، حدثنا يونس، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفيل.


#506#

تابعه أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، وأبو الفضل عباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين به.

وهكذا حدث به أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النصري الدمشقي في "تاريخه" عن يحيى بن معين، وهو أول شيء في "التاريخ".

وكذلك حدث به أبو جعفر محمد بن أبي شيبة في "تاريخه" عن يحيى بن معين.

قال عبد الله بن أحمد: إنما هو "عام الفيل" وأخطأ فيه يحيى.

وقال عبد الله بن مرة: فبلغني عن يحيى بن معين أنه رجع عنه فقال: "عام الفيل".

قلت: في "تاريخ يحيى بن معين" –الذي ألفه أبو الفضل عباس بن محمد الدوري، ورواه عنه –ما يخالف قول عبد الله بن أحمد؛ لأن "عباسا" قال بعد روايته الحديث عن يحيى: ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفيل.

قال: وقد كان يحيى قال مرة: "ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل"، ثم رجع فقال: "يوم الفيل"، ويحتمل أن يريد بقوله "يوم الفيل" "عام


#507#

الفيل"؟ قاله بعضهم.

وقال أبو حاتم محمد بن حبان في كتاب "الثقات":

ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من شهر ربيع الأول في اليوم الذي بعث الله طيرا أبابيل على أصحاب الفيل.

ابن حبان تبع ابن معين؛ لأنه روى الحديث السابق عن أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي عن يحيى. والله أعلم.

واختلفوا فيما مضى من عام الفيل أو بقي منه، على أقوال:

فقيل: بعد وقعة الفيل بثلاثين يوما.

حكاه أبو أحمد الحاكم عن بعضهم.

وقيل: بأربعين يوما. حكاه أبو أحمد الحاكم أيضا. وكذلك حكاه والذي قبله ابن دحية.

وقيل: بخمسين يوما. حكاه أبو محمد ابن حزم، وأبو عبد الله القضاعي في "تاريخه" وغيرهما.

وقال ابن دحية: وهو الصحيح الذي ذكره الخوارزمي، وعليه جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم.


#508#

وقيل: بعد الفيل بخمس وخمسين يوما، وعليه عامة المؤرخين. قاله أبو المظفر سبط ابن الجوزي، وذكره أبوعبد الله القضاعي في "تاريخه". وقيل: بعده بشهرين وستة أيام.

وقيل: بعده بعشر سنين. حكاه والقول الذي [قبله فيما] أنبأونا عنه مغلطاي.

وقال حنبل بن إسحاق في "تاريخه": حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا يعقوب القمي، حدثنا جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى قال: كان بين "الفيل" وبين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين.

قال الذهبي: وهذا القول منقطع. قاله في "تاريخ الإسلام" حين رواه معلقا عن "القمي"، وقد اختلف عليه فيه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وقيل: بعد "الفيل" بعشرين سنة. حكاه بعضهم.

وقيل: بثلاث وعشرين سنة. رواه المسيب بن شريك –وهو متروك- عن شعيب بن شعيب، عن أبيه، عن جده.


#509#

وقيل: بثلاثين سنة. قاله مقاتل.

قال يعقوب الفسوي في "تاريخه": حدثنا إبراهيم بن المنذر بن عبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد بن حزام بن خويلد: حدثنا محمد بن فليح بن سليمان، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: بعث الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم على رأس خمسة عشر سنة من بنيان الكعبة، فكان بين مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبين أصحاب الفيل سبعون سنة.

قال أبو إسحاق إبراهيم بن المنذر: وهذا وهم.

تابعه أبو بكر بن أبي خثيمة، فرواه في "تاريخه" عن إبراهيم بن المنذر. وقال في آخره: قال الحزامي: وهذا وهم لا يشك فيه أحد من علمائنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنبأ على رأس أربعين من "الفيل".

وقيل: بعده بأربعين سنة. قاله أبو زكريا الغلابي، ونقل عن مجاهد، وهو غريب جدا. رواه أبو القاسم بن عساكر، وذكره الحاكم أبو أحمد.

وقيل: بعد "الفيل" بسبعين عاما. حكاه مغلطاي فيما أنبأونا عنه.

وقيل: قبل "الفيل" بخمس عشرة سنة رواه خليفة بن خياط من


#510#

حديث الكلبي، عن أبي صالح باذام، عن ابن عباس رضي الله عنهما وهذا إسناد واه جدا.

وقيل: قبل "الفيل" بشهر.

وقيل: قبله بأربعين يوما.

وقيل: قبله بخمسين يوما. حكاه والقولين قبله: أبو محمد عبد الحق الإشبيلي.

وقيل: قبل "الفيل" بثلاثين سنة. وجاء بمعناه فيما حدث به أحمد في "العلل": حدثنا إسماعيل بن أبان الوراق، أخبرنا يعقوب يعني: [القمي، هو: ابن عبد الله بن سعد القمي]، عن جعفر هو: ابن أبي المغيرة الخزاعي عن ابن أبزى قال: كان بين "الفيل" وبين أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فنزل عليه القرآن.

وحدث به يعقوب بن سفيان الفسوي في "تاريخه" عن أحمد بن الخليل، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا يعقوب القمي، فذكره.

قال خليفة بن خياط: والمجتمع عليه: أنه ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل.



[1] [[ من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال محققها:  بياض بالأصل بمقدار كلمة.]]

[2] [[ من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال محققها:  بياض في الأصل بمقدار كلمة.]]

[3] [[ من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال محققها:  بياض في الأصل بمقدار كلمة، ولعل مكانه: وقد.]]

[4] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: هذا]]

[5] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض مقدار كلمة]]

[6] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: وحدث]]

[7] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: خرجه]]

[8] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: تابعه]]

[9] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: وقد]]

[10] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: وروى]]

[11] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: وروي]]

[12] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: وقد]]

[13] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: وخرج]]

[14] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: وذكر]]

[15] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: وكانت]]

[16] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: ورواه]]

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

وصف جنات النعيم والطريق الموصل اليها للشيخ عبد الله بن جار الله

وصف جنات النعيم والطريق الموصل اليها للشيخ عبد الله بن جار الله بن إبراهيم آل جار الله غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين بسم الله...